الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحكام المسلمون في مختلف عهودهم غالبا متسامحين، ما عدا النادر الذي لا يقاس عليه، مع الأديان والطوائف الأخرى. ولكن ضعف المسلمين وارتباط هذه الطوائف بالدول الكبرى الغازية، ثم وقوع العالم الإسلامي نفسه لقمة في فم تلك الدول، قد جعل الحديث عن التقارب والتسامح كحديث الطرشان. فالتسامح مثل العفو والصفح، لا يكون إلا عند المقدرة. أما المغلوب على أمره فتسامحه إنما هو زيادة في إضاعة حقوقه التي استولى عليها الغالب، وهو دليل أيضا على بلادته.
المثالية والاشتراكية
ظهرت السانسيمونية أوائل القرن الماضي في فرنسا وفي غيرها من البلدان الأوروبية، على يد سان سيمون. لقد جاءت لتساهم في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على المجتمع الأوروبي من جراء الاختلال في التوازن الطبقي واختلال العدل الاجتماعي في توزيع الثروات. وكان هناك خوف كبير لدى المفكرين من أن ذلك الاختلال سيؤدي إلى البغضاء والثورة.
لذلك ظهر السانسيمونيون بأفكارهم المثالية، وبشروا بمجتمع يسوده العدل والنظام والانسجام، عن طريق التشارك والعمل الجماعي الذي يؤدي بدوره إلى التشارك في الثروة والربح عن طريق حماية الدولة. فتدخل الدولة ضروري عندهم لضمان بقاء وسير الوحدات الإنتاجية الجماعية وتوفير الوسائل المنتجة. وقد أسسوا أجهزة للإعلام والإشهار، وأخرى لاستقطاب العمال وتوفير الأرض التي تقوم عليها الوحدات الإنتاجية، وأخذوا يجربون أفكارهم في الميدان دون أن يصطدموا بالواقع، بعيدا عن الغوغائية.
وبينما كان السانسيمونيون يبحثون عن الميادين لإقامة تجاربهم النموذجية في التشارك المنتج، وقع احتلال الجزائر. وبعد السنوات الأربع الأولى التي كان الحديث خلالها يدور حول البقاء فيها أو الجلاء عنها،
تغلبت كفة البقاء، ومن ثمة تولدت فكرة استعمارها (تعميرها) باعتبارها نموذجا من الأرض الصالحة لإقامة التجارب النموذجية التي يدعون إليها (1). وكان عدد من قادة الجيش الفرنسي من المنتمين إلى الحركة السانسيمونية، كما كان عدد من المدنيين والصحفيين والنواب. وكانت الجزائر تمثل في نظرهم (المجتمع البدائي) الذي يمكن إجراء التجارب الناجحة عليه. لقد جربوا حظهم في مصر في البعثة التي قادها أونفتان Enfentain سنة 1833. ولكنهم فشلوا، فالجزائر إذن تمثل منتهى طموحهم لوجود الجيش والإدارة ووسائل الإعلام الأوروبية من جهة، والمجتمع الأهلي المؤهل لإجراء التجارب عليه من جهة أخرى. وفوق ذلك كله كانت ملكية الأرض في الجزائر من الأساس جماعية (شيوعية)، فهي ملك للقبيلة والعرش والجماعة وليست للفرد. وفيها أيضا نظام إقطاعي - ارستقراطي صالح لتطبيق التجربة.
وهكذا دخل السانسيمونيون ميدان النشاط في الجزائر وعلى جميع المستويات. وكان أونفنتان هو أب هذا النشاط، وهم حقا يسمونه (الأب). وقد أثروا بالخصوص أثناء سنوات 1850 - 1870، فهم الذين كانوا وراء المشاريع الاقتصادية الكبرى في الجزائر. وقد تأثر بهم نابليون الثالث الذي كان أيضا سانسيمونيا مثلهم، وكان مشتركا في جريدتهم المسماة (الورشة). ومن كتابهم في الجزائر توماس أوربان والدكتور وارنييه، رغم الاختلاف الكبير بهما ..
جاء أونفنتان إلى الجزائر سنة 1843، وبعد ذلك أصدر كتابا بعنوان (استعمار الجزائر). وقد وضع فيه خطة لتطبيق المشروع السانسيموني، واعتبره البعض كتابا جيدا وضع فيه المؤلف أسس نظام جديد للاستعمار في الجزائر. لقد جاء الكتاب على أثر تجربة المارشال بوجو فيما سمي
(1) نشير بذلك إلى ما يسميه المؤرخون الفرنسيون (فترة التردد) وهي عندهم من 1830? 1834، وخلالها كانت الحكومة الفرنسية لم تقرر سياستها نحو الجزائر، ولكن توصيات اللجنة الإفريقية كانت صريحة في ضرورة المحافظة على الجزائر واستعمارها.
