الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن اقترح المارشال ماكماهون، الحاكم العام للجزائر، اسم شارل
لافيجري
، سنة 1867.
لافيجري:
كان لافيجري عندئذ هو قس مدينة نانسي بفرنسا (ولد في بايون 1825). وقد عرفه ماكماهون عندما كان قائدا عسكريا لهذه المنطقة، وربط معه علاقات ودية. ووافق وزير الحربية على اقتراح ماكماهون دون تفكير في العواقب، أما وزير الأديان ونابليون نفسه فقد أبديا تحفظهما على إسم لافيجري. كان هذا أستاذا للتاريخ الديني بالكلية الدينية بباريس. وقد شارك في توزيع المساعدات على النصارى أثناء أحداث سورية 1860، وعمل على توسيع النشاط الكاثوليكي في المشرق حتى قيل إن الحكومة الفرنسية عجزت عن الحد من نشاطه الديني هناك، وقد كون مع غيره سلسلة من المدارس تسمى (مدارس الشرق)، وظل على صلة بها حتى بعد أن أصبح أسقفا للجزائر.
وصل لافيجري إلى الجزائر أثناء المجاعة المشهورة التي حلت بها. ووجد أسقفية الجزائر (الارشفيشي) تضم 83 فرعا (برواس) فيها 104 من دعاة التنصير. وهم ليسوا كهنة من حيث العنوان. وكانوا يخضعون خضوعا تاما لإرادة لافيجري، وكان بعضهم مطرودا من فرعه بفرنسا، وفيهم من كان يكثر من شرب الخمر (1). وتساءل لافيجري منذ البداية (كيف تظل فرنسا في الجزائر أربعين سنة دون أن تنجح في تنصير المسلمين! ومنذ البداية أيضا شعر ماكماهون بالحرج مع لا فيجري. فقد أخذ هذا يتدخل في شؤون الإدارة والعلاقات مع المسلمين، كما أن زوجة ماكماهون كانت هي المتولية للإشراف على الأعمال الخيرية، فأراد لافيجري الاستيلاء على ما بيدها فرفضت فهددها بالطرد من الكنيسة. وإلى جانب نتائج الجوائح التي كانت تعرفها البلاد، كانت الدعاية الفرنسية تعمل بطريق جريدة المبشر وغيرها،
(1) ايمريت، مرجع سابق، ص 70.
على جلب الأطفال العرب للمدارس الفرنسية - العربية، مطمئنة الأهالي بأنه لا خوف على أولادهم من التنصير وله لا وجود لرسم الصليب في الأقسام (الفصول) الدراسية ولا ذكر للانجيل فيها، الخ. كما دخل لافيجري (الذي استغرب من سياسة الإدارة) في خصام مع رئيس بلدية الجزائر الذي اعتبره لائكيا (علمانيا).
أما علاقة لافيجري برجاله في المناطق البعيدة، فقد كانت على غير ما يرام أيضا. كان اليسوعي كروزا في زواوة منذ عهد بافي، حيث بقي خمس سنوات دون أن يحقق الهدف، رغم المصاريف الكثيرة. وحل محله يسوعي آخر اسمه، فانسان، ففشل أيضا. ولكن كروزا حصل على دعم لافيجري فعاد إلى مقره القديم بنفس الروح والحماس. وحذر الضابط هانوتو، الذي كان رئيس المكتب العربي بذراع الميزان، بأنه من الجنون الادعاء بأن أهل زواوة غير مسلمين عن حقيقة، كما كتب ابن علي الشريف إلى السلطات الفرنسية ضد النشاط التنصيري في المنطقة (1). وقد أرسل لافيجري بعثة من الجزويت إلى زواوة لفتح مدرسة وتقديم المساعدات الغذائية والطبية، فاستقبلهم الأهالي هناك بالاحتجاج (2)، كما تعين الأب كالو على كنيسة وهران، والأب لاسكاز على كنيسة قسنطينة. ولكن علاقة لافيجري بكل منهما لم تكن على ما يرام. فقد توفي كالو سنة 1875 متهما من قبل لافيجري
(1) مما جاء في رسالة ابن علي الشريف، باشاغا شلاطة حيث الزاوية الشهيرة:(لقد قرأت رسالة الأسقف (لافيجري) التي عبر فيها عن نيته في إحلال الانجيل محل القرآن لتمدين العرب. إن هذه الرسالة قد أساءت للمسلمين كثيرا. إنني رجل دين، وإن كل المسلمين من جيلي يشاطرونني نفس الشعور. إننا نفضل أن نرى أبناءنا أمواتا على أن نراهم قد تحولوا إلى النصرانية. إنه لا توجد مساومة على هذه النقطة. لقد وعدتمونا وعدا صريحا باحترام حرية الضمير (العقيدة)، فإذا تخليتم عن كلمتكم فلن يبقى لنا التزام معكم. (من كتاب سكالي مرسلي)(شمال افريقيا). 1984، ص 164. وكان ابن علي الشريف يعرف الفرنسية ومن أوائل من تولي وظيفا إداريا للفرنسيين، رغم أنه كان من رجال الزوايا والمرابطين.
