الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد كان عضوا في حزب اللامركزية الذي عارض الحركة الطورانية التي جاءت مع لجنة الاتحاد والترقي في تركيا. وكان الشيخ طاهر من أنصار القومية العربية. وكانت علاقته بالسيدة بيل الانكليزية المتنفذة في أحوال العالم العربي قد أدت به كما قيل، إلى الدخول في الماسونية بعد اقتناعه بشعاراتها الإنسانية الظاهرية (1).
وقد يكون من بين الجزائريين الآخرين، في المشرق والمغرب، من دخل في الماسوبة. وربما ستكشف الأيام عن أسماء بعضهم.
الإسلام ووحدة الأديان
شارك الفرنسيون ببحوث كثيرة عن الإسلام منذ احتلالهم للجزائر. وظهرت دراسات لهم فردية وجماعية. وتحدثوا فيها عن مختلف الموضوعات التي تمس تاريخ الإسلام وعقيدته وسيرة رجاله وموقفه من التمدن ومن النصرانية. كما تناولوا موضوعات خاصة منه كالجهاد والملكية والسلم والهجرة والمرأة والحكم. وقد حاولوا فهم الإسلام ليفسروه تفسيرا يليق بمصالحهم. ووصل بهم الأمر أن أصبحوا يلقون عليه عبارات لا تليق ومثل الإسلام الجزائري، والإسلام الأسود (يقصدون الإسلام في إفريقية) وما إلى ذلك. واختص المستشرقون منهم بجوانب فيه كالتصوف، والفقه والتاريخ، الخ.
وبين مرحلة وأخرى كانت الحكومة الفرنسية توجه الخبراء لدراسة ظاهرة معينة وتسليط الأضواء عليها محليا ودوليا لتستفيد من ذلك تفادي الأخطاء والتوجه الصحيح في التعامل مع العالم الإسلامي. ومن ذلك مثلا دراسة أنشطة الطرق الصوفية خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. ودراسة أوضاع الإسلام والمسلمين في فاتح هذا القرن. وقد كنا
(1) انظر كتاب عدنان الخطيب (الشيخ طاهر الجزائري). معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1971.
تناولنا الدراسة الأولى في حديثنا عن الطرق الصوفية، ونريد الآن أن نكتب قليلا عن النقطة الثانية. لقد كان المقصود منها هو البحث في مستقبل الإسلام وموقف فرنسا خلال القرن العشرين. وقامت بنشر التحقيق الواسع مجلة (المسائل الدبلوماسية) سنة 1901 تحت إشراف ادمون فازي Fazy . وقد شارك في التحقيق علماء وباحثون من أوروبا وحتى بعض الآسيويين مثل وزير إيران في رومة، وهو ماكوم خان، وكذلك مستشار السلطان عبد الحميد الثاني، وهو موزدروس باي. وقد اشترك فيه من الجزائر محمد بن رحال. وبالإضافة إلى خبراء فرنسا اشترك في التحقيق المستشرق الإنكليزي براوني، والمجري غولد زيهر، وآخر من هولندا. وأعطيت التوجيهات لدراسة حالة الإسلام والمسلمين وقوة المسلمين وضعفهم وانتشارهم في العالم، وكيف سيكون عليه حالهم خلال القرن العشرين. ولم يهمل الدارسون علاقة الإسلام بالغرب، والوجود الإسلامي في إفريقية. أما من الفرنسيين فقد شارك رينيه باصيه، وادمون دوتيه، وويليام مارسيه، وغيرهم (1).
ونريد أن نتعرض لرأي باصيه وابن رحال فقط، الأول لأنه كان يمثل قمة الاستشراق الفرنسي، وكان مطلعا من خلال تلاميذه الجزائريين وزملائه وتلاميذه الفرنسيين في المغرب العربي والسينيغال والمشرق، على أحوال العالم الإسلامي. والثاني باعتباره من أوائل المثقفين الجزائريين الذين كتبوا عن الإسلام في مواجهة الغرب وتعاملوا مع رجال الفكر والإدارة الفرنسيين وخرجوا من الصراع المحلي - الإسلام الجزائري - إلى الصراع العالمي بين الحضارات.
