المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والإعلامي الأوروبي (1)، وأمام الضعف والانقسام العربي والتخلف العلمي وقلة - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٦

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌الفصل الأولالاستشراق والهيئات العلمية والتنصير

- ‌الاستشراق ومراحله

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌ مدرسة الآداب

- ‌أعمال المستشرقين

- ‌حياة بعض المستشرقين والمستعربين

- ‌اللجان العلمية

- ‌لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر:

- ‌لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال:

- ‌الجمعيات المتخصصة

- ‌المعاهد الجامعية

- ‌البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها

- ‌الكنيسة والتنصير

- ‌نشأة الأسقفية

- ‌الأسقف بافي:

- ‌ لافيجري

- ‌شارل دي فوكو:

- ‌النشاط التنصيري منذ 1930:

- ‌الفصل الثانيالترجمة وظهور النخبة الاندماجية

- ‌مترجمو الحملة وغداتها

- ‌تنظيم فرقة المترجمين

- ‌المترجمون الجزائريون

- ‌تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة

- ‌الترجمة إلى العربية

- ‌الاتجاه الاندماجي - الاستغرابي

- ‌الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي

- ‌أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا

- ‌دعاة التعلم باللغة الفرنسية الأوائل

- ‌نماذج من المثقفين والاندماجيين

- ‌الفصل الثالثمذاهب وتيارات

- ‌(نعمة) الاحتلال

- ‌رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل

- ‌رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين

- ‌(فرق تسد)

- ‌معاداة العرب

- ‌ومعاداة البربر

- ‌التآمر على زواوة

- ‌الدعوة إلى تعلم الفرنسية ..وإلى التعلم عموما

- ‌وضع المرأة

- ‌الهجرة أو البقاء

- ‌الاندماج، التجنس، النخبة

- ‌الجزائر في الكتابات الفرنسية

- ‌اليهودية والصهيونية

- ‌الماسونية

- ‌الإسلام ووحدة الأديان

- ‌المثالية والاشتراكية

- ‌ إسماعيل عربان

الفصل: والإعلامي الأوروبي (1)، وأمام الضعف والانقسام العربي والتخلف العلمي وقلة

والإعلامي الأوروبي (1)، وأمام الضعف والانقسام العربي والتخلف العلمي وقلة الوعي بالمستقبل عند المسلمين. وماذا يجدي تسجيل المواقف والكتابات والآراء والحال في هذه السنة (1994) يكاد يكون هو الحال سنة 1914 عند العرب وعند المسلمين على السواء. وقد وقعوا جميعا (في مخالف اليهود) كما تنبأ عمر راسم؟.

‌الماسونية

قد يبدو غريبا عليك أن تعرف أن بعض الجزائريين دخلوا الماسونية قبل الاحتلال الفرنسي وأن البعض قد ادعى أن هناك (ماسونية عربية) في الجزائر قبل الاحتلال أيضا. ولكن دعنا قبل كل شيء نتحدث عن مبادئ الماسونية، وعن محفل الشرق الفرنسي الذي كان له دور في نشر الماسونية في الجزائر.

والواقع أن الماسونية كانت لها محافلها في عواصم أوروبا، مثل لندن ودبلن وروما وباريس. وكانت محافلها (ورشاتها) سرية. وبالنسبة لفرنسا فقد قيل إن نابليون الأول لم يلغ الورشات أو يحل المحافل الماسونية، ولكنه جعل عليها رقابة مشددة. وكان يهدف إلى الاستفادة منها في مشاريعه في التوسع والهيمنة ومراقبة نشاط الكنيسة الكاثوليكية. ومن أعظم المحافل الأوروبية (محفل الشرق) الذي نشط في مصر والجزائر. وكان شعاره هو شعار الثورة الفرنسية. وهو الحرية والأخوة والمساواة، مع تمجيد المسيحية والتقدم والتسامح. وقد نص البند الأول من قانونه الأساسي على أن الماسونية مؤسسة خيرية وفلسفية وتقدمية، تقوم على وجود الله وخلود الروح، وتعمل على ممارسة العمل الخيري ودراسة الأخلاق والعلوم

(1) سيما بعد صدور التصريح الفرنسي (كامبون وبيشون)، والتصريح الإنكليزي (وعد بلفور) بدعم مطالب الحركة الصهيونية، ومنها إقامة وطن قومي لليهود. انظر مقالنا التصريحات الفرنسية المؤيدة للصهاينة سنة 1917. أرسلناه للنشر.

ص: 407

والفنون، وممارسة الفضائل. وجاء في بند آخر أن على الأعضاء الالتزام بالأخلاق الكريمة والعقلنة من أجل السعادة البشرية. ونص أحد البنود أيضا على أن الوصول إلى ذلك يستلزم احترام الضمير الفردي وتوظيف الدعاية السلمية من أجل إضاءة الروح والانسجام القلبي. ويدعى أحد البنود أيضا أن الماسونية لا تحاسب العضو فيها على قناعته حول الأديان بل إنها تمنع في اجتماعاتها النقاش في المسائل الدينية منعا باتا. وسنرى أن هذا الموقف غير صحيح دائما. كما يدعي أن الماسونية لا تسمح بمناقشة المسائل السياسية في اجتماعاتها، ولا تتدخل مباشرة في تطبيق النظريات السياسية وأشكال الحكومات المختلفة وتأثيرها على الأوضاع القائمة. والماسونية تطلب، حسب بعض بنودها، من المنتمين إليها احترام القوانين السائدة في البلدان التي يقطنونها. كما تلزم الماسونية أيضا أعضاءها بالعمل، كل حسب طاقته، لأنها تعتبر العمل من واجبات القوانين الإنسانية. والمطلوب من كل عضو ماسوني أن يقدم لغيره المساعدة في مختلف المناسبات.