(2)
ايمريت، مرجع سابق، ص 71، 73 - 74.
بالغش في الحسابات المصرفية، وأما لاسكاز فقد أعلن لافيجري سنة 1872 أنه أصبح مجنونا، وحصل منه على رسالة استقالة.
انطلق شارل لافيجري في مشروعه التنصيري - الاستعماري الضخم تسانده البابوية والجمعيات التي يسمونها الخيرية، وكذلك السلطات التي كانت تتغاضى عنه وتحميه وتقدم إليه المساعدات المادية والمعنوية، ولا سيما بعد حرب 1870. فقد أنشأ لافيجري (مؤسسة القديس اوغسطين لبعث الدين المسيحي). وكان الهدف منها نشر النصرانية بين المسلمين. وقد جاءه تأييد من البابا على ذلك، فنشر لافيجري رسالة بحروف بارزة ووزعها على الفروع في الولايات الجزائرية الثلاث. اعتقد لافيجري العقيدة التي بدأت تظهر خلال الستينات على يد الدكتور وارنييه وجماعته، وهي أن زواوة خير هدف للتنصير، لأن أهلها في نظره، كانوا رقيقي الدين ومن السهل حينئذ أن يتخلوا عن الاسلام ويعتنقوا النصرانية. وادعى لافيجري أنه اتصل برسائل من (جماعات) هناك يطالبون فيها بإنشاء المدارس الدينية في ناحيتهم (1). وكان هؤلاء، كما قال ايمريت، إنما يطالبون بمدارس فرنسية للتعليم العام، وكانوا مستعدين لدفع نفقاتها. لكن لافيجري أنشأ في قرية (الواضية) مدرسة دينية. وطلب لها المعلمين والموظفين من مؤسسة مدارس الشرق Oevres des Ecoles D'orient التي شارك في تأسيسها قبل تعيينه في الجزائر.
وبناء على ذلك رجع الأب كروزا إلى نشاطه في زواوة، واستقر في برج نابليون. وقام في يونيو (جوان) 1868 بتوزيع المواد الغذائية والملابس والأدوية على الأهالي هناك، وظن أنه استولى بذلك على قلوب الناس وحاز ثقتهم. فأخذ يحدثهم في شؤون الدين المسيحي، لكنهم كانوا، كما يقول ايمريت، يأخذون منه ويضحكون عليه وعلى سذاجته. ولما أحس ببعض الرضى منهم رأى أن قبيلة بني فرح مستعدة لاعتناق النصرانية، فطلب منها أن
(1) الجماعة مصطلح محلي يعني كبار القرية أو الأعيان الذين يقومون مقام المجلس البلدي.
تسمح له بالاقامة فيها فقبلت. وظن أن باب التنصير قد انفتح له. فجاء معه برئيسه، لورنسو، رئيس جماعة الجزويت، وجلسا معا في جماعة من الناس. فإذا بالدخان يتصاعد بالقرب من السجادة التي يجلسان عليها. فغادرا المكان على الفور، واشتكيا إلى رئيس المكتب العربي في الناحية، وهو الضابط مارتن، فقام هذا بمعاقبة أربعة ممن حضروا حتى يظهر لبني فرح سطوة الفرنسيين وقوتهم، وأدخلهم السجن، ثم طلب من كروزا أن يعفو هو عنهم حتى تكون له المزية عليهم وعلى القبيلة كلها. وتم ذلك فعلا.
