الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرنسية، وإنما يجعلونهم يحيون مدارسهم (1).
لم تكن كتابات طوكفيل تروق لبعض الفرنسيين، ولذلك أهملوها وقلما أشاروا إليها ولم تجمع كتاباته عن الجزائر إلا سنة 1968، رغم أنه كان يقف مع الاستعمار، كما رأينا، والقضاء على المقاومة الوطنية، وكان يعتبر الجزائريين أدنى حضارة من الفرنسيين، وعلى هؤلاء أن ينقذوهم من وهدتهم ويخرجوهم من التخلف بالعدل والرحمة والتعليم. وهذه كانت هي عقيدة الليبراليين الأوروبيين عموما. وكذلك كانت عقيدة السان سيمونيين. وهذا الصوت، رغم ما فيه من ادعاء وتبجح، كان موجودا على ألسنة كتاب آخرين طيلة العهد الاستعماري، فقد كان في كتابات توماس (إسماعيل) أوربان، وكتابات الدكتور فيتال، ومواقف البان روزي وإلى حد ما في صوت مارسيل ايمريت
…
كما ظهر في سياسة بعض الحكام العامين أمثال شارل جونار وموريس فيوليت. ولكن ذلك الصوت كان ضائعا في القفار، لأن الصوت المسموع حقا في الإدارة الفرنسية في الجزائر وفي البرلمان الفرنسي هو صوت بوجولا، والدكتور وارنييه، ويوجين ايتيان، وتومسون، ومايير، ومورينو، أو كتاب من أمثال لويس بيتراند، وإيميل غوتييه، وحكام عامين كثيرين كانوا تحت رحمة الضغط السياسي والإعلامي للكولون و (اللوبي) الكولونيالي في الجزائر وباريس.
رأي لافيجري ولويس فينيون وآخرين
وبعد خمسين سنة من الاحتلال (1881) كتب الكاردينال لافيجري تقريرا سريا عن الوضع في الجزائر أظهر فيه أن فرنسا كانت تخسر أكثر مما تربح وأن حالة من الهيجان كانت منتشرة ولا ينتظر الأهالي سوى حرب
(1) دي طوكفيل (عن المستعمرة في الجزائر) .. مختارات من كتابات دي طوكفيل عن الجزائر، تقديم ت. تودوروف T. Todorov، ط. باريس 1988 (الأولى 1968) ص 164 - 172.
أوروبية ليثوروا من جديد رغم قربهم من ثورة 1871 (1). وقد أدان لافيجري النظام المتبع في الجزائر، ولكنه لم يطالب بالانسحاب وإنما بإحكام القبضة والاستعداد الدائم للخطر، ولذلك أوصى بتأخير احتلال تونس وتأجيل نصب الحماية عليها إلى ما بعد الحرب الأوروبية المتخيلة والوشيكة في نظره. ومن رأي لافيجري أن فرنسا قد أنجزت الكثير في الجزائر، طرقات، وموانئ وقرى ومدن، ومزارع واستثمارات، ولكن النتائج لا تتناسب مع التكاليف، ذلك أن المصاريف كانت تفوق في نظره العائدات بعشرة ملايين فرنك بحساب وقته، ووجد أيضا أن عدد الجنود الفرنسيين الذين ماتوا في الحروب أو في المستشفيات بسبب الظروف المناخية كان يفوق عدد الكولون الموجودين في وقته. ومن رأيه أن هذه حقيقة معروفة للجميع ولكنهم يتحرجون من ذكرها لأنها تمثل إدانة للنظام المتبع حتى ذلك الحين. وهو كرجل دين وسياسة رأى أن هؤلاء الكولون (الفرنسيين بالذات، لأنه كان يتحدث عن الأوروبيين الذين تجنسوا بالفرنسية) قد أضاعوا خصالهم الحميدة كالأمانة وحب الأرض الوطنية، ما عدا بعض الاستثناء. وهناك في رأيه من كان يحرض هؤلاء الفرنسيين حتى على الانفصال عن فرنسا، كما حدث سنة 1870 عندما دعا مجلس بلدية الجزائر المغامر الإيطالي (غاريبالدي) ليرأس الجزائر ويفصلها عن فرنسا.
أما عن الجزائريين في نظر لافيجري فقد كانوا (في هيجان مخيف للغاية) ولا سيما الزواويون الذين سخطوا من انتزاع أراضيهم ومنحها للكولون، كما أن الصحافة الاستعمارية كانت تتحداهم وتقول لهم إن المزيد من الأراضي سيؤخذ منهم قريبا. وانتقد سياسة الجمهورية الثالثة المتسرعة في إحلال متصرفين مدنيين لا خبرة لهم محل المتصرفين العسكريين. وكان عليها أن تتريث وأن تحافظ على السياسة القديمة (العسكرية) فترة أخرى. وفي نظر لافيجري، كما في نظر معظم الفرنسيين، أن الجزائريين لا يخضعون
(1) عن حياة ونشاط الكاردينال لافيجري، انظر فصل الاستشراق
…
والتنصير.
