الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليهودية والصهيونية
مسألة اليهود الجزائريين تناولها كتاب كثيرون، ومنهم ايزنباخ وشوراقي ومارتن وكوهين. وكان اليهود يقطنون مختلف المدن الجزائرية، ومنها العاصمة، حيث تساكنوا وتعايشوا مع الجزائريين المسلمين في السراء والضراء منذ قرون، وتكونت بينهم رابطة خاصة من التضامن بعد الطرد الإسباني للمسلمين واليهود على حد سواء. وأصبح اليهود متميزين بأحيائهم الشعبية ومدارسهم وبيعهم (جمع بيعة) ومهنهم التي كانت لا تخرج عن المتاجرة في الحلي من الذهب والفضة، وكذلك خياطة الأقمشة. كما كانوا يتاجرون في العملة بالقروض وتصريف الأموال التي نسميها اليوم نظام البنوك. وفي العهد العثماني الأخير برز اليهود في ناحيتين على مستوى السلطة، الأولى هي الترجمة بين أرباب الدولة والقناصل الأجانب (وكذلك بين التجار المسلمين وغيرهم)، والثانية هي احتكار التجارة الخارجية للجزائر وإقامة شركات ودور تجارية في ليفورنيا ومحطات في الجزائر ومرسيليا. ويعني ذلك دخولهم في تجارة ومشاركة واسعة مع أرباب السلطة أنفسهم، كالدايات والوزراء والبايات. وقد صعدت عائلة بكري وعائلة بوشناق في آخر القرن 18 نتيجة هذه العلاقة، وانتهت بالتدرج إلى سوء التفاهم بين فرنسا والجزائر وإلى تأزم الموقف ثم الحملة فالاحتلال (1).
= إضافة إلى المراجع الأخرى التي أشرنا إليها في فصل الطرق الصوفية. وانظر أيضا نيكو كيلسترا N. Kielstra (تدهور التنظيم القبلي لوادي سوف) في (مجلة الغرب الإسلامي والبحر الأبيض)، رقم 45، سنة 1987، ص 21 - 22. وقد نشرت مجلة (الثقافة) الجزائرية دراسة عن إيزابيل لمحمد الصالح دمبري وترجمة حنفي بن عيسى خلال السبعينات.
(1)
عن الدين الذي ترتب على فرنسا للجزائر من جراء التجارة مع اليهود وأسباب الحملة الفرنسية، انظر كتابنا (محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث - بداية الاحتلال) ط. 3. وكذلك بحث محمد العربي معريش عن اليهود أثناء العهد العثماني، وهو البحث الذي أعده كجزء من تحضير الماجستير تحت إشرافي. وفي سنة 1993 قدم =
تاريخيا، كانت معاملة اليهود عموما معاملة حسنة من قبل السكان ومن أرباب الدولة. حقيقة أن المشاعر الدينية وتقوقع اليهود، كأقلية، واستغلالهم الاقتصادي للسكان مثل التعامل بالربا، كان يؤدي أحيانا إلى نظرة احتقار نحوهم. فالمسلم كان يشعر بالتفوق الديني على اليهودي انطلاقا. من حكم القرآن نفسه الذي يصف اليهود بأنهم عصوا الله بعد أن مكن لهم في الأرض. ولكن العلاقات الاجتماعية كانت في الحدود الشرعية وما يقتضيه تبادل المنافع. وكان الأطفال المسلمون أحيانا يعتدون بالكلام وأحيانا حتى بالإيذاء البدني على الأطفال اليهود، وفي بعض الأحيان حتى على الكبار منهم. ولكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان أيضا شائعا، وقلما يتسامح المسلم في إيذاء جاره أو يجاوز حدود الأدب والشريعة إلا إذا كان مسلما سفيها.
أما معاملة أرباب السلطة لليهود فكانت غير مستقرة. كانت المنافع متبادلة بينهم كما قلنا، وكان اليهود يتدخلون عن طريق الهدايا والرشاوى في الأمور السياسية الداخلية أيضا، كتبديل البايات وعزل الوزراء ومهاداة النساء للتأثير بهن على قرارات الدولة. وفي مقابل ذلك كان اليهود يحصلون على امتيازات ضخمة في التجارة الخارجية، كما قلنا، ثم التجارة الداخلية، حيث أصبحوا يتحكمون في الطرقات والأسواق ويشترون البضائع من أهل الريف والبادية بأثمان بخسة، ثم يتصرفون فيها فينالون منها أرباحا طائلة وهي ما تزال في داخل البلاد. وكان اليهود هم خبراء المسالك وأنواع البضائع المتداولة في الجزائر وإفريقية مع أوروبا. وكانت مبالغة اليهود في الثراء على حساب السكان، وسيطرتهم وشحهم في مقاسمة الأموال مع السلطة التي تحميهم، قد أدت إلى ضربهم أحيانا بقسوة كما حدث زمن الداي مصطفى باشا (ت. 1805). وكان ضربهم هذا وسيلة لتهدئة الغضب الشعبي وشراء
= لي شخص نسيت اسمه، دراسة مطولة ذات فصول عن تاريخ اليهود في الجزائر منذ أقدم العصور لأعطيه رأيي فيه، وقد فعلت. وأعتقد أن اسم المؤلف عندي بالجزائر ضمن أوراقي. وكانت الدراسة مشوشة وتخفي وراءها نوايا وأهدافا باطنية.
