الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحف والدوائر الدينية والاستعمارية لأنها خسرت به بطلا من أبطالها. وقالت عنه (افريقية الفرنسية) إنه قاد نوعا من الحملة الصليبية داخل افريقية عندما أسس جماعة (الأخوة المسلحون في الصحراء). كما نوهت بمشروعه الناجح في نظرها وبالآباء والأخوات البيض، لأنهم هم الذين حملوا تعليماته الدينية، ومبادئ الحضار الفرنسية إلى المناطق الأكثر بعدا في القارة الإفريقية (1). وقد عرفنا أنهم انطلقوا من الجزائر التي جعلوها حقل تجارب في إحياء الكنيسة القديمة ومهاجمة الإسلام.
شارل دي فوكو:
لم يبلغ شارل دي فوكو درجة شارل لافيجري في المنصب الديني الرسمي، ولكنه بلغ درجته في الشهرة والخدمات التي أداها للكنيسة من جهة والإدارة الاستعمارية من جهة أخرى. وحياة دي فوكو صورة للمغامر الرومانتيكي والجاسوس المخلص والفرنسي المضحي بالغالي والرخيص في سبيل بلاده. عاش حياة شبيهة في جزء منها بحياة لافيجري، سيما ما يتصل بالاخلاص للكنيسة وعلاقته بالشرق وبالاسلام. ولكنه كان يختلف عنه في المغامرة وتعلم اللغات والتنقل هنا وهناك والجمع بين الخدمة العسكرية والدينية. أما هدفهما فيكاد يكون واحدا، وهو خدمة المسيحية ونشر التأثير الفرنسي في منطقة المغرب العربي وافريقية السودانية.
ولد دي فوكو في ستراسبورغ 15 سبتمبر 1858. وبعد النشأة دخل الجيش الفرنسي (الافريقي)، ووصل إلى رتبة ملازم أول. وعمل في أنحاء الجزائر: تلمسان وعنابة وسطيف، الخ. وكان قد تخزج من مدرسة سان سير. واشتهر عنه أنه رجل (فضائح)، فقد كان يعيش مع سيدة مدة طويلة حتى لامه عقيده كثيرا. واختار الخروج من الجيش ثم رجع إليه عند ثورة بوعمامة، ثم خرج منه ثانية. ودرس اللغة العربية. وتعرف على مسالك الصحراء وسكانها منذ وقت مبكر من حياته. كما اهتم بالمغرب الأقصى
(1) افريقيا الفرنسية، ديسمبر، 1892، ص 15.
عندما كانت فرنسا تبث عيونها وخبراءها فيه للتعرف على دواخله والتمهيد لاحتلاله. بدأ رحلته إلى المغرب الأقصى في يونيو 1883 متنكرا في زي يهودي من يهود المغرب حتى لا يتعرف المغاربة على هويته. وقد عين له زميله الجغرافي مكارثي، يهوديا من يهود الجزائر، إسمه مردوشين، ليرافقه ويغطيه. وانطلقا معا من وهران، وسجل دي فوكو ملاحظاته الفلكية ويومياته، وكان يتجول في الأسواق على رجليه أو على حمار. وبعد ذلك أصدر كتابه (معرفة المغرب).
وبعد رجوعه إلى الجزائر تجول في الصحراء من جديد، فزار الأغواط وغرداية وواحات ميزاب الأخرى والقليعة (المنيعة) وورقلة وتقرت. وقد تخلى عن الجيش نهائيا. ثم أرسلوه في مهمة إلى سوريا. ودخل في جمعية الطرابست في أرمينية، وعزم على زيارة بيت المقدس سنة 1888. وفي 1890 دخل في جمعية أخرى لآسيا الصغرى. وطاف بالاسكندرون عندما كانت تابعة لسوريا. ومعنى هذا أنه كان داخلا في النشاط الديني - الماسوني في المشرق والمغرب، وأنه كان يفعل ذلك أثناء حياة الكاردينال لافيجري. ولعل الثقة كانت وثيقة بين الطرفين. وفي 1897 وجدناه في رومة، ثم غادرها إلى سوريا من جديد. وزار الناصرة أيضا تحت غطاء الجمعيات الدينية. ثم عاد إلى الجزائر ونسق نشاطه مع رجال لافيجري - الآباء البيض - وأخذ في تعلم اللهجة التارقية وأصدر معجما عنها. وكان يتجول في الصحراء مستكشفا وليس كرجل دين. وكما كان دي فوكو معروفا للسفارات والقنصليات الفرنسية في المشرق والمغرب الأقصى كان أيضا معروفا للمكاتب العربية والمراكز العسكرية الفرنسية في الصحراء الجزائرية. وكان يجلب إليه الأهالي عن طريق المداواة والصدقات ومعرفة لغتهم. وكان دي فوكو صديقا لكل من المارشال ليوتي والجنرال لابرين.
