المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌الفصل الأولالاستشراق والهيئات العلمية والتنصير

- ‌الاستشراق ومراحله

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌ مدرسة الآداب

- ‌أعمال المستشرقين

- ‌حياة بعض المستشرقين والمستعربين

- ‌اللجان العلمية

- ‌لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر:

- ‌لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال:

- ‌الجمعيات المتخصصة

- ‌المعاهد الجامعية

- ‌البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها

- ‌الكنيسة والتنصير

- ‌نشأة الأسقفية

- ‌الأسقف بافي:

- ‌ لافيجري

- ‌شارل دي فوكو:

- ‌النشاط التنصيري منذ 1930:

- ‌الفصل الثانيالترجمة وظهور النخبة الاندماجية

- ‌مترجمو الحملة وغداتها

- ‌تنظيم فرقة المترجمين

- ‌المترجمون الجزائريون

- ‌تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة

- ‌الترجمة إلى العربية

- ‌الاتجاه الاندماجي - الاستغرابي

- ‌الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي

- ‌أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا

- ‌دعاة التعلم باللغة الفرنسية الأوائل

- ‌نماذج من المثقفين والاندماجيين

- ‌الفصل الثالثمذاهب وتيارات

- ‌(نعمة) الاحتلال

- ‌رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل

- ‌رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين

- ‌(فرق تسد)

- ‌معاداة العرب

- ‌ومعاداة البربر

- ‌التآمر على زواوة

- ‌الدعوة إلى تعلم الفرنسية ..وإلى التعلم عموما

- ‌وضع المرأة

- ‌الهجرة أو البقاء

- ‌الاندماج، التجنس، النخبة

- ‌الجزائر في الكتابات الفرنسية

- ‌اليهودية والصهيونية

- ‌الماسونية

- ‌الإسلام ووحدة الأديان

- ‌المثالية والاشتراكية

- ‌ إسماعيل عربان

الفصل: ‌ مدرسة الآداب

الجمهورية الثالثة انتقاما من منشئه نابليون الثالث، صاحب فكرة المملكة العربية في الجزائر، التي لم تهضمها الجمهورية ولا المستوطنون. وقد ضم طلابه إلى ليسيه الجزائر، كما ضم فرعه في قسنطينة إلى التعليم الثانوي في نفس المدينة.

أما آخر حلقات اللغة العربية فهي حلقة‌

‌ مدرسة الآداب

العليا التي أنشئت سنة 1880، وهي المدرسة التي سيلعب فيها كل من هوداس، وماسكري، ورينيه باصيه، دورا هاما. وهي المعنية بتعبيرنا (مدرسة الجزائر) الاستشراقية التي كانت تقدم للإدارة الاستعمارية كل التسهيلات العلمية في مختلف المجالات.

مدرسة الآداب

مدرسة الجزائر هنا هي مدرسة الآداب العليا (كلية فيما بعد) وهي أيضا مدرسة الاستشراق الفرنسي في الجزائر، بعد انطلاقته الجديدة التي أشرنا إليها في بداية الفصل. افتتحت، إلى جانب مدرسة العلوم والحقوق والطب، سنة 1880 (1). وتعاونت المدارس الأربع على دفع الاستشراق في خدمة الإدارة الاستعمارية، كل في مجال اختصاصه، وأبرزها في موضوعنا هي مدرسة الآداب. ولكن مدرسة الحقوق أيضا قدمت خدمة كبيرة للإدارة والاستشراق بالوقوف على النصوص الفقهية والتشريعات الاسلامية، وكان أساتذتها يتعاونون مع زملائهم الآخرين في الترجمة والنشر، وكانوا يخدمون بالخصوص جانب القضاء الفرنسي الذي استولى بالتدرج على صلاحيات القضاء الاسلامي، ومن أشهرهم زيس ومارسيل موران. وقد ظهر في مدرسة الطب مستشرقون اهتموا أيضا بالتراجم والنصوص العربية أمثال غبريال كولان. ونفس الشيء يقال عن مدرسة العلوم.

(1) مدرسة الطب قديمة تعود إلى 1857. انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج، وكذلك فصل العلوم.

ص: 26

أول من تولى كرسي اللغة العربية في مدرسة الآداب هو هوداس، وقد ساعده فيه عالم جزائري عميق المعلومات استفاد منه الاستشراق الفرنسي إلى أقصى الحدود ولم يستفد منه وطنه، وهو بلقاسم بن سديرة (1). وفي نفس السنة 1880 حل بالجزائر أستاذ يافع ولكنه طموح، وهو رينيه باصيه، خريج مدرسة اللغات الشرقية الحية، فعهد إليه بتدريس الأدب العربي. وتوطدت العلاقات بين هوداس وباصيه وتوحدت نظرتهما في خدمة الإدارة والاستشراق. وكانت تونس قد احتلت سنة 1881. فبادر الاثنان برحلة إليها سميت (بعثة علمية) فاطلعا فيها على المخطوطات وأحوال التعليم والحياة الفكرية. ولكن هوداس غادر الجزائر سنة 1882 ليتولى كرسي العربية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس، على إثر وفاة شيربونو. وتولى باصيه مكان هوداس في الجزائر. وارتبطت علاقات قوية بين باصيه وابن سديرة، الذي كان، لولا الميز الاستعماري، أولى منه بالكرسي. ولكن باصيه جعل من ابن سديرة ومن زميله عمر (سعيد) بوليفة (2)، أداتين لإنجاز مشروعه الاستشراقي العريض.

