المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجزائر في الكتابات الفرنسية - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٦

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌الفصل الأولالاستشراق والهيئات العلمية والتنصير

- ‌الاستشراق ومراحله

- ‌حلقات اللغة العربية

- ‌ مدرسة الآداب

- ‌أعمال المستشرقين

- ‌حياة بعض المستشرقين والمستعربين

- ‌اللجان العلمية

- ‌لجنة الاكتشاف العلمي للجزائر:

- ‌لجنة الاحتفال المئوي بالاحتلال:

- ‌الجمعيات المتخصصة

- ‌المعاهد الجامعية

- ‌البعثات العلمية ومشاركة المثقفين الجزائريين فيها

- ‌الكنيسة والتنصير

- ‌نشأة الأسقفية

- ‌الأسقف بافي:

- ‌ لافيجري

- ‌شارل دي فوكو:

- ‌النشاط التنصيري منذ 1930:

- ‌الفصل الثانيالترجمة وظهور النخبة الاندماجية

- ‌مترجمو الحملة وغداتها

- ‌تنظيم فرقة المترجمين

- ‌المترجمون الجزائريون

- ‌تعاون الجزائريين والفرنسيين في مجال الترجمة

- ‌الترجمة إلى العربية

- ‌الاتجاه الاندماجي - الاستغرابي

- ‌الزيارات المنظمة لباريس وفكرة المعهد العربي

- ‌أسر الأطفال وحملهم إلى فرنسا

- ‌دعاة التعلم باللغة الفرنسية الأوائل

- ‌نماذج من المثقفين والاندماجيين

- ‌الفصل الثالثمذاهب وتيارات

- ‌(نعمة) الاحتلال

- ‌رأي باصيه، ود. وارنييه، وطوكفيل

- ‌رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين

- ‌(فرق تسد)

- ‌معاداة العرب

- ‌ومعاداة البربر

- ‌التآمر على زواوة

- ‌الدعوة إلى تعلم الفرنسية ..وإلى التعلم عموما

- ‌وضع المرأة

- ‌الهجرة أو البقاء

- ‌الاندماج، التجنس، النخبة

- ‌الجزائر في الكتابات الفرنسية

- ‌اليهودية والصهيونية

- ‌الماسونية

- ‌الإسلام ووحدة الأديان

- ‌المثالية والاشتراكية

- ‌ إسماعيل عربان

الفصل: ‌الجزائر في الكتابات الفرنسية

3) أما في فرنسا فهناك حوالي 400 حالة زواج مختلط و 5000 معاشرة حرة (خليلات) بين المسلمين والفرنسيات.

وبناء على صاحب الإحصاء فإن من بين (عراقيل) الزواج المختلط وجود التعصب الديني، ويسميه الكاتب العنصرية الدينية. كما أبدى ملاحظة أخرى وهي أن أطفال الزواج المختلط يتمتعون بذكاء أكبر وبصحة أجود من غيرهم (1).

هناك علاقة وطيدة بين التجنس والمدرسة الفرنسية، وبين الزواج المختلط والتجنس، وبين هذه جميعا والاندماج، ونعني بذلك الاندماج كما أصبح معروفا عند الفئة المعروفة بالنخبة. أما الاندماج الذي سعى إليه الكولون فقد فازوا به كما ذكرنا، وهو الذي جعل (الجزائر الفرنسية) تعيش عندهم إلى سنة 1962.

‌الجزائر في الكتابات الفرنسية

الفرنسيون لم يكتشفوا الجزائر سنة 1830، فقد كتبوا عنها قبل ذلك في عدة مناسبات. وكانت بينها وبينهم معاهدات، وتبادل أسرى، وجوسسة، وتقارير قناصل، ورحلات. ولكن معظمها كانت علاقات من جانب واحد. فالفرنسيون هم الذين كانوا يكتبون (عدا المعاهدات)، أما الجزائريون فلا يكادون يتركون أثرا لأسراهم ولا لرحلاتهم، وليس لهم قناصل في فرنسا، وقلما تطلق فرنسا أسراهم ليقصوا ما حدث لهم. فالكتابات الجزائرية عن فرنسا تكاد تكون معدومة قبل 1830 بينما كتابات الفرنسيين عن الجزائر متوفرة. وهي كتابات تمثل عنها صورة غامضة ومشوهة، فهي مستوحاة من معاداة الغرب للشرق والتعصب الديني والتفوق المادي.