سكوت الانكشارية التي كانت تهدد بالثورة. ومن جهة أخرى فقد ثبت للسلطات الجزائرية أن اليهود كانوا يعملون لحساب دول أوروبية أيضا مثل فرنسا، ذلك أن (تاليراند) وزير الخارجية، كان يحمي مصالح اليهود في أوروبا لأغراض سياسية واقتصادية لمصالح فرنسا.
ولعل ما يكشف عن توغل اليهود في شؤون الجزائر هو رقابتهم لأنواع العملة الداخلة إلى خزانة الدولة، فقد كانوا في العهد العثماني هم الذين يزنونها ويفحصونها ويحكمون بزيفها أو أصالتها، سواء كانت ذهبية أو فضية. ومن ثمة كانوا على علم بكميتها وقيمتها في الصعود والهبوط، حسب الأسواق الدولية. وقد ظلوا يتمتعون بهذه الثقة حتى عندما كانت تحدث الأزمة بينهم وبين بعض الدايات. وكان الذي رشحهم إلى هذه المهنة الدقيقة جدا، هو خبرتهم بالعملات من جهة، وكونهم في نظر السلطة لا يشكلون خطرا من جهة أخرى، إذ هم كأقلية لا يهددون بثورة أو طموح في حكم. ولكنهم كانوا غالبا محل رقابة شديدة. ومع ذلك فمن قال إنهم كانوا في منتهى النزاهة والأمانة والخبرة؟ والمعروف أن الأمير عبد القادر كان يستعمل عددا من أعيان اليهود في مختلف شؤونه، ومنها الترجمة، والنيابة عنه في التفاوض مع الفرنسيين والجوسسة والتجارة، وغيرها. وتوجد عدة مراجع تحدث عن ذلك.
ورغم هذه (الحظوة) التي كان اليهود يحظون بها في الجزائر على المستوى الرسمي وحتى الشعبي، فإنهم بادروا إلى الترحيب بالفرنسيين وسارعوا إلى التعامل مع رجال السلطة الجديدة، مظهرين الاستعداد لكشف أسرار المسلمين والفرح بزوال حكم الترك، حسب التعبير الشائع عندئذ، رغم أن قضية ديون اليهود مع فرنسا هي التي كانت السبب المباشر في الاحتلال، كما أشرنا. كما أظهر اليهود التشفي بالمسلمين على إثر الانتقامات التي ارتكبها الفرنسيون ضدهم كاغتصاب المنازل والقصور، والاعتداء على المساجد والمقابر، ونفي الأعيان من البلاد. وقد ظهر اليهود في هذه الأثناء على أنهم هم الخبراء (الوسطاء) بين المسلمين والفرنسيين، فكانوا هم التراجمة والتجار والأدلاء. وقد عاملهم الفرنسيون على قدر استعدادهم أيضا،
فأظهروا لهم العطف ومكنوهم من المعاملة وقربوهم إليهم في كل ما أحدثوه، ورفعوا عنهم الضيم، وشاوروهم في الأمور، وأصبح منهم أعضاء في كل مجلس وكل لجنة وكل محكمة كعنصر لا غنى عنه في المجتمع. ويجب القول هنا إن اليهود لم يكونوا على رأي واحد في هذا التصرف، ولكننا نتكلم هنا على سير الأحداث العامة. كما يجب القول إن الفرنسيين لم يكونوا أيضا مخلصين في معاملتهم لليهود، ولكنهم كانوا في أشد الحاجة إلى جهة وسيطة وهي الجهة التي كانت في نظرهم (مضطهدة) في العهد التركي، واعتقدوا أنها ستخلص لهم وتمحضهم النصيحة.
كان عدد اليهود قليلا ولكنهم كانوا نشطين وفعالين، ففي مدينة الجزائر كان عددهم حوالي أربعة آلاف، عند الاحتلال. وقد بلغ أكثر من ستة آلاف (6،655) سنة 1838. وخلال العشرية الأولى للاحتلال كان عددهم غير متوازن في المدن، لا سيما تلك التي جرت فيها المعارك وانسحب منها المسلمون كعادتهم. فبينما ذكر أن عدد اليهود في وهران عند الاحتلال كان ضئيلا (حوالي ألف) وجدنا العدد قد ارتفع بعد استقرارها في يد الفرنسيين إلى أكثر من ثلاثة آلاف (3، 364) سنة 1830. وفي عنابة كان عدد اليهود في هذه السنة 421 فقط، بينما لم يكن في مستغانم وبجاية يهود على نفس العهد (1).