(1) العنوان هو (تحقيق حول مستقبل الإسلام). وقد نشر في مجلة (المسائل الدبلوماسية). Q.D في الشهور التالية: يوليو، غشت، أكتوبر، نوفمبر 1901. وكان العلماء الفرنسيون المذكورون كتبوا عن الإسلام في شتى أنشطته. وقد أصبح دوتيه (وهو من علماء الاجتماع المتأثرين بنظرية دورخايم، ومن مستشاري الحكومة العامة خلال الحرب العالمية، في الشؤون الإسلامية، وهو صاحب كتاب (الإسلام الجزائري).
ومن رأي باصيه أن بلاده بقيت تجهل الإسلام والمسلمين منذ الحملة على مصر ثم الحملة على الجزائر. وعليها أن تفرق في معاملتها بين الإسلام في المغرب العربي (شمال إفريقية) والإسلام في إفريقية والسودان. ففي المغرب العربي حيث يسود الإسلام لا يمكن حصول التنصير التطوعي. ولذلك لجأت الإرساليات الكاثوليكية وغيرها إلى الوسائل الخيرية فى التنصير واستعمال المدرسة التي قال إنها (محايدة). ونصح بالربط بين الاحتلال والمصالح المادية للمسلمين، وبعدم مدح الإسلام أمام الأهالي لأنهم سيزدادون تعصبا إذ سيقولون إن (الكفار) مدحوه، كما نصح بالإبقاء على نظام الديانة الإسلامية تحت رقابة الإدارة، لأن هيئة رجال الدين متعاونة مع الإدارة، وهي (الهيئة) وسيلة لتسريب التعليم الرسمي في المجتمع الأهلي. ورأى ضرورة الإبقاء على المدارس الرسمية الثلاث بشرط توجيه تعليمها توجيها أوروبيا. وأوصى بالتعامل الحذر مع الطرق الصوفية، وكذلك الحذر من دعاية الجامعة الإسلامية القادمة من الشرق، ومراقبة طريق الحج لأنه وسيلة لتوريد الأفكار. وفي نظر باصيه أن الأمر يختلف مع اسلام في إفريقية، لأن الوثنية منتشرة فيها. ويجب عدم الاطمئنان إلى الوثنيين المتنصرين أيضا لأنهم قد يتغيرون (1). فأنت ترى أن باصيه كان حذرا جدا في تعامله مع الإسلام والمسلمين، وأنه نصح بلاده بأن تكون كذلك حذرة سواء تعلق الأمر بالإسلام في المغرب العربي، ومع كل الفصائل، أو في إفريقية ولو مع الوثنيين المتنصرين.
أما محمد بن رحال فقد تحدث عن الإسلام في مناسبتين قريبتين من بعضهما، الأولى عند انعقاد مؤتمر المستشرقين في باريس سنة 1897، والثانية عند مشاركته في التحقيق المذكور سنة 1901. وفي المناسبة الأولى تحدث إلى العلماء الفرنسيين وغيرهم عن الإسلام في الجزائر، ووصف المسلمين بالتخلف التقني والتعليمي، ولكنه انتقد فرنسا والغرب على فساد
(1) باصيه، مرجع سابق، أول أكتوبر، 1901، ص 388 - 389.
الأخلاق وانتشار الخمر والزنى والمراباة، وقد تساءل ما إذا كان المسيحي سيلجأ في النهاية إلى الإسلام كآخر ملجإ له. وقد لام ابن رحال الذين كانوا يرمون الإسلام وأهله بشتى أنواع التهم، ومدح الذين فهموه وعرفوا رسالته، وتمنى أن يدعو علماء الغرب إلى تغيير المفاهيم حول الإسلام والدخول في حوار مع العالم الإسلامي. وقرر ابن رحال شيئا كان موجودا وهو أن الجزائر هي مفتاح إفريقية، وأشار إلى الرابطة التي كانت بين فرنسا والإسلام في القارة السوداء. ولكنه حذر من عواقب الاحتلال وتفقير الأهالي، وحذر المؤتمرين بصراحة متناهية، فقال إن جماهير المسلمين ستتحدى إذا رأوا تسلط الأجانب مهما كان جهدهم عظيما، وأن القرن العشرين سيحل مشاكله إما بالطرق السلمية وإما بمواجهة النكبات، ومن النكبات في رأيه بقاء المسيحية على عدائها للإسلام، ومن رأيه أن العالم الإسلامي سيدخل عهد التمدن سواء بواسطة فرنسا أو بدونها (1).