قلنا إن باصيه قد خلف زميله هوداس في تدريس اللغة العربية، وحل إدمون فانيان محل باصيه في تدريس الأدب العربي. وبقي الرجلان، باصيه وفانيان، حوالي أربعين سنة في خدمة الاستشراق، وبينما اندمجت الدراسات العربية على هذا النحو في العاصمة، إضافة إلى المدرسة الشرعية - الفرنسية التي يتولاها أيضا مستشرقون آخرون، نجد مدرسة قسنطينة التي كانت تسمى الكتانية عندئذ، يتولاها المستشرق مارتن إلى أن مات سنة 1889. وقد خلفه عليها مستشرق بارز آخر هو موتيلانسكي، الذي ربط إسمه بعملين على الأقل: ترجمة الفقه الإباضي وخدمة البعثات الاستكشافية الفرنسية نحو الصحراء. وقد ظل موتيلانسكي على رأس مدرسة قسنطينة إلى وفاته سنة

(1) ترجمنا لابن سديرة في فصل آخر.

(2)

ترجمنا له في فصل آخر.

ص: 27

1906.

أما مدرسة تلمسان فقد عاشت هي أيضا عهد الاندماج والاستشراق النشيط منذ 1879 فقد تولاها أولا ماشويل سنوات قليلة، ولكنه نقل سنة 1881 إلى تونس ليتولى شؤون التعليم فيها، ومن ثمة نرى هذه العلاقة الوطيدة بين الإدارة وأساتذة الدراسات العربية. وقد خلفه على مدرسة تلمسان ديلفان. وعندما انتقل هذا إلى مدرسة الجزائر (الثعالبية)(1) خلفه موليراس في تلمسان. ثم تداول على مدرسة تلمسان عدد آخر من المستشرقين أبرزهم ألفريد بيل الذي طال عهده فيها وكان تلميذا لباصيه. وهكذا تجاوبت أصداء الاستشراق من غرب البلاد إلى شرقها. وسنتحدث عن إنتاج المستشرقين بعد قليل.

كان طبيعيا أن تكون العاصمة هي القلب النابض لحركة الاستشراق، لعدة أسباب، منها وجود المدارس العليا الأربع فيها، ثم الجامعة، ووجود مدرسة خامسة (المدرسة الشرعية) يشرف عليها أيضا المستشرقون رغم أنها مخصصة لتخريج القضاة والمدرسين. وبالتدرج تحولت هذه المدرسة من مدرسة شرعية إسلامية عربية اللغة إلى مدرسة استشراقية أيضا، سيما بعد 1895 عندما تغيرت برامجها. وليس هناك بين هذه المدارس تنافس، كما قد تتخيل بل تكامل مطلق. وقد أضيف إلى مدرسة الجزائر (الثعالبية) قسم عال ابتداء من سنة 1895، مما جعلها تخدم المصالح الاستعمارية أكثر من ذي قبل، ورغم وجود نخبة عربية اللسان والهوى أمثال المجاوي وابن سماية وابن زكرى، فإن إطار الاستشراق كان طاغيا على الثعالبية. ومن الأسباب أيضا قرب هذه النواة النشيطة للاستشراق من موقع القرار، فالحكومة العامة،

(1) لم يطلق هذا الاسم عليها إلا سنة 1904 عند تدشين المدرسة الجديدة في عهد الحاكم العام جونار، وكانت بالقرب من ضريح الشيخ عبد الرحمن الثعالبي. ونحن نطلق مدرسة الآداب على المدرسة الفرنسية التي تحولت إلى كلية والمتصلة بالتعليم الجامعي الفرنسي، والمدرسة الثعالبية وأحيانا مدرسة الجزائر فقط على تلك المتخصصة في الدراسات العربية والاسلامية. وهي إحدى المدارس الثلاث الشرعية - الفرنسية. فيجب عدم الخلط بين هذه الأسماء.

ص: 28

وإدارة الشؤون الأهلية، والمجالس النيابية المختلفة، والمكتبة العامة، والجامعية كلها كانت في العاصمة.

لا يمكن أن نفهم بحق نشاط وفعاليات الاستشراق الفرنسي خلال هذه الفترة 1880 - 1924 إلا بإعطاء نبذة عن حياة رينيه باصيه. ذلك أن اسمه وحده يذكر المرء بأعمال مدرسة ثم كلية الآداب خلال أربعين سنة في خدمة الاستشراق الفرنسي في الجزائر وتسخيره لخدمة الإدارة الاستعمارية بكل حرص. وقد أثر باصيه تأثيرا كبيرا على جيلين على الأقل من تلاميذه الفرنسيين والجزائريين الذين سنذكر بعضهم. وانتصب أولا لتدريس العربية ثم البربرية، وجند جندا من المخلصين له ووظفهم للتدريس والبحث والتأليف والنشر، وكانت الحكومة العامة والدوائر (الكولونيالية) تسانده بالمال للقيام بأبحاثه الخاصة وأبحاث تلاميذه وبعثاتهم ورحلاتهم. وتوجته سنة 1905 برئاسة مؤتمر المستشرقين الدولي الرابع عشر في الجزائر. وظل على مجده إلى وفاته سنة 1924.