عن حياة ونشاط الكاردينال لافيجري، انظر فصل الاستشراق
…
والتنصير.
إلا للقوة وأن المكاتب العربية العسكرية هي التي كانت تخيفهم رغم أنهم لا يحبونها، لأنها كانت تملك السلاح والفرق العسكرية التي تحت تصرفها. أما المتصرفون المدنيون فلا يملكون شيئا يهابه العرب. وضرب مثلا على ذلك بأن أحد قضاة الصلح الفرنسيين وجد نفسه على رأس دائرة عين الحمام (فور ناسيونال).
ولم يكن هذا القاضي غير المجرب وحده في ذلك. فقد سارعت الإدارة الجديدة إلى تعيين متصرفين مدنيين على رأس بلديات مختلطة، وأعطت لهذه البلديات حوالي 80 ألف هكتار من الأرض. وما يزيد عن 50 ألف ساكن. وأصبح هؤلاء الإداريون الجدد يعوضون نقص الكفاءة وعدم معرفة اللغة المحلية باللجوء إلى العنف والجور في الأحكام. وقد جعل هذا التصرف الأهالي يحسون بالنهب من كل جانب وبتراخي قبضة الحكم، ولذلك فهم على استعداد للقيام بثورة أخرى، وإنما هم فقط ينتظرون الفرصة المواتية، وكانوا يرددون فيما بينهم بأن الفرنسيين على أبواب حرب أوروبية، وأن مبعوثين يأتون إليهم من تونس والمغرب الأقصى ويترددون عليهم منذ سنوات، ولذلك أصبح الأهالي يعلنون صراحة بدون خوف بأنهم سيرمون الفرنسيين في البحر. وهم متأكدون أن الأسلحة والبارود وجميع المساعدات مضمونة لهم من الخارج. وضرب على ذلك مثلا بالتوتر الذي كان يسود الجزائر وما تعرضت له حملة (فلاترز) في الجنوب (1). وقال إن هناك حالة ذهنية منذرة بالخطر. ولكن الانتفاضة العامة لن تحدث إلا إذا وقعت حرب أوروبية، وحينئذ ستكون الانتفاضة من أقصى البلاد إلى أقصاها. وقال لافيجري:(تذكروا كلامي هذا جيدا). لقد كان يرى الخطر داهما، وأن فقدان الجزائر يعني أكثر من عشر هزائم لفرنسا في نظره، ولذلك أوصى بأن تبقى بها القوات البالغة خمسين ألف جندي. وهو باعتباره رجل دين كان حريصا على القول بأن القرآن لن يتسامح هذه المرة مع الكفار، وأن العصبية
(1) عن حملة فلاترز انظر الحركة الوطنية، ج 1 القسم المخطوط.
عن حملة فلاترز انظر الحركة الوطنية، ج 1 القسم المخطوط.
الإسلامية ستتولد وتعم المنطقة من بني صاف إلى طرابلس (1).
والسيد لويس فينيون كان أستاذا متخصصا في تاريخ الاستعمار ومؤلفا معروفا في وقته، رأى أن الاحتلال، رغم ظلمه وقسوته، قد أتى بفوائد جمة للجزائريين. وذكر من بين ذلك أربع فوائد في نظره، وهي نشر السلم بين الأعراش والقبائل التي كانت في حالة حرب وغزو أثناء العهد العثماني. ولم ير في المستوطنين الفرنسيين علامة سلبية بل هم في نظره قد أفادوا الجزائريين بتوفير العمل لهم وشراء إنتاجهم، ومن ثمة الزيادة في ثروة الجزائريين. ومن جهة أخرى فإن المزارعين الفرنسيين كانوا يعطون المثل لهم في استعمال الوسائل الزراعية الحديثة وكذلك المزروعات الجديدة. وقد فتح المهندسون الفرنسيون مجالات أخرى استفاد منها الأهالي أيضا، مثل مد الطرقات والسكة الحديدية، واستخراج المياه الجوفية في الصحراء، كما في وادي ريغ حيث تضاعفت غراسة النخيل (2)، ولم ير فينيون سوى القسوة والجور كمآخذ على الاحتلال، بينما لم يهتم بما ترتب على هذا الاحتلال من نتائج ثقافية وسياسية واجتماعية مدمرة. واهتم بما قدمه الكولون باعتبارهم، في نظره، معلمين للفلاحين الجزائريين الذين فقدوا أرضهم وأصبحوا عمالا عليها للكولون أنفسهم ولفائدة الكولون أيضا.