وقد انطلق ابن رحال في بحثه حول مستقبل الإسلام من بحثه الذي ألقاه في مؤتمر المستشرقين، وكان يكرر في الثاني ما ذكره في الأول. ونظر في بحثه سنة 1901 إلى الإسلام الواحد أو الشامل في مختلف الأصقاع. وذهب إلى أن الإسلام يتبع نبض الحضارة العالمية في كل شيء ما عدا العقيدة والأخلاق والأسرة. ونوه بالمسلمين القدماء الذين خدموا الحضارة وقدموها صائغة إلى أوروبا، وأنه بإمكان المسلمين أن يأخذوا مكانهم من جديد إذا سمحت لهم الظروف. وقال إن المسلم يملك طاقة جبارة للمقاومة وهي التي تمده بالقدرة على الانتظار دون المدافعة ودون الموت.
واعترف ابن رحال أن دول العالم الإسلامي متخلفة ومنقسمة على
(1) كريستلو (المحاكم)، ص 247. وهنا وهناك. وسبق لابن رحال أن نشر نصا من كتاب نزهة الحادي للأفراني عن إفريقية ونشره في مجلة الجمعية الجغرافية لوهران، 1887. وعن حياة ابن رحال انظر فصل الترجمة: وقد كتب عنه آجرون بحثا في كتاب (الأفارقة) الذي كان يشرف عليه جوليان، ج 8، باريس 1977، والبحث بعنوان:(محمد بن رحال ضمير قلق في جزائر متحولة) وقد نوه به بعض الجزائريين أمثال الشيخ الإبراهيمي في الجزء الخامس من آثاره.
نفسها، ولكن التعليم حسب رأيه، سيجعلها تستعيد مكانها في العالم، كما أن عداوة المسيحية لها ستجعلها تتوحد. ولذلك قال إن مصلحة الغرب المتحضر هي في الارتباط بالإسلام وفي تقديم المساعدات له، ويمكن التفاهم بين الطرفين في نظر ابن رحال، بعمل مزدوج وهو: معرفة العالم المسيحي للإسلام ومعرفة العالم الإسلامي للحضارة الغربية. وطالب بنبذ الأحكام المسبقة وبمد الأيدي الغربية نحو المسلمين الحقيقيين (النخبة؟) ذوي الاستعداد للتفهم والتضحية. وكرر مقولته بأن على فرنسا أن تساعد إفريقية لأنها إذا لم تساعدها فإنها ستتقدم بدون فرنسا، وقال إن إفريقية مسكونة بالبربر والزنوج، أما العرب فعددهم قليل، وأن البربري متمسك بدينه وأرضه وتقاليده، وأنه في ذلك مثل العربي البدوي. ووصف الزنوج بأنهم بدائيون ويمثلون لوحة عذراء يمكن الكتابة عليها دون خوف من محو أي شيء فيها، وهم يمثلون أيضا أرضا خصبة للإسلام (1).
ونعني بوحدة الأديان الدعوة التي ظهرت في الجزائر بين الحربين تقريبا لتبشر بالعناصر المشتركة في الأديان الثلاثة، وهي الإسلام والمسيحية واليهودية. ولا ندري دوافع هذه الدعوة بالضبط هل هي بديلة للحركة الوطنية التي ظهرت في هذه الأثناء لتضعفها؟ وهل هي جزء من فلسفة الاندماج الحضاري الذي كانت (النخبة) تدعو إليه، وكذلك بعض القادة الفرنسيين أمثال موريس فيوليت، وهو الاندماج الذي كانت تسعى إليه الماسونية أيضا؟ وهل هي دعوة ظهرت مع ظهور الحركة الصهيونية في المشرق، تمهيدا لقبول اليهودية والوطن القومي في فلسطين؟ وأخيرا لعل وحدة الأديان فكرة بديلة لحركة التنصير التي فشلت فشلا ذريعا بعد الجهد الذي بذله آباء لافيجري وأخوات.
والحديث عن وحدة الأديان غير جديد في الجزائر. فقد نسبوا إلى
(1) محمد بن رحال (مستقبل الإسلام) في (المسائل الدبلوماسية)، أول نوفمبر، 1901، ص 538 - 550. كنا تناولنا ابن رحال في عدة أماكن أخرى، مثل التعليم، انظره.
