المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نماذج من المثقفين والاندماجيين - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٦

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌الفصل الأولالاستشراق والهيئات العلمية والتنصير

- ‌الاستشراق ومراحله

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌ مدرسة الآداب

- ‌أعمال المستشرقين

- ‌حياة بعض المستشرقين والمستعربين

- ‌اللجان العلمية

- ‌لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر:

- ‌لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال:

- ‌الجمعيات المتخصصة

- ‌المعاهد الجامعية

- ‌البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها

- ‌الكنيسة والتنصير

- ‌نشأة الأسقفية

- ‌الأسقف بافي:

- ‌ لافيجري

- ‌شارل دي فوكو:

- ‌النشاط التنصيري منذ 1930:

- ‌الفصل الثانيالترجمة وظهور النخبة الاندماجية

- ‌مترجمو الحملة وغداتها

- ‌تنظيم فرقة المترجمين

- ‌المترجمون الجزائريون

- ‌تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة

- ‌الترجمة إلى العربية

- ‌الاتجاه الاندماجي - الاستغرابي

- ‌الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي

- ‌أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا

- ‌دعاة التعلم باللغة الفرنسية الأوائل

- ‌نماذج من المثقفين والاندماجيين

- ‌الفصل الثالثمذاهب وتيارات

- ‌(نعمة) الاحتلال

- ‌رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل

- ‌رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين

- ‌(فرق تسد)

- ‌معاداة العرب

- ‌ومعاداة البربر

- ‌التآمر على زواوة

- ‌الدعوة إلى تعلم الفرنسية ..وإلى التعلم عموما

- ‌وضع المرأة

- ‌الهجرة أو البقاء

- ‌الاندماج، التجنس، النخبة

- ‌الجزائر في الكتابات الفرنسية

- ‌اليهودية والصهيونية

- ‌الماسونية

- ‌الإسلام ووحدة الأديان

- ‌المثالية والاشتراكية

- ‌ إسماعيل عربان

الفصل: ‌نماذج من المثقفين والاندماجيين

أصالتهم ومعتزين بهويتهم رغم حالة الرعية والبؤس التي كانوا عليها. ومن هذا الجيل برز محمد بن رحال ومحمد بن العربي، وحميدة بن باديس، وكانت دروس المجاوي وأمثاله تكون جيلا آخر سيقف بالمرصاد ضد موجة التفرنس التي انطلقت مع فاتح القرن. وسيكون أصحاب هذه الموجة هم بلقاسم بن التهامي، وعلي بوضربة، وإسماعيل حامد، والطيب مرسلي. وكان هؤلاء يسمون بالنخبة (elite)، وهو اسم خادع، فهو من التعابير الموروثة عن العهد الاستعماري مثل التقدم المقصود به الاندماج، ومثل التعاون المقصود به الاستعمار الجديد. كما أن تعبير (النخبة) يعني أن غيرهم غير نخبة، ومن ثمة يكون غيرهم متخلفا ومنغلقا على نفسه.

‌نماذج من المثقفين والاندماجيين

محمد بن رحال: يعتبر محمد بن رحال من أبرز عناصر هذا الجيل الذي أراد الفرنسيون أن يجعلوا منه وسيطا بينهم وبين الجزائريين، فجمع بين الثقافتين وبين اللغتين، وتوظف عندهم، ولكنه لم يتخل عن أصوله وتراثه الوطني والديني. فرغم الجاه العائلي والمكانة الاجتماعية كان ابن رحال صوت الجزائر العميقة وصوت التاريخ، ولم ينسه الوظيف والاعتبار المعنوي لدى الفرنسيين الدفاع عن الثقافة واللغة العربية والحضارة الإسلامية. ولم يكن في ذلك وحيد زمانه وإنما كان أكثر معاصريه تعبيرا عما يجيش في صدور المواطنين من تطلعات. كان يمكن أن يذوب في الثقافة الفرنسية وينبهر بالنظم والمخترعات الفرنسية، ولكن حصانته العربية الإسلامية وارتباطه بالجذور جعلته يدعو إلى التطور وليس إلى الاندماج ويواجه الفرنسيين في مختلف المناسبات بمطالب هي من صميم الانعتاق للشعب.

حياة محمد بن رحال ذات جوانب عديدة. فهو رجل علم ودين، وهو قايد ونائب مالي (برلماني)، وهو مؤلف وباحث وأديب، ثم إنه رجل مدافع

ص: 223

عن العربية والإسلام في وقت اعتقد فيه الفرنسيون أن أمثاله لن يدافع إلا عن الفرنسية والاندماج. كما كان ابن رحال صاحب زاوية. ولا نريد أن نعالج كل ذلك هنا، لأن كل جانب من حياته له مكانه في هذا الكتاب، وإنما نكتفي في هذه الفقرة بموقفه من الحضارتين العربية والفرنسية. فقد ولد بمدينة ندرومة سنة 1270 هـ 16 مايو، 1857. وكان أبوه حمزة بن رحال من رجال القضاء للأمير، وكان أيضا أديبا ومن أتباع الطرق الصوفية يقول البعض إنها الدرقاوية ويقول آخر إنها القادرية (1). وعندما دالت دولة الأمير أبقاه الفرنسيون على وظيف القضاء، ثم ولوه وظيفة الآغا، وزادوه بسطة في الأرض والمال خلال الخمسينات. ولكن مرسوم 1863 غير الأوضاع وجعل الأرض تنتزع من أصحابها باسم الملكية الفردية. فتأثر الشيخ حمزة وترك الأمر في سنة 1878 لإبنه وخليفته محمد الذي لم زد لقبه على لقب القايد بدل الآغا، إضعافا لمكانة العائلة، ولكن محمد ضاقت نفسه بهذا المنصب الفارغ من المحتوى فاستقال منه سنة 1886 وتفرغ بعده للحياة السياسية والدينية والعلمية.

عنى الشيخ حمزة بابنه محمد فرباه تربية قديمة وجديدة وحصنه من الذوبان رغم المغريات. فعلمه في المدرسة القرآنية بالزاوية، وفي المدرسة العربية - الفرنسية الابتدائية، ثم أرسله إلى الجزائر حيث المدرسة السلطانية (الكوليج) التي كانت تستقبل أبناء الموظفين الجزائريين لتجعل منهم وسطاء، كما قلنا، وكانت مدرسة مزدوجة اللغة. وقد صادف وجوده فيها سقوط نظام نابليون وقيام الجمهورن الفرنسية التي ألغت المدرسة وألحقت طلابها بالليسيه. ولذلك أكمل محمد دراسته في هذه الثانوية (الليسيه)، وبعد تخرجه منها سنة 1874 رجع إلى ندرومة ليساعد أباه في وظيفه، فكان خليفته إلى أن تخلى له الوالد عن المنصب، كما ذكرنا.

(1) درقاوية عند عبد القادر جغلول في (عناصر ثقافية)، الجزائر 1980، ص 51 - 52. وقادرية في جريدة (المساء) 14 يوليو، 1992، مقالة مغفلة الكاتب.

ص: 224

ومنذ الثمانينات انطلق قلم وفكر محمد بن رحال في خدمة القضية الجزائرية والفكر العربي - الإسلامي. نشر عن التعليم العمومي في البلاد العربية، وعن السودان في القرن السادس عشر، كل ذلك عندما كان في الثلاثين من عمره. وقيل انه كان عندئذ صديقا ليوجين ايتيان، نائب الكولون والمسؤول على شؤون المستعمرات في الحكومة الفرنسية. وكان ابن رحال يكتب بالفرنسية. ولكنه منذ التسعينات دخل المسرح السياسي والعلمي بقوة. وكانت المناسبة هي مجيء لجنة التحقيق برئاسة جول فيري إلى الجزائر سنة 1892. وقد عاش ابن رحال عهد لويس تيرمان، ونشأة قانون الأهالي (الاندجينا) البغيض، وتجريد القضاة المسلمين من صلاحياتهم، وتغيير الحالة المدنية، فرفع عقيرته أمام اللجنة المذكورة، وجرد قلمه للدفاع عن حقوق الجزائريين في التعليم باللغة العربية، وفي التمثيل البرلماني، والمحافظة على تطبيق الشريعة الإسلامية، ومن أجل ذلك سافر مع زميله محمد بن العربي إلى فرنسا لتبليغ صوت الجزائريين إلى السلطات الفرنسية. وظهر ابن رحال سنة 1897 أمام. مؤتمر المستشرقين مدافعا عن الإسلام وقدرته على التطور. ونشر سنة 1901 مقالة بالفرنسية عن (مستقبل الإسلام) في مجلة ذائعة اسمها (المسائل الدبلوماسية والاستعمارية)(1). وقد برز أيضا سنة 1912 أثناء فرض التجنيد الإجباري فعارضه وتوجه إلى فرنسا على رأس وفد مطالبا بإلغائه، كما طالب بإلغاء الاندجينا سنة 1921.

ما نلاحظه أن محمد بن رحال كان جسرا لمرحلة صعبة (2). تلك المرحلة التي ظن الفرنسيون فيها أن الجزائر قد أصابها العياء والقنوط من كل مقاومة، ثم المرحلة الأخرى التي ظهرت فيها الحركة الوطنية بزعامة الأمير

(1) Les Quest. Dip. et col . رقم 12، 1901.

(2)

اعتبره شارل روبير آجرون (عميد الشبان الجزائريين)، انظر (حركة الشبان الجزائريين) في (ميلانج جوليان) في دراسات مغربية، ص 240. ونحن لا نستطيع أن نضع ابن رحال مع ابن التهامي في صف واحد. فكل منهما ينتمي إلى مدرسة فكرية مختلفة، رغم معرفتها الفرنسية.

ص: 225

خالد، وكادت خطة الفرنسيين تنجح عندما ظهرت فئة (المطورنين) التي رضيت بالتجنس والزواج المختلط وعضوية الماسونية، واعتبرت أن الجزائري الحقيقي هو الذي عرف حق فرنسا عليه وانفصل عن جذوره الخاوية، كما يقولون، وتعلق بالأغصان اليانعة التي تمثلها الحضارة الفرنسية. هذه هي الملاحظة الأولى على نشاط محمد بن رحال، أما الملاحظة الثانية فهي أن جهوده، رغم قيمتها وقوتها كانت فردية، فهو يكتب ويسافر ويتكلم بصوته وحده تقريبا. فكأنه أديب رومانتيكي متطرف، رغم أنه كان يمثل إلى حد كبير روح الشعب وتطلعاته، كما قلنا. شارك في الجمعيات والنوادي ولكنه لم يؤسسها. ونصح وساهم في تحرير الجرائد ولكنه لم يرأس تحريرها. وحين ظهرت حركة الأمير خالد كان ابن رحال يدب إلى السبعين إذ توفي سنة 1928 عن 71 سنة (1).

الحكيم محمد بن العربي: وكانت مواقف الحكيم محمد بن العربي شبيهة بمواقف ابن رحال فيما نحن بصدده. فهو أيضا من الذين أيدوا ليكونوا وسطاء، من الجيل الثاني الذي نشأ في العهد الفرنسي وتلقى ثقافة مزدوجة وتحصن بالدين وتعلم الطب في الجزائر وباريس. ومع ذلك كان صوت الشعب المضطهد في مناسبات عديدة. ولد في شرشال سنة 1850 وتلقى فيها مبادئ القراءة والكتابة والدين والقرآن. ثم انتقل إلى العاصمة ودخل المدرسة العربية - الفرنسية ثم مدرسة الطب، ونال شهادة الدكتوراه من باريس. وعرف إلى جانب الفرنسية اللغة اليونانية واللاتينية. وكان من أصدقائه في باريس الأديب فيكتور هوغو. وبعد رجوعه إلى الجزائر اشتغل طبيبا بعيدا عن العاصمة، ثم دعاه أهلها إلى العمل بها فرضيت السلطات وحولته. ولكن عمله لم يكن هو الطب فقط، بل دخل الحياة السياسية المحدودة عندئذ، وهي النيابة في البلدية.

(1) نوه الشيخ البشير الإبراهيمي بدور محمد بن رحال في المحاضرات التي كتبها عن الجزائر وألقاها على طلاب معهد البحوث والدراسات العربية - القاهرة 1955. انظر (آثار الشيخ الإبراهيمى) ج 5 (مخطوط).

ص: 226

ونحب أن نسجل عنه بعض المواقف. الأول أنه زار الأندلس سنة 1883 موطن أجداده، إذ كانت أسرته أندلسية الأصل، فتوقف بقرطبة وأشبيلية وغرناطة. وتأمل الآثار واستعاد الذكريات. وكان إعجابه بحضارة الأندلس أكثر من إعجابه بالحضارة الفرنسية التي خالطها في باريس. فلم يسلبه ما عاشه هنا ما تركه الجدود من ذكريات وجذور. والموقف الثاني أنه تولى النيابة في المجلس البلدي في مدينة الجزائر منذ 1888، أي في عمق عهد تيرمان. وأثناء ذلك وقعت محاولة هدم الجامعين الباقين، وهما الجامع الكبير والجامع الجديد، وبناء فندقين مكانهما. وكان الحكيم محمد بن العربي، كما قيل، وراء إفشال مشروع (دوردون) الذي وافق عليه الحاكم العام تيرمان (1). أما الموقف الثالث له فهو مطالبة لجنة جول فيري 1891 بإلغاء قانون الأهالي واحترام القضاء الإسلامي، والتعليم بالعربية. وقد سافر مع زميله محمد بن رحال إلى فرنسا لهذا الغرض أيضا.

من الصعب أن نلم بكل جوانب حياة الحكيم ابن العربي هنا. وسنعالج موضوع أطروحته في الطب في فصل العلوم. ولابن العربي أخ في الطب أيضا يدعى قدور، كان يعمل في البلاط التونسي. كما كان له أخ يعمل مترجما عسكريا احتياطيا. فهو إذن من عائلة اختارت أن تدرس الفرنسية ولكن بقاعدة عربية وانتماء حضاري متحمس. وكان ابن العربي ما يزال حيا سنة 1927 ولكن في أرذل العمر (2).