وقد انتقد فينيون سياسة بلاده نحو تمثيل الجزائريين في المجالس المحلية وغيرها. فقد كانوا في رأيه غير ممثلين ولا منتخبين في المجالس العامة (مجالس الولايات الثلاث) ولا في مجلس الحكومة، ولا في البرلمان
(1) علي المحجوبي (تنصيب الحماية الفرنسية على تونس)، ط. تونس، 1984، ص 159 - 162. وهو تقرير كتبه لافيجري في 24 أبريل 1881، إلى الأب شارتمان. وهو أصلا عن الحماية على تونس وضرورة كرها إلى ما بعد الحرب المتوقعة. وقد عثر عليه السيد المحجوبي في وثائق وزارة الخارجية الفرنسية. وصوره لي الأخ يوسف مناصرية مشكورا. ويتبين من المعلومات والتوقعات التي في التقرير أن لافيجري لم يكن رجل كنيسة فقط ولكنه كان رجل سياسة وجوسسة أيضا.
(2)
لويس فينيون (فرنسا في شمال إفريقية)، 1887، باريس، ص 241 - 242.
الفرنسي. ومن ثمة كان صوتهم غائبا، بينما كان للكولون ممثلون منتخبون في كل المجالس المذكورة وكذلك في البلديات. ولكنه نصح بلاده باتباع سياسة ميكيافيللية في الجزائر إزاء (الصفوف) أو (الأحزاب) المتنازعة كالطرق الصوفية والزعامات الأهلية والأعراش وغيرها، لأن ذلك من حنكة السياسة التي على الدول أن تتبعها للمحافظة على رايتها وسيادتها (1)، وفي نفس الوقت نصح باتباع سياسة (الإحسان) نحو الأهالي، ولخص معنى الاحسان فيما يلي: تعليمهم الفلاحة وحفر الآبار لاستخراج المياه الجوفية لهم (لاحظ أن فوائد المياه ستعود بالضرورة على الفرنسيين أيضا)، وتعليمهم اللغة الفرنسية التي كان يجب أن تفرض عليهم فرضا منذ لحظة الاحتلال الأولى، كما فعل الألمان في الألزاس، حسب تعبيره، وتطبيق مبدإ فتح المدارس وإجبارية التعليم عليهم في البلديات الكاملة (ذات الأغلبية الفرنسية)، واتباع (العدل الفرنسي) نحوهم لأن العربي يحب العدل والماء، كما قال، وفتح مجال الخدمة العسكري أمامهم لأن ذلك سيجعلهم يحتكون بالمجتمع الفرنسي وحضارته وسيساعد أيضا على تسريب الأفكار الفرنسية والتأثير المعنوي فيهم، ثم إن منحهم حق انتخاب ممثلين عنهم يدخل في تقاليد المجتمع السياسي الفرنسي (2).
ويمكننا أن نلخص أفكار لويس فينيون في الموضوع فنجدها لا تخرج عن حث بلاده على تطبيق مبدإ الاندماج على الجزائريين والإسراع في ذلك لأنه قد تأخر خمسين سنة عن موعده. وكل هذه (الوصايا) لا حرج عن مشروع الاندماج الذي كان يدعو إليه أمثاله من دعاة المهمة الحضارية الفرنسية، والذي كان يعارضه الكولون وبعض العسكريين ورجال الكنيسة لأسباب مختلفة.
وكان الحاكم العام شارل جونار قد أعلن سنة 1908، أن سياسته في
(1) انظر ذلك في فصل الطرق الصوفية أيضا.
(2)
فينيون، مرجع سابق، ص 266.
الجزائر تقوم على اللباقة والخيرية والصرامة. وقد عرف عنه أنه كحاكم فرنسي، سلك سياسة أهلية جديدة تقوم على تطوير الجزائر كما هي، ولكن داخل القالب والسيادة الفرنسية (1). ولم تسلم سياسته أيضا من الميكيافيللية التي تحدث عنها لويس فينيون، فقد لجأ جونار إلى عدة إجراءات لتمزيق وحدة الجزائريين اللغوية والعرقية، وسار في ركب الكولون والمستشرقين الذين كانوا يقدمون إليه النصائح ويضغطون عليه أيضا.