الأمير عبد القادر قوله (وهو قول مشكوك فيه): لو أن المسلمين والمسيحيين استمعوا إلي لأنهيت الخلاف بينهم، ولأصبحوا إخوة في الظاهر والباطن. وقالوا إن الأمير كان يعيش مسلما ومتصوفا. وفسروا تدخله في حوادث الشام على أنه من قناعته في التسامح الديني لأنه وهو مسلم ومجاهد، تدخل لإنقاذ آلاف المسيحيين. وكان الأمير قد عبر في الجزائر للأسقف دوبوش عن احترامه للدين، وعن عقيدته في أن الدين واحد، وأنه عندما أصبح متصوفا كان يبحث عن الوحدة الداخلية أو الباطنية. وبناء على ذلك فالأمير كان غير متعصب في نظرهم (1). ونسب هنري دوفيرييه إلى الحاج عثمان بن الحاج البكري، أحد مقدمي التجانية في الطوارق، أثناء زيارته لفرنسا سنة 1862، أنه أعلن للفرنسيين عندئذ: أن كل دين يمكن أن يقال عنه أنه أفضل من غيره. ونحن المسلمين نقول: إن القرآن قد أكمل الإنجيل والتوراة. ولكن لا أحد ينكر أن الله اختص المسيحيين بمؤهلات بدنية وأخلاقية عظيمة (2).
وفي سنة 1905 قدم عبد الحليم بن سماية بحثا إلى مؤتمر المستشرقين بالجزائر قال فيه إن الإسلام يتلخص في الثلاثية المعروفة، وهي الحرية والإخاء والمساواة (شعار الماسونية والثورة الفرنسية). كما أنه نوه بما في الإسلام من الالتزام بالصدق والإخلاص والمروءة والعدل والتواضع واحترام الجار، وغيرها من الفضائل.
وظاهرة عدم التعصب عند المسلمين قد لاحظها الكتاب الفرنسيون في
(1) لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية)، ص 250 هامش 1. ونسب إلى الأمير قوله في رسالة بعثها إلى الجمعية الآسيوية/ الفرنسية أن كل الأنبياء من آدم إلى محمد متفقون على وحدة الله وعبادته، ولهم رسالة واحدة، إنما الذي اختلفت عبر العصور هي التفاصيل، وإنما الأديان الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية) دين واحد في الأساس. ولعل الأمير إنما يشير إلى الملة الإبراهيمية. انظر أيضا كتاب (المواقف) للأمير. وقد عالجناه في مكان آخر.
(2)
هنري دوفيرييه (اكتشاف الصحراء)، باريس، 1864، ص 333. انظر أيضا فصل الطرق الصوفية.
غير ما مرة، رغم أنهم استعملوا وصف (المتعمب) لكل ثائر ضدهم. وكلمة (فانتيك) التي تعني المتعصب كانوا يرمون بها الثائرين والسياسيين أكثر مما كانوا يرمون بها رجال الدين أو المواطنين العاديين. وقد اندهش الفرنسيون من استسلام الجزائريين للأمر الواقع عندما أخذ الفرنسيون فؤوسهم ومعاولهم وأسقطوا جامع السيدة بالعاصمة، وكانوا يرددون همسا، كلمة (مكتوب). وكذلك كان رد فعل الجزائريين عندما حول الفرنسيون جامع كتشاوة إلى كنيسة. وقالوا إن القسيس (سوشي) قد قدم إليه الأهالي الكرسي والزربية عندما حول جامع سوق الغزل إلى كنيسة في قسنطينة. كل هذه وغيرها دليل في نظر هؤلاء الكتاب على (تسامح) الجزائريين. وهو في الواقع خضوع للقوة والجبروت فقط وليس تسامحا ورضى بالاغتصاب والقهر.