مع مطلع القرن العشرين ظهرت فئة من الاندماجيين المسلوبين، ولم يكونوا جميعهم سواء في تطرفهم أو جهلهم وتنكرهم لماضيهم. ففيهم

(1) عن هذه القصة أنظر فصل المعالم الإسلامية.

(2)

انظر عنه محمد بن العابد الجلالي، (تقويم الأخلاق)، الجزائر 1927، ص 58 - 61.

ص: 227

المتحمسون مثل ابن التهامي وعمر بوضربة وأحمد بوضربة، وابن حمودة. وفيهم المنادون بالاندماج التدريجي مثل إسماعيل حامد والطبيب مرسلي. وفيهم الخاملون الذين كانوا يأكلون الخبز وينتمون فقط إلى هذه الفئة. وفي وقت لاحق ظهر اندماجيون غلاة أيضا، أمثال الزناتي وابن الحاج، ومعتدلون، أمثال فرحات عباس (في المرحلة الأولى) وابن جلول

وكان محمد صوالح وتامزالي من فئة الاندماجيين الماسونيين، ولنقل كلمات عن بعض هؤلاء.

عائلة بوضربة (إسماعيل، أحمد، عمر، علي): كان إسماعيل بوضربة من هؤلاء الشباب الذين اتصلوا بالثقافة الفرنسية مبكرا، وإن كان هو يختلف عن زملائه من عدة وجوه. فهو ابن أحمد بوضربة الذي فاوض الفرنسيين سنة 1830 باسم الداي حسين، وهو أيضا ابن المرأة الفرنسية التي كان أحمد متزوجا بها في مرسيليا. وكان إسماعيل من مواليد مرسيليا سنة 1823. ووجدنا في وثائق أبيه أن هذا كان يسعى في آخر الثلاثينات لإدخال ابنه إلى المدارس الفرنسية في باريس (لويس لوقران؟) والحصول له على منحة. والغالب أنه نجح في ذلك. ومهما كان الأمر فقد درس إسماعيل في فرنسا وأصبح مترجما مؤقتا سنة 1853، ورئيسيا سنة 1872. وقضى جزءا كبيرا من حياته في الأغواط مع بعض الضباط الفرنسيين، ومنهم دي باراي الذي وصفه (بالجوهرة). ولثقة الفرنسيين فيه كلفوه بعدة مهمات في مراكش وغات وغدامس ومناطق أخرى من الصحراء. وخاض مع الفرنسيين عدة معارك في الجنوب وجرح جرحا غائرا في إحداها وقتل حصانه تحته. ورافق الضابط بولينياك إلى غدامس ونزل ورقلة.

وأصبح إسماعيل بوضربة عضوا في الجمعية التاريخية بالجزائر (كان يشرف عليها بيربروجر)، وعضوا في الجمعية الجغرافية بباريس (1). وعندما توفي بالعاصمة (16 نوفمبر 1875) كتب على قبره أنه يمثل حلقة وصل في

(1) انظر ما كتبناه عنه سابقا.

ص: 228

مزج الأعراق (1). والمقصود أنه من سلالة عربية وفرنسية. ولا ندري إن كان إسماعيل قد تزوج من فرنسية أيضا وما إذا كان قد تجنس والغالب أنه فعل. وقد كان فعلا يمثل الاتجاه الاندماجي بحكم ميلاده وأعماله وكتاباته. وكان اعتراف الفرنسيين بخدماته دون الجهود التي بذلها من أجلهم.

وقد بقيت عائلة بوضربة تمثل نفس الاتجاه بعد ذلك. ففي أوائل هذا القرن وجدنا بعض أسمائها في قائمة المتجنسين والعاملين على الاندماج والفرنسة. ومنهم المحامي أحمد بوضربة الحفيد فقد كان سنة 1904 محاميا في محكمة الاستئناف بالعاصمة. وألقى في 12 مارس 1904 محاضرة في (جمعية الدراسات السياسية والاجتماعية)، قال فيها إن الشريعة الإسلامية ما هي إلا أسطورة لا يفهمها المسلمون وهم لا يطبقون تعاليم القرآن. وكان بذلك يرد على من يقول إن قوانين الاندماج ستمس المشاعر الدينية للمسلمين. وفي نظره أن الخوف من ذلك لا يمثل عقبة في وجه الاندماج القانوني. وكان أحمد بوضربة هذا من المتجنسين. ويذهب آجرون إلى أن عبد الرزاق الأشرف قد عارض بوضربة ودافع عن الشريعة الإسلامية، وقد زعم بوضربة أن الشريعة مستوردة. كما ذهب آجرون إلى أن بوضربة كان ابنا لمتجنس، وأنه كان عضوا معروفا في الجمعية الماسونية. وهناك فرد آخر من عائلة بوضربة، وهو عمر، كان أيضا متجنسا، حسب رواية آجرون، وكان من التجار (2). وفي سنة 1912 كان الوفد الذي توجه إلى فرنسا باسم الاندماجيين يضم واحدا من عائلة بوضربة أيضا (ولعله عمر).

وإذا صدقنا الروايات الفرنسية فإن لجنة فيري سنة 1892 قد تلقت اقتراحا من أحمد بوضربة بن حسن يطالب بتجنيس المسلمين بالتدرج مع

(1) بيروني، مرجع سابق، ج 2، ص 375. وعائلة بوضربة من أصل أندلسي.

(2)

آجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 699، هامش 6، وكذلك ص 1032 هامش 3، وص 1040، 1049. وكانت (جمعية الدراسات السياسية والاجتماعية) برئاسة أوميرا، عميد الصحفيين ومستشار الحكومة، بينما رئيسها الفعلي هو قاستو، وبوضربة هو كاتبها العام. انظر المجلة الافريقية، 8 190، ص 143.

ص: 229

المحافظة على الأحوال الشخصية. وفي مقابل ذلك يخدم أهل المدن في الجيش الفرنسي. أما الوظيفة العمومية فتبقى مقصورة على المتجنسين فقط من المسلمين (1). ونلاحظ أن الجزء الأول من الاقتراح يكاد يكون هو نفسه الذي تبناه موريس فيوليت بين الحربين واحتضنه ابن جلول وفرحات عباس. ويبدو أن اقتراح بوضربة كان متقدما وتبني المؤتمر الإسلامي له كان متأخرا.

وقد بالغ عمر بوضربة فاستنكر سنة 1911 وجود السلك الديني الإسلامي (الهيئة الدينية)، وقال إن الإدارة الفرنسية تشغله لصالحها لكي تسيطر به على الأهالي. ولعله كان على حق في ذلك. ويبدو أنه كان متحرراه (ولائكيا) أو علمانيا جدا، إذ كانت تلك الظروف تشهد فصل الدين عن الدولة. ولا غرابة في اعتناقه هذا المذهب بالنسبة للإسلام أيضا فقد كان، كما أشرنا ماسونيا أيضا، ومتجنسا. أما من حيث المهنة فقد كان تاجرا. ومهما كان الأمر فقد احتج عليه علماء السلك الديني لأنه نادى بتحرير الأهالي من نفوذهم، لأنهم، في نظره، يعوقون التطور (2). ولا ندري الآن ما إذا كان يعني رجال الدين مطلقا، بمن فيهم شيوخ الزوايا، أو كان يقصد هيئة الموظفين كالأيمة والحزابين. ذلك أن الهيئة الأخيرة قد فقدت في الواقع كل نفوذ لها على العامة. أما رجال التصوف فما يزال لهم تأثير كبير.

وكان علي بوضربة أحد هذه الأسرة التي ارتبطت بالاندماج. وقد عاش فترة قصيرة من عمره، ولكنه مع ذلك حصل على درجة الدكتوراه في الطب، فكان من النوادر في ذلك بين الجزائريين. وهو ابن محمد بوضربة أخو إسماعيل سابق الذكر، وكان محمد متوليا للفرنسيين خزينة الأوقاف قبل

(1) نفس المصدر، ص 1116. نقلا عن دفتر جول فيري رئيس اللجنة. ولنلاحظ أن المؤتمر الإسلامي قد تبنى المساواة مع بقاء الأحوال الشخصية وليس التجنس، كما جاء في اقتراح بوضربة.

(2)

آجرون (الجزائريون المسلمون)، 2/ 1046.

ص: 230

إلغائها (1). وقد تزوج علي بوضربة أيضا من فرنسية مثل جده، وكانت بدورها تمارس مهنة القابلة - الطييبة في العاصمة. وتولى أيضا النيابة في بلدية الجزائر سنوات طويلة على أساس أنه يدافع فيها عن حقوق الأهالي. وقد قال عنه رئيس البلدية الفرنسي (التيراك) أن علي بوضربة كان الأكثر ارتباطا بالنظم الفرنسية والتطور الحضاري. ونعاه زميله إسماعيل حامد سنة 1907، ولما يتجاوز الثالثة والأربعين (2).

الحكيم الطيب مرسلي: وهو أيضا طبيب جزائري من وهران، أبوه كان ضابطا في فرسان الصبايحية في الجيش الفرنسي. وكان أولاد هؤلاء الفرسان مبجلين في دخول المدارس الفرنسية، ومنها مدرسة الطب. ويقال إن الطبيب مرسلي هو أول طبيب مسلم تخرج منها. وقد انتقل للعمل في قسنطينة واستوطنها بدون أن نعرف التواريخ المضبوطة عن حياته. وقد شارك الأعيان في قسنطينة نشاطهم وعرائضهم، فوجدناه يوقع مثلا عريضة 1891 التي قدمت للجنة جول فيري. وتزوج هذا الطبيب من فرنسية، وأخذ الجنسية الفرنسية أيضا بمقتضى مرسوم 1865 الذي كان يشترط للحصول عليها التخلي عن الأحوال الشخصية الإسلامية. ومع ذلك تنعته الوثائق الفرنسية (بالحاج الدكتور) لأنه أدى فريضة الحج. وقد كلفته السلطات الفرنسية بمهمة في جدة سنة 1885، تتعلق بانتشار وباء الكوليرا، ونال على مهمته ميدالية فضية.

ألف الطبيب مرسلي كتابا سماه (المسألة الأهلية)(3). طرح فيه كل ما

(1) كذا وجدنا إسماعيل حامد يقرر في مقاله عن علي بوضربة، ولكننا نعرف أن مصطفى بوضربة، عم أحمد بوضربة، هو الذي كان معاصرا للاحتلال، وتولى خزناجيا على مداخيل الأوقاف، إلى أن عزله الفرنسيون حوالي 1835، وتوفي مصطفى، على ما نعلم، في المغرب، مثل ابن أخيه أحمد. والملفت للنظر حقا هو أن عائلة بوضربة قد ارتبطت بالإدارة الفرنسية منذ الاحتلال.

(2)

إسماعيل حامد (مجلة العالم الإسلامي)، نوفمبر/ ديسمبر 1907، ص 495 - 496. وكانت الوفاة في 25 اكتوبر 1907.

(3)

قسنطينة، 1894.

ص: 231

يهم الجزائريين عندئذ من تمثيل برلماني وحقوق وضرائب وقوانين استثنائية (الاندجينا). وعند تأسيس نادي صالح باي أصبح من وجوهه إلى جانب ابن الموهوب والفرنسي (أريب). وبعد إعادة تنظيم المدارس الشرعية الثلاث عين مرسلي لإعطاء درس في الصحة العامة لتلاميذ مدرسة قسنطينة. وكان له احترام بين الأهالي رغم أنهم يعتبرونه (مطورني) أو متجنسا، وهو في نظرهم خارج عن الدين الإسلامي. ومن جهته كان يتقرب للأهالي ظاهريا ولكنه في حياته الخاصة، حسب زميله إسماعيل حامد، كان يعيش عيشة فرنسية. وفي سنة 1907 ألقى مرسلي كلمة في حفل توزيع الجوائز في مدرسة جول فيري الأهلية بقسنطينة، وهي مدرسة ابتدائية. وقد ألح فيها على مبدأ الاندماج والمشاعر المشتركة التي رسخها، كما قال، الدم المشترك بين الفرنسيين والجزائريين، وهو يقصد الدماء التي سالت منهم في المعارك التي خاضوها من أجل فرنسا مثل حرب القرم والحرب السبعينية وإيطاليا والمكسيك، وخاطب التلاميذ بأن يكونوا أفضل من آبائهم في وضع اليد في اليد (التعاون) مع الفرنسيين للسير قدما إلى مستقبل واحد، وقال:(علينا أن نكون فرنسيين بالمشاعر والقلوب، نحن الذين تربينا على نفس المقاعد كالفرنسيين الصغار).

وقد هنأه الحاضرون على خطابه الناجح في نظرهم، وقالت مجلة العالم الإسلامي أنه من الشخصيات الأهلية الأكثر تعاطفا مع العالم الأوروبي، وكذلك مع العالم الإسلامي. وكان الطيب مرسلي ما يزال إلى سنة 1907 يمارس أيضا الطب في المستشفى المدني بقسنطينة (1). وقد عاصر جيلا من القضاة والعلماء في قسنطينة يبدو أنهم قد أثروا على مواقفه، فالمحيط الخارجي له دوره في توجيه الإنسان. فقد كانت قسنطينة على عهده تعيش على أفكار المجاوي وتلاميذه، وحميدة بن باديس، وحمدان الونيسي

(1) إسماعيل حامد في (مجلة العالم الإسلامي) نوفمبر - ديسمبر 1907، ص 494 - 495، نقلا عن جريدة (الجمهوري القسنطيني)، عدد 18 أكتوبر 1907. انظر أيضا آلان كريستلو (المحاكم

)، مرجع سابق، ص 239.

ص: 232

وصالح بن مهنة، وهو ما سماه مالك بن نبي عهد (الإصلاح المحلي).