ولد باصيه سنة 1855 في فرنسا. وأظهر منذ أولياته اهتماما باللغات الشرقية، ولا سيما العربية. وقد اشتغل حوالي سبع سنوات في مدرسة اللغات الشرقية بباريس ومدرسة الآداب العليا قبل أن يأتي إلى الجزائر سنة 1880 كان عمره عندئذ 44 سنة، في أوج عطائه وطموحه. ومنذ وصوله تولى تدريس الأدب العربي القديم (الجاهلي) ونشر كتابا في ذلك. ثم تولى تدريس اللغة العربية بعد سفر هوداس إلى فرنسا، كما أشرنا. ويقال عنه إنه ظل وفيا في منهج التدريس لتجربته في المدرسة العليا فرنسا، ومن حيث التوجه كان مستشرقا محترفا، أما سياسيا فقد كان مقتنعا بخدمة العلم لسياسة الإدارة الاستعمارية. وفي سنة 1885 أصبح من الأساتذة المرسمين، ثم تولى منذ 1894 إدارة المدرسة العليا في الجزائر على إثر وفاة إميل ماسكري الذي سنترجم له. ويعد تحول المدرسة إلى كلية سنة 1909 أصبح باصيه عميدا لها إلى وفاته. فإذا ذكرت مدرسة الآداب أو كلية الآداب خلال هذا العهد الطويل فكأنما ذكر إسم رينيه باصيه.

ص: 29

بلغت مجموع أعمال باصيه في (الميلانج) الذي يحمل إسمه، حوالي أربعين صفحة، بين كتاب وبحث ومقالة ومراجعة. وقد صنفت إلى أبواب، لأنها وإن كانت كلها في مجال الاستشراق، فقد تنوعت إلى أعمال لغوية، وأدبية وقصصية وتاريخية، ودينية، وفولكلورية. كان باصيه قد درس في مدرسة اللغات الشرقية، العربية والتركية والفارسية والحبشية، ثم أضاف البربرية بعد وصوله الجزائر، وبناء على التقارير التي نشرها فقد كان يعرف الهوسة (الحوصة) أيضا (لغة شمال نيجيريا) ويقول أحد تلاميذه، وهو ألفريد بيل، إنه تعلم اللغات الافريقية بعد حلوله بالجزائر وقد نشر أكثر من 25 عملا حول الدراسات البربرية. وبدأ ذلك منذ سنة 1883. واعتمد باصيه كثيرا على تعاون تلاميذه في الجهود الضخمة التي بذلها والمنشورات العديدة التي نشرها، وكان ابن سديرة من علماء اللغة العربية والبربرية، فاستفاد منه، كما استفاد من تلميذه بوليفة في البربرية أيضا. وقد أحدث باصيه كرسي البربرية في كلية الآداب وتولى تدريسها. وتخرج على يديه مستشرقون أمثال بيل وديستان وديبارمي. كما أن إبنه (هنري باصيه) قد ورث عنه سيرته وتتلمذ عليه في الاستشراق والبربرية أيضا.

وقد صادف وجود باصيه على هذا النشاط والاندفاع في الجزائر مخططات فرنسا لاحتلال المغرب الأقصى. ولذلك سخر جهوده وجهود تلاميذه لمساعدة هذه المخططات. وبعد احتلال المغرب تواصلت هذه الجهود أيضا. فقد قام بوليفة وبيل وإسماعيل حامد ونهليل وغيرهم بزيارات وبعثات إلى المغرب، وكتب كل منهم عن موضوع كلفه به، دراسات لغوية، وآثار، وتشريع، ونحو ذلك. كما ظهرت المساهمات في (الأرشيف المراكشي) الذي ظهرت منه عدة أجزاء، وهو عمل جماعي ضخم، اشتمل على تراجم ونوازل وأنساب وإدارة ونحوها. وظهرت أيضا في (مجلة العالم الإسلامي) التي كان يصدرها المعهد العالي للدراسات المغربية (المراكشية)، ووصل تلاميذ باصيه إلى موريطانيا وإلى السينغال ووسط إفريقيا مبعوثين من قبل الحكومة الفرنسية، ومن هؤلاء أسماء بعض الجزائريين، معلمين

ص: 30

ومترجمين. ومن تلاميذه الذين أرسلوا أيضا في مهمة إلى المغرب الأقصى محمد بن أبي شنب، كما كان ابن شنب هو العضد الأيمن لباصيه في الدراسات العربية والمخطوطات والعادات واللغة (وكان ابن أبي شنب عارفا أيضا بعدة لغات)، وهو الذي عينه باصيه مساعدا له في مدرسة ثم كلية الآداب. والغالب أن يكون محمد صوالح من تلاميذه أيضا. ويقول تلميذه بيل لقد استفادت إدارة احتلال المغرب من إدارة الجزائر - الاختصاصيون، والتقنيون، والمسائل الأهلية لإدارة ودراسة المغرب، وقد جندت لذلك مجموعة من تلاميذ باصيه، منهم ديستان، وعمر (سعيد) بوليفة، وبيارني، ولاوست، وهنري باصيه، وأندري باصيه (1).