ومنذ الحملة انفسح المجال أمام الكتاب والفنانين والمؤرخين

(1) الدكتور مارشان في (مدخل إلى الجزائر)، ص 164. وذكر آجرون (الجزائريون ..) 1/ 183 هامش 6، أنه لا يوجد رسميا سوى 48 حالة عقدتها الكنيسة في الزواج المختلط بين 1830 - 1870، ولكنه لم يوضح أي نوع من الزواج.

ص: 379

الفرنسيين ليكتبوا عن الجزائر، ولكن من وجهة نظر الغالب عن المغلوب، والمنتقم عن خصمه. وقد انكشف السر الجزائري الذي كان يحير الفرنسيين (والأوروبيين عامة) بعد سقوط الدولة وانتهاك البيوت وفتح الخزائن والاطلاع على العادات والتقاليد، ونمط العيش، والأسواق والطرقات، والمعاملات بشتى أنواعها. فنحن هنا لا نتوقع ولا نتحدث عن الموضوعية، ولكن عن الجزائر كموضوع للكتابة والإثارة والبحث. ومن المكابرة أن نقول إن الجزائريين كانوا في حالة يقظة وتقدم، فالحقيقة أن المفاجأة كانت متبادلة بين الفرنسيين والجزائريين، فلم يكن هؤلاء يتوقعون أن يحتل الفرنسيون بلادهم وأن يكشفوا عوراتهم ويعرفوا أسرار حياتهم، كما أن الفرنسيين فوجئوا بانتصارهم السهل على جيش الداي حسين وانفتاح أبواب القصبة في وجوههم، ووضع الخزينة بين أيديهم، وانسحاب الحراس من القلاع، وهروب السكان من بيوتهم. ومن حق الفرنسيين أن يتحدثوا عندئذ عن نشوة الانتصار وانكشاف الأسرار.

ولنقل منذ البداية أيضا بأن احتلال الجزائر تصادف مع عنفوان الحركة الرومانتيكية في أوروبا وفرنسا. تلك الحركة التي بنت للناس عالما من الخيال وجعلتهم يعيشون بعيدا عن الواقع القاسي الذي ولد مع الآلة والمصانع ورأس المال، وظلت الحركة مؤثرة إلى نهاية الامبراطورية بل كل القرن التاسع عشر. فأصبح هناك رومانتيكيون في كل المجالات في السياسة والاقتصاد والمشاريع والفنون والآداب. فقد أصبح الإنسان يعيش أو يموت من أجل حجر أو أثر بعيد. لقد أصبح ينشد عوالم غريبة عن طريق الأحلام. وكثير من المثقفين الفرنسيين الذين جاؤوا إلى الجزائر كانوا من هذا الصنف، بل حتى بعض قادة الجيش ورواد الإستيطان (1). وقد وصف نابليون الثالث بأنه رجل رومانتيكي.

وليس من مهمة هذا الكتاب البحث في جميع الكتابات الفرنسية ومدى

(1) بيلي (عندما أصبحت الجزائر)، مرجع سابق، ص 268 - 267.

ص: 380

صدقها وحجمها وأثر الجزائر فيها، فذلك له مجال آخر. وغرضنا هنا هو تسليط الضوء ولفت النظر إلى أنواع الكتابات الفرنسية ذات الطابع الثقافي العام ومدى علاقتها بالواقع الجزائري. وقد عالج الفرنسيون أنفسهم هذا الموضوع بتوسع، وفي مختلف التخصصات: من الفن إلى الإدارة، ومن الشعر إلى التاريخ، ومن العلوم إلى التجارة. ونذكر هنا أن المدارس الفكرية التي ظهرت في فرنسا وأوروبا والتي كان لها صدى في الجزائر كثيرة، وقد أثر كل منها في مجموعة من الكتاب والفنانين، ولكنها قلما أثرت على الجزائريين إلا منذ أوائل هذا القرن. فقد كانت النظريات الاجتماعية والأنثربولوجية والأثنولوجية والدينية تجد صداها في الجزائر عند كتاب مرحلة اليقظة مثل ابن رحال، وابن الخوجة وابن سماية وابن بريهمات وعمر راسم.