كان هذا الجنرال (لابرين) قد وصل إلى تمبكتو. وكان يدرك مدى معرفة دي فوكو لعادات الصحراويين ولهجة الطوارق وقدرته على كسب النفوذ لفرنسا والتجسس لحسابها. لذلك طلب الجنرال من (الأب) دي فوكو
أن يقبل بالاقامة الدائمة في الهقار ليكون هو الصلة بين السلطات الفرنسية والأحداث هناك. وقول عنه الجنرال مينييه إن كان (دائما فرنسيا عظيما وجنديا متميزا، بالرحمة الإنسانية). كما كان داعية ناجحا. وأضاف مينييه عن غيرته الفرنسية بأن مراسلاته تكشف عن ذلك لأنه كان دائما يلح على نشر النفوذ الفرنسي في منطقة الهقار وخدمة مصلحة بلاده ومراقبة الحركات الدينية والسياسية في المنطقة كنشاط السنوسيين. كان دي فوكو في تمنراست على اتصال دائم ومباشر مع أعيان وأشراف الهقار ولا سيما زعيمهم موسى آل امسطان، وكذلك مع الحراثين والأتباع. وكلما مر ضابط فرنسي من هناك أقام له دي فوكو حفلة تارقية يحضرها النساء ويكون فيها الغناء والطرب، ويستقبل هو ذلك الضابط بأذرع مفتوحة. وقد كتب عدة مؤلفات عن مجتمع الهقار ولغته، وكان يوقعها بتوقيع أحد زملائه تواضعا منه (1).
يتهم الفرنسيون عملاء العمثانيين والالمان بقتل دي فوكو. فقد كان على الفرنسيين أن يخفضوا من وجودهم العسكري في الجزائر أثناء الحرب العالمية الأولى. وكانت لهم حامية ببرج موتيلانسكي القريب من تامنراست (50 كلم عنها) فلم يبق إلا نصفها، وهم يروون أن كوكبة من الفرسان تتألف من حوالي عشرين شخصا، (يسمونهم فلاقة) جاؤوا بحثا عن (المرابط الرومي). وفي الكوكبة شخص اسمه المدني، يقولون عنه إنه من الحراثين. وفي هذه الظروف قتل دي فوكو برصاصة من حارسه، سنة 1916 (2). ويشاع
(1) الجنرال مينييه (كراسات)، مرجع سابق، ص 34 - 36. ذكر هذا الجنرال أنه لقي دي فوكو سنة 1913 فقال له خذ خمسين مهريا واذهب إلى جنوب المغرب واقبض على المسمى عابدين وافتد منه السود والبيض الواقعين بين الهقار والنيجر. وكان عابدين يعتبر في نظر دي فوكو، نهابا قاطع طريق مدة خمسة عشر عاما. ولذلك قال دي فوكو للجنرال إذا قبضت عليه فاقتله! ص 34. وقد أوصى الجنرال مينييه بإقامة تمثال للجنرال لابرين ودي فوكو وصديقه موسى آغ امسطان. والمهاري نوع من الابل السريعة لقطع المسافات البعيدة.
(2)
ج. كنال (شهداء الصحراء: شارل دي فوكو)، في (مجلة الجمعية الجغرافية) =
أن قاتله كان من أتباع السنوسيين، والواقع أن الذي لا يخبر عنه الفرنسيون هو أن دي فوكو قد اكتشف الناس حقيقته في المنطقة، فهو يتخذ الدين والاحسان والعلم مطية للوصول إلى أهداف سياسية استعمارية. وقد كان الجنرال مينييه صادقا في وصف دوره، فهو رجل فرنسا، ورجل الكنيسة. ولم يكن مثل الآباء البيض الآخرين يعمل في الظاهر والباطن، ولكنه كان يعمل في الباطن فقط، متخذا الغموض والتمويه أسلوبا مع الجهلة والعامة وأشباههم.
من حق فرنسا أن تقيم تمثالا لدي فوكو كما أقامت تمثالا للافيجري. ولكن ليس من حقها أن تقدمه للناس على أنه قديس يعمل لخير الانسانية. لقد عمل مع صديقه المارشال ليوتي في عين الصفراء، وسبقه إلى المغرب ليتجسس عليه ويرسم خريطته التي استفاد منها ليوتي عند احتلال المغرب، ولبس هناك لباس اليهود للوصول إلى هدفه. ومهد دي فوكو للسياسة البربرية الفرنسية، وتمزيق السكان بإعلانه أن البربر أقرب إلى الفرنسيين من العرب، وأنهم مستعدون في نظره لتقبل الروح اللاتينية التي انتموا إليها في العصور الغابرة، وأنهم إذا دخلوا المسيحية فسيتبعهم العرب مكرهين لا محالة. وقد سار المارشال ليوتي في المغرب والآباء البيض في الجزائر على خط دي فوكو. وظهر ذلك في السياسة الفرنسية أثناء الاحتفال بالاحتلال في الجزائر، وفي الظهير البربري في المغرب، وفي المؤتمر الافخارستي (1) في تونس 1930 وفي الجزائر 1939.
= 1932، المقالة كلها من ص 325 - 341. و (الحرائين) كلمة تعني قدماء العبيد أو الفئة الاجتماعية التي دون الاشراف.
(1)
انظر جريدة (الشريعة) لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، 31 يوليو، 1933، عدد 3. وفي 16 مايو 1930 ظهر الظهير (المرسوم) البربري. وكان هدفه فصل البربر عن العرب والمساس بالشريعة الاسلامية تحكيم الأعراف والعادات في البربر. وقد اتبعت فرنسا سياسة مماثلة في سورية خلال نفس الفترة، لتمزيق سكان سوريا. أما خلال المؤتمر الافخاريستي فقد لبس أثناءه الشبان المسيحيون الزي الصليبي وجابوا شوارع تونس. وقد انعقد في 6 مايو 1930.