كان باصيه يتجول في الجزائر بحثا عن المكتبات والمخطوطات. وهي عدة المستشرقين. وقد ترك وصفا لفهارس المكتبات في بعض الزوايا والمناطق، وقدم وصفا لبعضها في مؤتمرات المستشرقين. كما تحدث في هذه المؤتمرات عن الدراسات البربرية والافريقية عبر عدة سنوات. وسنشير إلى ذلك. وهذه العلاقة بين باصيه وحكومة الجزائر والمستشرقين العالميين هي التي سهلت سنة 1905 انعقاد المؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين في الجزائر. وقد صادف انعقاده مرور ربع قرن على تأسيس مدرسة الآداب في الجزائر. وهي ذكرى لها أكثر من معنى بالنسبة للاستشراق الفرنسي. لأن إنشاء (مدرسة الجزائر) كان تعبيرا عن انطلاقته الكبرى. وكان باصيه، رغم وجود غيره، الأداة الفاعلة في ذلك، فقد كانت له سمعة جيدة المدى خلال الـ 45 سنة التي قضاها في الجزائر. وقد حضر بعض المؤتمرات الاستشراقية قبل ذلك، منها مؤتمر كوبنهاغن.

وجمع مؤتمر الجزائر حوالي 500 شخص تحت رئاسة باصيه. وصدرت عنه عدة مجلدات في مختلف الفروع المعرفية، بعضها في شكل

(1) عن حياة باصيه انظر (الميلانج) الموضوع باسمه. وكذلك ألفريد بيل (افريقية الفرنسية)، 1924، ص 13 - 14. وكذلك هنري ماصيه (الدراسات العربية في الجزائر)، 1930.

ص: 31

وثائق ومذكرات. ونظمت للمؤتمرين حفلات موسيقية ومسرحيات وجولات عبر الأقاليم الجزائرية للتعرف على الآثار الرومانية والاسلامية، ومن ذلك مدينتا تلمسان وقسنطينة. ومن الشخصيات التي حضرت من كان يمثل الحكومات ومنها من كان مدعوا شخصيا (1). ويعد المؤتمر المذكور نجاحا كبيرا لباصيه وللاستشراق الفرنسي على العموم.

يقول أحد هؤلاء المستشرقين: (إن الاستشراق هو بالطبع الحقل الرئيسي للدراسات في مدرستنا (مدرسة الآداب) ومن داخل الاستشراق تأتي اللغة العربية والمسائل الاسلامية (2). وأضاف أن أول عمل يبدأ به المرء في دراسة أدب أو حضارة ما هو تصنيف ووصف المصادر. ويدخل في ذلك دراسة المكتبات والمخطوطات، وقد قام باصيه بفهرسة مجموعات من المخطوطات (الكاتلوغات) في الجزائر وفي المغرب الأقصى. كما قام ادمون فانيان بذلك أيضا. وعندما أنجز هذا العمل جاء دور النشر وترجمة المصادر وتاريخ المغرب العربي منذ الفتح الاسلامي. وقد سارع الباحثون المستشرقون بالترجمة إلى الفرنسية لمختلف المصادر العربية لتعريف الرأي العام العلمي بها، ولا سيما علماء الاستشراق والإدارة الفرنسية ومن يهمهم أمر الاستفادة منها. ومن الذين ساهموا في عملية الجمع والترجمة هذه نذكر:

هوداس، وفانيان، وبيل، وباصيه، وماسكري، وموتيلانسكي، وكولان، وميرسييه، وجورج مارسيه وأخوه ويليام، وديستان، وجولي، وديلفان، وموليراس، وقوتييه، ودوتيه، وديبارمي، وزيس. ومن

(1) أصدرت المجلة الافريقية عددا خاصا 1905 بأعمال المؤتمر. كما جاء فيه نبذة مفصلة عن كل مدرسة من المدارس العليا الأربع. وعن الدراسات العلمية - الاستشراقية في الجزائر، والجمعيات العلمية. وهو جهد كبير جدير بالرجوع إليه لولا مسحة التعالي والاستعمار التي فيه.

(2)

(عن العمل العلمي لمدرسة الآداب بالجزائر)، في (المجلة الافريقية)، 1905، ص 440.

ص: 32

الجزائريين: ابن أبي شنب، وابن سديرة، وبوليفة. كل هذا كان خلال الربع قرن الذي عاشته مدرسة الآداب (1). وقد واصل تلاميذ باصيه بعد ذلك هذه المهمة في كلية الآداب وفي المدارس الشرعية الثلاث. وكانت هناك قائمة جدية من الأسماء.