يقول شارل تيار الذي عالج موضوع الجزائر في الكتابات الفرنسية، إن كتب الانطباعات كانت أول ما ظهر عن الجزائر. ويعني بذلك الكتب التي تتناول السكان وأنماط حياتهم وملابسهم وعاداتهم وأخلاقهم، والأحياء السكنية، وتناقضات الطبيعة في نظر الكتاب، وفتنة السماء والبحر، واختلاف المناظر (الإفريقية) عن المناظر الأوروبية. وقد راجت بعد ذلك الكتب التي تشرح للسواح طريقة الحياة في الجزائر والطقس ووسائل النقل والإقامة، وهي المعروفة بكتب (الدليل)، فلا أحد يزور الجزائر من الفرنسيين (والأوروبيين) دون أن يحمل في يده (دليلا) يرشده، وقد زار الجزائر بعض كبار الكتاب والأدباء أمثال فرومنتان، وت. غوتتيه، وقونكور، وفلوبير، ودودييه، وفيديو، وبول بورد، وموباسان، وجان لوران، وغيرهم. وبعضهم اتخذ الجزائر مقاما دائما، وبعضهم زارها لسحرها الشرقي ثم عاد مبهورا، وبعضهم جاء على نفقة الحكومة الفرنسية ليكتب بعد ذلك عن مشاهداته ويرغب الناس في الهجرة إليها، مثل الإسكندر دوما، وفيديو، والفنان فيرني، وبعضهم جاء الجزائر للفضول الأدبي والفني، سيما في فترة الحركة الرومانتيكية، أو للعلاج الصحي والنفسي، وأخيرا نذكر أن بعضهم قد جاءها

ص: 381

منفيا مثل المعارضين للجمهورية الثانية.

جاء يوجين فرومنتان الجزائر سنة 1848. وزار الساحل والصحراء (1). وذهب خصوصا إلى بسكرة والأغواط. وأعجب بمضيق القنطرة حيث توقف معجبا بالشمس وليمتع نظره بالطبيعة الخلابة، وكان النسيم العليل يروح عنه ضوء الشمس. وألف بعد ذلك كتابه الشهير (صيف في الصحراء). وقد استعار منه أحد ناشري الأدلة وطبع صفحة جميلة مليئة بالضوء من كتابه في وصف واحة القنطرة. وكان وصفه للصحراء عامة، سيما بسكرة والأغواط من آيات الأدب الفرنسي في ذلك العهد. ومن الكتاب أيضا لويس بيرتراند ذلك الرجل المتحمس جدا للاستعمار والمسيحية والرومنة، والذي يعتبره الفرنسيون مؤسسا لمدرسة الجزائر الأدبية (الفرنسية)، لقد كتب أيضا صفحات أدبية مشرقة عن واحة القنطرة في كتابه (بستان الموت)، وكذلك خلدها الأديب الشهير أندري جيد في زيارته لها ولبسكرة. ويقول الدارسون إن ذلك كان بفضل وصف فرومنتان للقنطرة وصفحة الدليل المطبوعة عنها (2). وقد أثرت الجزائر كثيرا في فرومنتان حتى أنه بعد أن رجع إلى الجزائر (العاصمة) وسكن قصرا بناحية مصطفى باشا (أول مايو اليوم) صاح قائلا إنه (مغمور بالألوان). وقد كتب أيضا وصفا شيقا للقصبة. ولم يكن في ذلك وحده، فقد سحرت الجزائر بجمالها الطبيعي كثيرا من الكتاب، بالظلال والألوان والهواء والشمس واختلاف المناظر. ومن أبرز الكتاب الذين تغنوا بهذا السحر ألبير كامو صاحب رواية (الغريب) وغيرها من الروايات والأعمال الأدبية والفلسفية.

أما إيميل ماسكري فقد استوطن الجزائر منذ السبعينات وزار مختلف مناطقها وتولى عدة وظائف فيها، ومنها مدير مدرسة الآداب، قبل أن تتحول

(1) له كتابان مشهوران في الأدب الفرنسي، وهما (صيف في الصحراء) ط. 2، باريس، 1874، و (سنة في الساحل)، 1858.

(2)

شارل تيار (الجزائر في الأدب الفرنسي)، ص 325، وكلمة (أدب) هنا تشمل أيضا غير الأدب كالتاريخ والرحلات الخ.