وفي هذه الحالة يصبح المتعصبون هم الفرنسيين. فهم الذين اعتدوا على حرمات المساجد رغم تعهدهم الرسمي باحترام الدين الإسلامي. وقد نصبوا كنيستهم في قلب أحد المساجد بالعاصمة. ونادوا باستعادة الكنيسة الإفريقية القديمة. وأخذوا ينصرون السكان بكل قواهم وإمكاناتهم. وكانوا يتعرضون بالأذى والشتم للإسلام ولنبيه وقرآنه. رغم أنهم كانوا يقولون إنهم متحضرون بينما الجزائريون غارقون في البداوة وفي حاجة إلى جهود لإدخالهم في الحضارة. والغريب أن أحد كتابهم يقول: إن الآباء النصرانيين والقساوسة كانوا لا يتدخلون في شؤون المسلمين إلا عن طريق أفعال الخير (؟) وتمتين الصداقة مع الأيمة والمفتين. أما محاولة فصل البربر ومباركة تزوج رجال الدين المسلمين بفرنسيات، كما فعل لافيجري مع أوريلي التجاني، فذلك في نظر هذا الكاتب من أفعال الخير.
وقد وجدنا جزائريين اعتنقوا المسيحية بينما لا نكاد نجد من اعتنق الإسلام من الفرنسيين. فهل هذا راجع أيضا إلى التسامح الإسلامي أو إلى أفعال الخير التي كان يقوم بها رجال وأخوات الكاردينال لافيجري؟ من الجزائريين الذين اعتنقوا المسيحية أفراد نشأوا أيتاما نتيجة المجاعة التي حدثت في آخر الستينات من القرن الماضي. وقد تعرضنا إلى ذلك في فصل
آخر (1). ومنهم أفراد أصبحوا معلمين بعد تخرجهم من مدارس الآباء البيض أو من مدرسة النورمال. وتذكر المصادر الفرنسية منهم: ولد عودية، وجوزيف زنتار، وأوغسطين إيبازيزن. واعتبر بعض الفرنسيين وجود هؤلاء علامة على نجاح التنصير في البربر. وقد تزوج أولئك النفر من فرنسيات. ووصلوا، كما يقولون، إلى درجات عليا في السلم الإداري والمهن الحرة. وأصدر أحدهم، وهو جوزيف زنتار، مجلة سماها (المطورني)، كما أصدر الأب جيو كوبيتي نشرة سماها (الاتحاد الكاثوليكي - الأهلي)، وأعلن إيبازيزن أنه اختار لنفسه اسم أوغسطين المسيحي لأنه يجعله يرجع إلى دين أجداده! وهاجم بعضهم الإسلام كما فعل حسني لحمق (2).
أما الفرنسيون الذين اعتنقوا الإسلام فلا نكاد نجد لهم ذكرا، رغم الدعوة إلى التسامح ووحدة الأديان والتسامي الحضاري. ويبدو أن قانون تقليد المغلوب للغالب قد انطبق حتى على الأديان في الجزائر. فالإسلام الذي اعتنقه ملايين البشر في أوروبا وآسيا وإفريقيا لم يعتنقه إلا فرنسي ونصف طيلة قرن وربع من الحكم الفرنسي للجزائر. أما الفرنسي الذي قيل إنه اعتنقه فهو إيتيان دينيه الذي سمى نفسه ناصر الدين. وقد أدى فريضة الحج في آخر حياته، وألف كتابا عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشاركة مع أحد الجزائريين وهو سليمان بن إبراهيم، بناء على المصادر الإسلامية وليس على مصادر المستشرقين المغرضة (3). ولكن لوحات إيتيان دينيه الفنية عن الحياة في الصحراء، وعن المرأة بالذات، لا تدل على تقيده بالقواعد الإسلامية. ولا ندري هل تقمص دينيه شخصية شارل دي فوكو أو كان مخلصا في دينيه.
(1) انظر فصل الاستشراق.
(2)
ذكر مالك بن نبي في المذكرات نماذج من الجزائريين الذين تجندوا لخدمة المصالح الفرنسية بدخولهم المسيحية وخدمة أغراض إنسانية، وذكر منهم عمار نارون.
(3)
إذا صدقنا بعض الباحثين المتأخرين فإن دينيه قد اعتنق الإسلام مبكرا، أي في حياة الشيخ محمد بن بلقاسم الهاملي (ت. 1897). فهو الذي خطط لختانه سرا في مستشفى مصطفى باشا بالعاصمة. انظر كلنسى - سميث (ثائر وقديس).
فذلك سر لا يعلمه إلا الله الذي {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (1). ومهما كان الأمر فإن دينيه قد توفي في فرنسا، ودفن في بوسعادة سنة 1930. وحضر تأبينه أعيان المسلمين، ومنهم الطيبب العقبي وأحمد توفيق المدني. ويعتقد فيه الناس عقائد مختلفة.