وكان هذا العهد هو عهد إشعاع الاستشراق الفرنسي من الجزائر. فقد دخل مدرسة اللغات الشرقية بباريس عدد من الأساتذة الذين كانوا في الجزائر خلال سنوات طويلة. ودخلها أولاد البارون ديسلان الذي تولى تدريس العربية العامية، وهو لم يكن مستشرقا محترفا، ولكن أعماله تشهد له بالمكانة البارزة، مثل ترجمة تاريخ ابن خلدون وإشرافه على جريدة (المبشر)، وقد حل محله شيربونو ثم هوداس. وكلاهما قضى في الجزائر بين الثلاثين والعشرين سنة. وقيل إن تدريس هوداس للعامية الجزائرية في مدرسة اللغات الشرقية جعلت المدرسة تهتم أيضا بلهجات الشرق العربي حتى أصبحت موضوعا هاما في مخطط الاستشراق الفرنسي. كما أنشئ بالمدرسة المذكورة (الشرقية) كرسي اللغة البررية لأول مرة سنة 1913. وكان ذلك غداة احتلال المغرب الأقصى. وأول من تولى هذا الكرسي ديستان (2).

ومعنى هذا أن مدرسة اللغات الشرقية بباريس كانت تمر بتنظيم جديد في مدار القرن على ضوء الأنشطة التي مرت بها مدرسة الجزائر. فقد كان التركيز في (مدرسة اللغات الشرقية) منذ عهد دي ساسي على دراسة العربية الفصحى، واستمر ذلك على يد ديرنبورغ الذي توفي سنة 1908. وكان حلول هوداس بها قد غير من هذا التركيز ولفت النظر إلى العامية، ثم البربرية. ومن ناحية أخرى تأثر الاستشراق بالنظرية الاجتماعية التي جاء بها

(1) نفس المصدر، ص (440 - 443). وكان زيس أستاذا في الشريعة الاسلامية. وكان مؤمنا بالاندماج، ويراسل علماء الوقت مثل شعيب بن علي، ويرى أن رجال الدين الموظفين لا تأثير لهم على العامة. انظر آجرون (الجزائريون

)، 1/ 313.

(2)

يذهب البعض إلى أن أول من تولى كرسي البربرية في مدرسة اللغات الشرقية هو اندري باصيه (وهو ابن رينيه باصيه؟).

ص: 33

دورخايم. وظهر ادمون دوتيه من المتأثرين بذلك في مدرسة الجزائر، وظهرت أسماء في الكوليج دي فرانس كانت معروفة في الجزائر أيضا - أمثال لوشاتلييه الذي تولى كرسي (المجتمع الاسلامي) وأوغسطين بيرنار الذي تولى كرسي (الجغرافية الاقتصادية والتاريخية)، كما استحدث كرسي للتاريخ وآخر للغة (1).

ان مدرسة الآداب بالجزائر قد أثرت على الدراسات الاستشراقية الفرنسية عموما: في مدرسة اللغات الشرقية وفي السوربون، وفي الكوليج دي فرانس، وفي مجلة العالم الاسلامي، ثم في الدراسات الاستعمارية الخاصة بالمغرب الأقصى وتونس والمشرق العربي والاسلامي. وسيتطور هذا المفهوم بعد إنشاء مجلة (هيسبريس)، ومعهد الدراسات العليا في المغرب، ومعهد قرطاج في تونس، والمعهد الفرنسي في دمشق، بالإضافة إلى المعهد الفرنسي في مصر الذي يرجع إلى عهد قديم.

ومن زملاء باصيه في مدرسة الآداب بالجزائر ادمون فانيان. فهو الذي تولى تدريس الأدب العربي منذ 1883. وقد ولد في ليباج سنة 1846. وهو من ايرلاندا وجاء الجزائر كمترجم، ولم يتكون في مدرسة استشراقية. ولكنه درس العربية والفارسية والتركية، وهي اللغات الأساسية للمستشرقين عندئذ. وقضى سنوات طويلة في مدرسة الآداب. فقد عاش إلى 1931. وتميزت أعماله، بالإضافة إلى التدريس، بالترجمة في الموضوعات التاريخية والفقهية والأدبية. كما وضع كاتلوغ مخطوطات الجزائر، وأضاف إضافات على المعاجم العربية. ولذلك قال بعضهم إن فانيان قد واصل مهمة ديسلان في الجزائر (2).

(1) ادمون بورك الثالث، مرجع سابق، ص 217.

(2)

انظر المجلة الافريقية R.A . 1931 .