إسماعيل حامد: نملك عن إسماعيل بن أحمد حامد معلومات طيبة، ولكنها غير كافية، وهي مستخرجة من كتاباته في الأغلب؛ ولكننا لا نملك عنه حتى الآن ترجمة وافية. ولد بالعاصمة في 4 غشت 1857، ودرس بها العربية والفرنسية، ولكننا لا ندري مدرسته وشيوخه. وبناء على كتاباته فإنه كان متمكنا من اللغتين، ولا سيما الفرنسية التي كتب بها كتبا ومقالات تاريخية وأدبية. وقد أصبح من المترجمين البارزين في الجيش الفرنسي إذ تصفه المصادر بأنه كان المترجم الرئيسي في قيادة الأركان العامة، وكان هو نفسه من الضباط. ولعله قد تخرج من المدرسة السلطانية (الكوليج) وأكمل في الليسيه على غرار ما فعل محمد بن رحال. فهو وإياه متعاصران ومتشابهان في الثقافة والظهور، وإن كان كل منهما له مراجعه العائلية وانتماءاته وعقيدته في التراث الإسلامي والحضارة الأوروبية.

ظهرت كتابات إسماعيل حامد منذ التسعينات. كان يكتب في المجلة الأفريقية ثم مجلة العالم الإسلامي، وفي غيرهما. وقد أصدر كتابه (مسلمو شمال أفريقية) سنة 1906 وأيد فيه تيار الاستغراب والتفرنس وشايع فيه السياسة الفرنسية الجديدة التي تبناها جول كامبون وشارل جونار. وقام بمهمات للسلطات الفرنسية في المغرب الأقصى وأفريقية، عندما كانت السياسة الفرنسية تعمل على التدخل في هذين الاتجاهين. كانت رحلته إلى المغرب سنة 1900 حيث قضى خمسة أشهر وكتب انطباعاته ونشرها في المجلة الأفريقية. ولكن تقاريره السرية لم تظهر عندئذ. وكان حامد من الجزائريين الرواد للاستشراق الفرنسي في المغرب وكذلك للإدارة أمثال محمد بن أبي شنب وعمر (سعيد) بوليفة ومحمد نهليل. كما كان أحمد مجقان وابن حمودة والجنيد أحمد مكي في أفريقية الغربية والوسطى. ويعتبر إسماعيل حامد رائدا فى الكتابة عن السودان الغربى وأفريقية الغربية الإسلامية والتعريف بمصادرها .. ولكن دوره في ذلك ما يزال مجهولا عند المعاصرين.

ص: 233

وبالنسبة لأفريقية العربية - الإسلامية نشر إسماعيل حامد مجموعة من الدراسات وعرف بالعديد من المخطوطات. وكانت أعماله تتسم بالعمق والاستيعاب كاستخدام المصادر والتعاليق والمقارنات مما يدل على ثقافته الواسعة ومنهجيته. وقد ترجم الكثير من النصوص إلى الفرنسية. فهو من هذه الناحية (مستشرق جزائري). أفاد حامد المستشرقين الفرنسيين واللغة الفرنسية بأعماله، ولكنه أيضا أفاد التراث العربي الإسلامي بالتعريف به وإلقاء الضوء عليه. من ذلك ترجمة كتاب (نور الألباب) في الفقه والتصوف والأحكام، للشيخ عثمان بن محمد بن عثمان المعروف بابن فوديو. وهو من بلاد الهوسة (بلاد الحوس كما كتبها). والكتاب يتحدث أيضا عن حالة الجهل والخرافة التي أصابت المسلمين في هذه المنطقة، وقد دعا إلى الخروج منها أو من عهد البلوى، كما يسميه ابن فوديو. وكان ابن فوديو سلطانا على تلك البلاد، ومن المصلحين المسلمين. وقد نشر حامد النص العربي والفرنسي (1).

وفي نطاق الأدب العربي والحضارة الإسلامية في أفريقية والصحراء نشر إسماعيل حامد عدة أبحاث نذكر منها: (الأدب العربي الصحراوي) سنة 1910. وبعد جولة عامة في التاريخ تحدث عن كتاب مخطوط في التصوف والتاريخ والتراجم عنوانه (كتاب الطرائف والتلائد في كرامات الشيخين الوالدة والوالد) من تأليف محمد بن المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي، المتوفى 1826. والكنتي هذا من الأزواد. ويقع المخطوط في 371 ورقة. وللكنتي أيضا كتب أخرى مثل (الشموس الأحمدية) و (هداية الطالب) وقد عرضهما إسماعيل حامد، سيما كتاب (الطرائف) الذي حلله في مقالتين طويلتين (2).

وفي بحثه (الحضارة العربية في أفريقية الوسطى) أورد واسماعيل حامد

(1) المجلة الافريقية، 1898، رقم 227، 228، المجلد 42، ص 58 - 81.

(2)

مجلة العالم الإسلامي، اكتوبر 1910، ص 194 - 213، ونوفمبر 1910، ص 380 - 405.

ص: 234

معلومات هامة تتعلق بالتجارة القديمة وجوانب التعامل الحضاري، وطرق انتشار الإسلام واللغة العربية في هذه المناطق، وهي النيل، وليبيا، والجزائر، والمغرب الأقصى. ومن مصادره في هذه الدراسة رحلة عمر التونسي وكتاب تاريخ السودان، وأشعار دينية عديدة، وتراجم، ومخطوطات مختلفة، مثل كتاب (الطرائف) سابق الذكر (1).

كان إسماعيل حامد مهتما بالخصوص بموريطانيا والسينيغال. فقد نشر بحثا بعنوان (ناصر الدين) - وهو أحد الأولياء - ووعد بنشر الكتاب الذي يفصل ذلك بنفس العنوان عن (موريطانيا السينيغالية) - كما قال. وأورد في هذا البحث معلومات أخرى عن التجارة والموارد الطبيعية في الصحراء الغربية عندئذ (2). كما تحدث عن (كتاب الأنساب).

ولإسماعيل حامد أيضا بحث مهم سماه (المدن الصحراوية) ومنها تمبكتو وشنقيط وولاته، وعابير (3)، الخ. وقد اعتمد في بحثه هذا على كتب ومصادر سودانية مثل مؤلفات أحمد بابا وتاريخ السودان. وقد يكون إسماعيل حامد أول العرب والمسلمين الذين كتبوا دراسة مطولة وموثقة عن الكنتيين وزاويتهم وصلحائهم وتجارتهم وعلاقاتهم. وهم، حسب الدراسة، من أحفاد الصحابي عقبة بن نافع، وقد أورد القصص حول التطورات التاريخية للمنطقة والعائلة الكنتية. وجاء بمؤلفات عربية وأوروبية، وذكر تاريخ أحمد البكاي المرابط الشهير صاحب الزاوية القادرية، وشجرة العائلة

(1) نفس المصدر، أبريل 1911، ص 1 - 35.

(2)

مجلة العالم الإسلامي، نوفمبر 1909، ص 421. الواقع أن حامد نشر (حوليات موريطانيا السينيغالية) وهي تضم سيرة الشيخ ناصر الدين بقلم الديماني، وكذلك كتاب (الأنساب) له، و (شيم الزوايا) لمحمد السعيد اليدالي. وقد سبق في ذلك رينيه باصيه الذي أعاد نشر هذه الأعمال في كتابه (مهمة سينيغالية) سنة 1913، بعد أن أرسل إليه تلميذه في السينيغال، السيد ديستان، مخطوطة الحوليات. وبرر باصيه إعادة النشر بأن فهرس إسماعيل حامد فيه أخطاء (؟).

(3)

نفس المصدر، يونيو (جوان) 1912، ص 260 - 279.

ص: 235

النسبية (1). والمعروف أن المنطقة كانت قد دخلت أيضا في الصراع السياسي بين الفرنسيين والإنكليز، ولعب في ذلك أحمد البكاي القادري والحاج عمر التجاني أدوارا في ذلك الصراع.

وبذلك يتضح دور إسماعيل حامد في دراسة النشاط الإسلامي بأفريقية، وفي التوغل الفرنسي هناك، وفي خدمة الرؤية الاستشراقية المعاصرة. ونحن نجده من المساهمين البارزين في مجلة العالم الإسلامي منذ إنشائها كما يدل على ذلك فهرسها لسنوات 1906 - 1911. فقد غطى فيها موضوعات عديدة بعضها طويل، كما ذكرنا، وبعضها قصير، مثل تتبعه للصحافة المصرية، والمؤتمرات الإسلامية، وحياة المسلمين في المشرق والمغرب، والتجارة الأهلية، والطرق الصوفية، والتعليم العربي في مصر، والفتاوى التي كانت تصدر في مجلة (المنار)، والطريق بين حلب وبغداد، وعلم الكلام عند الحنابلة، والرحلات الإسلامية، بالإضافة إلى نبذ عن حياة زملائه في الجزائر مثل بلقاسم بن التهامي عندما عين مديرا لعيادة طبية، والطيب مرسلي عندما خطب في التلاميذ بقسنطينة حول الاندماج، وعلي بوضربة (2) عند وفاته.

في يناير سنة 1899 ذهب إسماعيل حامد إلى المغرب الأقصى في مهمة خاصة من السلطات الفرنسية. ويبدو أنه لم يتوغل فيه كثيرا، وإنما أقام في وجدة يتنصت الأخبار ويجمع المعلومات. ولا ندري نوعية المعلومات التي كان مكلفا بجمعها، ولكن ما نشره بعد قضاء خمسة أشهر هناك لا يخرج عن الموضوعات التي تهم كل زام فضولي لبلد غني بالحياة والنشاط والتناقضات. فمقالته أو رحلته تضمنت وصف العادات والتقاليد، واللهجة، والأسواق، والإدارة، ونفوذ السلطان، والموسيقى، والجالية الجزائرية بوجدة. وقال إنه كان سيقضي هناك بين ثلاثين وأربعين يوما ولكن (ظروفا) جعلته يمدد إقامته إلى خمسة أشهر دون أن يفصح عن هذه الظروف. وقد

(1) نفس المصدر، 1911، ص 302 - 318.

(2)

مجلة العالم الإسلامي، الفهرس العام لسنوات 1906 - 1911، ص 44.

ص: 236

يكون ذلك بأمر من السلطات الفرنسية نفسها للحاجة إليه هناك. وقد يكون ذهب إلى وجدة من وهران. وأخبر أن إدارة وجدة سنوات 1844 - 1859 كانت تحت الإدارة الفرنسية. وخلاصة رأي إسماعيل حامد أن على فرنسا أن تحتل المغرب الأقصى (1). وقد اشتملت رحلته أو مقالته الطويلة على خريطة. وأظهر أنه عالم بفن الموسيقى أيضا إذ جاء بثلاث صفحات من النوطة الموسيقية المغربية، وخصص لها بعض الصفحات من الرحلة وأخبر أن كل الناس هناك يحبون الموسيقى.

ولعل دراسة وضع الجالية الجزائرية في وجدة كان جزءا من مهمة إسماعيل حامد أيضا، فقد قال إنك تجد فيها كل أنواع الجزائريين: الهاربين من كايان، والمنفيين، واللاجئين من كل صنف، والفارين من الخدمة العسكرية، وقال إنهم جميعا يخفون حياة لا أحد هناك يسألهم عنها. ومن بينهم امرأة حاجة كانت تعرف الفرنسية، وجاءت، بعد سنوات من التجوال، تبحث عن (كافر)، حسب تعبيره، فر من بيت الزوجية في قسنطينة، إلى وجدة حاملا ما سرقه منها من ملابس فاخرة وحلى ثمينة. فهل هذا يعني أن هذه الحاجة كانت متزوجة من فرنسي وسرقها ثم هرب عنها؟ إن إسماعيل حامد قد ترك ذلك لفطنة القارئ، ولعله قد أفصح عنه في تقريره السري (2).

وفي رحلته المغربية قارن إسماعيل حامد بين الجزائريين وأهل المغرب الأقصى في التوجه إلى الحج، وهو الموضوع الذي سيعالجه أيضا في كتابه عن مسلمي شمال أفريقية. قال إن الجزائريين لم يعودوا يتوجهون إلى المشرق ولا إلى السودان، وحتى في أداء فريضة الحج، فهم يتناقصون. ويرجع ذلك إلى الاحتلال الفرنسي. بينما يذهب أهل المغرب الأقصى إلى المشرق بكرة للحج وغيره (3). وهو لم يفصح عن ذلك في رحلته إلى وجدة، ولكنه في كتابه المذكور أرجعه إلى اليقظة العقلية وضعف الحماس

(1) المجلة الافريقية، 1900، ص 97 - 134.

(2)

نفس المصدر، ص 123 - 124.

(3)

نفس المصدر، ص 104.

ص: 237

الديني عند الجزائريين. وهو هنا يعمم ولا يخصص، ولكن حديثه يفهم منه أنه كان يقصد المستغربين أمثاله ودعاة الاندماج الذين لم يعد يهمهم أمر المشرق، إنهم أصبحوا يتوجهون إلى فرنسا. والغريب أنه لم يذكر، وهو عليم بذلك، محاولات السلطات الفرنسية منع الحج على الجزائريين متعللة لذلك بشتى العلل (1).

لا نعرف إن كان إسماعيل حامد من المتجنسين وما إذا كان متزوجا من فرنسية كغيره من المستغربين عندئذ. ولكن دعوته إلى الاندماج الحضاري كانت واضحة، فرغم اطلاعه على أحوال العالم الإسلامي، وهو استثناء لأن معظم المستغربين كانوا منقطعين فكريا عن العالم العربي والإسلامي، بل حتى عن مواطنيهم في الجزائر، قلنا رغم ذلك، فقد كان يدعو إلى تذويب المجتمع الجزائري في الحضارة الفرنسية. ولعل ذلك هو ما جعل باحثا مستشرقا أمريكيا، وهو لوثروب، يعتبره من (المصلحين) المسلمين في الجزائر. وقد نسب إليه المقولة التالية:(لا تقاس حضارة أمة بما في كتبها الدينية من السطور والعبارات، بل بما تقوم به تلك الأمة من الأعمال)(2) وهو قول في غاية الحكمة والمنطق. وأضاف إليه مقولة أخرى وهي: (كان للاتجاه الغربي مبلغ كبير من التأثير في جمهور ليس بالقليل من مسلمي الجزائر الذي وإن كانوا ما برحوا مسلمين في الظاهر، فهم يجهلون حد ما وصلت إليه روحهم الدينية من التلاشي)(3).