ص: 382

إلى كلية. وقد زار أيضا الصحراء وجبل الأوراس، وزواوة، وعرف الحياة البدوية والعادات التي لا تكاد تظهر إلا لمن دقق النظر وأكثر المعاشرة: الحفلات، والثارات، والأساطير، والألغاز، والأمثال، ونحو ذلك. وهو من الأوائل الذين كتبوا عن قبائل البربر في الأوراس ولباسهم ولهجاتهم وبقايا الآثار والتاريخ هناك. كما اهتم بالحياة الداخلية لسكان زواوة. وكان ينشر مقالاته في (المجلة الإفريقية) وفي (المراسل الإفريقي) وفي مجلة المناقشات (الديبا). ومن أبرز كتبه (ذكريات ورؤى إفريقية) الذي يعتبر من المؤلفات الأدبية الكلاسيكية اليوم في الأدب الفرنسي، وهم يقارنونه بفرومنتان (1). وقد كتب ماسكرى أيضا، عن الأغواط والقصبة والجلفة وعين ماضي وسوف والصحراء عموما.

ومن الموضوعات التي شغلت هؤلاء الكتاب، المرأة والعادات. فقد تحدثوا عن وضع المرأة الاجتماعي، وخلقتها ولباسها وأعمالها وأوقات فراغها، واهتموا بما أسموه بالحياة الريفية من فروسية ومرابطية وصفوف (عداوات). وألف يوجين دوماس كتابا. كاملا عن (المرأة العربية) وآخر عن (الخيول العربية)، وقد جمع وثائقهما أثناء شغله لوظيفة رئيس المكتب العربي المركزي أو إدارة الشؤون الأهلية، في عهد بوجو. كما وصفوا عادات البربر في الجبال، وأشغال المرأة ومنظرها والأعراف السائدة والتطور الاجتماعي، وسجلوا انطباعهم عن الإنسان الحضري والبدوي. وكانوا في البداية معجبين بالإنسان البدوي (المتوحش)، والبربري (الخشن)، لأنهما في نظرهم قابلان للحضارة، وهما النموذجان اللذان يبحث عنهما علماء السلالات وأدباء الرومانتيكية، ثم تحول ذلك الإعجاب وأصبح النظر إليهما على أنهما نموذجان أهليان (أندجين) غير قابلين للتمدن وعدوين للفرنسيين بحكم التعصب الديني. واهتم الكتاب كذلك بالقهوة العربية والملابس والبازارات،

(1) أوغسطين بيرنار، المجلة الإفريقية، 1894، ص 350. وقد طبع (ذكريات ورؤى إفريقية) مرة أولى 1892، وثانية 1914، وتوجد كلمة بيرنار فى ط. 2 من الكتاب أيضا.

ص: 383

والأعياد الإسلامية والمواسم، مثل شهر رمضان، والدين الإسلامي، وزيارات القبور عند المسلمين وحياة الزوايا. ووصل الأمر بهم أن كانوا يقلدون حياة الحضر في اللباس وتدخين الغليون الطويل والشيشة التركية، والاسترخاء على الأرائك.

من الشعراء المعاصرين للحملة الفرنسية نذكر فيكتور هوقو، ولامارتين، وفينيه، وقد ظلوا صامتين عن أعمال الجيش في الجزائر والاستعمار، لأن فظايع الحملة كانت غير معروفة كثيرا للرأي العام الفرنسي. فقد كانت مشروعا ملكيا (شارل العاشر وحاشيته)، وقد عارضها الليبراليون في البداية، ثم انطلقوا في تأييدها بعد قيام مملكة جويلية بزعامة لويس فيليب ونجاح الحملة والتأكد من عدم التدخل الخارجي. ويقول بعض الكتاب إن الحركة الرومانتيكية تركت كل واحد غارقا في التأمل سابحا في الخيال. والحملة لم تكن مشروعا قوميا عند الفرنسيين، فلم يستقبل الجميع خبر الانتصار على الداي حسين بنفس الحماس، بل كانت هناك فترة تردد وتساؤل.