وقد علق لوشاتلييه على سياسة جونار عندئذ ورآها سياسة لا تنفع فرنسا. ذلك أن كل حاكم عام كان يبدأ بمجرد تعيينه (بالتمسح) للكولون، محاولا كسب ودهم وتأييدهم، بينما كانت مصلحة فرنسا العليا، تقتضي الموازنة بين الفرنسيين (الكولون) والجزائريين، حسب تعبير لوشاتلييه. ومن رأيه أنه لم يكن للجزائريين أي صوت يعبر عن رغابتهم. ولذلك على فرنسا أن تتبع نحوهم سياسة نشطة في التقدم الاقتصادي والاجتماعي، مع اتباع العدل حيث لا تحل الرحمة والخيرية محل الحق ولا الصرامة محل التفاهم. وكان لوشاتلييه قد تخصص في علم الاجتماع الإسلامي، وقام بتدريسه في الكوليج دي فرانس، وألف أعمالا عن الطرق الصوفية وأشرف على (مجلة العالم الإسلامي). ومن موقعه هذا رأى أن سياسة اللباقة والخيرية والصرامة التي أعلن عنها جونار كانت لا تكفي في الجزائر (الفرنسية) لكسب ثقة الجزائر (الإسلامية)(2).
وقد لخص شارل تيار تطور الرأي العام الفرنسي نحو الجزائريين كما ظهر في مختلف الكتابات، وكان هذا الرأي يتراوح بين - 1 - إبعاد الأهالي أو القضاء عليهم تماما كما فعل الأوروبيون في أمريكا مع الهنود الحمر، أو - 2 - إدماجهم بالقوة أو بالتدرج عن طريق القوانين واللغة في النظام والمجتمع الفرنسي، أو - 3? إهمالهم وعدم الالتفات إليهم. ولم يكن
(1) انظر رأي دي طوكفيل، سابقا.
(2)
الفريد لوشاتلييه (التوقيع هو A.L.C) في مجلة العالم الإسلامي، مارس 1908، ص 609 - 611.
الفرنسيون قد قرروا اتباع أي من هذه (السياسات) بوضوح. وقال السيد تيار الذي تتبع مختلف الكتابات الفرنسية عن الجزائر خلال حوالي قرن من الزمن: أن سياسة فرنسا نحو الأهالي لم تدخل حيز الاهتمام النشيط إلا منذ سنوات قصيرة. فقد استحوذ السكان الفرنسيون بين 1830 و 1890 على كل شيء وشغلتهم مختلف الانشغالات. فكانت المصاريف من أجل حاجتهم هم فقط. ولكن تحت ضغط البرلمان المستمر عليهم (؟) وبعد مقاومة صامتة، اتجهوا (الكولون) إلى العمل بدون حماس، وأحيانا مع بعض التشاؤم، ثم أخذوا يبدون اهتماما متناميا. وها هي النتيجة أنهم يسيرون في الاتجاه الذي اختارته الحكومة الفرنسية والذى أدى خلال جيلين أو ثلاثة إلى تحول عدد كبير من الأهالي اجتماعيا وسياسيا ومعنويا (1).
وبعد قرن من الاحتلال أعلن إيميل غوتييه المعروف بأفكاره ونظرياته الاستعمارية المتطرفة والأستاذ في التاريخ والجغرافية والمؤثر على جيله، أن افتراض استقلال الجزائر عن فرنسا لا يمكن تصوره. وهو لا يقصد استقلال العرب والمسلمين فقط ولكن استقلال كل سكان الجزائر عندئذ، بمن فيهم الفرنسيون. وقد بنى نظريته هذه على أن تاريخ الجزائر يشهد منذ ألفي سنة على تبعيتها لدولة خارجية لأن سوق اقتصادها مرتبط بهذه الدولة الأجنبية، ذلك أن اقتصادها قائم على الزراعة وليس لها مستهلك في العهد الفرنسي مثلا غير السوق الفرنسي. وقد عمم غوتييه نظريته لتشمل كل شمال إفريقية أيضا. فهذه المنطقة مرتبطة اقتصاديا بدولة أجنبية حيث الأسواق مفتوحة لها. ثم أن قرب الجزائر من مرسيليا دليل على هذه الرابطة القوية في نظره بين الطرفين. ولذلك لا يمكن حتى أن يتصور المرء افتراض استقلال الجزائر عن فرنسا (2). أن الاندماج أو التكامل الاقتصادي بين الطرفين في نظره قضية حتمية.
(1) شارل تيار (الجزائر في الأدب الفرنسي)، الجزائر، 1925، ص 160.
(2)
غوتييه (كراسات الاحتفال المئوي)، ج، ص 12.