هذه مبادئ وتعاليم عامة للماسونية، وهي تبدو إنسانية، ومن ثمة فهي لا تختلف كثيرا في المعاملات عن تعاليم الأديان. وتبدو الماسونية في هذا الشكل مغرية للفئات المؤمنة بالحرية والأخلاق والإنسانية وحرية الضمير الفردي والتسامي في الفضائل والعمل من أجل السعادة العظمى في هذه الدار. ورأينا أن الماسونية تقطع كل عرق للخلافات المفرقة بين الأعضاء كالنقاش الديني والسياسي. وهذا أيضا وجه آخر من أوجه الانسجام والأخوة.

غير أن الماسونية النظرية غير الماسونية العملية. ذلك أنها من الناحية العملية كانت لا تختلف عن بعض النظريات والمذاهب الأخرى كالرومانتيكية والمثالية (السانسيمونية) والحركة الإنسية وحتى الليبرالية. فقد كان أعضاؤها يؤمنون بالاستعمار ويزكونه وينتصرون إليه، وما رأيك في أن المارشال بوجو كان عضوا شرفيا في الماسونية. وأن الاستعماري الكبير البارون دي فيالار كان عضوا بارزا فيها. وهناك الكثير من الأعضاء كانوا في الإدارة الاستعمارية والبلديات والتجارة والجيش، بل إن معظم المؤسسين لفرع الجزائر

ص: 408

الماسوني، كما سنرى، كانوا من الضباط البارزين في الجيش الفرنسي، ثم تغلب الأعضاء البرجوازيون في المحفل على عدد العسكريين.

ومن جهة أخرى كانت الماسونية نسخة وفية من بعض الأديان ومن المسيحية وتعاليمها الفاضلة، كما قيل. وقد خاطب عضو بارز في (محفل بيليزير) الذي سنتحدث عنه، زملاءه قائلا:(إن الماسونية ليست سوى التطبيق الفعلي لتعاليم المسيح عليه السلام الفاضلة: (إن كلكم أخوة والله هو خالقكم). وقد علق السيد ياكونو بأن الماسونية كانت تريد أن تكون مدرسة للأخلاق في الأساس، ولكنها أخلاق دينية، وبالضبط هي الأخلاق المسيحية (1). ويبدو لنا أن الماسونية، وإن كانت في ظاهرها مسيحية فإنها مؤسسة على تعاليم أخرى ومنها اليهودية، ولكنها كانت مغلفة في المسيحية لأنها كانت هي الدين المقبول في أوروبا عندئذ.

ومنذ توطنت الماسونية في الجزائر عملت، كغيرها من المؤسسات الاستعمارية، على محو الحضارة العربية الإسلامية وتذويب القيم الشعبية في الحضارة الأوروبية (الفرنسية)، وأقامت دعوتها، كغيرها أيضا من التيارات الواردة، على أن الجزائريين كانوا برابرة متوحشين، وأن أمامها هي مسؤولية عظيمة، وهي دمج المنهزمين (الجزائريين) في المنتصرين. وقد اعتبر الماسونيون أن الحملة الفرنسية نفسها بركة وسعادة، وأنها قد نزلت على الأرض البربرية باسم الحضارة والتقدم والتسامح (2).

(1) ياكونو (بدايات الماسونية في الجزائر) بحث موثق ومصور منشور في المجلة الإفريقية، 1959، ص 289 - 291، 293. انظر أيضا نفسه (الجزائر منذ 1830) في المجلة الإفريقية، 1956، ص 179، وهامش 129. ورغم هذه البداية (الدينية) فإن النصوص الصادرة عن محافل الجزائر تدل على أن الماسونية كانت (دينا) بذاتها، وأنها كانت تعادي الأديان عموما وتعتبرها سببا في التطاحن والعداءات والحروب. انظر يوسف مناصرية (بعض محافل الشرق الجزائري) في (مجلة الدراسات التاريخية) عدد 6، 1882، ص 161 - 165.

(2)

ياكونو (بدايات الماسونية) مرجع سابق، ص 63.

ص: 409

وهناك من ادعى أن أول اجتماع ماسوني عقد في الجزائر كان في سيدي فرج سنة 1830، وأن الذين حضروه من الجيش كانوا أعضاء في الحركة الماسونية. ومنهم الجراح الرسمي للجيش والمتصرف (دينييه) الذي قيل إنه دخل الماسونية سنة 1810. لكن السيد ياكونو يشك في عقد هذا الاجتماع الماسوني المبكر لأن الوثائق المعاصرة مثل جريدة (الاسطافيت) التي كانت الجريدة الأولى التي طبعت في سيدي فرج، لم تذكر شيئا عنه.

وأول نشاط ماسوني لا غبار عليه كان في دالي إبراهيم (ضاحية بالعصمة)، وقد قام به محفل سيرنوس الكورسيكي سنة 1831 - 1832، وهو محفل قديم كان الكورسيكيون قد أسسوه في جزيتهم في العشرينات من القرن الماضي. وكان مؤسسو محفل الجزائر الفرعي من العسكريين الكورسيكيين، وقد وسعوا نشاطهم ليشمل غير دالي إبراهيم أيضا. ثم غادرت فرقتهم العسكرية الجزائر سنة 1836 ولكن آثارها الماسونية بقيت بعدها.

أما المحفل الذي دام مدة طويلة وكان (جزائري) المنشأ فهو محفل بيليزير، وهو الفرع الرئيسي لمحفل الشرق الفرنسي، ففي 16 فبراير 1832 اجتمع أربعة عشر من الأعضاء الماسونيين في الجزائر وكانوا ينتمون إلى مختلف المحافل الفرنسية، اجتمعوا لإنشاء ورشة ماسونية، وانتخبوا (أخاهم) دانليون ليكون الرئيس الشرفي المحترم مدى الحياة (حسب تقاليدهم) وكان دانليون رجلا عسكريا برتبة جنرال. واختاروا أيضا اسما للورشة أو المحفل الجديد، وهو (بيليزير) ذلك الجنرال البيزنطي الذي نسبوا إليه كل الفضائل، كما قال ياكونو، وهو ما أثار استغراب البعض. أما الرجل الذي رأس المحفل عمليا، فهو (شيفرو chevrau)، وكان جراحا في الجيش. وعندما توفي دفنوه في ضاحية بئر مراد رايس.