لكن كروزا لم يصدق فشله. وظل يكرر أن أقلية فقط من بني فرح هي التي تفسد مشروعه، وهي أقلية مستبدة في نظره كانت تمنع القبيلة كلها من اعتناق النصرانية. فجمع له الضابط مارتن أهل القبيلة عن طريق الأمين (أمين الجماعة) وطلب منهم أن يقولوا رأيهم بصراحة في الموضوع، وسألهم: هل ترغبون في اعتناق الكاثوليكية؟ وهل ترضون أن يقيم الأب كروزا بينكم؟ نعم أو لا؟ عندئذ ساد الصمت الرهيب جميع الحاضرين واندهشوا من هذا السؤال. ثم سالت دموعهم مدرارا وانخفضت أصواتهم، فلم يحر أحد منهم الجواب. وبعد برهة أجابوا بصوت واحد وأكيد: إذا كنا أحرارا في التصرف حسب ما تمليه علينا مشاعرنا، فإننا لن نتخلى أبدا عن ديننا ولن نعتنق دينكم أبدا، بل إننا نفضل الموت على تغيير ديننا! وأمام هذا الموقف الرافض بصراحة لمحاولات التنصير، ابتعد كروزا عن بني فرح، وأخذ يحاول في مناطق أخرى محاولات مشابهة، عند بني بودره (بوذراع؟)، وبني يني. غير أن هؤلاء كتبوا إلى الحكومة الفرنسية يقولون إنه إذا استمرت الدعاية الدينية لجماعة الجزويت التي يقودها كروزا، فإنهم لا يضمنون الأمن في المنطقة (1). ونحن نعلم أن زواوة كانت قد عرفت ثورة 1871 العارمة
(1) ايمريت، (تنصير ..) مرجع سابق، ص 72 - 73. وأمين الجماعة هو محل ثقة الناس لكبر سنة وحكمته وتدينه. وقد برهنت زواوة (القبائل) في مختلف المناسبات على رفضها للتنصير وتمسكها بالاسلام رغم المغريات والأقاويل التي لفقها عنها الاستعماريون.
وسحقت المحاولات التنصيرية، وخيبت أحلام لافيجري.
وفي زواوة أيضا جرت أحداث أخرى ضد التنصير. منها الهيجان الذي وقع سنة 1868 في بني منقلات ضد نشاط الجزويت. وفي 1870 جرى اختطاف بنتين من بني بادين من قبل هؤلاء الجزويت. وقد ثار الناس ضد هذه العملية المخزية. فقد أخبر العقيد هانوتو أن الاختطاف قد وقع على يد أخوات المذهب المسيحي، وأن البنتين حملتا، رغم معارضة عائلتيهما، إلى مركز الأيتام بالعاصمة. ولدهشة الجميع سمع المسلمون، وهم يعضون أناملهم من الغيظ، إن البنتين قد احتفل بتعميدهما في رومة في نفس السنة (1). وهذه الحادثة تذكرنا بما وقع للمرأة عائشة بنت محمد سنة 1834 إذ هربها رجال الدين والعقيد دي رونو أيضا إلى مرسيليا، بعد تعميدها، رغم احتجاج عائلتها وزوجها والقضاة المسلمين. وكانت السلطات الفرنسية على ما يبدو متورطة في كلتا الحالتين.
اغتنم لافيجري فرصة المجاعة القاتلة التي حلت بالجزائر في الستينات وأطلق العنان لليسوعيين لنشر النصرانية بين الأطفال. فقد أخذ يجمع الأيتام الذين تركهم أولياؤهم، في ملاجئ بسانت أوجين والأبيار وابن عكنون. وكتب رسائل إلى أوروبا لتقرأ في الكنائس (فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، بريطانيا، الخ). فأرسل إليه البابا حوالي (5000) فرنك. وجمع قساوسة لافيجري المال أيضا عندما جابوا المدن الجزائرية. وأنشأ لجانا لجمع التبرعات والتصرف فيها. وقيل إن هذه اللجان قد صرفت مبلغ 300 ألف فرنك. وقد ضم ملجأ ابن عكنون وحده 1753 طفلا بين الثامنة والعاشرة من السنين. وكان يسهر عليهم حوالي خمسين شخصا. وأرسل إليه الجيش بعض الجنود ليساعدوه في التنظيف، وأرسلوا إليه أيضا الخيام والأغطية. ولكن
(1) نفس المصدر ص 84. يقول ايمريت إن زواوة لم تكن متأثرة بالمجاعة سنة 1867 - 1868، ولذلك فإنه يرى أن من أسباب الثورة 1871 تلك المحاولات التنصيرية الفاشلة والتي أدت إلى التهاب المشاعر الدينية. وهو يضيف أن الإسلام بالعكس قد تقدم خطوات أخرى إلى الأمام في زواوة.
الأطفال كانوا يموتون بكثرة بمعدل عشرة أو خمسة عشر نتيجة الأوبئة المنتشرة. وفتح في الملاجئ بعض الورشات ليعلم البنات الخياطة والتدبير المنزلي واللغة الفرنسية، أما الأولاد فكانوا يتعلمون الأعمال اليدوية. وقد أرسل حوالي 300 منهم إلى مرسيليا أيضا.