وفي حديث عن التاريخ والفن القديم لوح أوغسطين بيرك سنة 1937 بغصن الزيتون الفرنسي واعتبر أن (بلاد البربر) قد هاجرت طويلا في عالم الشرق ثم رجعت إلى حضن الفرنسة وريثة الرومنة، وهو حضن الصداقة الفرنسية الدافئ. وقد وضع عناوين لكتابه على هذا النحو: بلاد البربر تحت وصاية الشرق (وهو العهد الإسلامي الأول)، وبلاد البربر تتحرر من الشرق (عهد بني هلال والمرابطين والموحدين)، .. ثم الجزائر التركية (المفروض أن يقول: عهد الرجوع إلى الشرق)، ولكن المهم هو أن بيرك يسمي الاحتلال الفرنسي: مائة عام من الصداقة الفرنسية!.
وفي خطاب (ميلودرامي) يوجهه لصديقه الخيالي (محند) الذي يسميه (صديقي العربي - البربري) قال بيرك: وجدتك راعيا وعاملا تحت السلام الروماني، ومهيمنا أثناء الممالك البربرية، ومستعدا للهلاليين والمرابطين والموحدين والزيانيين والأتراك، ورأيتك أثناء هذه الرحلة قليل الأفراح كثير الدموع متألما من الاستعباد (!)، ورأيتك على طول هذه العصور مكبلا لخدمة الأرض والمناخ والتاريخ. ثم يصل أوغسطين بيرك إلى نقطة الهدف عنده عندما يقول إلى صديقه (محند) إنه رآه في الجزائر الفرنسية سنة 1937: مرفوع الجبين متوقد النظرات عريض الصدر بأنفاس جديدة، وأنت قادم علي بثقة راسخة بنتها مائة سنة من الصداقة الفرنسية المشتركة (1).
ترى كيف قامت هذه (الصداقة)(الاحتلال)؟ إن بيرك لا يكتب من الخيال، إنه قد عاش ربع قرن في إدارة الشؤون الأهلية، وهو يعرف ما حدث وماذا يقول. ومع ذلك نجده يحول الليل إلى نهار ويغرق في الميتافيزيقيا والتجريدات. فقد عدد لصديقه الخيالي (محند) كم تغير الحال من ذلك الماضي الحزين فى نظره عندما كانت الجزائر تحت وصاية الشرق، وعندما
(1) أوغسطين بيرك (الجزائر بلاد الفن والتاريخ)، 1937، ص 261. وهو كتاب نشر بإشراف الحكومة العامة بالجزائر.
أوغسطين بيرك (الجزائر بلاد الفن والتاريخ)، 1937، ص 261. وهو كتاب نشر بإشراف الحكومة العامة بالجزائر.
كان أجداد بيرك ينظرون إلى محند على أنه عربي من الحجاز بانين بذلك من الجزائر شرقا خياليا. لقد تغير الحال وأدرك الفرنسيون خطأهم وصححوا موقفهم، وهو أن الجزائر فرنسية وغير شرقية وأن محند ليس عربيا من الحجاز. وإنما هو فلاح جيد من بقايا الاحتلال الروماني، وهو أيضا فلاح جيد لخدمة الاقتصاد الفرنسي، لأن أكبر عبقرية إداري فرنسي في الجزائر كان، في نظر بيرك، فلاحا، وهو المارشال بوجو، فهو الذي سن سياسة البندقية والمحراث. وما رفيق (محند) إلا فلاح الكولون الذي يعجب به بيرك أشد الإعجاب لأنه هو أيضا من الكولون.
وقد ذكر بيرك كيف تغير الحال على محند، وحصر ذلك في الاقتصاد الفرنسي وفي التشريعات. وجاء على ذكر التواريخ الهامة التي حاولت التشريعات خلالها أن تقتلع جذور المجتمع الجزائري. وفي نظره أن تشريع 1863 قد أسس الأسرة على أنقاض القبيلة، والفرد على أنقاض العرش، ولكن بيرك لم يذكر أن الأرض التي كانت للقبيلة والعرش وتحولت إلى الأسرة والفرد قد انتزعت منهم أيضا وأعطيت للغرباء، أولئك الكولون الذين يقول بيرك عنهم إنهم رفقاء محند في عهد الصداقة الفرنسية. أما تشريع 1882 الذي أنشأ الحالة المدنية واللقب العائلي، فقد نظر إليه بيرك على أنه قد جاء بسيكولوجية (الأنا) والفردية بدل الارتباط بأصول غير واضحة (!) وهل اتضحت للفرد (الأنا) شخصيته عندما اختار لقبا عائليا خاصا به وانقطعت صلته بماضيه وبعائلته الواحدة؟ ورأى بيرك أن قانون الأرض الصادر سنة 1897 قد أنشأ طبقة من الفلاحين الجدد - طبقة وسطى أو نوعا من البرجوازية الريفية الصغيرة، منغرسة في الأرض، ولا تطلب من فرنسا إلا حمايتها وأمنها. ثم امتدح بيرك تشريعات أخرى رآها تحقق لصديقه (محند) السعادة والديموقراطية والتعاون الحقيقي، ومن ذلك إلغاء الضريبة العربية سنة 1918، والتنقيص من الامتيازات المشروطة عند الاقتراع العام، ووضع أطر الديموقراطية في إصلاحات 1919، بل إن الخدمة العسكرية الإجبارية رآها بيرك قد حطمت علاقات الدوار، وأحلت محلها صداقة الخدمة (مع
الفرنسيين) والانفتاح على آمال مشتركة (1).