بدأ هذا المحفل (بيليزير) إذن بالعسكريين، لكن كان فيه بعض التجار أيضا. وطلبوا الترخيص من محفل الشرق بإنشاء الفرع والقيام بالنشاط، فأذن

ص: 410

لهم وبارك عملهم، وعقدوا من أجل ذلك اجتماعا عاما في 22 مايو 1833 في العاصمة، حضره أكثر من 46 عضوا منهم عشرون عسكريا والباقون ينتمون إلى التجارة والمهن الحرة والوظائف. وكان نائب الرئيس هو الطبيب جيراردان. وليس من بين أعضائه جزائريون، بمن فيهم اليهود. وسرعان ما توسع نشاط محفل بيليزير، فبعد سنة واحدة وصل عدد أعضائه إلى 73 عضوا وكان فيهم من هو خارج العاصمة وضواحيها كوهران. ولكن شيفرو مات سنة 1834 فانتخبوا خليفته المسمى جاك ديسكو (أو ديكو) الذي دام في رئاسة المحفل إلى 1870 حين مات (1).

قام هذا المحفل بنشاط في صالح الاستعمار، رغم المبادئ والتعاليم المذكورة في بنود قانونه. فقد عمل على جزأرة نفسه باعتباره محفلا يعيش على الأرض الجزائرية، وكان وضعه يذكرنا بفرع الحزب الشيوعي الفرنسي في الجزائر خلال العشرينات والثلاثينات من حيث التبعية لغيره. وقد اعتبر المحفل الجنود الفرنسيين الذين سقطوا أمام أسوار قسنطينة في الحملتين (1836، 1837) جنودا سقطوا من أجل الشرف ومن أجل سعادة فرنسا. واستمع الأعضاء إلى دعوة زميلهم (أخيهم، حسب مصطلحاتهم) للاعتراف بجميل أولئك الجنود (الشجعان). وعند تأسيس المستعمرات الفلاحية أبدى المحفل ارتياحه وتأييده معتبرا ذلك عملا خيريا من حكومة الجمهورية الثانية (كان ذلك سنة 1848 - 1849) لصالح الجزائر (الفرنسية). وفي نظر الماسونيين ليس هناك تناقض بين الدفاع عن الاستعمار والدفاع عن الأهالي. فقد كانوا ينظرون إلى الجزائريين، كما أشرنا، على أنهم (برابرة) لم يذوقوا في حياتهم طعم الحرية ولم يمارسوا الانفتاح على الفلسفة، بل كانوا يعيشون في حالة جهل وعبودية. وقد أخبرهم شيفرو قبل وفاته أن الأرض الجزائرية بقيت في نظره خلال مدة طويلة في ظلام كثيف، (وهو رأي رجال الكنيسة أيضا) ولكنها تحتوي على عناصر ثمينة قابلة للتلقيح، وقد (جئتم أنتم

(1) ياكونو (بدايات الماسونية) مرجع سابق، ص 84 - 85، 87.

ص: 411

لإخصابها)! وقد طلب منهم العمل من أجل توجيه الأهالي نحو محفل الشرق الماسوني حتى يقع تمدينهم، لأن مهمة المحفل هي جلب سكان الجزائر (البرابرة) والمتعصبين إلى الحضارة وإدماجهم فيها. وكذلك دعا أحدهم، وهو لوازي Lowazy منذ 1833، إلى العمل على دمج المنتصرين والمنهزمين (1)(الفرنسيين والجزائريين) في بوتقة واحدة.

فكيف، مع هذا الأسلوب في المعاملة، سيدخل الجزائريون في المحفل الماسوني؟ يقول ياكونو إن الماسونيين لاحظوا أن العرب كانوا يبتعدون عنهم، كما لاحظوا أنهم كانوا يخشون بعضهم بعضا. ويبدو أن الماسونيين لم يفهموا نفسية الجزائريين، بمن فيهم المثقفون والتجار الذين حاربهم الفرنسيون بلا هوادة. إن هؤلاء هم الذين وقفوا في وجه الغزو الحضاري الذي يبشر به الماسونيون علنا، والذي يسمونه اندماجا وقضاء على حضارة المنهزمين. ولكي يسهل الماسونيون على الجزائريين الدخول في محفل (بيليزير) اقترح أحدهم (سنة 1839) أن يتاح للعرب الدخول في المحفل إذا وجد منهم من يعرف إلى جانب العربية والبربرية لغة أوروبية واحدة، وهي الفرنسية، أو الإنكليزية، أو الألمانية أو الإسبانية أو الإيطالية، وكانت له، مع ذلك، مؤهلات أخلاقية، وطلب صاحب هذا الاقتراح إعفاء العرب من الالتزامات الأخرى كدفع الاشتراك أثناء المراحل الأولى من دخول المحفل، على أن يصبحوا مثل بقية الأعضاء في وقت لاحق. لكن اقتراحه لم يتحقق، لأن الحرب اندلعت من جديد بين الجزائريين والفرنسيين (نوفمبر 1839)، وتبخرت الأوهام. وقد لاحظ ياكونو أن الماسونيين كانوا يتوجهون إلى الخاصة من الجزائريين وليس إلى العامة.

وفي سنة 1846 تقدم عضو آخر، وهو العقيد طاردو Tardo، بمشروع جديد لتسهيل إدخال الجزائريين في الماسونية. ويقوم اقتراحه على أن لا يطلب من المترشح الأهلي للعضوية سوى معرفة اللغتين العربية والفرنسية.