ثم حدث الخلاف على مصير الأطفال الأيتام. كان مخطط لافيجري هو تنصيرهم وإبقاءهم عنده أو تحت إشراف كنيسته وإقامة قرى خاصة بهم تسمى (القرى العربية/ المسيحية) على غرار ما عاشه هو في المشرق. وفي هذه القرى تتكون أسر جديدة من جيل هو من صنع لافيجري، حيث يقع تزويج البنات والبنين، وتتكون نواة لجالية يسوعية جزائرية تحت المظلة الفرنسية على غرار ما وقع في لبنان. لكن المسؤولين السياسيين كانوا ينظرون إلى أن ما قام به لافيجري أثناء المجاعة إنما يدخل في باب الخدمات الخيرية والأعمال الانسانية. وكان أقارب أولئك الأيتام يطالبون بعودتهم إلى قبائلهم وذويهم. ولكن لافيجري كان يتحدى الجميع وينفذ مشروعه.
وجرت مراسلات لا نطيل بذكرها بين الحاكم العام (ماكماهون) ولافيجري من جهة والسلطات الفرنسية من جهة أخرى. فكتب ماكماهون رسالة إلى مجلس الدولة أعلمه فيها أن لافيجري أصبح يهدد مصالح فرنسا لأن الجزائريين ستثيرهم دعايته الدينية، وإن ادعاءه بأنه هو الذي أنقذ الناس من المجاعة غير صحيح لأن المكاتب العربية والإدارة الصحية والجنود قد ساهموا في ذلك أيضا (1). وقال ماكماهون إننا في الجزائر في حاجة إلى رجل حكيم وليس إلى رجل متنبي. ومن جهته كتب لافيجري رسالة يقول فيها إن العرب لم تعد لديهم القوة للثورة. واتهم لافيجري إدارة ماكماهون بأنها تخفي الحقيقة عن نابليون. ويبدو أن رد نابليون كان في صالح ماكماهون إذ قال للافيجري: عليك بتربية ووعظ الأوروبيين، أما العرب
(1) المعروف أن الجزائريين كانوا يساعدون بعضهم البعض كمواطنين وكقادة. انظر حياة الباشاغا المقراني، وأسباب ثورة 1871.
فاتركهم للحاكم العام يعودهم على الهيمنة الفرنسية (1). ولكن هذا الجواب لم يكون حاسما، إذ سرعان ما جاء الضوء الأخضر من نابليون إلى لافيجري أيضا.
أما رد لافيجري على الجزائريين المطالبين بأبنائهم وأقاربهم فكان ردا عنيفا. فقد قال إنه يريد تنصير كل افريقية. ثم أخذ يهاجم، كسلفه، بافي، الاسلام، معتبرا إياه المسؤول الأول على البؤس الذي كان يعانيه الشعب الجزائري ماديا ومعنويا. وقد أرسل رسالة إلى مدير مدارس الشرق، قال فيها يجب تخليص هذا الشعب، ويجب التوقف على إبقائه في قرآنه كما كان الحال في الماضي، وهو ما يزال معمولا به إلى اليوم في مملكة عربية مزعومة (2). وقال لافيجري يجب على فرنسا أن تترك الحرية للمنصرين ليدمجوا الشعب الجزائري في حياة الفرنسيين أو أن تطرد هذا الشعب نحو الصحراء بعيدا عن العالم المتحضر. ولم تكن هذه الرسالة من لافيجري رسالة عادية، بل إن الصحف المحلية قد نشرتها، وتعرف الجزائريون على الجواب منها فيما يتعلق بهم وبأبنائهم. وقد حدثت بعد ذلك مبادلات كلامية بين ماكماهون ولافيجري حول أثر هذه الرسالة على السكان المسلمين (3).
قلنا إن تدخل نابليون بين ماكماهون ولافيجري لم يكن حاسما. ذلك أن الأخير لم تثنه رسالة نابليون التي قال له فيها عليك بترك العرب للحاكم العام والعناية فقط بالأوروبيين ووعظهم. فقد ذهب لافيجري شخصيا إلى باريس وقابل الامبراطور، وترك هذا لافيجري يفهم أنه ليس ضد مشاريعه في الجزائر، وإن ذلك يعني تأييد نابليون له. ونفس الموقف أبداه منه وزير الحربية المارشال نيل. ونحن هنا أمام غموض ما مثله غموض، فالكتاب
(1) ايمريت (تنصير ..)، مرجع سابق، ص 77. أيضا بيلي (عندما أصبحت ..) مرجع سابق، ص 289.
(2)
إشارة إلى مشروع نابليون الثالث الذي تحدثنا عنه.