ثم اندفع الأدباء جميعا في حملة عاطفية تشبه الحملة العسكرية. ويعني ذلك تأييدا للحكومة والجيش والاستعمار في الجزائر. وقد رجعوا إلى الماضي وتذكروا الحملات الفاشلة التي قام بها لويس 14 وشارلكان والإنكليز ضد الجزائر. وتذكروا الحروب الصليبية، ورجعوا إلى الكاثوليكية القديمة (الإفريقية)، وكانت وسائل الإعلام تنشر الوقائع والانتصارات على الجزائريين (العرب المسلمين)، وعلى الأتراك القراصنة الذين استرقوا الأسرى المسيحيين ووضعوا القساوسة في فوهات المدافع وأطلقوها. وأعيد طبع الكتب القديمة، وترجمت أخرى عن لغات أوروبية، وتحركت الغرائز والانتقام، وتجند الرأي العام مع الحكومة والجيش، وتلاشى صوت المعارضين للحملة والاستعمار.

وكان الشعر الفرنسي، مثل كتب الوصف والانطباع (1)، قد سجل أيضا

(1) غبريال ايسكير (الشعر والحملة ضد الجزائر) فى المجلة الإفريقية، 1918.

ص: 384

حياة الشرق، وسجل بطولات الأبطال، ضد العرب وضد الهلال. وتابع الشعراء سير الحملات والمعارك في مختلف المواقع: سيدي إبراهيم، ايسلى، حياة الأمير عبد القادر، حياة العرب، القصبة، والمناظر الطبيعية، وسجن الأمير في أمبواز. وقد أخبر ايسكير أن أول شعر فرنسي كان يوم 11 يوليو 1830، أي ستة أيام بعد احتلال العاصمة. ثم أصبح هناك شعراء فرنسيون من مواليد الجزائر، ولهم دواوين ونقاد اهتموا بهم.

أما الرواية والقصة وما يشبههما فقد سجل الدارسون حوالي 200 رواية وقصة نشرت في الجرائد والمجلات إلى سنة 1925. وفي رأي هؤلاء الدارسين أن ذلك يشكل فقراء كبيرا، ولا يعتبرونه في مستوى الحدث الذي دام قرابة القرن. وفي نظر بعض النقاد أن الجزائر كانت ميدانا فسيحا للروائيين ولكنهم لم يستغلوه، فلم تظهر لهم أعمال خالدة عبر التاريخ، وإنما كانت أعمالهم تسجيلات لبعض الأحداث العابرة والعواطف الساخنة في وقتها، كما لاحظنا في المسرحيات التي عالجت موضوعات ترجع إلى العهد العثماني أو عهد الأمير عبد القادر. وكان بالإمكان إنتاج روايات تاريخية، وأخرى شعبية، ورومانتيكية، ونفسية. غير أن الإنتاج الذي أحصوه لا يدل على هذا التنوع والثراء ولا على حسن الاختيار للموضوعات. أما الموضوعات نفسها فيذكر الدارسون أن الكتاب قد رجعوا إلى الشخصيات التاريخية مثل سانت أوغسطين، وإلى الكنيسة الإفريقية، كما استوحوا موضوعات من العهد العثماني (1).

ومن الإنتاج الروائي ما كتبه (هوق لورو) بعنوان (رجل الساعة)، وهو يعني به الباشاغا الحاج محمد المقراني، وموضوع الرواية هو ثورة 1871، وشخصياتها كانت من وحي الوقت، وهي رواية تسخر من رجال الدين الجزائريين ومن الثوار، فقد خطفت بنت فرنسية هي ابنة شيخ البلدية، خطفها أحد المقدمين (مرابط)، وكان له تعليم مزدوج عربي/ فرنسي، وكان خلاص

(1) تيار (الجزائر ..) مرجع سابق، ص 519.

ص: 385

البنت على يد فحام فرنسي وكاهن. وأما إطار الرواية فكله جزائري، لأن المؤلف نفسه كان من الكولون، وقد استغل حياة الريف، فالرواية لها نكهة الحياة الاجتماعية المحلية، وكانت الفرقة الفرنسية العسكرية نازلة في أيشريضن في 24 جوان 1871، وهناك لوحة عن استشهاد المقراني، ولوحة أخرى عن انعقاد مؤتمر للثوار، وغيرها. وعندما قدمتها المجلة الإفريقية قالت إنها رواية تجمع بين الحقائق التاريخية بأسلوب وتوليف أدبي مما جعلها رواية تاريخية وأدبية معا (1).