(1) ياكونو (بداية الماسونية)، مرجع سابق، ص 296 - 297.

ص: 412

فإذا أصبح عددهم كبيرا يكونون محفلأ خاصا بهم ولكن تحت إشراف محفل بيليزير. لكن وفاة هذا العقيد دفنت الاقتراح معه (1). وها نحن في أوائل الاحتلال مع الماسونية كما نحن بين الحربين مع الشيوعية تقريبا بالنسبة لوضع الجزائريين (2).

ولم تتحدث المصادر عن وجود جزائريين في محفل بيليزير سوى سنة 1848 أي في عهد الجمهورية الثانية، وبعد هزيمة الأمير عبد القادر. ففي جلسة 22 نوفمبر من هذه السنة حضر خمسة من الزوار وفيهم جزائري واحد من بجاية (لم يذكروا اسمه). وبين 1848 - 1850، استقبلت محافل فرنسا الماسونية عددا من الأعضاء المسلمين غير الجزائريين، وقد اعتبر ذلك فشلا لمحفل بيليزير (3)، لأن ما سمي (بالماسونية الإفريقية) لم تحقق هدفها، وربما بقي الحال كذلك حتى خلال القرن العشرين. ولعل ارتباط الماسونية بالاستعمار ومناهضة الحضارة الإسلامية له هو السبب في هذا الفشل.

وهناك من ادعى أن جزائريين قد دخلوا الماسونية قبل الاحتلال الفرنسي. وهم يشيرون إلى تجار (زاروا) بعض محافل فرنسا سنة 1785، 1786، كما وقع في محفل الشرق بمدية نانت. وقد قيل إن المدعو محمد

(1) انظر مشروع طاردو في ياكونو (بدايات الماسونية)، مرجع سابق، ص 299 - 300.

(2)

لم تكن فرنسا هي وحدها مصدر التحرك الماسوني، فقد كانت الماسونية نشيطة أيضا في إيطاليا وانكلترا. وفي سنة 1841 تأسس في تونس (محفل أطفال قرطاجنة)، ثم تتابع تكوين المحافل الماسونية بتونس، وكلها كانت إيطالية المصدر. وفي سنة 1877 تأسس محفل آخر في تونس باسم قرطاجنة القديمة كان تابعا للمحفل الانكليزي عن طريق فرعه المالطي. وبعد احتلال تونس أسس الفرنسيون (سنة 1885) محفل قرطاجنة الجديدة. وهكذا ترى أن المحافل الماسونية كانت تابعة للدول الاستعمارية والنشاط التنصيري. انظر مناصرية، مرجع سابق.

(3)

ذكر أن من بين المسلمين الذين قبلوا في محافل فرنسا عضوا من مسقط وآخر من جزيرة زنجبار (إباضيون؟).

ص: 413

شلبي الجزائري قد قبل في ذلك المحفل وأن توقيعه موجود على المحضر، ولكنهم لم يسمحوا له بالدخول معهم لاختلاف الدين (1). وفي 1787 ذكروا أن المدعو إبراهيم قلنقو التركي والمدعو إبراهيم بكير الجزائري قد قبلا أيضا في محفل الشرق بفرنسا. وقيل إنهم قد جمعوا لهما النقود للعيش في فرنسا والعودة إلى بلادهما، وكانت لديهما أيضا شهادات الانتماء إلى محفل لندن ودبلن. وقد جاء ياكونو بصور لتوقيعات هذين الرجلين اللذين لا نعرف لهما هوية واللذين قيل فيهما أثناء جمع التبرعات لهما: لعل وقتا سيأتي فيه الماسونيون الفرنسيون إلى الجزائر فيجدون المقابل منهما هناك. ويوحي كلام ياكونو أن هناك تخطيطا مسبقا لدخول الماسونية الجزائر حتى قبل الاحتلال بنصف قرن، وذلك عن طريق التبرعات المالية لأعضاء كانوا يمارسون التجارة وفي نفس الوقت كان يعوزهم المال اللازم للإقامة والسفر. فهل هناك قدرية لازمة (جدلية) بين المال (الديون) والاستعمار؟ ويقترح ياكونو أن هناك جزائريين آخرين قد يكونون انضموا أيضا إلى محافل إيطاليا ولندن ولكن بأعداد ضئيلة، كما هو الحال في فرنسا أيضا، ثم إن القائمة منحصرة في بعض التجار. ولا شك أن أعيانا من يهود الجزائر قد دخلوا (الماسونية الإفريقية) في إيطاليا ولندن، وعلى رأسهم ابن دوران، ولا ندري، ما إذا كان ذلك قبل سنة 1830 أو بعدها. ومهما كان الأمر فإن الدلائل تدل على أن عدد الذين دخلوا الماسونية قبل الاحتلال كان قليلا جدا. (2).

ورغم ما لاحظناه عن مسألة الانتماء إلى الماسونية قبل الاحتلال، فإن مجلة (الماسونية الإفريقية) التي ظهرت سنة 1849 قد ذكرت أن الماسونية قد انتشرت في الجزائر قبل ذلك، معتبرة بعض الطرق الصوفية (تسميها الجمعيات السرية) شكلا من أشكال الماسونية، وأن (الإخوان) في هذه الطرق هم أعضاء في (الماسونية العربية). واستدلوا على ذلك بأن الماسونية

(1) وإذا صح هذا فإنه لا يصح أن يقال إن الماسونية فوق أو تحت الأديان، أو أن لها دينا خاصا بها. وربما يقال إن سبب منعه من الحضور هو المحافظة على أسرار التنظيم.

(2)

ياكونو، مرجع سابق، ص 58 وهنا وهناك.