(3)
ايمريت، (تنصير ..) مرجع سابق، ص 75. ولعل رسالة ابن علي الشريف السابقة كانت من وحي سياسة لافيجري هذه.
يقولون إن نابليون لم يكن راضيا على أعمال لافيجري منذ البداية ولا حتى على تسميته، ومع ذلك لم يردعه عندما جاءه شاكيا، وكان الوزير (نيل) كذلك غامضا معه، كما قيل، فهو في الظاهر يؤيده وفي الخفاء كان ضده. فأي سياسة هذه؟
ومهما كان الأمر فإن لافيجري قد رجع إلى الجزائر بتأييد الامبراطور والوزير والحاشية. وأيضا أيده خمسون على الأقل من قساوسة فرنسا. ثم ذهب إلى البابا فنال بركاته وتأييده أيضا، وكذلك بركات رئيس مؤسسة مدارس الشرق. وهكذا رجع لافيجري مدعوما قريبا من الجميع. ولماذا لا؟ فأخذ منذ 1869 ينشئ المؤسسات الجديدة لبعث ونشر المسيحية في افريقية والصحراء. من ذلك مؤسسة (الآباء والأخوات البيض). وتبدو التسمية في حد ذاتها، كما تلاحظ، عنصرية، ولا تليق بدور رجل الدين الانساني بقطع النظر عن الألوان البشرية. وحتى ماكماهون تراجع عن موقفه نحوه وأخذ يقدم له المال والرعاية للأيتام وغيرهم. وبلغت مساعداته حوالي 45 ألف فرنك، دون النقود التي قدمت إلى مشاريع الأيام وغيرهم من الخواص المكلفين بجمع الأطفال والعناية بهم. ومن ذلك 6000 فرنك لجمعية الأخوات (سان فانسان دي بول) اليسوعية (1). وهكذا ساندت سلطات باريس والجزائر مشروع لافيجري لبعث الكنيسة الافريقية، ذلك المشروع الذي بدأه دوبوش منذ 1838.
ولكن حكم ماكماهون انتهى من الجزائر سنة 1870 وسقطت الامبراطورية، وخلا الجو للافيجري مع صعود المدنيين الذين وقف إلى جانبهم عند صمودهم ضد سياسة نابليون في الجزائر. لم يكن الكولون من المؤمنين بالدين عن حقيقة، ولكنهم تحالفوا مع الكنيسة، برئاسة لافيجري، ضد سياسة المملكة العربية (المزعومة) كما قال هذا عنها، وضد المكاتب
(1) نفس المصدر، ص 30. يقول ايمريت لقد التقت مشاعر ماكماهون، ذلك الرجل الكاثوليكي الجيد، مع حماس لافيجري فأيده.
العربية التي كان يتولاها العسكريون. وكان الكولون ينادون بالاندماج، كما ذكرنا. وكانت صحفهم، مثل (الأخبار) و (صدى وهران) تهاجم العسكريين وتحبذ دعوة لافيجري لنشر المسيحية باعتبارها وسيلة لدمج الجزائريين إذ لا يمكن دمج هؤلاء وهم على إسلامهم. وكان الكولون يظنون أن لافيجري سيعطيهم الأطفال العرب ليعملوا عندهم بأثمان بخسة، على أن يقوم القساوسة بتدريبهم على الطاعة والاستسلام للكولون. وهكذا نشأ التحالف بين الكنيسة والكولون. فقد هاجم النائب تومسون، ممثل الكولون، القرآن الكريم في جريدة (الأخبار) وأعلن أن المسيحية مفضلة على تعاليم الاسلام غير الاخلاقية بل الوحشية. وخرج الصحفي ديفيرنوا يهاجم المتعلمين (الطلبة) الجزائريين متهما إياهم بالجهل والتعصب. وطالب الكولولون بمنع تعليم القرآن في الزوايا لأنه يقف دون مخطط الاندماج. وهاجموا أيضا نابليون لأنه في نظرهم قد ترك المسلمين بسياسته العربية يتعلمون اللغة العربية ويهتمون بالأعياد الاسلامية، وذهب وفد منهم يحمل العرائض إلى باريس ضد المكاتب العربية. وكان لافيجري بالطبع يؤيد مطالبهم باسم الكنيسة، لأنه كان يعتقد أن أفضل طريقة لفرنسة الجزائريين هي تنصيرهم.