لفت إسماعيل حامد إليه الأنظار منذ صدور كتابه (مسلمو شمال أفريقية)، لأنه دعا فيه إلى أن تلعب (النخبة) دورا رئيسيا في الحياة السياسية، وأبرز التطورات التي حدثت في الجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي، ومنها تخلي الجزائريين تدريجيا عن تقاليدهم وأفكارهم القديمة كالتعصب الديني، في نظره، وتطلعهم إلى التعلم وتقليد الفرنسيين، وابتعادهم عن الشرق والحياة

(1) عن ذلك انظر فصل السلك الديني والقضائي.

(2)

الأمير شكيب ارسلان (حاضر العالم الإسلامي) 1/ 269.

(3)

نفس المصدر 1/ 273.

ص: 238

القديمة. لم يدرس إسماعيل حامد الأسباب ولكنه وصف الواقع. ولم يدع إلى النهضة العربية الإسلامية بثورة عن الذات والرجوع إلى الأصول والاستفادة من حضارة الغرب، وإنما دعا إلى الانطلاق من الحاضر، أي مما وصل إليه التأثير الفرنسي المتزايد في المجتمع الجزائري، مطبقا للمخططات الفرنسية نفسها. ذلك أن هذه المخططات كانت تهدف منذ 1830 إلى الوصول إلى هذه النتيجة، وهي أن يتنكر الجزائري نفسه لماضيه وأن يستلب من هويته ويذوب في هوية أجنبية عنه دون شعور منه بذاته. ورغم معاصرة إسماعيل حامد لمدرسة الشيخ محمد عبده وزيارته للجزائر 1903، وتأثيره في أمثال محمد بن مصطفى خوجة وعمر راسم وعبد الحليم بن سماية، فإنه (أي حامد) كان يبدو بعيدا عن التأز بهذه المدرسة الاصلاحية (الشرقية). وكل ما كان يعنيه هو وصف ما آل إليه المجتمع الجزائري، في نظره، من التأثير الفرنسي واستعداده للدخول في (الحرم والاحترام) الفرنسي، حسب تعبير جريدة المبشر.

استقبل كتاب إسماعيل حامد بآراء مختلطة من الفرنسيين، ولكن معظمها تحبذ استنتاجه، سيما من أولئك الذين يؤمنون بدور النخبة المستغربة في دمج المجتمع الأهلي في البوتقة الفرنسية. راجعت الكتاب مجلة (أفريقية الفرنسية) فتساءلت: هل المسلمون الجزائريون يمكن تمهيرهم (من المهارة)؟ وهل هم قابلون للاندماج؟ وهل سيقتربون منا ذات يوم؟ ثم قالت: إن هذه الأسئلة هي التي شغلت الرأي العام كثيرا هذه الأيام، فاعتقد المستوطنون (الكولون) العارفون منذ أمد طويل بعقلية الإنسان (الأهلي) أن هذا الإنسان لا يمكن تصحيحه وليس له قابلية في الاندماج والتقدم، لأنه متعصب ومعارض لكل تقدم. وهذا الحكم ما يزال شائعا اليوم. ولكن إسماعيل حامد، حسب (أفريقية الفرنسية)، وهو أهلي أصلا ومثقف بالفرنسية ومترجم

يقول إن هذه الفكرة متعجلة ومؤسفة. فقد قال إنه أصبح في الجزائريين من يكتب بالفرنسية مثل محمد بن رحال والطيب مرسلي، وأن من الجزائريين من أصبح محاميا وصحفيا ومترجما، وعسكريا،

ص: 239

وأستاذا. وكلهم من (النخبة). كما ضرب أمثلة أخرى على الاستعداد للذوبان، وذلك بالزواج المختلط الذي بدأه، كما قال: رجال الدين أمثال شريف وزان وأحمد التجاني وأبو بكر (من أولاد سيدي الشيخ). وهذا في نظره ما يؤكد وجود فئة مستعدة لتقليد أوروبا، وهو يسميها الفئة (المتروبنة). وقد ادعى أيضا أن أول من انضم للفرنسيين هم رجال الدين (1).

أطروحة إسماعيل حامد في الاندماج والاستعداد له أبرزها مقدم الكتاب، وهو المستشرق العسكري لوشاتلييه (2)، ومراجعة ليون غوتييه. قارن غوتيه بين كتاب إسماعيل حامد وكتاب برونيل. قال برونيل إن الجزائري غير قابل للاندماج مستشهدا بما حدث في قضية عين التركي (مرغريت) سنة 1902. فقد قال إن المسلمين ثاروا عندئذ لانتزاع الأرض من المستوطنين الفرنسيين. وأنهم كانوا ضد الاستبداد الإداري، حسب ما جاء في الدفاع أثناء المحاكمة. وادعى برونيل أن المسلمين متعصبون دينيا، وأن لهم عقيدة راسخة في مولى الساعة أو المهدي المنتظر. أما إسماعيل حامد فقد بنى رأيه، حسب غوتييه، على أن الاندماج في المراكز الأوروبية حقيقة واقعة، وأنه (حامد) ينتمي إلى هذه المراكز. وأرجع أحداث عين التركي إلى الطموحات الشخصية للبعض، أو غضبهم، وليس إلى التعصب الديني الذي يقول به الفرنسيون دائما، ومنهم برونيل. وقال حامد إن الدين الإسلامي أكثر الأديان تسامحا وأن المسلمين أكثر الشعوب تسامحا لذلك. والغريب أن حامد قد حبذ قانون الأرض سنة 1863 الذي سلب الجزائريين ما بقي لهم من أرض باسم الملكية الفردية، واعتبره كرما وتكرما من الفرنسيين، كما نوه

(1) مراجعة (افريقية الفرنسية). A. F الملحق، شهر غشت 1906، ص 267 - 268. وقد صدر الكتاب في باريس 1906، 316 صفحة .. والإشارة التاريخية إلى رجال الدين يقصد بها قبول الحاج محيي الدين، مرابط القليعة لوظيف (الآغا) في عهد بيرتزين سنة 1831.

(2)

أستاذ كرسي المجتمعات الإسلامية في كوليج دي فرانس، ومدير مجلة العالم الإسلامي. انظر عنه فصل الاستشراق.

ص: 240

بفائدة الاستيطان الفرنسي لما فيه من فوائد تعليمية للجزائريين، فهو في نظره ضرورة للازدهار الاجتماعي (1).

كان اطلاع وثقافة وتأثير إسماعيل حامد يمكن أن تنضم إلى أنشطة محمد بن رحال، ومحمد بن أبي شنب، وعبد القادر المجاوي، وابن علي فخار، وابن الموهوب، وأن تتكون منهم نواة لحركة إسلامية متجددة تدعو إلى التعليم والنهضة في وقت مبكر. فهم فئة تملك الرؤية، والقلم واللسان. ولكن الجهود كانت مشتتة والرؤية ليست واحدة. فقد كانت دعوة إسماعيل حامد إلى تكريس الواقع لا إلى تغييره، وإلى توجيه الاهتمام بالروابط الفرنسية لا بالروابط العربية الإسلامية (2). وكان الاهتمام الذي حظي به كتابه يرجع إلى دعوته إلى التقارب الجزائري - الفرنسي والاندماج، وهو ما لم يحظ به مثلا فكر ابن رحال ولا فكر المجاوي وابن سماية ممن كانوا يعتبرون أصحاب العمائم القديمة، رغم ثقافتهم العصرية ورؤيتهم المستقبلية.

ابن علي فخار: لم يدع ابن علي فخار إلى نخبة الأفراد فقط ولكن إلى نخبة المدن أيضا. انطلق من أن الجزائريين ليسوا سواء في المدن والأرياف. ومن الغلط في نظره، أن يسوى الفرنسيون في حكمهم على المسلمين بمسطرة واحدة. ابن علي فخار من أصل أندلسي (الفخارين) ومن مدينة تلمسان. درس في مدرسة تلمسان الفرنسية بالشرعية، ثم أكمل دراسته في مدرسة الآداب العليا بالجزائر. فدرس على رينيه باصيه وفانيان. ومنذ 1901 ذهب إلى فرنسا حيث كان يعلم اللغة العربية الدارجة في الغرفة التجارية

(1) مراجعة في (المجلة الجغرافية الجزائرية) SGAAN ،1906، ص 210 - 214. وقد ألقى ليون غوتييه محاضرة يوم 10 مايو، 1906، حول الكتابين.

(2)

يقول بيروني (الكتاب الذهبي) 1/ 506 إن إسماعيل حامد قد أصبح مترجما عسكريا سنة 1877، وترقى في هذه الوظيفة أثناء خدمته في مدينة معسكر وآفلو والعين الصفراء ووهران وباريس. وكان حامد في وهران سنوات 1895 - 1904، وفي باريس 1905 - 1912. وتقاعد سنة 1913. وكان ما يزال حيا سنة 1930 (سنة نشر الكتاب الذهبي).

ص: 241

بمدينة ليون. وفي هذه المدينة درس القانون وتخصص في الشريعة الإسلامية، وحصل سنة 1908 على الدكتوراه في موضوع رئيسي هو (الربا في الشرسة الإسلامية وعواقبه العملية)، أما الموضوع الثانوي فهو (القراض). وتقول المصادر الفرنسية إنه أول دكتور جزائري (مسلم) يحصل على الدكتوراه في القانون، وهي في الواقع دكتوراه من قسم العلوم الاقتصادية والسياسية عندئذ، ولكنه ناقشها في كلية الحقوق بجامعة ليون. وقد راجعت أطروحته مجلة العالم الإسلامي ونوهت بعمله (1).

كان ابن علي فخار من كتاب هذه المجلة أيضا مثل زميله إسماعيل حامد وأبي بكر عبد السلام. ومن موقعه في ليون كان يكتب عن الشريعة الإسلامية وعن مدينة تلمسان ولهجتها، وقد عرفنا أنه كتب أيضا كتابا مدرسيا عن لهجة تلمسان والمغرب. لم يعين ابن علي فخار أستاذا في الكلية التي تخرج منها، بل عينوه مشاركا في (الحلقة القضائية المصرية) التي كان يشرف عليها الأستاذ لامبير، ابتداء من نوفمبر 1908. وكانت الحلقة تابعة لكلية الحقوق، بجامعة ليون. ويشاركه في ذلك طالب مصري، اسمه عزيز مرحوم، كان ما يزال بقسم الليسانس. وأثناء وجوده بليون اهتم ابن علي فخار أيضا بموضوع تدوين الفقه الإسلامي الذي كان يجري الحديث عنه في الجزائر. وكان يتردد على تلمسان. ولا ندري إن كانت أسرته قد بقيت فيها أو كان متزوجة من فرنسية.

كتب ابن علي فخار سنة 1909 مقالة عن تلمسان كشف فيها عن وجهة نظره الاجتماعية، وهي وجهة محدودة إذا نظرنا إلى ثقافته العالية، وإلى تكوينه الاجتماعي وأصوله ودراسته للشريعة الإسلامية. يقول في هذه الدراسة إن المسلمين يقولون أن الاحتلال قد أضاعهم، ويقول الفرنسيون إن المسلمين استفادوا منه. وهو بالطبع يضم صوته إلى القائلين بالرأي الأخير.

(1) مجلة العالم الإسلامي، يناير - فبراير 1909، ص 186 - 188. وكذلك نفس المصدر، 1911، ص 582 - 583. وتوجد صورته بالبرنس ونبذة عن حياته في نفس المصدر، يونيو 1908، ص 361 - 363.

ص: 242

ولكنه يقول إن معاملة الفرنسيين للأهالي على نفس الوتيرة والحكم عليهم بالجملة خطأ فادح. ودعا إلى ضرورة التفريق بين معاملة أهل المدن وغيرهم، سيما المدن ذات الحضارة والعراقة مثل تلمسان. وفي نظره أن على الفرنسيين أن يعاملوا أهل المدن معاملة خاصة تضمن لهم الأمن والاستقرار. ذلك أنه عن طريق هذه المدن سيقع التأثير على بقية السكان ويقع التأثير الحضاري الفرنسي ويشيع الرخاء، وبذلك تتفادى فرنسا مستقبلا مجهولا. قد تكون فيه المغامرة.

ولا ندري إن كان ابن علي فخار متأثرا، أيضا بنظرية دورخايم السائدة عندئذ، ولكنه أعطى أهمية للمجتمع المدني حيث التقاليد والإطارات الخاضعة للشروط الاقتصادية، وهي شروط تجعلها مجتمعات ثابتة على الأرض، ولا نتاج إلا إلى الأمن والضمانات البشرية، وإذا تحقق هذا فإن أهل هذه المدن سيتقربون من الأوروبيين (الفرنسيين) لتبادل المصالح والمنافع. وفي رأيه أن معاملة سكان المدن على قدم المساواة يتماشى مع طبيعة الأشياء نفسها، أما مساواة خمسة ملايين مسلم جزائري في المعاملات السياسية والأحكام فإنه يدل على جهل الخلاف العميق الذي يفرق بينهم (1).

هذه هي أطروحة ابن علي فخار، فهي تقوم على أن أهل المدن أقرب إلى التعايش مع الفرنسيين والاختلاط معهم والاندماج الاجتماعي والاقتصادي فيهم من مجتمع الريف المتخلف وغير المستقر، بينما أمثال إسماعيل حامد وابن التهامي يدعون إلى نخبة الثقافة الفرنسية المتميزة عن غيرها من المتعلمين، بل من الجزائريين بشكل عام. ونحن لا نستطيع إلا أن نصف ابن علي فخار في دعاة الاندماج لأنه لا يقول بالهوية الجزائرية المتميزة عن الهوية الفرنسية.

(1) ابن علي فخار (تلمسان) في (مجلة العالم الإسلامي) يوليو - غشت، 1909، ص 433 - 445.