ص: 34

أول مدير لمدرسة الآداب بالجزائر هو إيميل E. Masquery ماسكري. وهو من العلماء الأدباء الذين تركوا بصماتهم على الأدب الفرنسي أيضا إلى جانب الاستشراق. ولم يكن مستشرقا محترفا. فقد ولد في روان (فرنسا) سنة 1843، وبعد تخرجه كان عليه أن يعلم في أحد الليسيات، فرماه حظه، كما قال في أحد كتبه (1)، في الجزائر سنة 1872. التحق بليسيه الجزائر، ولكنه كان كثير الحركة فأخذ يزور مختلف المناطق في المناسبات. كما كانت الحكومة تكلفه بمهمات محددة. وقد حذق العربية ودرس التصوف على يد الشيخ علي ابن سماية الذي كان أستاذا في مدرسة الجزائر ومحررا في جريدة المبشر. زار زواوة والأوراس، وميزاب. بالنسبة للأولى زارها أول مرة سنة 1873 بعد الثورة الشهيرة (ثورة المقراني والحداد)، ثم أخذ يتردد عليها، ولكنه كلف من الحكومة سنة 1882 بمهمة خاصة هناك فتجول ورأى آثار الكنيسة ونشاط جنود الكاردينال لافيجري. وأوصى بتأسيس مدارس ابتدائية في بني يني وتيزي راشد وميرا وجمعة الصهاريج. كما كلفته الحكومة أيضا بمهمة في الأوراس فتجول في مختلف أجزائه سنوات 1875 - 1878، ثم كتب عن آثار المنطقة ولهجتها وتاريخها ووصف حياة أهلها في كتابات ما تزال ذات قيمة. وغداة احتلال فرنسا لميزاب تجول هناك أيضا وربط علاقة مع الشيخ محمد بن يوسف اطفيش، العالم الشهير. وطلب منه ماسكري أن يكتب تاريخا موجزا عن ميزاب فكتب له الشيخ اطفيش (الرسالة الشافية)(2). ودرس ماسكري هناك الحياة الدينية والعادات والتشريعات.

ويبدو أن ماسكري قد ارتبط أيضا ببعض التجار الميزابين في قصر البخاري وكذلك ببعض النساخ في غرداية. وإذا كان الناسخ مكلفا بنسخ الكتب لماسكري فإن تاجر قصر البخاري كان أيضا عينا للفرنسيين - عن طريق ماسكري - فيما يتعلق بأحوال الصحراء وتحركات الثوار والأشخاص.

(1) كتاب (ذكريات ورؤى افريقية)، ط. 2، 1914 بالجزائر.

(2)

انظر ترجمة الشيخ اطفيش في السلك الديني والقضائي.

ص: 35

وقد نشر ابن سديرة رسالة ترجع إلى سنة 1881 موجهة من هذا التاجر إلى ماسكري. وجاء فيها أنه دائما في خدمة الدولة (الفرنسية) وأنه صاحب المتصرف الإداري هناك، ويفتخر بصحبته لماسكري. ومما جاء في الرسالة أخبار عن الشعانبة على أنهم سيثورون (ينافقوا) في أكتوبر 1881، ولعله كان يشير بذلك إلى ثورة بوعمامة. لكن الرسالة تذكر شخصا إسمه أحمد، هرب من بريان بعد أن قبض عليه المخزن. ويطلب من ماسكري أن يعلمه عن هدف المحلة (الفرقة العسكرية) المتوجهة نحو الصحراء ودوافعها. ونعرف من الرسالة أن هذا التاجر المراسل الذي يتولى الوساطة في مركز حساس مثل قصر البخاري، كان يملك دكانا كبيرا، هو وإخوته الأربعة. وهو تاجر في القماش وغيره (1).

ويبدو أن ماسكري كان من الممهدين لاحتلال ميزاب بعد زيارتها. ذلك أن مترجميه يقولون إنه قام سنة 1882 (عهد لويس تيرمان) بزيارة هذه المنطقة تمهيدا لاحتلالها. وجاء منها بمؤلفات، وترجم بعضها. ويقولون عنه إنه خدم الجزائر (الفرنسية) بكل قواه، في تعليمه وفي كتاباته. وقد بين أن الثقافة الحقيقية لها دور تلعبه في خدمة الدولة المستعمرة، وهو دور عظيم في بلاد مثل الجزائر عندئذ. ويقول أوغسطين بيرنار الذي توسع في ترجمة ماسكري: إنه بعد أن ملكت فرنسا الجزائر بالسيف والمحراث (وهو تعبير استعمله بوجو)، يجب أن يأتي الامتلاك الآخر، الامتلاك بالقلم والكلمة، وهو دور ماسكري ودور المجلة الإفريقية، والدور الذي (لا يمكن أن ننسحب منه دون أن نكون قد تخلينا عن واجباتنا) وأضاف بيرنار بأن دور ماسكري في ذلك لا يقل عن دور الضباط والإداريين المخلصين لفرنسا. وقد كان بيرنار صادقا في ذلك، ويصدق وصفه أيضا على كل مستشرق فرنسي.

هذا هو ماسكري الفرنسي الذي عمل ما في وسعه ليمتلك الجزائر لفرنسا، لا بالسيف ولا بالمحراث، ولكن بالقلم والكلمة. وفي كتابه

(1) بلقاسم بن سديرة (كتاب الرسائل)، ص 216.

ص: 36

(ذكريات ورؤى إفريقية) وصف أدبي عميق وانطباعات شخصية معجونة بالتاريخ لمختلف أحداث الجزائر وشخصياتها وما كانت تقوم به السلطات الفرنسية - عسكرية ومدنية للاحتلال والسيطرة - وهو وصف عن تماس الحضارتين وتثاقف الأفراد وتلاقي المشاعر وردود الأفعال. ويمكن أن تقارن كتاباته الانطباعية هذه بكتابات فرومنتان (سنة في الصحراء) و (سنة في الساحل)، وكتابات ألبير كامو في وقت لاحق.