لكن لكل تحالف نهاية. ونهاية هذا التحالف كانت عندما أعلن لافيجري أنه سيحتفظ بالأطفال الأيتام العرب ويكونهم تكوينا مسيحيا. فقد اشترى أرضا واسعة في سهل الشلف منذ 1868 بين مليانة وأم السنام (الأصنام). وأقام عليها مستوطنتين عربيتين أطلق على إحداهما إسم (سان سيبريان) وعلى الأخرى اسم (سان مونيك). وفي 2 يوليو، 1872 احتفل لافيجري بأول زواج بين الشباب الذي كونه وعمده أو غطسه، كما يقول القدماء. وكان لافيجري يحتفظ بالأسماء القديمة لهؤلاء الشباب، ويضيف إليهم أسماء جديدة، وذلك أصبح فرنسوا بن عيسى متزوجا من بنيامين حليمة، وجان الشريف متزوجا من كارولين زهرة. وحضر الحفل الأول 300 مدعو من المتفرجين من أجل الدعاية وإشاعة الاندماج والمسخ. وكان المتزوجون الجدد يجمعون بين اللباس الأروبي واللباس العربي، بوضع
البرنوس الأبيض على البدلة الأوروبية، ووضع الشاشية على الرأس. وفي السنة الموالية عقد لافيجري على خمسة أزواج آخرين، وهكذا. وكل زوجين كان يعطيهما مفتاح البيت عن طريق القرعة، وكان هناك حوالي 250 مسكنا. ورغم تعرض المشروع للخطر نتيجة قلة المساعدات، فإن البرلمان الفرنسي قد صوت لصالح 75 الف فرنك سنة 1876 مساعدة لمشاريع لافيجري (1).
ولم يكن الوضع في القريتين مشجعا. فرغم وجود عقد ينص على التحلي بالأخلاق الفاضلة والعمل الجدي وعدم انتزاع الملكية، فإن أحداثا وقعت خلال أربعين سنة أدت إلى زعزعة التجربة، بعد وفاة لافيجري. فقد طردت ثلاث عائلات من أجل السلوك المشين للزوجة، وأربع عائلات أخرى لجريمة القتل، وكذلك حدثت منازعات أخرى لا نهاية لها. وجملة العائلات التي أصبحت تعتبر مالكة حقيقة هي 58 عائلة فقط. وكانت النتائج غير مشجعة أيضا. فإثنان من أولئك الضحايا أصبحوا من دعاة التنصير، واثنان حصلا على الدكتوراه في الطب بجامعة ليل. ودخل بعضهم سلك التعليم. ولكن الكنيسة الافريقية لم تبعث فيها الحياة والاسلام لم يتراجع بين السكان.
حقيقة أن جماعة لافيجري قد انتقلت إلى مناطق أخرى مثل زواوة التي عاد وركز عليها رجال الادارة من جهة ورجال الدين من جهة أخرى لإخراجها من ربقة الاسلام والعربية. ففي سنة 1872 أعلن الآباء البيض تعهداتهم أمام لافيجري. ثم ذهبوا إلى تاغمونت عزوز. ومنع عليهم الحديث عن الدين مطلقا إلى السكان، وكان مشروعهم هذه المرة يختلف عن مشروع كروزا. فالطريقة هذه المرة هي التغلغل التدريجي في الجماهير الريفية بزواوة عن طريق المدارس والمستوصفات والورشات والتمهين لإقامة مراكز للارساليات التنصيرية (2). ومن بين المهام المكلفين بها محاولة تمييز السكان
(1) بيلي (عندما أصبحت الجزائر ..) مرجع سابق، ص 294. وايمريت (تنصير ..) مرجع سابق، ص 83. ويقول ايمريت إن مستوطنتي سان سيريان وسانت مونيك كانتا موجودتين سنة 1960.
(2)
بيلي (عندما أصبحت الجزائر ..)، ص 296.
هناك عن بقية المواطنين كالتركيز على الأصول العرقية والتشابه بينهم وبين الفرنسيين والرومان، واقترابهم العملي والسياسي من الفرنسيين، الخ. وهم يسمون ذلك التخفيف من حدة التعصب.
ولكن في سنوات الثمانينات أصبح في إمكان كبار الزوار من الساسة والعلماء أن يتجولوا في زواوة، مثل جول فيري وديبورجوا، وماسكري. وفتحت المدارس الفرنسية الأولى الإجبارية هناك قبل فتحها في جهات أخرى من القطر، كما ذكرنا في فصل التعليم. وجرى سنة 1888 حفل تغطيس بعض الشبان الذين أصبحوا (مطورنين) بين السكان، ولكن حياتهم أصبحت لا تطاق، فكان عليهم أن يخرجوا من زواوة بل من الجزائر كلها، وقد رجع بعضهم إلى الاسلام. وكان رجال لافيجري ينسقون هناك مع نسائه (الأخوات). وقد سمحوا للمرأة الزواوية بالمحافظة على لباسها حتى لا تقتلع من جذورها، وحتى تظل على صلة واختلاط مع السكان، وحتى لا تتعرض للاهانة. وقد علم لافيجري رجاله أن يعرفوا كف يسكتون أمام الاسلام (1) كما يتخاذل الجبان أمام الشجاع.