ص: 243

والغريب أن جريدة (الحاضرة) التونسية قد نشرت لابن علي فخار بعض الأراء في مقالات من بينها رأيه في معارضة فصل الدين عن الدولة الذي كانت فرنسا قد أخذت على تطبيقه على المسيحية واليهودية في الجزائر سنة 1907 بعد أن أخذت تطبقه في فرنسا سنة 1905. وتقول بعض المصادر إن ابن علي فخار انتقد تطبيق ذلك الفصل في المستعمرات. والمعروف أن قانون الفصل لم يطبق على الإسلام، دين الجزائريين. فهل يعني ابن فخار فصل (الدين) من حيث هو؟ وقد وصفته الجريدة بأنه من أعيان (النخبة؟) الجزائر ومن المتبصرين بالمصالح العامة (1).

أحمد بن قدور عطشي: إذا توفي أحد الجزائريين فإن المؤبنين الفرنسيين له يكتفون بذكر ولائه لفرنسا وانتمائه الحضاري لهم أو تاريخ وفاته، وكذلك المدرسة الفرنسية التي تخرج منها، والوظيف الأخير الذي كان يشغله. وقلما يذكرون نبذة وافية عن حياته وآرائه ومساهمته. وكثير من الجزائريين ماتوا مجهولين تماما، رغم علمهم ومكانتهم. والسعيد منهم من أعلنت وفاته على صفحة الوفيات بجريدة المبشر أو جريدة الأخبار. ومن هؤلاء المحظوظين - بعد وفاتهم - أحمد بن قدور عطشي، الذي أبنته المجلة الأفريقية بضعة سطور سنة 1898.

اسم (عطشي) يدل على أنه من أهل الحضر، رغم أن التأبين لا يشير إلى ذلك. وقد كان أحد الدايات يلقب بعطشى. وكان أحمد من مواليد 1853، أي من الجيل الأول الذي نشأ في العهد الاستعماري. وقد يكون تردد على المدرسة العربية - الفرنسية الابتدائية، ثم درس في الليسيه. ونحن نعلم أنه درس بعد ذلك في مدرسة الصنائع (البوليتكنيك) بفرنسا. وكان من الجزائريين النوادر الذين دخلوها. ثم درس الحقوق ونال إجازتها (الليسانس) في باريس أيضا. ويبدو أنه فضل الإقامة في فرنسا، إذ عمل في المكتبة

(1) علي العريبي (أصداء جزائرية في جريدة الحاضرة)، في مجلة (الحياة الثقافية)، تونس، عدد 32، 1984.

ص: 244

الوطنية الفرنسية بعض الوقت بصفته ملحقا، لأن الجزائري لا يوظف على قدم المساواة مع الفرنسيين ..

وقد رجع أحمد عطشى إلى الجزائر في وقت نجهله، ليكون قريبا من أهله، حسب تعبير المجلة. وفي الجزائر تولى الكتابة لدى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف الفرنسية بالعاصمة، ولعله هو القاضي زيس (؟). ثم نقل إلى مكاتب الحكومة العامة حيث اشتغل محررا، وهو تعبير لا نعرف معناه بالضبط، فهل هو التحرير الصحفي في جريدة المبشر التابعة للحكومة، أو التحرير عموما مثل كتابة التقارير ونحوها، وهي مهنة كان يقوم بها الخوجات وكتاب الإنشاء. يصفه مؤبنه، وهو فيما نظن السيد لوسياني (1) الذي كان هو أيضا يعمل بالحكومة العامة، بأنه واسع الثقافة، كثير التواضع. ولذلك حظي بعطف الجميع. وعند وفاته عن 45 سنة حضر جنازته بعض الفرنسيين أيضا، كما ابنه بكلمات كل من المفتي الحنفي أحمد بوقندورة، وعبد الرزاق الأشرف، الأستاذ بمدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية (2).

كان أحمد عطشى عضوا، في الجمعية التاريخية. ولا ندري مؤهلاته في ذلك. ويبدو أنه كان مهتما، بالفنون الجميلة والفلسفة أيضا. ولكن حياة الضنك الاستعماري لم تسمح له بتطوير مواهبه في الاتجاه الصحيح. منذ 1880 ألقى محاضرة بالفرنسية عن الفيلسوف والفنان الإيرلندي (ستيرن). وقد علقت جريدة (الأخبار) الصادرة بالفرنسية عن المحاضرة تعليقا معجبا بهذا الشاب (27 سنة عندئذ) الأهلي الذي ملك ناصية اللغة الفرنسية وعالج موضوعا دقيقا وخاطب جمهورا فرنسيا متخصصا وحذق تقديم حياة وأفكار ستيرن فأبرز منه الملامح الهزلية Humoristeque وأظهره فيلسوفا مليئا بالمرح Bonhomie . وقد نشرت الصحف المحلية أيضا منوهة بالمحاضرة، بل حتى جريدة (التايمس) البريطانية (3) فعلت ذلك. وفي عدد لاحق أخبرت

(1) الحروف التي وقع بها التأبين هي. J. D. L . وقد قرأناها جان دومينيك لوسيافي.

(2)

المجلة الافريقية، 1898، ص 390، عدد 231.

(3)

عدد 24 مارس 1880. قالت الجريدة إن أحمد بن قدور (عطشي) كان عربيا وتخرج =

ص: 245

جريدة (الأخبار) أن أحمد عطشى، وهي تسميه أحمد بن قدور فقط، سيحاضر في يوم 9 أبريل من نفس العام، عن الفنون القديمة وعلاقتها بفنون العصور الوسطى والانتاجات الهوموريستيكية، وأنه سيختم بنظرة عن مكانة الفنون الجميلة في الحياة الحديثة (1).

إن هذا الشاب الواعد المبكر هو الذي توفي بعد حوالي عشرين سنة. فماذا ألف وحاضر وسجل بعد محاضرتيه عن ستيرن والفنون القديمة؟ لا نعلم الآن شيئا. فهو أيضا من الجيل الأول الذي تعلم بالفرنسية واندمج في ثقافتها. ولا نعلم الآن أنه دعا قومه إلى الاندماج، رغم أن حماسه للعلوم الأوروبية والفنون يبرهن على تأثره الكبير. لكن جيله، وإن تأثر فإنه لم يدع إلى الذوبان، أولا لأن فيه بقية حصانة، وثانيا، لأن جيل المستغربين المسلوبين (النخبة) كان ما يزال يتشكل عند وفاته. وتكاد النفس تحدثنا بأن شخصا يتوظف في مكاتب الحكومة العامة ويطلع على أسرارها وينوه به دومينيك لوسياني، لا يمكن إلا أن يكون متجنسا بالجنسية الفرنسية. فهل كان ذلك هو ما فعله أحمد بن قدور عطشى؟.

ابن حمودة: من قرأ خطبة السيد ابن حمودة في الغزل بفرنسا والهيام بحبها والوله بإنجازاتها في الجزائر يغفر لكل أفراد هذه الفئة المبهورة لأنهم لم يتغنوا بها كمثل غنائه ويتحمسوا لها كمثل تحمسه، رغم أنهم قد يكونون

= من الجامعة (كذا)، وأنه ألقى المحاضرة في العاصمة. وخصصت للمحاضرة سطرين فقط ضمن أخبار فرنسا. وكانت المحاضرة عن حياة وأدب ستيرن وموسوعته الأدبية المعروفة باسم (تريسترام شاندوي/ المهذب). انظر Dict. of LITERARY BIOGRAPHIES المجلد 39، ص 471 - 499، ط. ديترويت (ميشيغان)، 1985، وكان ستيرن L. sterne (1768 - 1713) من أدباء إيرلنده وقصاصيها.

(1)

كانت المحاضرة، حسب جريدة (الأخبار) يوم 20 مارس 1880. ولكن الأخبار لم تكتب عنها إلا يوم 5 - 6 أبريل معتذرة لقرائها عن التأخير في الخبر. أما محاضرة الفنون القديمة فأعلنت عنها يوم 9 أبريل، ولم نقرأ تعليقها عليها لأن العدد لم يكن متوفرا عندنا. انظر أيضا عن أحمد عطشى فصل الفنون.

ص: 246

أشد منه حبا لها وهياما بها، غير أنهم صمتوا وتكلم هو، وجمجموا وأفصح هو.

لا نعرف الإسم الأول الآن لابن حمودة هذا. فقد وجدنا اسمه مختصرا في (الخطبة) التي بعث بها من السينيغال إلى مجلة العالم الإسلامي. قال فيها إنه تخرج من مدرسة الجزائر الشرعية - الفرنسية. وقال إنه عاش فترة في شرشال وتوظف فيها زمانا، قبل أن يناديه المنادي للتعليم في مدرسة سان لويس بداكار (1). وقد عدد ابن حمودة إنجازات فرنسا في الجزائر، ويمكن تلخيصها فيما يلي:

1 -

كان ملوك تلمسان والجزائر وقسنطينة ووهران - كما قال - على رأس قبائل يغزون بعضهم البعض وينشرون الدمار والموت. فجاء الفرنسيون وأحدثوا التحول التاريخي، ويا له من تحول! (وعلامة الاستغراب له).

2 -

كان الفرد الجزائري يعيش بدون فرديته وبدون رحمة، فغير الفرنسيون ذلك ونشروا الرحمة وشعر الفرد بذاته.

3 -

طلع الفجر على الجزائر بتاريخ 1865 الذي فتح للجزائريين باب التجنس والتقدم، ومنذئذ أخذتهم فرنسا في أحضانها. فلماذا لا يكونون معترفين لها بالجميل؟.

4 -

بفضل فرنسا ازداد عدد السكان بصورة مذهلة، لأنها أوقفت المذابح القديمة والأمراض المعدية، ونشرت السلم في ربوع البلاد، وشجعت الفلاحة وقمعت الجرائم.

5 -

قامت فرنسا بفتح المدارس الابتدائية للجزائريين إضافة إلى المدارس الثلاث في العاصمة وتلمسان وقسنطينة، واهتمت بالفنون الأهلية،

(1) نكاية في المسلمين أطلق الفرنسيون اسم (سان لويس) على المدرسة الإسلامية الوحيدة عندئذ في السينيغال المسلم، وهي على غرار المدارس الشرعية الفرنسية الثلاث في الجزائر. وكانت تدرس الفقه والتوحيد واللغة العربية. وهي على الطراز الإسلامي، كما أظهرتها الصورة التى نشرتها مجلة العالم الإسلامي عنها.

ص: 247

وذلك تمشيا مع حضارتها وتقاليدها الإنسانية.

6 -

ألمع الأسماء في تاريخ الجزائر (؟) هي أسماء الدوق أورليان، وبوجو، وماكماهون، وشانزي، وجونار. إنها (أسماء مجيدة) - كما قال.

7 -

فتحت فرنسا أيضا صفوف جيشها للجزائريين وجاءت بفرق من المعلمين، وشجعت المهن الحرة والمجالس النيابية للجزائريين.

ومن أجل ذلك أصبح الفرنسيون في نظر ابن حمودة، حماة للجزائريين وأصدقاء لهم، بالإضافة إلى أنهم هم المنتصرون والأسياد. إنهم في الجزائر (من أجل مصالحنا). إن كل شيء قد تغير في الجزائر بفضل الجهود الفرنسية. حتى القضاة المسلمون سيتغيرون تبعا للقضاة الفرنسيين. وها هي الآن تتكون (نخبة) خضعت للتأثير الفرنسي وهي تفيض بحب فرنسا وتسبح بحمدها. وقد ختم ابن حمودة خطبته العصماء بهذا الهتاف الذي لم يسمعه الفرنسيون ولم يبالوا به، ولكن سمعه التاريخ ووعاه، وهو الدعاء لفرنسا بطول العمر، وبالمجد والعظمة (1)!).

ويجب ألا ندهش من هذا، لأن ما كانت تخفي صدورهم أكبر. وهذا الذوبان الذي يبديه ابن حمودة المتخرج من المدرسة الشرعية - الفرنسية أثناء سيطرة المستشرقين عليها، ما هو إلا ظاهرة طبيعية لإنجازات المخطط الفرنسي منذ البداية. ولعل حالة ابن حمودة، وهي غير شاذة، تبرر موقف أغلبية الجزائريين الذين فهموا منذ البداية أيضا أن المدرسة الفرنسية ستخرج أولادهم على هذا النحو من الانسلاخ. وقد تبين أن الخطة ليست هي التعليم في حد ذاته، أو تعليم العلوم باللغة الفرنسية كما فهمها البسطاء والجهلة من أمثال مصطفى بن السادات ومحمود بن الشيخ علي، وحتى حسن بن بريهمات، ولكن تذويب الإنسان الجزائري ومحو شخصيته حتى يصبح كالسكران يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول.

(1) مجلة العالم الإسلامي، ديسمبر 1910، ص 632 - 634.

ص: 248

أحمد بن بريهمات: وهو أحد أبناء حسن بن بريهمات الذي لعب دورا في الحياة العامة خلال القرن الماضي كمثقف مزدوج ومن أهل الحضر. وكان أحمد أحد ثلاثة أبناء له (والآخران هما إبراهيم وعمر). ويذكر أبو القاسم الحفناوي أن الدكتور زروق كان أيضا أحد أبناء حسن، والصواب أنه حفيده، وأن زروق هو ابن أحمد. ولا ندري متى ولد أحمد هذا، والغالب أنه ولد بالعاصمة وتعلم بها ودخل المدرسة السلطانية (الكوليج الامبريالي) قبل إلغائها سنة 1871. وتخرج مترجما عسكريا، مثل أخيه إبراهيم، ولكنه ساهم في الترجمة المكتوبة أيضا. فوجدناه قد ترجم إلى الفرنسية رحلة العياشي من درعة إلى ورقلة سنة 1880. ولعل ذلك كان خلاصة للرحلة فقط (1). كما اشترك أحمد مع لويس رين في نشر كتاب في تعليم اللغة الفرنسية بعنوان (اللسان يكمل الإنسان)، وقد سبق الحديث عنه. وأما آجرون فقد ذكر أن أحمد هو ابن محمد بريهمات، وقال إن كليهما كان من (المعارضين). ومما ذكره آجرون أن محمد كان مساعدا في المحكمة (الاستئناف؟) ثم عزل منها، وأنه ظل على معارضته (؟)، طيلة عهد الحاكم العام لويس تيرمان. وقال إن محمدا قد ربط علاقات في عهد الحاكم العام لافيريير (1897 - 1900) مع كميل صابتييه وباروكان مدير جريدة الأخبار. ويخبرنا أيضا أن أحمد كان كوالده من المعارضين أيضا (2). ويبدو لنا أن آجرون قد خلط في الموضوع وأن أحمد هو ابن حسن كما ذكرنا، وأنه كان،

(1) نشر ذلك في نشرة الجمعية الجغرافية لوهران (. B.S.G.O) رقم 7 (1880).، ص 330 - 334. وقد وجدنا في المجلة الافريقية سنة 1899، ص 295 - 296 مراجعة للترجمة بقلم عبدالرزاق الأشرف. ولعل نشر بريهمات لترجمته في نشرة وهران يدل على أنه كان عندئذ يعمل في تلك الجهة. كما يدل على اهتمام الفرنسيين بالمغرب الأقصى. انظر سابقا.