كما كان للحملة الفرنسية مؤرخوها. حقيقة أن بعض الكتاب أخذ يكتب عن الجزائر منذ أقدم العصور في شكل لوحات معتمة. وكان الرأي العام لا يسأل عن الحقائق بقدر ما يهتم بالعجائب والأقاصيص. ويعتبر بيليسييه دي رينو أول من اهتم وأرخ ودقق في سير الحملة وما بعدها. ويعتبر كتابه (الحوليات الجزائرية) عند الدارسين محاولة (موضوعية) لتاريخ العشرين سنة الأولى من الاحتلال. وقد تمكن بيليسييه من الوثائق بحكم معاصرته للأحداث وتوليه المكتب العربي وقربه من مصدر القرار، وكذلك ساعده حسه التاريخي، وكان ضابطا في قيادة الأركان للجيش، وعضوا في اللجنة العلمية، كما تولى قنصلية بلاده في تونس وطرابلس. وقد عاش في الجزائر اثني عشر سنة (1830 - 1842)، ويقال إنه عامل في كتابته ضباط الحملة لا على أنهم أبطال ولكن على أنهم بشر يخطئون ويصيبون. وكان له أيضا أحكام على الجزائريين الذين اتصلوا أو عملوا مع الفرنسيين، وله بعض المواقف المشبوهة في حادثة تنصير المرأة عائشة بنت محمد سنة 1834، وإهانة المحكمة الإسلامية. ويعتبر من السان سيمونيين، وقد قيل إنه تزوج من جزائرية (2).

وفي نفس الفترة ألف كميل روسيه تاريخا عن الجزائر. ويسمونه في

(1) المجلة الإفريقية، 1897، ص 119.

(2)

ظهر كتابه (الحوليات)، ط. 1، 1854. انظر الحركة الوطنية، ج 1.

ص: 386

زمنه مؤرخ الجزائر. ويقول نقاده إنه أخذ أفكاره عن غيره وهي أفكار جاهزة، بل أخذ نصوصا كاملة، وإنه أخفى مراجعة المطبوعة فلم يشر إليها. وكان روسيه قد بدأ بنشر كتابه في مجلة (العالمين). ثم ألف ألفريد نيتمون تاريخ احتلال الجزائر، ثم (طابلو) عن الاحتلال أيضا، إلى 1848، اختصر فيه الكتاب الأول تقريبا. كما أخذ بعضهم جوائز على التأريخ للجزائر والحملة. ومنهم أيضا ثورو- دانجون الذي أرخ لمملكة جويلية، ثم توالت كتب (التاريخ) الفرنسية في عهد نابليون الثالث. وتولى العسكريون في أول الأمر مسؤولية الكتابة، ثم جاء المدنيون مع تأسيس نواة الجامعة في الثمانينات. ومن أبرزهم في القرن العشرين: ايسكير، وايمريت، وايفير، وأزان (وهو عسكري)، وغزال، وجوليان، إضافة إلى من أرخ للجزائر في مختلف العصور (1). أما ما يسمى (بالتاريخ الشعبي) فهو غزير، وكان مطلوبا للرأي العام الفرنسي الذي كان يتطلع إلى المعرفة، فألفت له كتب عن بوجو والأمير وأخرى عن المعارك والتهدئة، وبعضها عن الطرق الصوفية، وأخرى عن القبائل العربية والبربرية، والحضارات القديمة، وعن الإسلام، ثم عن الاستعمار وأنصاره من كلوزيل إلى بوجو، إلى ليوتي (2). أما الشعب الجزائري فقد كان غائبا في الكتابات الفرنسية، فهو موضوع ولكنه غير مخاطب بأي خطاب، فكان الحديث عنه وليس له.

كنا تحدثنا عن إيزابيل ايبرهارد في مناسبات أخرى مثل الطرق الصوفية، وذلك لعلاقتها بالقادرية أوائل هذا القرن. وكان مجيئها إلى الجزائر يغطيه غبار كثيف، هل هو للجوسسة لصالح ألمانية كما أشارت الأجهزة الفرنسية؟ هل هو لمعرفة قتلة الماركيز دي موريس Morres؟ هل هو للشهوة الجنسية والمغامرة؟

(1) خلاصة ذلك في (التارخ ومؤرخو الجزائر) الذي نشر بمناسبة الذكرى المئوية للاحتلال 1930، واشترك فيه مجموعة من الكتاب، وكذلك عدد الذكرى المئوية من (المجلة الإفريقية) سنة 1956.