ص: 414

هي دين كل العصور وكل البلدان. وفي عدد لاحق من المجلة نفسها ذكروا أن بعض عبارات الماسونية العربية (الطرق الصوفية) تتفق مع مصطلحات الماسونية الأوروبية أيضا. والغريب أن الكاتب وجد التشابه اللفظي بين كلمة (الورد) عند الصوفية وكلمة (أوردر) الفرنسية والإنكليزية، وقال إنهما تستعملان في نفس المعنى، وهو ما يتلقاه المريد في الجمعيات السرية (الصوفية) وفي الماسونية، وكذلك كلمة (إخوان) في الصوفية وكلمة (كوان Cowan) في الإنكليزية التي قيل إنها تعني كلمة (الأخ) التي تعطي للعضو الأجنبي في الماسونية، وربما كان ياكونو صادقا، عندما اعتبر ذلك التمحل من الخيالات التي يرفضها التاريخ (1). ويبدو أن الماسونيين بعد أن رأوا فشلهم في جلب الجزائريين رجعوا إلى اعتبار الطرق الصوفية ماسونية عربية ودليلا على انتشار الماسونية واعتبارها دين كل العصور وكل البلدان، في زعمهم.

ومهما كان الأمر، فقد عاش محفل بيليزو العهد الاستعماري وفي ظل الإدارة الفرنسية، مؤيدا لها ومباركا أعمالها، وداعيا للاندماج بين الفرنسيين والجزائريين والقضاء على الروح العربية والإسلامية. وأصبح المحفل في أغلبه من البرجوازية، وكان أعضاؤه من سكان المدن طبعا. وقد دخله بعض اليهود الجزائريين أمثال طاما ايلي، واليزار، وكلاهما كان في الهيئة الدينية الإسرائيلية (كونسيستوار)، كما دخل المحفل بعض رجال الدين الفرنسيين مثل الأسقف دوبوش، رغم أن المحفل الماسوني على العموم مضاد للكنيسة في نظر البعض. وقد سيطر بعض رجال الماسونية على النواحي الاقتصادية والمالية واستغلال الأرض (الاستعمار) في الجزائر مثل دي فيالار، كما كان من بينهم السياسيون والكتاب والشعراء. ولكن دراسة ياكونو التي تنتهي سنة 1850، لا تحدثنا عن دخول مسلمين جزائريين في محفل بيليزير، ولا في المحفل المنشق عنه والمسمى (التجديد الإفريقي) الذي أنشئ حوالي سنة

(1) ياكونو (بدايات الماسونية)، ص 57. إن استعمال عبارة (الجمعيات السرية) في وصف الطرق الصوفية شاع في الكتابات الفرنسية عن هذه الطرق حتى عند غير الماسونيين الظاهرين.

ص: 415

1841.

وكان سبب الانشقاق هو الخلاف بين الأعضاء في المسائل الدينية واستعمال الغموض والسرية واللجوء إلى الخطب المرتجلة. لكن هذا المحفل المنشق لم يعمر سوى حوالي عشر سنوات (1).

والواقع أن ما يهمنا من الماسونية هو انتشارها في الجزائر ودخول بعض الجزائريين فيها. كما يهمنا نشاطها وتأثيراتها على الحياة السياسية والفكرية.

يقول أحد الكتاب الفرنسيين إن كل الحكام العامين الذين تداولوا على حكم الجزائر باسم فرنسا كانوا ماسونيين عدا واحدا هو المارشال ماكماهون. وقد لاحظنا أن بداية الماسونية كانت في قادة الحملة الفرنسية أنفسهم. فقائد الأسطول الأميرال دينييه كان ماسونيا. ولا ندري ميول دي بورمون الآن. أما الضباط الذين أرسوا قواعد الإدارة والسلطة الفرنسية في الجزائر فقد كانوا بدورهم ماسونيين صراحة، ومنهم بيليسييه دي رينو الذي ترأس مكتب الشؤون العربية في الجزائر وكتب تاريخ الحملة والإدارة الفرنسية الأولى في كتابه المعروف باسم (الحوليات الجزائرية). وكان دارماندي ماسونيا أيضا، وهو الذي كان يعرف الشرق ويحذق الفارسية وكان قنصلا لبلاده في جدة، ثم كان من أوائل الضباط الذين احتلوا عنابة 1832. وعلى رأس الضباط الأولين الذين آمنوا بالماسونية الجنرال دي ميشيل الذي حكم وهران في أول الاحتلال والذي اتربط اسمه بـ (معاهدة دي ميشيل) التي وقعها مع الأمير عبد القادر سنة 1834. ثم المارشال بوجو الذي وقع مع الأمير معاهدة التافنة سنة 1837، وتولى حكم الجزائر وأعلن الحرب الشاملة ضد المقاومة إلى استقالته في أوائل صيف 1847، قبل هزيمة الأمير ببضعة شهور فقط، فقد كان أيضا ماسونيا.

وهناك ضباط وشخصيات إدارية وسياسية أخرى ارتبط اسمها بالماسونية. ومن هؤلاء اللقيط يوسف الذي أصبح جنرالا في الجيش الفرنسي. وكان قد هرب من تونس وادعى للفرنسيين أنه ابن غير شرعي

(1) نفس المصدر، ص 273 هامش 83، وكذلك ص 306.

ص: 416

لنابليون الأول. ودوره في الحرب المبيدة ضد المقاومة مبسوط في غير هذا المكان (1). ومنهم عبد الله دزبون المملوكي الذي أرسلته فرنسا في مهمات إلى ناحية معسكر. وكان الجاسوس ليون روش ماسونيا، أيضا، وقد بدأ حياته في خدمة الجيش الفرنسي وأرسلته المخابرات العسكرية لكي يتجسس على الأمير عدة سنوات، فادعى أنه اعتنق الإسلام وغير اسمه إلى (عمر) وتزوج من مسلمة وألف كتابا، سجل فيه مغامراته في القيروان ومصر والحجاز للحصول على فتوى من علماء المسلمين ضد حركة الجهاد في الجزائر. كما تولى الشؤون القنصلية لبلاده في عدة بلدان مجاورة كالمغرب وتونس، بل وفي اليابان.