(2)

آجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 1032 هامش 3. ومن المعارضين أيضا. حسب رأي آجرون، حمدان بوركايب الذي كان موظفا بولاية العاصمة. واستعمال كلمة (معارضة) هنا غير واضحة، فالنخبة الاندماجية إنما كانت تطالب بالحقوق.

ص: 249

كما سنرى، مؤيدا للسياسة العلمانية في التعليم وأنه كان مواليا للسياسة الفرنسية (الإنسانية) وكان من المتجنسين أيضا.

وكان نشاط أحمد قد برز في الثمانينات (عهد تيرمان). وقد ساعدته ثقافته المزدوجة على الاطلاع على تراث العرب وحضارة الفرنسيين. وربما كان مشاركا أيضا في إحدى الجمعيات الماسونية. ونحن نستشف ذلك من كلمته التي ألقاها? دون غيره - في باريس سنة 1882. فقد استدعته جمعية تسمى (الجمعية الفرنسية لحماية أهالي المستعمرات) ليشارك في أعمالها. وكان من مؤسسي هذه الجمعية الكاتب لوروى بوليو. وفي كلمته نوه أحمد بن بريهمات بالجمعية التي قال عنها إنها اتخذت من محبة الإنسانية شعارا لها عوض محبة الإنجيل والقرآن والصليب والهلال (1). وأعلن أن هدف فرنسا من (فتحها)(احتلالها) للجزائر لم يكن سوى بث الحضارة و (رفع حالة التمدن المنخفضة النازلة بالبلاد). ولكنه ذكر الفرنسيين بأن أكثرية سكان الجزائر هم من (عقب العرب الذين كانوا بالأندلس) وأنهم حازوا (قصب السبق في العلوم الفاخرة)، كما نوه بخلفاء قرطبة وغرناطة، وقال إن سكان الجزائر من الشعب الذي أنجب ابن سينا وابن رشد. وإن من كان نسله كذلك يقبل (إحسان التمدن الجديد). وهكذا أقام أحمد نوعا من المفاخرة مع مستمعيه الفرنسيين، فهو قبل أن يعترف بالحاجة إلى التمدن الجديد يطلب مهم الاعتراف بأن وقومه ذوو تمدن قديم وعريق.

وفي نطاق هذا التمدن الجديد طالب أحمد بإجبارية التعليم ومجانيته بالنسبة للجزائرين أيضا، وهو ما كان الفرنسيون يطبقونه على أنفسهم ويستثنون منه الأهالي. ومن ثوريات أحمد أنه اعتبر الحديث عن حالة الجزائر المؤسفة رصاصا وأن السكوت عنها ذهب. فقد كان يشعر بمرارة، فلا هو قادر على السكوت المذهب ولا على الكلام المرصص. وأشار إلى أن

(1) وهذه اللغة تشبه لغة الماسونيين.

ص: 250

دعوته للحديث إلى أعضاء الجمعية قد شفاه من (جراحاته الغزيرة). وقد وعد بأنه عند رجوعه إلى بلاده سيحدث قومه عما رأى في فرنسا من مشاعر وحضارة (1).

وبعد حوالي سنة نشر أحمد بن بريهمات كراسة بالفرنسية عن مرسوم 13 فبراير 1883 حول التعليم والمسلمين الأهالي. ورأى أن المسلمين قد انقسموا حول ذلك المرسوم الذي ينص على فتح مجال التعليم الفرنسي. وكانت نقطة الانقسام هي قبول أو رفض هذا التعليم، وتمسك كل طرف برأيه. ولم يصلوا إلى حل وسط ولم يقترحوا إجراءات عملية. ورأى ابن بريهمات أن المصلحة ستضع إذا بقي الوضع كذلك، وكان الكولون يؤيدون الرافضين للتعليم للأهالي ويزعمون أن هؤلاء غير قابلين للتعلم، وأن الميزانية لا تسمح بذلك، وكان بعضهم يقول إن لدى الجزائريين عددا كبيرا من المدارس القرآنية وهي تكفيهم (2).

أما ابن بريهمات فقد عالج الموضوع بطريقته. فرجع أولا إلى مفاخرة الفرنسيين بتقدم التعليم عشية الاحتلال وكون التعليم كان مقدسا عند المسلمين. فذكر أنه كان في الجامع الكبير وحده اثنتا عشرة مادة تدرس قبل سنة 1830 وأن التعليم لم يكن متأخرا. وفي سنة 1857 طالبت التقارير الرسمية بفتح المدارس في الريف والمعاهد في المدن، وأن هذا التعليم قد أعطى نتائج قبل 1871. ولكن ديقيدون ألغى تلك المدارس والمعاهد بجرة قلم (3). ورفض أحمد المقولة الشائعة عندئذ وهي أن عرب الريف يرفضون التعليم. وأرجع ذلك إلى استحالة إرسال أبنائهم إلى المدارس لبعدها

(1) نشرت كلمته جريدة (المنتخب) في عددها الرابع، وألقى الكلمة في 14 مايو 1882 بباريس. انظر قنان، (نصوص) ص 188.

(2)

انظر فصل التعليم المزدوج.

(3)

ذلك هو العهد الذي نشأ فيه والده وتولى فيه إدارة المدرسة الشرعية. ونفهم من هذه المقارنة بين عهد الامبراطورية وعهد الجمهورية أن أحمد كان يحبذ عهد نابليون الثالث الذي نشر التعليم المزدوج.

ص: 251

بحوالي عشر كلم عن منازلهم. فالمدارس كانت قريبة من المراكز الأوروبية ولكنها بعيدة عن مزارع وقرى أهل الريف الجزائريين. فكان على الطفل الذي عمره بين 7 و 12 سنة أن يقطع يوميا بين 16 و 20 كلم للذهاب إلى المدرسة والرجوع منها.

ومن رأى أحمد بن بريهمات أن التقاليد الإسلامية لا تمانع في إدخال إصلاحات على نظام التعليم بالنسبة للجنسين. ولذلك نادى بإلزام العرب تعلم العربية والفرنسية في نفس الوقت. ونبه إلى الخسارة الكبيرة التي ستصيب التراث المكتوب بالعربية إذا حذفت العربية من المدارس، وأن النكبة ستلحق بكل الناس. ولذلك طالب بإرسال البنين والبنات إلى المدارس الفرنسية/ العربية الجديدة، واستنكر موقف الناصحين بمقاطعة المدارس باسم الدين. وأشاد (بروح الإنصاف) التي يتحلى بها في نظره لويس تيرمان، وذلك منه ربما مجاملة فقط. ثم اقترح إجراءات عملية رآها كفيلة بإزالة الشكوك والمخاوف عند بعض المسلمين، سيما نحو بناتهم. ورأى أن تعليم المرأة سيترتب عليه قلة النساء في بيوت الفساد، وقلة الرجال أمام المحاكم، وأن التعليم عموما سيؤدي إلى الصداقة مع الفرنسيين. وقد أيد بقوة التعليم الإجباري والمجاني للجنسين لأنه وسيلة (بعثنا ونهضتنا)(1).

وهذا الحماس نحو النهضة والبعث منذ أوائل الثمانينات هو الذي جعل أحمد بن بريهمات من رواد الفئة الاندماجية رغم اعتداله. وقد كانت أصوله العائلية وغيرته على التراث العربي الإسلامي وإشاراته المتكررة إلى الأندلس، والمفاخرة بأمجاد الماضي تجعل منه صوتا من الأصوات المحافظة أيضا. ولكننا لا ندري إن كان قد ظل على موقفه هذا. فوصف آجرون له بأنه كان من المعارضين نفهم منه أنه كان معارضا لسياسة التجهيل الفرنسية وسياسة التخوف الأهلية. ومع ذلك فإن أحمد كان غير متحمس سنة 1903 لدعوة الشيخ محمد عبده أثناء زيارته للجزائر، بتحرير العقل لدى المسلمين

(1) كتب ذلك بتاريخ 7 أكتوبر 1883. انظر قنان، (نصوص) ص 190 - 193.

ص: 252

وخوض معركة التعليم وتنقية الإسلام من شوائب التخلف. فقد كان أحمد، حسب بعض الكتاب، ضد دعاة الاندماج مع الفرنسيين، وكان من المتجنسين أيضا (1). وهو رأي غريب في ظل ما عرفناه عن صاحبه.

ومن جهة أخرى ترك أحمد بن بريهمات إبنا سار على منواله في الظاهر، على الأقل في الازدواج الثقافي، وهو زروق الذي أصبح من أطباء العاصمة في أول هذا القرن. وكان يكتب مقالات في جريدة كوكب أفريقية حول صحة العائلات الجزائرية (2).

مجذوب بن قلفاط: وتكاد سيرة أحمد بن بريهمات تنطبق على سيرة مجدوب بن قلفاط ما عدا أن هذا من نواحي قسنطينة والآخر من العاصمة. كلاهما اشتغل بالترجمة أيضا ونشر ابن قلفاط ترجمة بالعربية الدارجة من حكايات فرنسية. وقد تعرضنا إلى ذلك (3). وخاض ابن قلفاط أيضا في مسألة التعليم الأهلي والاندماج الحضاري. ونشر كراسة في نفس الموضوع حوالي 1883. وقد هاجم فيها المتعصبين الذين لا يؤمنون بإرسال أولادهم إلى المدارس الفرنسية خوفا عليهم من الأثر الفرنسي الديني. ودعا بصراحة إلى أن تقوم الحكومة (بافتكاك) الأبناء من أهلهم وإجبارهم على التعلم في مدرستها لأن هؤلاء الأهل لا يعرفون منافع الحضارة الفرنسية. ومن رأيه أن التعلم سيجعل العربي إنسانا مستنيرا ومتخلقا، كما أنه سيجعله (فرنسيا) صالحا، وعلى هذا التعلم أن يكون عميقا لكي يغير الأفكار جذريا، وليس مجرد تعلم للقراءة والكتابة. ولا يكون ذلك إلا بدراسة التاريخ والجغرافية. ونفهم أن ابن قلفاط كان أيضا من أنصار التعليم اللائكي (العلماني) من قوله بتعلم (الأخلاق المتحررة من الأفكار الدينية الضيقة والمتحيزة) بل إننا نفهم

(1) انظر مقالة رشيد بن شنب عن زيارة الشيخ عبده للجزائر في مجلة ستوديا إسلاميكا (الدراسات الإسلامية)، مجلد 53 (1981)، ص 132.

(2)

انظر مجلة العالم الإسلامي، أبريل 1909، ص 444، وكذلك رسالة الباحث عبد المجيد بن عدة (جامعة الجزائر).

(3)

قسنطينة 1890، 175 صفحة، انظر ما سبق.

ص: 253

أنه كان من المتجنسين، وذلك لأنه يميز بين (معلمينا)(الفرنسيين؟) و (مؤدبيهم)(الأهالي). ومهما كان الأمر فإنه دعا إلى أن يكون المعلمون من المسلمين لكي يزول خوف الأهالي على أطفالهم من التنصير إذا كان المعلمون فرنسيين.

وقد كشف ابن قلفاط على أن هناك أسبابا أخرى وراء عدم إرسال الأهالي أطفالهم إلى المدارس الفرنسية. فهو يذكر أن منها الخوف من انقاد الجيران، سيما في الأرياف، وشعور كل مسلم بضرورة حفظ القرآن الكريم. ومن رأيه أن إجبارية التعليم ستزيل التحفظ الأول، وأن إنشاء مدارس بنصف الوقت (صباحا للزاوية الأهلية ومساء للمدرسة الفرنسية) سيحل التحفظ الثاني. ورغم دعوته إلى التعليم الحر فإنه رأى عدم التعجل بإلغاء تعليم الزوايا، ورأى أن ذلك لا يكون إلا إذا أصبح في كل مدرسة فرنسية إمام ملحق بها يتولى التعليم الديني (1). ولعل لابن قلفاط آراء أخرى في الحضارة والحياة لم نطلع عليها. ولكن ما عرفناه منه يجعله من الفئة الاندماجية، أمثال أحمد بن بريهمات.

قلنا إن ظاهرة ابن حمودة غير شاذة، ولكن العجب أنها لم تأت ممن تعلم فقط بالفرنسية بل جاءت من مزدوج اللغة، وكان أمثاله هم الذين يعينهم الفرنسيون قضاة ومدرسيين ليحكموا بين الناس ويعلموهم شؤون دينهم الإسلامي. وماذا نقول في الأستاذ الجزائري الذي يتغنى بالراية الفرنسية المثلثة التي يسميها (البيرق) ويقول مخاطبا، لها (بك أيها البيرق يعرف حب الوطن

) أن هذا الكلام قاله محمد بن العربي التلمساني، وليس ابن حمودة. وقد ثنى عليه أيضا مصطفى الجزائري (؟) الذي يصف الجنود الفرنسيين (بالأبطال الأسود). إن هذين الشخصين كلاهما كتب ما كتب من

(1) قنان، (نصوص)، ص 194 - 196. والكراسة في 12 صفحة بالفرنسية، وتاريخها حوالي 1883.

ص: 254

طنجة حيث كان مدرسا في المدرسة العربية - الفرنسية هناك. وكلاهما كان يتغنى بالجيش والراية الفرنسية سنة 1916 (1). إن المرء عندما يقرأ مثل هذا الكلام ويطلع على مواقف أصحابه يدرك لماذا اعترف أوغسطين يرك أن فرنسا كانت تضع في مدارسها ومساجدها جواسيس ومخبرين، وليس أيمة ومدرسين.