إن رومانتيكية أوغسطين بيرك كانت بدون حدود وهو يخاطب صديقه الخيالي (محند). فبعد أن قلب حقائق عديدة كتسمية الاحتلال صداقة، والحالة المدنية سيكولوجية فردية، واغتصاب الأرض تخلصا من العرش والقبيلة، والخدمة العسكرية انفتاحا
…
بعد ذلك كله، ذهب يدعو محند - ذلك الآغا الفارس الوارث الألقاب مجيدة، وذلك المرابط العصري من أمثال الشيخ ابن عليوة، وذلك الفنان العبقري أمثال راسم - إلى إزالة ما بقي عنده من تردد نحو الفرنسيين. (عليك أن تربط مصيرك بمصيرنا، وأن تساهم في المشروع الذي وضعه الحاكم العام (2) الحريص على مصلحتك .. إن مصيرنا مشترك منذ عهد الغولوا Gaulois، ومنذ صرخ الفارس الفرنسي وهو يغرز خنجره على مدخل باب عزون، إننا سنعود!.
هذا إذن هو المصير الذي كان بيرك يحاول أن يأخذ بيد صديقه محند إليه منذ بدأ عهد الاحتلال، العهد الذي تحررت فيه الجزائر من وصاية الشرق ودخلت، بفضل فرنسا وصرخة فارسها المجهول، تحت وصاية الغرب وبالخصوص تحت مظلة سكان بلاد الغال (الغولوا)(3)، حيث تفقد الجزائر هويتها وتندمج اندماجا كليا في شعب آخر فرض نفسه عليها بمختلف الوسائل، حتى الميكيافيللية، كما قال لويس فينيون.
ونفس النغمة رددها عالم فرنسي آخر لا يقل أهمية عن بيرك، وهو لويس ماسينيون، صاحب الأنشطة الاستشراقية المعروفة. ففي 1947 أعلن ماسينيون أن الحل لمشكل الجزائر هو الاندماج في ظل الإخلاص والعدالة
(1) بيرك، مرجع سابق، ص 262. رغم أن كتاب بيرك كان عن الفن الجزائري، فإنه تحدث فيه عن المعالم الإسلامية في مختلف العهود كالمساجد، ولكنه لم يذكر ولو مسجدا واحدا يرجع إلى العهد الفرنسي. بينما ركز في هذا العهد على الزرابي والطرز
…
وهي فنون استعملها الفرنسيون للتجارة لا للفن والعبادة.
(2)
عندئذ (1937) كان الحاكم العام هو لوبو Le Beau .
(3)
بيرك، مرجع سابق، ص 265. والغولوا، هم سكان فرنسا القديمة.
عند التطبيق، وعبر عن إعجابه بقانون الجزائر الذي صدر في تلك السنة والذي كان يهدف إلى تكريس الاندماج، وهو يعني طبعا فقدان الجزائر لهويتها. ولماذا الاندماج في نظر ماسينيون؟ إن كثرة أعداد الكولون منع من حدوث الانفصال بين الجزائر وفرنسا، وهو مطلب بعض الوطنيين المسلمين، حسب تعبيره، ثم إن الدماء الجزائرية والفرنسية قد امتزجت في المعارك خلال حروب فرنسا الثلاث (1870، 1914، 1939). ومن جهة أخرى رأى ماسينيون أن القطيعة قد وقعت بين إطارات الماضي (جيل النخب الأهلية) التي كانت موجودة سنة 1830 وبين إطارات الحاضر التي تكونت في العهد الفرنسي (1). ولذلك أصبحت الأرض ممهدة للاندماج في الحياة والمجتمع الفرنسي (2).