وأما نصف الفرنسي الذي اعتنق الإسلام فهو توماس أوربان الذي تسمى (إسماعيل عربان). وكان من أتباع مذهب سان سيمون. وقد ذهب إلى مصر قبل الجزائر، واطلع على حياة الشرق واعتنق هناك الإسلام. ثم جاء إلى الجزائر وأصبح من المترجمين البارزين في الإدارة الفرنسية، وارتقى حتى أصبح مترجم الامبراطور نابليون الثالث. وألف عدة كتب ومقالات ودافع عن الجزائريين ضد الاستغلال الفاحش، ولكنه لم يعارض الاستعمار كوسيلة حضارية. وكان عربان هجينا من أب فرنسي وأم أهلية من كايان حيث ولد. وفي الجزائر تزوج عربان من امرأة مسلمة من قسنطينة. وعاش معها طويلا وأنجب منها بنتا. وقد مرضت زوجته وهي عنده ثم توفيت. ثم ظهر له الزواج من امرأة فرنسية فاشترطت عليه الرجوع إلى المسيحية فرجع وتزوجها في مراحل حياته الأخيرة. ولذلك قلنا إنه كان نصف مسلم.
ولكن أمثال ليون روش في الإسلام كانوا موجودين. فقد ادعى روش للأمير والجزائريين أنه اعتنق الإسلام، كما ذكرنا، فانخدعوا فيه. واعتبروه منهم لتسامحهم الطبيعي الساذج. ويذكر ادريان بيربروجر أنه عندما قابل الأمير في نهاية سنة 1837 في برج حمزة طلب منه إعادة الشاب الهارب إليه (يقصد ليون روش) لأن والده حزين عليه، فرفض الأمير بصلابة أن يسلم مسلما هرب إليه وهو يقول (لا إله إلا الله)، لأن ذلك مخالف للشريعة الإسلامية (2). ولم يبق روش بعد ذلك سوى سنة ونصف أخرى، ثم هرب من عند الأمير، ورجع إلى قومه بعد أن أدى دوره باتقان. وثمة جنود فرنسيون اعتنقوا الإسلام لينتقموا من بعض كبارهم، كما حدث للجندي
(1) الآية 19 من سورة غافر.
(2)
بيربروجر (رحلة إلى معسكر الأمير)، ط. 1839. وقد ترجمناها إلى العربية.
الذي فر إلى الحجوط، وتمكن من قتل غريمه، ثم قبض عليه الفرنسيون وأعدموه. وأمثال هذه الأحداث موجودة، وكذلك النطق بالشهادة من الفرنسيين المقبوض عليهم لينجوا من القتل، ونحو ذلك. وهذا النوع لا يدخل في اعتناق الإسلام عن طواعية وقناعة. وقد قيل إن محمد الشريف جوكلاري الذي ظهر اسمه في الصحف (مثلا المرصاد؟) في الثلاثينات، كان فرنسيا رضي بالإسلام واختار اسم محمد الشريف (1).
أما الأوروبيون (الفرنسيون) الذين تأثروا بالإسلام وروحانيته دون أن يعتنقوه فكانوا نادرين، وقد عبروا عن آراء فلسفية أو ميتافيزيقية جديرة بالدراسة. ونحن لا نتحدث إلا عن فرنسي الجزائر أو من كان لهم أثر عليهم مثل المستشرق ماسينيون. وقد اعتنى بعض الدارسين بالزوايا والحياة الصوفية في الجزائر، مثل لويس رين والاسكندر جولي وألفريد بيل، دون أن يتأثروا بها أو ينجذبوا إليها، بل على العكس كانوا خصوما لها، أو كانوا ضد الدين من حيث هو مثل لويس رين. ولكن شخصا مثل شوون Schuon قد دخل في الزاوية العليوية بمستغانم، وألف كتابا سماه (الوحدة السامية للأديان). وكان ذلك على عهد الشيخ أحمد بن المصطفى بن عليوة مؤسس الزاوية. كما ألف شوون عدة كتب أخرى في التصوف، وهو من تلاميذ رينيه غينون R. Guenon الذي ألف كتابا في أجزاء عن التقارب بين التقاليد الدينية على المستوى الميتافيزيقي، وأحدث بذلك تيارا جديدا في ميدان الفكر الديني.