إن الأمثلة كثيرة على ميلاد الفئة الاندماجية المستغربة والمتفرنسة. بدأت الدعوة محايدة تدعو إلى العلم دون معرفة الخلفيات، وبدت معجبة ومبهورة بالتقدم الفرنسي دون أن تعرف المسخ الذي حدث لها ولا أن تحدد موقفها من التاريخ والمستقبل، ثم ازداد الانبهار والاختلاط وكثر العدد وتجاوبت الأصداء، فجاهرت الفئة بأنها تمثل شريحة اجتماعية مستعدة للاندماج دون انتظار للحاق الآخرين. وكان عليها منذ العشرية الأولى لهذا القرن أن تفرض وجودها أمام تحدي النخبة الحقيقية المتعلمة والمؤمنة بالتقدم مع التمسك بالثوابت والأصول أيضا. وبعد تسييس الصراع وتحزيبه بين الحربين لبست الفئة الاندماجية المستغربة لباسين: أحدهما سكوني اندماجي، يضم المتجنسين منهم خاصة، وثانيهما حركي اندماجي أيضا ولكن غير متجنس. ولعل خير من يمثل الأول هو ربيع الزناتي، وخير من يمثل الثاني هو الدكتور محمد الصالح بن جلول (2). وإذا كان الدكتور ابن جلول معروفا لمن درس قليلا من تاريخ الحركة الوطنية خلال العشرينات والثلاثينات، فإن الزناتي غير معروف إلا لعدد قليل من الناس اليوم.

ربيع الزناتي: عرف اسم الزناتي كمعلم وصحفي خلال عقدين من الزمن على الأقل. وعاصر أبرز أحداث الجزائر كين الحربين: حركة الأمير خالد، وميلاد النجم، وميلاد هيئة النواب، والاحتفال المئوي، وميلاد

(1) مجلة العالم الإسلامي، 1916، ص 67، 352.

(2)

انظر كتابنا الحركة الوطنية، ج 3.

ص: 255

جمعية العلماء، وظهور الحركة الشيوعية، وانعقاد المؤتمر الإسلامي، وفتوى ابن باديس ضد التجنس. كما عاصر عن كثب تطور الفرد الجزائري في المدارس الفرنسية - الأهلية بعد انتشار حركة التعليم، سواء على يد الإدارة الفرنسية أو على يد الحركة الاصلاحية. فقد كان هناك إنسان جزائري بصدد الميلاد، وهو (الزناتي) كمعلم ومثقف، كان يدرك ذلك ويلاحظه. وقد أصدر مذكراته أثناء حياته، وهى تعبر عن تجربته الطويلة فى الميدان. كما تعلم من الصحافة الشيء الكثير، لأنها مدرسة في حد ذاتها.

ولكن الزناتي كان من المؤمنين المفرطين بالاندماج والمأخوذين بالتأثير الفرنسي حتى لم يعد يرى الجزائر في غير الإطار الفرنسي. ولعل ذلك راجع إلى كونه من المتعلمين بالفرنسية الموجهة وإلى كونه أيضا من المتجنسين. ولد الزناتي في عين الحمام (فور ناسيونال) في تاريخ لا نعرفه الآن. وتلقى تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه. ونحن نعلم من تاريخ التعليم أن منطقته كانت مستهدفة منذ السبعينات للتأثير الفرنسي الديني والدنيوي أكثر من غيرها من المناطق. ولا ندري الآن هل درس الزناتي في المدرسة الأهلية - الفرنسية أو في مدرسة الاباء البيض هناك. والغالب على الظن أد درس بعد ذلك في مدرسة ترشيح المعلمين في بوزريعة في القسم الخاص بالمعلمين الأهالي. ثم مارس التعليم منذ أوائل القرن. ولا نعلم الآن ما إذا كان الزناتى قد جند للخدمة العسكرية أيضا خلال الحرب العالمية الأولى. وبالإضافة إلى التعليم تولى أيضا إدارة مدرسة ابتدائية - أهلية. ثم تقاعد منها سنة 1938.

في سنة 1929 (عشية الاحتفال المئوي) أنشأ الزناتي جريدة اسبوعية في قسنطينة، بعنوان (الصوت الأهلي)، وأضاف إليها عنوانا فرعيا يفسر مقصودها وفلسفتها وهو (جريدة الاتحاد الفرنسي - الإسلامي). والمقصود بالاتحاد هنا هو ما جرى على الألسنة باسم (الاندماج). أما كلمة الإسلامي فتعني المسلمين الجزائريين في مقابل الفرنسيين الأوروبيين. اسم الجريدة (الصوت الأهلي) اسم في حد ذاته معبر على روح الفترة. فالأهالي كانوا

ص: 256

مسحوقين وفي حاجة إلى من يسمع صوتهم للسلطات الفرنسية وللعالم، وإلى من يفهمهم حقوقهم الضائعة المسلوبة، ويدافع عنها ضد غاصبيها. ولكن هل الزناتي وفئته المستغربة كانوا مؤهلين للقيام بهذا الدور؟ يبدو أن الأمر ليس كذلك. فقد كان الزناتي يدافع عن حقوق فئته، ويدعو إلى الاندماج (الاتحاد) المنشود، ويهاجم خصوم فئته. تقول عنه (أفريقية الفرنسية): إن الزناتي قد شارك في الحياة السياسية في ولاية قسنطينة بل في الجزائر كلها. ودعا إلى الاندماج وأعلن أنه بطل المنتخبين (بالفتح) الذين يسايرون هذا المنهج. وقد انسحب منهم يوم أن حاول بعضهم الانحراف عن البرنامج المسطر للاندماج (1). كما أن الزناتي جعل افتتاحية العدد الأول من جريدته بعنوان (يجب أن تصبح الجزائر فرنسية).

كان الزناتي إذن يجمع السياسة إلى الصحافة. وكان يخوض المعارك الحزبية والفكرية ضد خصومه. واستمر على ذلك بعد تقاعده. وتقول (افريقية الفرنسية) إن الأفكار العزيزة على نفسه والتي ظل يدافع عنها هي (الاتحاد الفرنسي - الإسلامي) من خلال جريدته. وأخبرتنا أنه لم يستطع أن يظل بعيدا عن السياسة، لأن معرفته العميقة بالمشاكل الجزائرية وثقافته الفرنسية (ذات اللغة العملية) وصلته بالتعليم الذي نور ذهنه وأدخله إلى أعماق النفس المحلية، قد جعلته يعالج الموضوع باستقلال، هادفا إلى تحقيق الاتحاد الفرنسي - الإسلامي الذي كرس له كل حياته.

وفي سنة 1938 نشرت (أفرقية الفرنسية) سلسلة مقالات هي فصول كتاب الزناتي المسمى (المشكل الجزائري كما يراه أحد الأهالي). واعتبرت الكتاب وثيقة تاريخية وشهادة، لأنه تعرض فيه إلى التاريخ، وسياسة

(1) لعل المقصود بذلك ابن جلول وفرحات عباس، لأن كل واحد منهما كون حزبا سنة 1937. انظر الحركة الوطنية. ج 3. ويضاف إلى ربيع الزناتي مجموعة أخرى من الاندماجيين وهم: بلحاج الذي كان أستاذا للشريعة في مدرسة الجزائر، وقد لعب دورا بارزا في المؤتمر الاسلامي، سنة 1936، ثم ايبازيزن بلقاسم، وسعيد الفاسي، وزنتور، والدكتور ابن التهامي، والحاج حمو عبد القادر (عبد القادر فكري).

ص: 257

الاحتلال، وطريقة التعاون بين الجزائريين والفرنسيين، والنخبة والعراقيل التي تقف في وجه فرنسة الجماهير الأهلية. كما تعرض الكتاب للحركة الدينية والتعليم، والقضية اليهودية، وكذلك الاصلاحات الإدارية التي تمت أو التي كان يتصورها. ومع ذلك قالت (أفريقية الفرنسية) إنه كتاب، رغم نشره فيها مسلسلا ورغم الإشادة به، ليس كتابا فوق النقد، لأن صاحبه، في نظرها (أهلي جزائري، وفرنسي من أقليم فرنسي، ومواطن فرنسي)، وهي تعني بـ (مواطن) أنه متجنس. وانتقده الكاتب بأنه من خلال تلك الصفات كان الزناتي غير ملم بكل جهود فرنسا في الاستعمار (الاستيطان) الذي لا يقدره الزناتي حق قدره (1).

سعيد الفاسي: أصبح الفاسي من أبرز كتاب النخبة الاندماجية بين الحربين. فقد كان معلما مدة طويلة وصحفيا وعماليا نشيطا ومؤلفا. وكل ذلك جعل منه متكلما قويا باسم هذه الفئة، رغم وصفها هي بالمستضعفة أو المسكينة. كان الفاسي من شباب زواوة وقد تخرج، مثل الزناتي، من المدرسة الفرنسية المبكرة هناك. ونقول عنه هنا ما قلناه عن زميله، وهو أننا لا ندري هل هو خريج المدارس الكنسية (الآباء البيض) أو العلمانية. ومهما كان الأمر فقد سار على نفس الدرب، فدخل مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) في بوزريعة. ثم أصبح من المعلمين. وقد نشر مذكراته كمعلم أهلي خلال العشرينات. ويبدو أن الفاسي وزملاءه كانوا يشعرون بالحرج من جهة مجتمعهم والاستخذاء إزاء الفرنسيين، لذلك نعتوا أنفسهم (بالمستضعفين). وكان الفاسي متحمسا للاندماج الذي كان يراه الخلاص الوحيد من حالة الاستضعاف رغم أنه كان متجنسا (2).

وكان الفاسي متضايقا من معاملة نقابة المعلمين الفرنسيين لأمثاله.

(1) أفريقية الفرنسية. A.F.S (الملحق)، ابتداء من شهر إبريل 1938. انظر أيضا فرنسا البحر الأبيض وأفريقية. FRANCE MID. ET AF، رقم 1، 1938، ص 170.

(2)

فيتز جيرالد، (المعلومون الجزائريون) في وقائع الملتقى الثاني للجمعية التاريخية الاستعمارية الفرنسية، ميلواكي (ويسكنسن)، ابريل 1976، ص 158? 159.

ص: 258

فقرر انشاء جمعية أو نقابة للمعلمين الأهالي خلال 1921، وصادف ذلك ظهور حركة الأمير خالد وظهور بعض الصحف الأهلية مثل الإقدام والنجاح. وقيل إن الشرطة قد عاكست هذه الجمعية وحاولت إعاقتها عن العمل، وعارضتها السلطات الرسمية. وبعد سنة اقترح الفاسي على الأعضاء إنشاء صحيفة تعبر عن آرائهم وموقفهم مما يجري حولهم ومن مستقبلهم، فكان أول عدد من مجلة (صوت المستضعفين) في مايو 1922. وقد قدر لها أن تستمر ثماني عشرة سنة، وكانت قد بدأت شهرية ثم تحولت إلى نصف شهرية. ويقول هذا المصدر إن الفاسي قد أنشأها وحده، ولكن مالك بن نبي يقول إن الذي أنشأها هو طاهرات الذي كان من (أمناء الروح العلمانية)، حسب تعبيره (1).

وخلال العشرينات كانت الأطروحة الوحيدة الرئيسية التي تعالجها المجلة هي الاندماج. فقد كانت تدعو الجزائريين (الأهالي) إلى اليقظة والتعلم وتطوير أنفسهم، وتدعو الأوربيين (الفرنسيين) إلى القيام بواجباتهم نحو الأهالي، وذلك بأن يرفعوهم إلى مستواهم. وتساءلت افتتاحية المجلة: هل ذلك حلم؟ وأجابت بأنه غير حلم، بل يجب أن يكون واقعا. وقالت المجلة إنه إذا تحقق ذلك فسيكون الجزائريون (امتدادا) لفرنسا عبر البحر الأبيض، وطالبت أن يكون الاندماج كاملا، قائلة إنه إذا بقيت بعض الجماعات متمسكة بدينها (غير متجنسة) وعاداتها فمن الممكن أن تصبح أيضا فرنسية، تعمل على تشكيل شعب فرنسي محض على هذه الأرض الجزائرية، وليس فقط إنشاء حضارة لاتينية، كما دعا إليها الكاتب لويس بيرتراند. وكان هدف (صوت المستضعفين) إذن هو التقارب والاندماج ومزج الأجناس في الجزائر من خلال التعليم والتفاهم والزواج المختلط لإنتاج جيل راق من الجنسين: الجزائري والفرنسي.

(1) مالك بن نبي (الطفل)، ط. دمشق، دار الفكر، 19، ص 52.

ص: 259

ولو سئل الفرنسيون الأولون (كلوزيل وبوجو

) ماذا كنتم تطمحون إليه من وراء إرسال الجزائريين إلى فرنسا وما هي رسالتكم في الجزائر بعد ذلك لما زادوا كثيرا عما عبرت عنه (صوت المستضعفين) بعد حوالي قرن. فقد بلغت الدعوة إلى الاندماج أوجها خلال الثلاثينات مع مشروع فيوليت، ثم أخذت تنهار أمام الوعي الوطني وفتوى ابن باديس ضد التجنس وانتشار التعليم. ويذهب مالك بن نبي إلى أن النخبة الاندماجية قد امتازوا عن سواهم بفضل ثراتهم أو اتصال آبائهم بالإدارة، مما سهل عليهم دخول الثانويات. وقد أخذ معظم خريجي المدارس الشرعية الثلاث ينقضون عن النخبة الاندماجية لصلة خريجي هذه المدارس بالقضاء الإسلامي من جهة، ولانتمائهم الديني الذي (يأخذ بهم في قليل أو كثير)(1).