بالاستعمار العسكري الجماعي، أي إقامة مستوطنات من الجنود وليس من المدنيين. وقد صدر كتاب أونفنتان في نفس الوقت (1843) فأقام نظرية الاستعمار الجماعي بأسلوب جديد. درس أونفنتان نظام الأملاك العقارية عند الجزائريين وقارنها بمثيلاتها في فرنسا، واستخلص الفروق. وبدا له أن الجزائر صالحة لتطبيق مبدإ إقامة التجمعات المجهولة لحل المشكل السياسي لتنظيم العمل، لأن مبدإ التجمع الصناعي ما هو، في نظره، إلا العنصر الخلاق بالنسبة لعلاقات الملكية. وقد نادى أونفنتان بضرورة تدخل الدولة بقوة في تشكيل الملكية في الجزائر. فالجيش الفرنسي يقوم فيها بأعمال الهدم، ومن ثمة يمكن للدولة أن تقوم بتنظيم البناء والعمل المنتج بواسطة الصناعة. ورأى أونفنتان أن استعمال الجيش في الأشغال العمومية هو استعمال انتقالي فقط لأن الدولة هي التي ستنشئ أجهزتها الخاصة بالأشغال العامة، وهي أجهزة دائمة.
ومن المبادئ التي توصل إليها أونفنتان أنه لا يمكن نقل نظام الملكية الفرنسي بحذافيره إلى الجزائر لاختلاف النظامين. ولكنه آمن بضرورة تولي الدولة في الجزائر شؤون الإدارة والحكم وتوجيه العمل. كما أنه لا يمكن، في نظره، الإبقاء على النظام الأهلي في الملكية بدون مساس، ولا توريد النظام الفرنسي للأروبيين في الجزائر. ومن ثمة قال بضرورة إحداث نظام جديد يقوم على مصادرة أملاك الأهالي من الأراضي، مع تعويضهم (؟)، مقترحا أن يكون النظام الجديد شبيها بنظام القبيلة العربية أكثر مما هو شبيه بنظام القرية الفرنسية. فقد لاحظ أن (الدوار) الأهلي يمثل النموذج التقريبي في إدارة الأملاك والحياة الاجتماعية التي يسعى إليها السانسيمونيون. ولذلك اقترح أن يكون المركز الجديد قائم الذات إداريا، على أن يضم العناصر الأساسية: من الشيخ إلى القاضي إلى الماء والسوق
…
ويسمى أونفنتان ذلك بالقرية الحقيقية أو المثالية التي تعمل في تشارك والتي تختفي فيها آثار الفردية. وكان أونفنتان قد عينته الحكومة منذ 1839 في (اللجنة العلمية) التي
كانت مهمتها دراسة أوضاع الجزائر (واكتشافها) من جميع النواحي (1). وكان المطلوب من الأعضاء تقديم تقرير عن الجانب الذي اختاره كل منهم بعد أن يكون قد أقام فيها وعاين أوضاعها. وقد قبل أونفنتان المشاركة في اللجنة، وذهب إلى الجزائر وأطال الإقامة فيها أكثر من غيره حيث مكث سنتين. ويقال عنه إنه كان يعتقد أنه بإطالة الإقامة وتقديم عمل شامل ومفصل عن مشروعه سيغري الحكومة بتعيينه في منصب عام يحقق من خلاله مشاريعه الاشتراكية أو التشاركية. وكانت حصيلة إقامته الطويلة في الجزائر ونشاطه (العلمي) فيها هو كتاب سابق الذكر (استعمار الجزائر).
ورغم رجوعه إلى فرنسا فإن تلاميذه قد واصلوا مهمته في الجزائر. وكان له منهم الكثير. وكانوا ينشرون الكتيبات والمقالات في الصحف حول استعمار الجزائر، ومنهم فورنيل، وتوماس أوربان، وماصول، وبراكس، ولاشيفر
…
وكان بعضهم من العسكريين (مثل بيقو Bigot ومرنقو، ولامورسيير، ولوفران، ولاباسيه، وريشار الخ). أو من العاملين في المشاريع الكبرى (مثل المهندس بوريل الذي بنى المول (المرسى) القديم عند العاصمة، والجيولوجي هنري فورنيل سابق الذكر، والأخوة طالابو في ميدان الأشغال العامة والمناجم) أو من رجال المالية (مثل إيميل روبير مؤسس بنك الجزائر الفلاحي سنة 1861)، أو المكتشفين (مثل العقيد كاريت ودوفيريه). فهؤلاء وغيرهم هم تلاميذ أونفنتان في الجزائر. بالإضافة إلى عدد من الفنانين والأطباء والتجار وتلاميذ مدرسة الصنائع/ البوليتكنيك). وفي بعض الأحيان أصبح السانسيمونيون يسيطرون على الإدارة في الجزائر أيضا. فقد كان ثلاثة ولاة منهم في وقت واحد (د. وارنييه في وهران، والعقيد كاريت في قسنطينة، والصحفي لاكروا في الجزائر)، وكان ذلك في نهاية الأربعينات.
إن حاشية الامبراطور نفسه كانت منهم. فالجنرال فلوري كان
(1) عن هذه اللجنة انظر فصل الاستشراق.