والعمل الرسمي الآخر الذي تولاه ماسكري في الجزائر هو التعليم وإدارة مدرسة الآداب عند إنشائها سنة 1880. فبعد إنشاء المدارس العليا، عين ماسكري أستاذا للتاريخ والآثار القديمة في شمال إفريقيا، ثم عرض عليه بول بير P. Bert إدارتها فقبل ذلك وبقي مديرا لها إلى وفاته المبكرة سنة 1894. وكان ينشر في المجلات الفرنسية، وهو الذي أنشأ نشرة سماها (المراسل الإفريقي)، ورأس تحريرها وساهم فيها بأبحاث أثرية ولغوية. وكانت تصدر عن مدرسة الآداب، وقد بلغت (المراسل) شهرة عظيمة. وظلت تصدر بعد وفاته. ونشر فيها رينيه باصيه بعض أعماله، بل كانت صوت الاستشراق بحق في اندفاعته أواخر القرن الماضي. وقد اهتم ماسكري بلهجات ميزاب والأوراس وزواوة والطوارق. وسافر مع بعثة من الطوارق إلى باريس سنة 1887. ودرس تاريخ الأولياء والصالحين، وهو صاحب المقولة الشهيرة: (إن كل تاريخ شمال إفريقيا هو تاريخ ديني). وكانت أطروحته للدكتوراه عن تشكل المدن عند السكان الحضريين في الجزائر، وهو يعني بهم هنا سكان الأوراس وسكان القبائل (زواوة) وسكان ميزاب. وهو يقول إن البداوة ليست مسألة عرق، وإنما هي مسألة ترجع إلى المناخ والتربية. وكان ماسكري من المعجبين بكتابات فرومنتان ثم بكل الرحالة الفرنسيين الذين وصفوا الصحراء والطبيعة الجزائرية (1).

(1) أوغسطين بيرنار (يميل ماسكري)، في المجلة الافريقية، 1894، ص 350 - 373. وقد نشرت هذه الكلمة في مقدمة كتاب ماسكري (ذكريات ورؤى افريقية)، ط. 2 الجزائر، 1914. (نشرت ط. 1 في باريس 1894).

ص: 37

بالإضافة إلى مركز العاصمة ظهر في المناطق الأخرى علماء ومترجمون فرنسيون وجدوا أنفسهم بإنتاجهم في عمق حركة الاستشراق التي تنطلق من العاصمة. ومن هؤلاء غوستاف موتيلانسكي، الذي تمركز نشاطه في قسنطينة. فهو من المترجمين البارزين في بداية حياته. ثم أصبح من المستشرقين لبحوثه في المذاهب واللهجات، وكان من المستكشفين للصحراء، إذ قام بعدة جولات وبعثات. ثم إنه من مواليد الجزائر في بيئة عربية محافظة وإسلامية عريقة.

ولد موتيلانسكي في مدينة معسكر سنة 1854، وبعد أن شب درس في ليسيه الجزائر ثم مارس فيها التدريس بعد ذلك. ثم دخل امتحان الترجمة في النطاق العسكري. فهو ليس من المستشرقين المحترفين. وبهذه الصفة اشتغل في عدة أماكن من الجزائر شرقا ووسطا وغربا وجنوبا، بل عمل في تونس أيضا. وعند احتلال ميزاب أرسل إليها ليكون المترجم العسكري هناك، وقد بقي خمس سنوات سمحت له بدراسة العادات والتقاليد والتعرف على العلماء والمكتبات، وكان يعرف العربية الفصحى والدارجة. وأضاف إلى ذلك دراسة البربرية في ميزاب ولهجاتها الأخرى في الصحراء، وبحيث في المذهب الإباضي وجمع وثائقه، وفي تاريخ المنطقة وعلاقاتها بإفريقيا. وقد نشر بحوثا عديدة في هذا الميدان أدخله إلى الاستشراق من بابه الواسع.

وفي سنة 1887 عين موتيلانسكي مديرا لمدرسة قسنطينة الشرعية - الفرنسية (الكتابة). وكان من شيوخها الجزائريين عندئذ عبد القادر المجاوي ثم تلميذه ابن الموهوب ومحمود الشاذلي. وكان رئيس كرسي (حلقة) اللغة العربية بها هو مارتان الذي توفي سنة 1889 فخلفه فيه موتيلانسكي وأصبح يجمع بينه وبين الإدارة. وهو الكرسي الذي عرفنا أنه كان موجها لعموم الفرنسيين وليس للجزائريين. وأثناء وجوده في ميزاب وفي قسنطينة ربط موتيلانسكي علاقات مع رجال الدين والعلم في الناحية الشرقية والصحراء. فهو ليس موظفا عاديا يكتفي بالحضور اليومي ثم يعود إلى بيته

ص: 38

لينام أو يقتل الوقت، ولكنه كان صاحب مهمة سياسية وعلمية. وممن تعرف عليهم وربط معهم علاقات، الشيخ محمد بن يوسف اطفيش في ميزاب والشيخ محمد العروسي، شيخ الزاوية التجانية في قمار، والشيخ الهاشمي، زعيم القادرية في عميش (الوادي).