وقد سلطت وسائل الإعلام الفرنسية وكذلك الإعلام الديني الكنسي، الأضواء على شخصية الشيخ ابن عليوة خلال العشرينات وبداية الثلاثينات. وخصه بعضهم بالدراسة ووصفه بأوصاف غير عادية مثل المرابط المجدد. كما نسبوا إليه القول بالتثليث - أي وحدة الأديان الثلاثة. ويبدو أن ذلك جاء بالضبط في وقت ظهور الدعوة لوحدة الأديان التي نحن بصددها. وقد سافر الشيخ ابن عليوة بحرا إلى فرنسا لحضور حفل افتتاح جامع باريس ورافقه في
(1) ذكر ذلك مالك بن نبي في (المذكرات)، ونوه به.
الرحلة القس جيوكوبيتي. ودار بينهما نقاش حول العقائد في الأديان الثلاثة. وكان هذا القس مستعربا وداعية دينيا. وقد انتقده البعض بأنه اكتفى في حواره مع الشيخ ابن عليوة بالجوانب الجافة من العقائد. وأن نقاشهما لم يتحول إلى حوار ودي وتعاطف ديني (1). وكان بعض الفرنسيين يعالجون ابن عليوة ويناقشونه في المسائل الصوفية، وربما كانوا يؤثرون عليه لأغراض خاصة.
ويذكرون ملاقاة أخرى (ودية) نشأت بين الأستاذ هنري جاهبيي Jahbier والشيخ نور الدين عبد القادر. وكان جاهبيي مستعربا ورئيسا لجمعية القديس لوقا الطبية. ويبدو أن صداقته للشيخ عبد القادر قد أنتجت ثمارها. فقد فاجأ (جاهبي) الرأي العام الفرنسي بحديث عما في القرآن الكريم من أخبار عن السيدة مريم وعيسى عليه السلام. وكذلك اشترك الاثنان في إصدار قصيدة ابن سينا في الطب (2).
ويدخل الزواج المختلط في هذا التقارب الودي بين الأديان أيضا. فزواج امرأة فرنسية مسيحية من شيخ الطريقة التجانية فسره أصحاب هذه الدعوى لصالحهم. ذلك ان زواج أوريلي بيكار من الشاب أحمد التجاني سنة 1872 في بوردو، قد عارضه الرسميون وباركته الكنيسة وعلى رأسها لافيجري. وقد قيل عندئذ ان أوريلي قد تعهدت بتطوير الطريقة وازدهارها وتنظيمها دون اعتناق الإسلام فيما يبدو، ويقول قوانار إنها ماتت وهي مطلوبة من الطريقة ومن القس بي Py، داعية إفريقية، وهي حاملة معها أسرارها إلى قبرها (3).
(1) قوانار (الجزائر) مرجع سابق، ص 313. عن ابن عليوة انظر أيضا فصل الطرق الصوفية وبحث أوغسطين بيرك عنه. وكتاب لانق (الشيخ أحمد العلوي)، ط. بيروت، 1971، وهو مترجم عن الإنكليزية. وكان لانق من أتباعه.
(2)
منشورات كلية الآداب، 1956.
(3)
قوانار، مرجع سابق، 313. وحياة أوريلي كتبتها مارث باسين M. Bassinne بعنوان (أوريلي التجاني: أميرة الرمال) باريس 1925. وكذلك فريسون روش (جبل عمور)، باريس، 1975. ولعل الإشارة إلى (أسرارها) أنها ماتت دون أن تعلن إسلامها.
ومن المسلمين الذين تأثروا بالإسلام أرنست بيشاري، حفيد أرنست رينان الشهير. وقد وصف في كتابه (رحلة السنتوريون) الأثر الذي تركه عنده الهدوء والوحدة في الصحراء، كما وصف درجة الإيمان عند المسلمين عندما قال له أحدهم (أنتم لكم الدنيا ونحن لنا الآخرة). وقد تأثر بيشاري كثيرا بهذا الجو. ويذكر بعض الفرنسيين أن شارل دي فوكو قد بقي سنة كاملة في زاوية الأبيض سيدي الشيخ وتأثر بالأجواء الصوفية وروحانية الإسلام. ومع ذلك حارب هذا الراهب - الجندي (شارل دي فوكو) بوعمامة، وساعد صديقه المارشال ليوتي على احتلال المغرب الأقصى. كما أنه استدرج أهل الطوارق لاعتناق المسيحية.