(2)

تيار (الجزائر ..) مرجع سابق، ص 302 وما بعدها.

ص: 387

لكننا نذكرها هنا باعتبارها من الأديبات غير الفرنسيات اللائي كتبن بالفرنسية وتأثرن بالجزائر والإسلام غاية التأثر أول هذا القرن. وقد نشرت كتابا عن الإسلام ومقالات في جريدة الأخبار وغيرها، وكانت حياتها، رغم جوانبها الغريبة، مأساة مما جعلها موضوعا للأدب والأدباء والمهتمين بالصحراء والمخاطرة وبالطرق الصوفية ومؤامراتها. وكان الفرنسيون وراءها خطوة بخطوة حيثما حلت، وسواء لبست لباس الفتيان أو لباس الفتيات، وسواء كانت عاقلة أو مجنونة، في الصحراء أو في المدن (1).

ولدت إيزابيل في جنيف (سويسرا) من أصول ألمانية وروسية، سنة 1878. وسكنت باريس، وحملت جواز سفر روسيا صادرا من موسكو. وكانت قضية دي موريس طاغية على أخبار فرنسا (2)، واعتقد البعض أن المعادين للسامية كانوا وراء السكوت عن قتلته. فأبدت إيزابيل استعدادها لمساعدة أنصار موريس في البحث عنه. وكانت تعرف العربية، وأعلنت أنها صحفية، ونزلت في تونس، ولبست الحائك البدوي ثم ارتدت لباس الفتيان، وامتطت الحصان، وظهرت كأنها فارس عربي شاب. وتثبت بعض الوثائق الفرنسية أنها جاءت من العاصمة إلى بسكرة ثم منها إلى تقرت، ونزلت فندق الواحات سنة 1899، وكان عمرها عندئذ اثنين وعشرين سنة. ومن هناك ذهبت إلى وادي سوف في قمة الصيف والحر، 31 يوليو من نفس العام، (وفي وثيقة أخرى في 31 يوليو 1900).

وفي رسالة لها إلى (لاديباشں ألجيريان) بتاريخ 29 يناير 1901 نشرت في 4 جوان (يونيو) من نفس السنة، أنها اعتنقت الإسلام، وزارت الوادي لأول مرة في صيف 1899، وكانت عندئذ تجوب الصحراء جنوب شرقي

(1) ذكر مالك بن نبي أنه أعجب بكتابها (في ظل الإسلام الدافئ) - وقد ترجم هذا الكتاب إلى الإنكليزية أيضا - وظهرت يوميات إيزابيل في كتاب قدمت له سيدة عربية الأصل، وأفضل ترجمة لها حتى الآن هي كتاب (حياة إيزابيل) لأنيت كوباك A. Kobak، نيويورك، 1989.

(2)

عن قصة دي موريس انظر فصل الطرق الصوفية (القادرية).

ص: 388

قسنطينة واحتفظت بذكرياتها، ثم حلت بالوادي مرة أخرى سنة 1900 بنية الاستقرار فيه، وقد سمته بلاد الكثبان الرملية والنخيل الظليل. ودخلت عندئذ في الطريقة القادرية، وتظاهرت بالإسلام، لأن تصرفاتها الاخلاقية لا علاقة لها بالإسلام. وكان شيخ القادرية عندئذ هو الهاشمي بن إبراهيم الذي كانت له زاوية في تقرت وأخرى في عميش، وهو من مواليد توزر بتونس حيث كان والده إبراهيم شيخا للقادرية هناك (1).