محمد صوالح: المعلومات التي نملكها حتى الآن عن محمد صوالح قليلة. ويبدو أنه كان من خريجي المدارس الشرعية الفرنسية (أو الليسيه) ومن المتحمسين للاندماج، ولكننا لا نعرف ما إذا كان قد تجنس. وكتاباته تدل على أنه كان أقرب إلى الاستشراق منه إلى مؤلف مسلم. وربما كان من مواليد مستغانم. وكان على اطلاع بأحوال (المجتمع الأهلي) حسب التعبير الفرنسي عندئذ، فكانت كتاباته كلها تقريبا تصب في تعريف الفرنسيين بخواص وخصائص هذا المجتمع من تقاليد ودين وعقائد وتاريخ فولكلور.

وأول إشارة وجدناها عنه وهو معلم في مدرسة ترشيح المعلمين (النورمال) سنة 1907 حين كتب مقالة في المجلة الافريقية عن الصوم عند المالكية مستخرجا ذلك من رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان عمله في الأساس ترجمة للجزء الخاص بالصوم من الرسالة، ثم ملاحظات وتعاليق حول شهر رمضان في الجزائر استقاها من تلاميذه. ومن رأيه أن رمضان في

(1) مالك بن نبي (الطفل)، ص 153. ولنشر إلى أن للفاسي بعض المؤلفات التي تاولناها في جزء آخر. يبدو مالك بن بني لينا مع خريجي المدارس العربية - الفرنسية لأنه منهم. ولعله كان يقيس الأمر على نفسه.

ص: 260

الجزائر يجدد المشاعر الدينية التي يبدو أنها تنام خلال بقية الشهور بحكم اتصال المسلمين بالأوروبيين، وشيوع الشك بينهم (؟)(1).

أما الإشارة الأخرى التي وجدناها عن صوالح والتي لا علاقة لها بالتعليم فهي عضويته في الجمعية التاريخية التي كانت تصدر المجلة الافريقية. ففي سنة 1900 استقبلته الجمعية عضوا فيها. وكان عندئذ معلما في مدرسة ترشيح المعلمين (2). ومن العادة ألا تقبل هذه الجمعية في صفوفها إلا المخلصين للقضية الفرنسية. ولم تكن تبحث عن الكفاءات في حد ذاتها.

وفي 1915 كان صوالح في بوردو بفرنسا. والظاهر أنه كان من المجندين في الحرب، وكان برتبة رقيب، وكان يعمل في مصلحة الترجمة وربما كان ملحقا بالجنود الجزائريين لرفع الروح المعنوية فيهم والتأثير عليهم حتى لا ينضموا إلى الألمان والعثمانيين. وأثناء ذلك التقى بالجندي والشاعر الشعبي مصطفى الثابتي وسجل له قصيدة شعبية حول مشاركته في الحرب والتعبير عن مشاعر الجنود عندما انتقلوا من بيئة ريفية جزائرية إلى بيئة غريبة عنهم. وقد ترجم صوالح ذلك الشعر ونشره سنة 1919 (3).

وبعد نضج المعارف وتبدل الأحوال السياسية بين الحربين وجدنا محمد صوالح في الليسيه الفرنسي استاذا مبرزا ودكتورا في الآداب. كما تولى التدريس في مدرسة التجارة والمعهد الفلاحي. ولا ندري لماذا لم يسمح له عندئذ بالتدريس في كلية الآداب إذا كان قد تخرج منها. ومهما كان الأمر فإنه غداة الاحتفال المئوي نشر صوالح كتابه الذي ربما اشتهر به أكثر من غيره وهو (المجتمع الأهلي في شمال افريقية)، وكان احتلال الأقطار الثلاثة للغرب العربي قد جعل صوالح يقدم عمله جامعا في تاريخ وحياة هذه الأقطار. وكان الكتاب في الواقع موجها لطلابه في الثانوية (الليسيه)، وهو

(1) المجلة الافريقية 1907، ثم علقت عليه مجلة العالم الإسلامي 1907، ص 623.

(2)

المجلة الافريقية، 1900، ص 96.

(3)

المجلة الافريقية، 1919، انظر أيضا فصل الشعر.

ص: 261

باللغة الفرنسية (1). ولم نطلع لصوالح على كتابة بالعربية رغم أنه عاش في مرحلة رجعت فيها الروح للثقافة العربية بعد ظهور الحركة الاصلاحية وصدور الصحف ذات الاتجاهات المختلفة. وكتابه المذكور يذكرنا بكتاب إسماعيل حامد (مسلمو شمال افريقية)، ولكن شتان بين الرجلين والكتابين في التكوين والفهم. ويبدو لنا أن حامد كان أكثر أصالة في آرائه وأبعد رؤية من زميله، رغم أن كليهما من نفس المدرسة تقريبا.

لقد تبين أن الترجمة لعبت دورا حيويا في دعم الاحتلال، وأن الجانب الأكبر منها كان يتمثل في نقل التراث العربي الإسلامي (بما فيه التراث الشفوي) إلى الفرنسية. أما الترجمة إلى العربية فقد كانت ضعيفة جدا حجما وأسلوبا. وكانت إعلامية أكثر منها تثقيفية، وقام بها في الغالب جزائريون كان لهم رصيد من التراث أو درسوا دراسة مزدوجة، فلم يفيدوا اللغة العربية، وإنما كانت أعمالهم موجهة إلى المعلمين في معظم الأحيان. وتبين أيضا أن الجزائريين ساهموا في عملية الاندماج الحضاري الذي كان الفرنسيون قد خططوا له، وشاركوا في البعثات الفرنسية نحو افريقية، وقدموا خدمات جليلة للمستشرقين والعسكريين. ولكن دورهم ظل مغمورا. وقد كشف بعض الباحثين المتأخرين مثل الآن كريستلو وكانيا فورستر عن هذا الدور وأنصفوهم. ونعتقد أن ميدان الترجمة ما يزال في حاجة إلى دراسة شاملة.

وفي دراستنا لمشاركة الجزائريين في الجمعيات الفرنسية بالجزائر وجدنا أسماء منهم في الجمعية التاريخية مثل اسماعيل بوضربة وأحمد عطشى ومحمد صوالح. والجمعية الجغرافية مثل أحمد بن مجقان وعبد الرزاق الأشرف. وفي العشرينات (عشية الاحتفال المئوي) نشرت مجلة (روكاي) التي كانت تصدر بقسنطينة أسماء لإثنين وعشرين جزائريا باعتبارهم

(1) مطبعة كاربونيل، الجزائر، 1934.

ص: 262

أعضاء في جمعيتها. وأقدمهم عضوية فيها ترجع إلى سنة 1921 فقط (بعد سبعين سنة من صدور المجلة) وهو مولود بن باديس الذي كان محاميا. وقد اشتملت القائمة على ذكر عدد من المهن مثل المحاماة والطب والصيدلة والتجارة والقيادة والنيابة والتملك بالأرض والترجمة، ومراقبة البريد والقضاء والطب في الحرب. ومن المترجمين نجد علي خوجة عباس، وخليل بن خليل. وليس بين الجزائريين أحد في الرئاسة الشرفية ولا المكتب ولا أعضاء الشرف، وإنما نجد واحدا فقط في لجنة المخطوطات وهو ابن الفكون (1). وهؤلاء جميعا كان يعتبرهم الفرنسيون من البرجوازية الأهلية أو الانتلجنسيا.

وفي منتصف الخمسينات من هذا القرن نشر غوستاف ميرسييه فصلا في كتاب طبع تحت إشراف الحكومة العامة، اعترف فيه بجهود بعض العلماء المسلمين (الجزائريين) في الجمعيات الفرنسية. وذكر أسماء أحد عشر منهم، ثم قال إن هناك (غيرهم كثير)، واعترف بأن لهم ا (ثقافة فرنسية/ إسلامية وروحا للبحث جعلت منهم أمثلة ممتازة). وإذا كانت أسماء مثل محمد بن أبي شنب وسعد الدين بن أبي شنب (ابنه) وبلقاسم بن سديرة، ومحمد الحاج الصادق، وأبي بكر عبد السلام، ومحمد صوالح معروفة، فإننا لا نعرف الآن الجهود (العلمية) التي قدمها سليمان رحماني، ومحمد الأخضر، والعربي المسعودي وعبد الحميد حميد، وعبد السلام مزيان (وجميعهم مذكورون في القائمة). ومن جهة أخرى نوه ميرسييه بأعمال بعض الرسامين والفنانين، ومنهم محمد راسم صاحب المنمنات (2). وهذا اعتراف متأخر جدا من الفرنسيين بجهود الجزائريين في البحث والفن. فقد جاء عندما كانت الثورة على أشدها.

لقد توقع لورى بوليو سنة 1886 أن يشهد فاتح القرن العشرين بين

(1) انظر مجلة (روكاي)، قسنطينة، 1930. ولعله هو ابن أو حفيد أحمد الفكون الذي تحدثنا عنه في هذا الفصل والذي قلنا إنه كان متجنسا. انظر أيضا عنه المكتبات.

(2)

غوستاف ميرسييه (اكتشاف الجزائر العلمي) في كتاب (مدخل إلى الجزائر) نشر الحكومة العامة، 1957، ص 331.

ص: 263

العشرين والثلاثين ألفا من الجزائريين الذين تلقوا تعليما فرنسيا متطورا (1). ولكن ذلك كان رأيا متفائلا منه. ففي سنة 1914 كان العدد دون ذلك بكثير. وإليك الإحصاء الذي جاء في بعض المؤلفات الفرنسية في السنة المذكورة:

- المعلمون: 240 (يضاف إليهم 16 معلما في المدارس الشرعية الثلاث).

- الاحتياطيون الطبيون: 65.

- المحامون والأطباء: 25 (وهو عدد ضعيف جدا إذا عرفنا أن الدراسات العليا بدأت منذ 1880).

- المفتون والأئمة والمدرسون: 170 (وهم رجال السلك الديني الرسمي).

- القضاة والموثقون: 150 (بعد أن استولى القضاة الفرنسيون على اختصاصات القضاة المسلمين).

- وظائف قضائية أخرى: 100 (وهم الباش عدول، والعدول، والوكلاء، والخوجات)(2).

وفي إحصاء آخر متأخر قليلا نجد بعض المئات - حسب تعبير علي مراد - من الصحفيين والمحامين والأطباء والمعلمين وحملة دبلوم المدارس الشرعية الرسمية. وأما الطلبة والمشتغلون بالتعليم فكان عددهم بين 1920 - 1921 كما يلي (3):

- الطلبة: 47.

- المترشحون للتعليم (النورماليون): 51.

- المعلمون: 451.

(1) بوليو (الجزائر)، ص 290. ومن أجل ذلك نادى بمنح هذه الفئة الحقوق الفرنسية ما داموا قد (خدموا وطننا وتلقوا تعليمنا ويتكلمون لغتنا) حسب تعبيره

(2)

كولونا (المعلمون)، مرجع سابق، ص 92، هامش 2، نقلا عن آجرون.

(3)

علي مراد (الإصلاح الإسلامي)، ص 48 عن سجل الإحصاءات العامة الرسمية.

ص: 264

ومن الواضح أن مصطلح النخبة الاندماجية لا يشمل كل من درس في المدارس الفرنسية فما بالك من درس في المدرسة الشرعية الرسمية (المزدوجة). وقد أشار مالك بن نبي وعلي مراد وغيرهما إلى بعض الأمثلة التي كان فيها المتخرجون تقليديين، ومضادين للاندماج، ومنهم من بحث عن البديل الفكري في الجامعة الإسلامية والتيار القومي العربي، ومن ثمة الحركة الإصلاحية والتوجه السياسي الوطني. ويذكر علي مراد أن عددا كبيرا من المعلمين بقوا محافظين على ملابسهم التقليدية إلى آخر 1939 تحديا للمظاهر الفرنسية المفروضة. ولعل هذا الوصف يصدق أكثر على خريجي المدارس الشرعية الرسمية. ونحن نجد أمثلة على ذلك في مذكرات ابن نبي وهو أحد الخريجين من هذه المدارس (1).

ومنذ الحرب الثانية انجحرت حركة الاستغراب وانكشف أمرها، وكان عليها أن تغير جلدها أو تموت، والعوامل التي أدت إلى انجحارها هي انقسامها على نفسها وخروج فرحات عباس وأنصاره الذين تحولوا من الاندماج الكلي إلى نوع من الاندماج السياسي، سيما منذ 1943. وكان ظهور (حزب الشعب) قد كشف عن المنحرفين وضم إلى صفوفه عددا من المتعلمين بالفرنسية مما أصبح يعني أن الفرنسة لا تعني الاندماج دائما، بل تخدم أيضا الفكر الوطني السياسي عند البعض. ولكن الذي قصم ظهر حركة الاستغراب هو الحركة الاصلاحية التي كشفت عن هوية المجتمع الجزائري ودافعت عنها وصقلتها، وقدمتها في الصحافة والخطب والأناشيد والكتب فاهتدى بها من اهتدى وبقي الضالون قلة متوارية لا تجروء على المواجهة إلا في حالة غفلة شعبية، كما حدث بعد الاستقلال.

ولكن هل يعني هذا أن حركة الاندماج قد انتهت؟ إن الثورة قد أدت

(1) علي مراد (الإصلاح الإسلامي)، ص 49. ومالك بن نبي (المذكرات: الطفل) مرجع سابق، ص 52، 129.

ص: 265

إلى صهر الشعب الجزائري وإخراجه في بوتقة جديدة. هذه حقيقة لا ينكرها إلا المكابرون. ولكن بعض العناصر منه ظلت مرتبطة بولاءات عديدة كالأصول العائلية العميلة، والزواج المختلط، والثقافة الفرنسية غير الواعية، والمصالح العاجلة. وهذه العناصر لها امتداداتها وأدواتها ونفوذها. ولذلك فهي تؤثر وتفرض نفسها وحلولها رغم تغير مفهوم الاندماج اليوم. ويرى البعض أن حزب الشعب نفسه قد دخله اندماجيون كثيرون، وهم الذين انحرفوا بالثورة عن مسارها سيما منذ مؤتمر الصومام، 1956 حين رفعوا شعار العلمانية وعدم التناقض بين الوطنية والفرنكفونية والاقتراب من الشيوعية. ونحو ذلك من الشعارات البعيدة عن الأصالة والهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري.

ص: 266