وزعم لويس ماسينيون أن الإسلام يتماشى مع (التيار الجديد) الذي أحدثه كتاب رينيه قينون - وهو (التقارب بين الأديان) - فركز ماسينيون أيضا على ذلك واهتم بالتصوف الإسلامي أو بنوع خاص منه وهو المغرق في الغموض والحلول مثل تصوف أبي منصور الحلاج، ونشر ديوان (الطواسين) الذي قيل إن ماسينيون قد فتح به للمسيحية المغلفة مغلقات العالم الروحاني الآخر. ودعا ماسينيون أيضا، إلى التقارب بين الأديان، وكون تلاميذ يؤمنون بهذا التيار، ومنهم ديرمنغام الذي تولى إدارة مكتبة قصر الحكومة في الجزائر، وأصدر عدة أعمال حول التصوف المسيحي، كما درس خصائص التصوف الإسلامي في المغرب العربي متماشيا في ذلك مع نفس المنظور، وهو التقارب بين الأديان وانفتاح بعضها على بعض.
أما الإسلام واليهودية، فقد ذكرنا سابقا أنهما تعايشا منذ قرون دون أن يضطهد أحدهما الآخر. فالإسلام يعترف بوجود الأديان، أديان أهل الكتاب، ويحفظ لها ولأهلها الكرامة والممارسة الحرة لشعائرها. وما وقع أحيانا بين المسلمين واليهود إنما حدث في عهد الاحتلال لأن الإدارة نفسها ساعدت على خلق التوتر بين السكان عامة. ومن جهة أخرى فإن ما حدث لم يكن بين الأديان وإنما بين السكان لأسباب اجتماعية واقتصادية وليست دينية فيما
يبدو. ولم تظهر فكرة معاداة السامية إلا في العهد الاستعماري، وبين الفرنسيين والأوروبيين. وكانت غير معروفة في المصطلحات الجزائرية. ولكن الحركة الصهيونية سيست العلاقة بين المسلمين واليهود، فأصبح اليهودي ليس هو مجرد الإنسان الذي يدين باليهودية، وإنما هو ذلك الذي يعمل على انتزاع أرض فلسطين وإقامة وطن قومي غريب فيها. والغريب أن أحداث قسنطينة سنة 1934 قد فسرها بعض الكتاب الفرنسيين على أنها من صنع جمعية العلماء ضد الصهيونية (1)، بينما هي في أغلب التقديرات كانت رد فعل المسلمين على الاعتداء على حرمة أحد مساجدهم من جهة واستفزاز الجالية اليهودية (وهي فرنسية) التي أطلق أفرادها النار على المسلمين المتجمهرين. وتتهم صحف جمعية العلماء وتصريحات رجالها السلطة المحلية نفسها بخلق التوتر لضرب أهداف معينة في التيار الوطني، كما حدث سنة 1936 عندما ضربت حركة المؤتمر الإسلامي وجمعية العلماء باعتقال الشيخ العقبي.
وفي السنة التي توفي فيها الشيخ ابن عليوة (1934) انعقد في لندن (مؤتمر الأديان الثلاثة)، ولا ندري من حضره من الجزائريين. وبعده بحوالي عشر سنوات (1946) ظهرت جمعية مماثلة في باريس، بل هي فرع عن المؤتمر المذكور الذي سمي بمؤتمر المؤمنين. وفي 1959 ظهرت في بوفاريك بالجزائر (جمعية توحيد الأديان الثلاثة) التي تدعو إلى احترام هذه الأديان وإلى الأخوة بين أهلها (2).
إن التقارب بين الأديان فكرة قديمة عند الفلاسفة المسلمين، وكان
(1) اعتمدنا على كتاب قوانار (الجزائر) مرجع سابق، ص 313 - 314، ومقالة أوغسطين بيرك عن الشيخ ابن عليوة (مرابط عصري) في المجلة الإفريقية، ومقالة ديرمنغام عن الإسلام في (مدخل إلى الجزائر)، و (حولية) ماسينيون عن العالم الإسلامى.
(2)
الهاشمي التجاني (الإصلاح وجمعية القيم) في مجلة (الموافقات)، عدد 2، 1993 ص 179.