ومثل هذا النشاط في الشمال - الشلف وزواوة .. - شهدته أيضا بعض مناطق الجنوب، فمنذ 1854 كان الجنوب في حالة من الثورة والاضطراب، دون أن نتحدث عن عقد الخمسينات الذي عرف أيضا، ثورة شريف ورقلة (إبراهيم بن فارس) وناصر بن شهرة، وقد انتهت هذه الثورات جميعا. بالفشل واحتلال أجزاء كثيرة من الجنوب والتوغل الاستعماري نحو غرب افريقية والسودان، تحت غطاء الاكتشافات والبعثات العلمية والرحلات والتعاون مع بعض الطرق الصوفية. ونحن لا يهمنا ذلك هنا، ولكن انتصاب رجال الكنيسة الكاثوليكية ونسائها في مناطق عديدة من الجنوب مثل غرداية والأغواط وبسكرة وورقلة وتمنراست.
لقد قيل عن شارل لافيجري إنه كان يؤمن بفتح الصحراء في وجه
(1) بيلي، نفس المصدر.
فرنسا، وكان مقتنعا بضرورة ضم السودان إلى فرنسا لأنه منطقة غنية ومكملة للجزائر في نظره. ورأى لافيجري أن أكبر عائق في وجه فرنسا هناك هو الاسلام. ولذلك ألف الارساليات التنصيرية التي كان هدفها نشر المسيحية وتسهيل مهمة فرنسا في الاستيلاء على المناطق الصحراوية الشاسعة. وهنا بدأت تظهر له فكرة إنشاء جمعية الآباء البيض للصحراء، وبذلك سبق جنود المسيح جنود الحكومة الفرنسية، كما يقول الجنرال مينييه (1). تأسست مركزية لهؤلاء الآباء في ورقلة منذ 1873، وبقيت هناك إلى 1881 عند ثورة بوعمامة. ولم ترجع إليها إلا بعد 1891. وكان لهذه المركزية أربعة من الآباء (القساوسة)، وكانت تملك دارا للأيتام ومدرسة يتردد عليها سبعون تلميذا وعدد من الكبار، وكان لها أيضا مصحة وورشة للنسيج، وأخرى آلية للتريكو، وثالثة للنجارة، ومنشأة للاسمنت. وقد تطورت المركزية مع الأيام فأصبح لها ندوات أسبوعية سينمائية للتعليم والتوجيه والترفيه. وكان الآباء يملكون في الناحية النخيل والبساتين، وقد حفروا بوسائلهم بئرا ارتوازية تمد منطقة ورقلة بالماء الصالح للشرب. وأخذوا يتوسعون فحصلوا على امتياز في بامنديل لغراسة النخيل وحفر الآبار (2). وكانت الحكومة تحميهم وتمدهم بالمساعدات، وهم يفتحون لها الطريق ويقدمون لها المعلومات الضرورية عن القوافل والثورات والزوار وغير ذلك من التحركات في المنطقة.
أما الأخوات البيض فقد أنشأن في ورقلة أيضا مشاريع لجلب النساء والتغلغل في المجتمع الصحراوي. وكانت لهن مدرسة - ورشة تأوي 200 تلميذة لنسج الزرابي من الصوف والوبر. وكانت لهذه الزرابي سمعة تجارية رائجة حتى خارج حدود الجزائر. وكانت الورشة النسوية تصنع أيضا المخدات والبرانيس وغيرها. وفي وقت متأخر فتحن مدرسة - ورشة للنساء المتزوجات، ومصحة. وفي 1931 كان رئيس المركز الكاثوليكي في ورقلة هو الأب روبان. وكان النموذج الموجود في ورقلة هو نفسه الموجود في
(1) الجنرال مينييه (كراسات الاحتفال المئوي: تهدئة الصحراء)، ص 13.
(2)
دانيللي (في الصحراء) في (مجلة الجمعية الجغرافية) SGAAN 1931، ص 176.
غيرها من المناطق: مصحة ومدرسة وورشة ومصنوعات محلية وتوزيع أغذية وملابس باسم الأعمال الخيرية. ووراء ذلك يجري التجسس على الناس والتعرف على أنماط تفكيرهم وعقائدهم وعلاقاتهم للاستحواذ عليهم، وتمهيد الطريق للاستحواذ.