وانتشرت الماسونية بين أعيان الكولون أيضا. فكان نوابهم مثل تومسون، وايتيان، وتريل، وكذلك فيورموز الذي برز أثناء أحداث 1870 - 1871 في الجزائر، وربما الدكتور وارنييه، كلهم كانوا من رجال الماسونية. وكان شارل ليتو الذي تولى حكومة الجزائر بين 1913 - 1918 من أبرز أعضائها. وقد عمل جهده على إزالة الإسلام واللغة العربية من الجزائر. وهو أصلا من الكولون، مثل خلفه بعد سنوات بيير بورد. ولا نستبعد أن يكون شارل جونار من أعيانها أيضا. ومن أبرز الصحفيين الفرنسيين دعاة الماسونية والمعارضين للإسلام نذكر أندري سيرفييه محرر جريدة (لاديباش القسنطينية)، فقد كان على رأس محفل في قسنطينة يسمى (سيرتا)، وهو محفل ماسوني كان يعمل على تجنيد (المتطوعين) الجزائريين للمحفل والدخول في الماسونية، وهو الذي أطلق اسم (الشبان الأتراك) على الاندماجيين الجزائريين (النخبة)، كما ألف كتابا هاجم فيه الإسلام بشدة تحت عنوان (خطر المستقبل

) (2) ولا ندري من الذين جندهم سيرفييه

(1) انظر الحركة الوطنية، ج 1.

(2)

صدر في قسنطينة، سنة 1914. وعنوانه الكامل (خطر المستقبل: القومية الإسلامية في مصر وتونس والجزائر). وعن محفل (سيرتا) ومحافل الشرق الجزائري، انظر دراسة مناصرية، مرجع سابق، عن دعوة سيرفيه لتقسيم الجزائريين، انظر سابقا.

ص: 417

لمحفله، ولكننا لا نستبعد أن يكون من بينهم بعض المتجنسين وحتى بعض رجال الدين.

من الناحية التاريخية يذكر الكتاب الفرنسيون عهدين طويلين لانتشار الحركة الماسونية في الجزائر ونشاطها السري والعلني وموقفها من الإسلام والمسلمين. العهد الأول من 1830 إلى 1870، والثاني منذ 1871. وخلال العهد الأول (وهو يشمل بالنسبة للفرنسيين ثلاثة أنظمة: ملكية وجمهورية وامبراطورية) فإن زعماء الماسونية اكتفوا بتعميق عقائدهم ومبادئهم في جمعيات سرية كانت متناسبة مع قناعاتهم الذاتية، وهي تقوم على أن الماسونية هي (دين الأديان) في نظرهم، فلا دن يعلو عليها (1). وقد تعرضنا إلى ذلك.

أما خلال العهد الثاني (منذ 1871) أو عهد الجمهورية الثالثة الذي دشن اللائكية (العلمانية) في التعليم وشهد فصل الدين عن الدولة في الحكم وجاء بقانون الأندجينا للجزائريين، فإن زعمان وأعضاء الماسونية قد استعملوها لأهداف أخرى كالصهيونية، ومعاداة العرب والمسلمين، ولكنها أصبحت على العموم حركة معادية للدين مهما كان، رغم أن زعماءها وأعضاءها احتفظوا بمثاليتهم الفلسفية والمسيحية والإنسانية في دعواهم.

ففي مؤتمر تيزي وزو سنة 1903 أعلن الماسونيون ضرورة فصل الأطفال عن تعليم القرآن وإبعادهم عن الزوايا والتربية الدينية (الإسلامية). ومن الملاحظ أن يهود الجزائر قد دخلوا الماسونية في أعداد كبيرة بعد تجنسهم سنة 1870. وكان الماسونيون يعقدون المؤتمرات العلنية والسرية. فبين 1905 و 1938 عقدوا حوالي اثني عشر مؤتمرا بعضها كان خاصا بناحية في الجزائر وبعضها كان يشمل المغرب العربي (شمال إفريقية) بل إن بعضها كان يشمل المستعمرات الفرنسية. وكانت بعض المؤتمرات تتناول قضايا

(1) آجرون (حركة الشبان الجزائريين) في (ميلانج جوليان) المسمى دراسات مغربية، ص 240. وسنتحدت عن ابن رحال فى الفقرة اللاحقة.

ص: 418

معينة مثل الاشتراكية وحقوق الإنسان ومسألة الأديان ومعاداة السامية واللائكية وحقوق المرأة. وكان بعضها متعلقا بقضايا اليهود، مثل حادثة دريفوس (فرنسا)، وحادثة غشت 1934 (قسنطينة) وقرار كريميو، الخ. مما يدل على العلاقة الوطيدة بين الماسونية والصهيونية. وكانت محافل الشرق الجزائري تعقد اجتماعات سرية، ربما لنشاط اليهود فيها، وقد قامت حكومة فيشي بحل الجمعيات السرية، ومنها الماسونية، في غشت 1940. وطلبت من كل عضو يعمل في الإدارة أن يعلن عن انتمائه. وكانت العقوبات تتضمن السجن والغرامة المالية والفصل. وكانت حكومة فيشي قد ألغت أيضا قرار كريميو بضغط من ألمانيا. ولكن الحلفاء ولجنة فرنسا الحرة أعادت هذا القرار، بضغط من أمريكا ويهودها، كما أعادت الشرعية للجمعيات السرية ومنها الماسونية، بعد الحرب.