وكان للشيخ الهاشمي إخوة موزعين بين ورقلة وسوف وتقرت (بالإضافة إلى الزاوية الأم في توزر). وقد أنشأوا زوايا قادرية، كل على حسب قدره ونشاطه وتسهيل السلطات الفرنسية له. وترددت إيزابيل على الزوايا الثلاث في وادي سوف ونالت رضى شيوخها، وحامت الشبهات الفرنسية حول علاقتها الخاصة بالشيخ الهاشمي. وفي 27 يناير 1901 كان هذا الشيخ متوجها في ميعاد إلى نفطة لزيارة ضريح والده، فنزل بلدة البهيمة (عبد الكريم حساني اليوم) وكانت إيزابيل في رفقته، وكان عليها أن تعود بعد البهيمة إلى الوادي مع خادمها. وبينما كانت تقرأ برقية لأحد التجار، تقدم منها شخص يدعى عبد الله بن محمد بن الأخضر وضربها بسيف على أم رأسها (2)، ولكن الضربة لم تكن قاتلة، وشاع أن المعتدي كان من أتباع التجانية المنافسة للقادرية - كما كان يريد الفرنسيون. وقد عولجت إيزابيل في المستشفى العسكري بالوادي حوالي شهر، ونقل المعتدي إلى قسنطينة وحوكم أمام المجلس الحربي المنصوب دائما للجزائريين، وحضرت إيزابيل المحكمة، كما حضرها الشيخ الهاشمي. ولكن المعتدي لم يعترف بمن حرضه على محاولة القتل، أو هكذا أرادت السلطات الفرنسية حتى تترك الحكم في يدها.

وفي الوادي وجدت إيزابيل ايبرهارد رئيس الملحقية الضابط كوفي

(1) انظر تفاصيل ذلك في فصل التصوف (القادرية).

(2)

مما خفف من وقع الضربة وجود أغطية كثيفة على الرأس (كان الفصل شتاء).

ص: 389

الذي وصفته بـ (المثقف). وقالت إن بالوادي عندئذ بناءات رئيسية فرنسية هي: المكتب العربي، والثكنة، والبريد، والمدرسة، والديوانة. وأخبرت أن أهل الوادي كلهم من العرب، وأن عليهم قائدين واحد على الأعشاش وواحد على المصاعبة. أما البنايات الإسلامية فهي المحكمة ومساجد العزازلة، وأولاد خليفة، والمصاعبة الغرابة، وسيدي سالم، وأولاد أحمد، وزاوية سيدي عبد القادر. وأن للوادي سوقا كبيرة مغطاة يأتيها بالإضافة إلى أهل المنطقة قبائل الشعانبة، والطوارق، بل حتى من السودان (1). أما الضابط كوفي فقد ترك إيزابيل تغامر ما شاءت لها المغامرة، وكان فقط يتتبع أخبارها من جواسيسه، ولم ير فيما جاءت به شيئا يشكل خطرا على الوجود الفرنسي. ولكن حين جاءته التعليمات بإخراجها من سوف مع عشيقها والتفريق بينهما، لم يسعه إلا السمع والطاعة. وانتقل العاشق الذي كان من فرسان الصبايحية، إلى باتنة، وانتقلت هي إلى تنس وغيرها. وبعد مغامرات أخرى في فرنسا ثم الجزائر، وزيارات لبوسعادة، والعين الصفراء، كانت نهايتها هي الغرق المفاجئ في مياه الوادي الذي يمر بالعين الصفراء في صيف سنة 1904.

كتبت إيزابيل كثيرا من الرسائل والمقالات. وصادقت فيكتور باروكان مدير جريدة (الأخبار) الفرنسية الذي نشر أخبارها وأعجب بها. وذكرت في كتاباتها أنها كانت تجتمع بالمتعلمين (الطلبة) والمرابطين في الجزائر، وأنها خرجت إلى الصيد مع إخوان القادرية بالوادي، وأنها كانت صديقة لزينب بنت الشيخ محمد بن بلقاسم شيخ زاوية الهامل الرحمانية. وقد نشرت كتابها عن الإسلام مسلسلا في جريدة (الأخبار). وكل أحكامها ومغامراتها وعلاقاتها ما تزال محل شك ودراسات قابلة للطعن. غير أن قلمها وأدبها لا غبار عليهما، وأثر الجزائر فيها لا يختلف فيه اثنان، سيما الأجواء الدينية والاجتماعية في الواحات، وظاهرة الاضطهاد تحت النير الفرنسي (2).

(1) يؤكد ذلك موتيلانسكي الذي زار سوف في نفس السنة (1903). انظر ترجمتنا لزيارته لسوف، وقد نشرت في مجلة (الثقافة)، 1994.

(2)

انظر جريدة (الأخبار) الفرنسية أعداد 5 فبراير، و 11 و 18 و 25 جوان 1905. =

ص: 390