وكل ذلك كان تحت شعار الدعوة إلى المسيحية وإخراج السكان من التخلف وربطهم بالثقافة الفرنسية. ويقول العقيد دي بورث دانيللي عن دور الآباء والأخوات البيض في الجنوب إنه يشبه دور الجامعة اليسوعية في بيروت (1).
وكما قاوم أهل زواوة إرساليات لافيجري، في شخص كروزا وغيره، قاوم أهل الصحراء الآباء والأخوات اليسوعيين. ويعزو الجنرال مينييه هذه المقاومة في الجنوب إلى (المرابطين)، وبإمكاننا أن نقول إن المرابطين، والمواطنين معهم، هم الذين قاوموا أيضا في زواوة وغيرها. ويسمى الجنرال مينييه الثوار الذين قتلوا الآباء البيض أمثال بولمييه ومينوري وبوشار، في حاسي ايفيل، (نهابين) وقطاع طرق مدفوعين بتعاليم المرابطين. كما اغتيل الأب ريشار والأب كيرمابون. ومن جهة أخرى قتل ثوار الناحية ضباط البعثات منذ الثمانينات مثل العقيد فلاترز. ويقول نفس الجنرال المعجب كثيرا بدور لافيجري ورجاله ونسائه في الصحراء: إن الذين ورثوا لافيجري قد استفادوا من أخطاء الماضي واهتموا بموضوعات تهم الناحية مثل التعليم الزراعي والمهني، ومكافحة بيع الرقيق، والقيام بأعمال البر. ولذلك حصل الآباء والأخوات البيض، حسب قوله، على تقدير الادارة الاستعمارية (2). وقد ارتكز العمل الكنسي في غرداية أيضا حيث نشأت مدرسة للطرز يشرف عليها الآباء البيض ومدرسة للنسيج تشرف عليها الأخوات البيض.
(1) نفس المصدر، ص 177.
(2)
الجنرال مينييه (كراسات
…
)، مرجع سابق، ص 14.
وقد كانت السلطات الفرنسية تتغاضى عن أعمال الجزويت في الجزائر حتى بعد منعهم من العمل بفرنسا. فقد رأينا نشاطهم خلال المجاعة أي أثناء عهد الامبراطورية. وبعد سقوط هذه وظهور الفكر الليبرالي ومضادة الكليرجية في فرنسا خلال الثمانينات وما بعدها، بقي للجزويت مدارسهم ونشاطهم، كما لاحظنا. وكانوا أولا تحت حماية الكاردينال لافيجري ثم خلفائه: دوسير، وأوري، وكومبس، ويقول السيد قوانار: إن هؤلاء شهدوا الموجة التي أدت إلى غلق مدارسهم وحلقات دروسهم وبيع أراضيهم في عنابة وقسنطينة وبسكرة منذ 1903. (بعد فصل الدين عن الدولة). ولكن منذ 1917 استرجعت الكنيسة الكاثوليكية أنفاسها وسطوتها على يد الأسقف بيكمال، وبعده بولون ثم لينو (أي من 1917 إلى 1853)(1).
وقد علق الشيخ محمد بيرم الخامس على موقف الحكومة الفرنسية من الجزويت فقال إنهم كانوا طليقي الأيدي أيام المجاعة فجمعوا الأطفال العرب ونصروهم، وحين كبروا فر بعضهم إلى ذويهم. ولما منعت الدولة الجزويت من التعليم في فرنسا سنة 1881 عممت ذلك في الجزائر، ونفتهم من كل ممالكها (مستعمراتها؟)، غير أنها سمحت لهم بالعمل في الممالك الاسلامية، وكانت تحميهم ضد أي اعتداء في هذه الممالك مع أنها لا تحميهم في فرنسا ولا في الممالك الأوروية (2). ويفهم من هذا أن الجزائر ليست من المناطق التي تحمي فيها فرنسا الجزويت، وهو غير صحيح، لأن السلطات الفرنسية ظلت تحمي الجزويت إلى بداية هذا القرن، ثم منذ 1917. ومن هذه الناحية كانت الجزائر تعتبر (مملكة إسلامية) على الأقل بالنسبة للتعامل مع الجزويت.
مات لافيجري بالجزائر في 26 نوفمبر 1892 عن 67 سنة. وحضر جنازته الحاكم العام جول كامبون الذي أشاد بخصاله ودوره. وقد نعته
(1) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 305.
(2)
محمد بيرم (صفوة الاعتبار)، مرجع سابق، 4/ 20.