وكان لكل محفل رمزه. والرموز هي نجمة داود، والخنجر، والسيف، وهيكل سليمان، والمثلث المتساوي الأضلاع، والسنبلة، والنجمة الخماسية، والعين، والهلال، واليدان المتصافحتان، والشمس المشرقة على رأس الإنسان، وراحة اليد، وغيرها من الرموز، مثل حرف v المنصوب والمقلوب. كما أن أسماء المحافل ترجع إلى آثار أو معالم قديمة وشخصيات، مثل سيرتا وقرطاجنة وهيبون ونوميديا والأوراس والساحل، وكذلك بيليزير وجان جوريس وأطفال مارس (1).

وكان لمحفل (بيليزير) نفوذ ونشاط علني في العاصمة. وله أتباع من الفرنسيين وحتى من بعض الجزائريين المتجنسين مثل الطبيب بلقاسم بن التهامي، والمحامي عمر بوضربة. ولا ندري إن كان محمد صوالح وتامزالي من أعضائه أيضا، ويقول آجرون عنهما إنهما كانا غير مرتبطين بالدين الإسلامي بصراحة. ويقول عن ابن التهامي وبوضربة إنهما لائكيان جدا (2).

(1) مناصرية، مرجع سابق، ص 159.

(2)

إذا كان الأمر كذلك، فقد كان هناك عدد من الجزائريين يمكن وصفهم باللائكيين جدا.

ص: 419

وقد عرفنا أن محفل بيليزير قديم النشأة.

أما في قسنطينة فالمحفل الرئيسي اختاروا له اسم (سان فانسان دي بول)، وهو اسم يحمل دلالة خاصة عند الفرنسيين وعند رجال الدين. ونلاحظ أنه بالرغم من القول إن الماسونية أصبحت معادية للدين فإن اتخاذها اسم هذا (القديس المشبوه) يدل على الخلط في المبادئ والأهداف. وقد ذكرنا أن هناك محفلا آخر باسم (سيرتا) كان سيرفييه من أعضائه. وتذكر المصادر أن معظم الجزائريين الذين دخلوا الماسونية كانوا من المنطقة الشرقية، ولا سيما مدينة عنابة، وبلغ عددهم الإجمالي 37 فردا. ولا ندري الآن منهم أحدا، ولكن في الإمكان التكهن ببعضهم إذا طبقنا الآية الكريمة التي تقول {سيماهم في وجوههم} وفي تصريحاتهم وكتاباتهم. ولكننا لن نرجم أحدا بالغيب.

وفي الغرب الجزائري كان محفل (الاتحاد الإفريقي) الذي كان مقره مدينة وهران. ولا شك أن هناك محافل أخرى قد ظهرت هناك. وليس لدينا فكرة عن عدد الذين دخلوا في الماسونية من الجزائريين في الناحية الغربية. وقد كان فرع تلمسان نشيطا، وفيها عائلات حضرية ودينية وتعليمية لا نستبعد أن بعضها قد دخل الماسونية عن وعي أو عن غير وعي. وكانت مدرسة تلمسان الشرعية - الرسمية إحدى البؤر للحركة الماسونية، ولا سيما في عهد ألفريد بيل.

كانت سياسة زعماء الماسونية في الجزائر هي تبني الاندماج، كما ذكرنا، وذلك هو دورهم في التأثير على الإدارة العليا. فقد كان لهم نفوذ قوي في مجلس الحكومة والبرلمان والصحافة. وكانت تأثيراتهم تذهب في هذا الاتجاه، وهو إزالة الإسلام (Deislamisation) من الجزائر، وقد برزوا بالخصوص أثناء حكم شارل ليتو (1). وكان (الشبان الجزائريون) يسيرون في هذا الخط أيضا، ولذلك سميناهم بالاندماجيين. ويقول آجرون إن (عميد)

(1) انظر بيير قوانار (الجزائر) باريس، 1984، ص 309 - 310.

ص: 420

الشبان الجزائريين هو محمد بن رحال (1)، ولكن اندماجية ابن رحال كانت تختلف عن الاندماجية التي دعا إليها أمثال محمد صوالح وإسماعيل حامد وأحمد بن بريهمات وتامزالي وابن التهامي، بل كانت تشبه الدعوة إلى (المساواة) التي دعا إليها الأمير خالد فيما بعد. وكان منهم في نظر آجرون، عباس بن حمانة الذي وصفه بالبرجوازي الليبرالي المؤيد للتجنيد الإجباري. ولكن عباس بن حمانة كان قد أسس مدرسة قرآنية عصرية سنة 1913 لتدريس اللغة العربية والعلوم الإسلامية، ومن ثمة فقد كان ضد الاندماج بمفهوم (الشبان الجزائريين) وكان في ذلك يلتقي مع محمد بن رحال في بعض النواحي (2). وربما ستكشف الوثائق عن تقديرات خاطئة لدور رواد الاندماج الجزائريين.

والمعروف أن الأمير عبد القادر قد ارتبط اسمه في بعض الكتابات باسم الحركة الماسونية، وكذلك اسم الشيخ طاهر الجزائري. ولكن بعضهم ينفي انتماء الأمير إلى الماسونية. وقد دار جدل في الموضوع بين ياكونو ومحفوظ قداش ومحمد الشريف ساحلي حول ذلك. ويبدو أن الجدل سيستمر لأن الوثائق القاطعة غير متوفرة. وهناك فقط تخمينات واستنتاجات. فالماسونية كانت متوارية، وكانت تقدم نفسها على أنها (دين الأديان) وأنها دين الحرية والتسامح، وأنها تدعو إلى الأخوة الإنسانية. وقد انجذب إليها عدد من أعيان المفكرين في الغرب والشرق. وكانت تصطاد هؤلاء الأعيان وأصحاب النفوذ والأذكياء في كل جيل وتمنحهم (بركتها) كما تفعل بض الطرق الصوفية عندنا. والماسونية تنظيم أو جمعية سرية لها طقوسها ومراحل للتدرج فيها، وليست زاوية خيرية مفتوحة للغرباء والسابلة. وقد انخدع بشعاراتها البراقة

(1) آجرون (حركة الشبان الجزائريين) في (ميلانج جوليان) ص 240. وسنتحدث عن ابن رحال في الفقرة اللاحقة.