والغريب أن ماسينيون الذي قضى قرابة أربعين سنة عندئذ في خدمة الاستشراق ينتهي إلى هذا الحل. فهل كانت رؤيته قصيرة إلى هذا الحد؟ لعله كان يكتفي بقراءة الصحف الاستعمارية ونصوص التشريعات الفرنسية، ولم يختلط أو يقرأ الصحف الوطنية ولا آمال الجماهير والشباب الصاعد الذي كان يطمح إلى الحرية والاستقلال بقطع النظر عن كثرة الكولون وغياب إطارات 1830. وهو يعلم أيضا أن قانون 1947 لم يطبق وبقي حبرا على ورق في معظم أجزائه. ولا ندري كيف يتحدث ماسينيون عن الاندماج بعد أحداث 1945 وآثار الحرب العالمية الثانية التي منها ميلاد الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة والحرب الباردة وظهور حركات التحرر من الاستعمار في آسيا وإفريقيا.
…
أما عن رأي الجزائريين في الاحتلال الفرنسي فهو موجود في الكتابات والعرائض والصحف والرسائل والخطب والأعمال التي قاموا بها أفرادا وجماعات وأحزابا منذ 1830. وكانت الثورات تعبيرا آخر على هذا
(1) انظر عن ذلك بحثنا (آخر الأعيان أو نهاية الأرستقراطية العربية في الجزائر). وقد صدر في مجلة (المنارة) التي تصدر عن جامعة آل البيت - الأردن.
(2)
لويس ماسينيون، حولية العالم الإسلامى Annuaire، 1955، باريس، 233.
الاحتلال، وكذلك الحركات المنظمة في أحزاب وجمعيات خلال القرن الحالي. فمطالبها مدروسة ومفصلة في مختلف الدراسات ومنها بعض كتبنا. وكان آخر رفض لأكذوبة الصداقة الفرنسية التي تغنى بها أوغسطين بيرك وأمثاله هو ثورة نوفمبر 1954. إن من يرجع إلى كتابات حمدان خوجة وخطب الأمير عبد القادر وأوامر أحمد باي وإعلانات الجهاد في الثورات العديدة، وعرائض أعيان المدن، وكتابات رجال الإصلاح، وصحف الأحزاب الوطنية، سيجدها معبرة أصدق تعبير عن رأي (الأهالي) في الاحتلال الفرنسي لبلادهم. ولكن بعض الجزائريين ضربوا أيضا على وتر الاندماج، سيما من الفئة التي سماها الفرنسيون أنفسهم تارة بالنخبة وتارة بالمتطورة، ولكن حجم هذه الفئة كان ضئيلا، ومعظمهم كانوا من المتجنسين بالجنسية الفرنسية أو ممن تزوجوا من فرنسيات. ولا نكاد نجد كاتبا تكون في مدرسة عربية/ إسلامية، ثم نادى بالاندماج.
أما الباحثون الفرنسيون فقد نسبوا إلى جزائريين مجهولين قولهم إن الاحتلال كان قضاء وقدرا. وطالما ذكر علماء اللغة وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) أنهم عثروا في أقوال بعض الدراويش والأولياء ما يدل على أن الجزائر سيحتلها بنو الأصفر، أحفاد الروم، لظلم حكامها وجورهم وخروجهم عن جادة الدين الإسلامي ورضاهم بالفساد. وقد أعجب الفرنسيون بهذه الأقاويل والتنبؤات وراحوا يروجونها في كتاباتهم، لأنها كانت تخدم مصالحهم ومخططاتهم. وقد نسبوا أقوالا من ذلك إلى الحاج عيسى دفين الأغواط، وإلى الشيخ أحمد بن يوسف دفين مليانة، وغيرهما. ومنها ما ذكره السيد ليون رينييه من أن أحد المرابطين فى الأوراس، اسمه سي محمد بوقرانة، شيخ بلدة زانة، قد وجده وسط بعض الآثار وهو يسجل الكتابات والنقوش، فسأله المرابط: هل تفهم هذه الكتابات؟ فأجابه رينييه بأنه يفهمها ويكتبها أيضا، وأن حروفها هي حروف اللغة الفرنسية، فالتفت الشيخ بوقرانة إلى من معه من العرب قائلا: انظروا، أن الروم (الفرنسيين) هم أبناء الرومان، وهم عندما احتلوا هذه البلاد فإنما أخذوا
خيرات آبائهم (1). وكم يحلو للفرنسيين أن يكرروا هذه الأقاويل على أنفسهم وعلى الجزائريين لأنها في نظرهم، تبرر احتلالهم في الذهنية الشعبية.