وكان للحكومة الفرنسية مخططات في الصحراء تريد الوصول إلى أقاصيها، وربط شمال إفريقيا بغربها وبالسودان. ولا بد قبل ذلك من معرفة المسالك والقبائل والواحات والآبار واللهجات والسكان. وكان موتيلانسكي خير مؤهل لهذه المهمة. ذهب أولا إلى وادي سوف سنة 1903 واتصل بصديقه الشيخ محمد العروسي الذي وفر له شروط الالتقاء بأهل غدامس بالوادي. وراسل الشيخ العروسي بشأنه مقدمي التجانية في منطقة الطوارق والهقار وغدامس. والتقى موتيلانسكي في الوادي بأشخاص من غدامس وتحدث معهم عن رحلة إلى بلادهم وتعرف على لهجتهم. ثم قدم تقريرا لحكومته عن زيارته لسوف ولهجة غدامس (1). وبعد سنة واحدة 1904 ذهب موتيلانسكي بنفسه إلى غدامس وكتب رحلته في شكل تقرير إلى حكومته وإلى عالم الاستشراق، فهو قد درس في غدامس اللهجة والسكان والتجارة والتاريخ، الخ.

كان موتيلانسكي في أوج عطائه في فاتح القرن. وبالإضافة إلى ما ذكرنا شارك في مؤتمر المستشرقين بالجزائر. وقام ببعثة أخرى في الصحراء - في الهقار - سنة 1905. ولكنه رجع منها منهوك القوى مصابا بمرض التيفوس الذي لم ينج منه، فتوفي في مارس 1907 في مدينة قسنطينة. وكان عمره آنذاك 53 سنة. وقد أقيم له حفل تأبين حضره زملاؤه الفرنسيون في الجمعية الأثرية لقسنطينة وفي المدرسة. كما حضره مفتش الأكاديمية وشيخ البلدية. ولكن الملفت للنظر أن من بين الحاضرين

(1) عن رحلته إلى سوف انظر المجلة الآسيوية، 1903، السلسلة العاشرة، المجلد 2، ص 157 - 162. وقد ترجمنا ذلك إلى العربية ونشرته مجلة الثقافة، 1994.

ص: 39

والمتكلمين أيضا الشيخين بوشريط، مفتي المذهب المالكي، وابن الموهوب المدرس بالمدرسة (الكتانية)(1).

وهكذا كان موتيلانسكي مخلصا لقضية بلاده وللحركة الاستشراقية. وكان كزملائه يربط بين هذه الحركة والإدارة الاستعمارية، ويرى أن نجاح إحداهما يتوقف على نجاح الأخرى. ولو طال به العمر لتوسع ربما أكثر من غيره في البحوت الصحراوية والإفريقية. وقد استحق من الفرنسيين إطلاق إسمه على أحد أبراج الصحراء (2).

وهناك مستشرق آخر لم يعش طويلا بعد موتيلانسكي ومات في نفس المدينة (قسنطينة) سنة 1913، ونعني به الاسكندر جولي. وكان يعد ببحوث أكثر تنوعا من زميله، ولم يكن مثله من المترجمين العسكريين، ولكن من طينة أخرى. فقد ولد جولي بفرنسا سنة 1870، ودرس في ليسيه هنري الرابع. وكان أبوه متخرجا من مدرسة ترشيح المعلمين في اختصاص الكيمياء، فنشأ جولي على حب العلوم. ولأسباب صحية جاء إلى الجزائر واستقر بها. وقام بأعمال عديدة لا تؤهله للاستشراق، مثل الأشغال العامة والرسم. ولكنه ما لبث أن تعلم اللغة العربية واهتم بالدراسات الإسلامية، سيما أهل التصوف. وأصبح أستاذا في مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية (الثعالبية). بعد إعادة تنظيمها وإحداث القسم العالي بها، سنة 1896، ثم انتقل سنة 1901 إلى مدرسة قسنطينة ليعمل إلى جانب موتيلانسكي. وعند وفاة هذا تولى جولي كرسي (حلقة) اللغة العربية للفرنسيين.

(1) نشرت مجلة (روكاي) 1907، ص 6 - 14، الخطب التي ألقيت في هذه المناسبة عدا خطبتي بوشريط وابن الموهوب لأنهما، كما قالت، ألقيتا بالعربية! والمعروف ان ابن الموهوب تولى الفتوى سنة (1908)(مكان وشريط؟).

(2)

عن حياة موتيلانسكي انظر المصدر السابق (روكاي)، ص 1 - 6، إذ فيه نبذة طويلة عن حياته وأعماله. وكذلك رينيه باصيه (تقرير عن دراسات البربرية والهوسة) في المجلة الافريقية، 1908، ص 259. وترجمة حياته بقلم ارمون ميسبلي في SGAAN 1907، ص 119 - 121. وهنري ماصيه (الدراسات العربية ..).

ص: 40