(2)

عن حركة (لشبان الجزائريين) والماسونية، انظر آجرون (ميلانج جوليان)، مرجع سابق، ص 228 - 243. وعن عباس بن حمانة انظر فصوله التعليم. وكذلك مالك بن نبي (المذكرات).

ص: 421

في الحرية والإنسانية والتسامح والأخوة عدد من أعيان الشرق، نذكر منهم جمال الدين الأفغاني وخيرالدين التونسي، ومدحت باشا، وربما الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا. وليس كل من دخلها عن حسن نية قبل أوائل هذا القرن كان متهما في دينه أو مدخولا في وطنيته، لأننا رأينا أن الماسونية قد غيرت جلدها عدة مرات، ورفعت عدة شعارات، وأصبحت تسير صراحة في ركاب الاستعمار والصهيونية، وتقف ضد الأديان وتخدم مصالح وأهدافا غير إنسانية وبعيدة عن شعاراتها البراقة المعلنة.

لذلك يمكننا القول إن اسم الأمير قد استعمل منذ حوالي 1864 بطريقة مغلفة لتجنيد الأعضاء في الماسونية. فالغرب كان واعيا والشرق كان غافلا. وقد حصل الأمير على أوسمة وبراءات ورسائل الشكر من قادة الدول المسيحية على إثر تدخله الإسلامي والإنساني في حوادث الشام سنة 1860، وقد فسروا ذلك التدخل على أنه كان بدافع التسامح الديني مما يتماشى مع شعارات الماسونية نفسها. فاغتنم قادة الماسونية فرصة عودة الأمير من الحج ومروره بمصر سنة 1864 ودعوه إلى محفل الإسكندرية، كما قيل، وسلموا إليه براءة، وربما سلموه أيضا إثباتا بعضوية شرفية - من يدري؟ - في ذلك المحفل. ولكن هل كانت هذه العضوية كاملة بكل تبعاتها؟ أو هي مجرد تشريف واحتفاء وشكر له على فعله الإنساني؟ أو هي خدعة وقع الأمير في فخها، ثم انتبه فلم يعد للموضوع بقية حياته، إذ لا نجد أية إشارة إليه بعد ذلك؟ إن ذلك سيظل محل تساؤلات وتخمينات، ولا نملك له الجواب الشافي الآن.

ومن الملفت للنظر أن ابن الأمير في (تحفة الزائر) لم يشر إلى مسألة الماسونية، واكتفى بقوله إن والده قد مر في عودته من الحج بمصر وزار أرض بوبلح التي أهدتها إليه شركة السويس وأقام أياما في ضيافة الشركة بمنطقة السويس، أما الإسكندرية فقد قال إنه بقي فيها حوالي خمسة أيام ثم ركب منها إلى بيروت. وقد أورد ابن الأمير الرسائل والأشعار التي قيلت في

ص: 422

والده بعد رجوعه من الحج وليس منها، على حد علمنا، ما تعرض إلى مسألة الماسونية (1).

وبينما سكت صاحب (التحفة) تماما عن هذه المسألة نجده قد ذكر أن الجمعية الماسونية الفرنسية قد كتبت إليه رسالة شكر ومدح على تدخله لإطفاء فتنة الشام ونوهت بانتصاره للتمدن والإنسانية، واعتبرته (العربي الوحيد) الجدير بهذا الاسم، واعترفت أن أوروبا قد أخذت الكثير عن (الجنس العربي) الذي هو اليوم نائم، وتنبأت بأن العرب سيستيقظون. وقالت إنها إذ تبعث إليه بالرسالة فإنما تعتبرها إشارة رمزية فقط لأنها في الحقيقة لا تساوي شيئا إزاء خصاله (2). وليس هناك أيضا إشارة إلى محفل الشرق ولا اسم الاسكندرية ولا تاريخ 1864. ولا نظن أن موضوع الماسونية قد بقي (سرا) عند الأمير، فقد ترك الأمير أوراقه جميعا لابنه. وكان هنري تشرشل قد ذكر الموضوع أثناء حياة الأمير نفسه - انتهى من كتابه سنة 1867 - . إن سكوت صاحب التحفة عنه وسكوت المادحين للأمير يدل على أن انتماء الأمير للماسونية قد يكون فقط من الإشاعات، مثل ترشيح الأمير للإمارة العربية (3).

أما الشيخ طاهر الجزائري الذي أصبح علما يشار إليه في العلوم العربية والإسلامية، وكان من قادة الرأي والفكر في بلاد الشام وفي مصر والعراق،

(1)(تحفة الجزائر)، 2/ 145.

(2)

تاريخ هذه الرسالة من باريس 2 أكتوبر 1860. أي قبل حجه وتوقفه بالإسكندرية بأربع سنوات. وقد جاء في (تحفة الزائر) أيضا اسم (الجمعية الأمريكية الشرقية) التي أرسلت إلى الأمير نسخة من الكتاب الذي ألفته سنة 1861 بعنوان (تاريخ العالم) مع تعيينه عضوا شرفيا فيها، (التحفة) 2/ 112. كما أن (جمعية أبناء الوطن) بلندن قدمت إلى الأمير رسالة تنويه أثناء زيارته لبريطانيا، نفس المصدر، 2/ 160.

(3)

لم نجد أية إشارة أيضا إلى مسألة الأمير والماسونية في كتاب عادل الصلح (سطور من الرسالة) الذي عنى فيه بعلاقة الأمير بالحركة الاستقلالية العربية، بيروت، 1966.

ص: 423