ومن الذين برعوا في قراءة النصوص (الأهلية) واستخراج الروح الشعبية منها، جوزيف ديبارمى. ويبدو أنه كان أذكى من بعض أساتذته ومعاصريه المستشرقين الآخرين. وكان ديبارمي، بحكم معرفته للعربية وتعليمه في مدارس الجزائر مدة طويلة وعيشته في بيئة قريبة من البيئة العربية، قد تحصل على نصوص تعتبر سرية أو مهملة، واستطاع بحكم ثقافته النفسية والاجتماعية أن يستخرج منها حتى نوايا أصحابها الحقيقية أو المتخيلة، وأن يفك معمياتها ورموزها. وقد كتب الكثير في هذا المجال. ولا نريد الآن سوى ذكر نموذج واحد مما كتب.
حصل ديبارمي سنة 1908 على نصين كانا لفلاحين يعيشان في منطقة البليدة. ثم أعطى النصين لمتعلم من حضر المدينة المذكورة، لم يذكر اسمه، ولكن من أوصافه له نعلم أنه كان غير متعصب ضد الفرنسيين، حسب رأي ديارمي، وكان ثلاثتهم لا يعرفون الفرنسية، وإنما يروون أخبارهم عن المرابطين. وقد توسع الرجل الحضري في النصين وأضاف إليهما فأصبح رأيه رأيا ثالثا في الموضوع (2). وكان النصان في شكل (مجالس) يحكى خلالها الراوي قصصا وأخبارا حقيقية أو خيالية أو مزيجا، من الحقيقة والخيال. وترجم ديبارمي من هذه المجالس نصوصا بحذافيرها وساق المعنى الباقي بلغته.
وبناء على هذه المجالس التي (اكتشفها) ديبارمي فإن من نتائج الاحتلال الفرنسي أن المجتمع الجزائري قد تغيرت طبيعته وتأثر الفرد
(1) انظر المجلة الشرقية والجزائرية، ج 2، 1853، ص 154، (من رحلة ليون رينييه في أعتاب الأوراس).
(2)
الفلاحان هما: الشيخ محمد بن إبراهيم خوجة، ورابح بن قويدر. وأما الثالث فاكتفي ديبارمي بقوله عنه إنه متعلم ومن الكراغلة.
بمؤثرات جديدة. فالمسلم أصبح لا يخرج من داره إلا وهو ذليل، وأصبح محجبا كالمرأة، ذلك أن الشارع فيه حضارة أخرى مغايرة، حضارة الفرنسيين (الروم). وقد أهين المسلمون بالهزيمة على يد الكفار. وأن الأتراك، رغم استبدادهم، أخف وطأة من الفرنسيين (وهو رأي عبر عنه حمدان خوجة سنة 1833 حين قال: اللهم ظلم الترك ولا عدل الفرنسيس). وأن القضاة الذين يوظفهم الفرنسيون لا ثقة فيهم، لأنهم لا يخدمون إلا أنفسهم أو أسيادهم. وكذلك لا ثقة في العلماء ولا في الحكام الذين يعينهم الفرنسيون، لأن المسلم الحقيقي لا يقبل أن يعمل عند الكفار. إن هؤلاء الكفار يغرقون الأهالي ببضائعهم، ومنها الملابس والسكر والشمع غير الطاهر والذي يقدمونه للمرابطين. إن الفرنسيين يتجسسون على الجزائريين لمعرفة أسرارهم وذلك بالصلاة معهم والذهاب إلى الحج للاطلاع على خفايا المسلمين. إنهم يظهرون وديعين في البداية ثم يكشرون عن أنيابهم ويصبحون غلاظا وقساة في النهاية. وهم يمنعون الجزائريين من تعلم الدين والقرآن في المدارس، بينما يعلمون اللغة الفرنسية لأبناء الجزائريين بهدف إخراجهم عن دينهم. وبعد أن ينتهي التلميذ من المدرسة تطلبه الثكنة. لكن نير النصراني (الفرنسي) سيتحطم ذات يوم (1)!.
وهناك 86 مجلسا تحدث عنها ديبارمي. وكل مجلس له حكاية خاصة. وقد حضر المجلس الأخير رجال الصوفية، الأغواث والأقطاب والأوتاد ونوابهم، في الجزائر. وحضر معهم غوت مرسيليا - سيدي المرسلي - الذي ذكر الحاضرين بخيرات فرنسا وكرمها، كما حضر رئيس الديوان. وبعد التداول في مصير الجزائر اتفق أعيان الصوفية، حسب راوي المجالس، على تفويض الأمر إلى الله. فهو الحكيم العليم والمقدر كم سيبقى الفرنسيون في الجزائر ومتى سيخرجون منها.
(1) جوزيف ديبارمي (عمل فرنسا كما يراه الأهالي) في المجلة الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية، SGAAN، 1909، القسم الأول، ص 167، والثاني ص 417.