كما كان اليهود في العهد العثماني يتمتعون بنظامهم الديني والاجتماعي. وكانوا يتحدثون العربية الدارجة، ولهم مدارسهم الخاصة التي تعلم العبرية، وكانت لهم محاكمهم وربيوهم، ولباسهم وتقاليدهم ومواسمهم الدينية المعترف بها كأهل كتاب. ويقول أحد المعاصرين إن اليهود سنة 1830 كانوا (عربفون) أي يتحدثون العربية، ويظهر عليهم الطابع
(1) السجل (طابلو) سنة 1839، ص 55. بينما تذكر إحصاءات عشية الثورة الجزائرية 1954، أن عدد اليهود في الجزائر قد أصبح 120،000، وكلهم كانوا يتمتعون بالجنسية الفرنسية. انظر لويس ماسينيون (الحولية) سنة 1954، باريس، 1955، ص 230.
البربري القوي، وكانت لهم الميول الحضرية، ويظهر ذلك في حفلاتهم ومناسباتهم، وفي رقصهم وموسيقاهم. وكانوا مختلفين جدا عن يهود الأشكينازي الذين يعيشون في أوروبا الوسطى. فيهود الجزائر كانوا يقدسون بعض الشخصيات (الأولياء) الذين هاجروا من الأندلس في القرن 14، ويذهب الزوار منهم إلى قبور هؤلاء الأولياء ويوقدون عندهم الشموع ويعطون الصدقات. وكانت لهم مقبرة في باب الواد. وكان لهم في تلمسان ولي يدعى (راب إفرائيم انكاوة) توفي سنة 1392 م. ولهم زعماء في العاصمة، مثل سيمون بن دوران (1).
ولكن الفرنسيين أخذوا يميزون اليهود عن المسلمين كما ذكرنا. يقول حمدان خوجة إن الفرنسيين قد عاملوا اليهود معاملة حسنة خلافا للمسلمين، فأعفوهم من سوء المعاملة التي خضع لها المسلمون في أملاكهم ومساجدهم. وأصبح اليهود، كما يقول خوجة، يتجاسرون على المسلمين، سيما أهل الريف (البدو)، ولم يعاقبهم الجيش الفرنسي على ذلك التجاسر، مع أنه قد ترتبت عليهم غيرة وأنفة، أي محاسدة ومباغضة من الجانبين. فاليهود (لم يحفر لهم قبر، ولم يهدم لهم ملك (2)، ولم تؤخذ لهم شنوغة (بيعة) بل شنوغاتهم اليوم أزيد من جوامعنا الباقية بأيدينا، والشنوغات وإن كانت داخلة في الشروط (اتفاق 1830) إلا أنها ضمنا ومساجدنا صارحة (كذا)) (3). وحمدان خوجة الذي كان من بين من حث على الاستسلام (المشروط) يحتج بأن المساجد التي نصت عليها الشروط قد هدمها الفرنسيون وأهانوها، بينما بيع اليهود التي لم تنص عليها الشروط قد أبقاها الفرنسيون واحترموها وزادوا منها.
ومن هذه المراعاة الفرنسية الموقف من المدارس. لقد كان اليهود في
(1) بيير قوانار (الجزائر)، ص 297.
(2)
في الأصل (ولم يهدم له ملك).
(3)
مذكرة حمدان خوجة إلى رئيس الوزراء الفرنسي، سنة 1833، انظر قنان (نصوص)، ص 58.
البداية متحفظين كالمسلمين من إرسال أولادهم إلى المدارس الفرنسية. إذ كان هدف الفرنسيين هو نشر اللغة الفرنسية بين أطفال المسلمين واليهود. ويقول جان ميرانت إن الفرنسيين لم يتمكنوا من جمع التلاميذ عند معلم واحد مسلم أو يهودي للعداء الذي كان بينهم، (وهو عداء ربما كان في ذهن الفرنسيين فقط). لذلك لجأ الفرنسيون إلى ما أسموه بالمدارس الخاصة، أي مدرسة فرنسية للمسلمين ومدرسة مثلها لليهود. ونظرا للتقارب الجديد بين الفرنسيين واليهود، فإن أول مدرسة فرنسية كانت لأبناء اليهود في العاصمة أحدثت سنة 1832، بينما لم تحدث المدرسة الفرنسية الموجهة للمسلمين (الحضر) سوى سنة 1836. وفي هذه السنة استحدث الفرنسيون مدرسة لبنات اليهود أيضا. ثم في سنة 1855 استحدثوا لهم معهدين (متوسطتين) فرنسيين في العاصمة. أما في وهران فأول مدرسة فرنسية لليهود (البنين) كانت سنة 1833، وفي عنابة سنة 1837 (1).
وصدر سنة 1845 مرسوم ملكي فرنسي ينظم الديانة اليهودية في الجزائر. كما نظم المرسوم طريقة إنشاء وتسيير المدارس. وتكفلت الإدارة الفرنسية بمنح الأماكن للملاجئ اليهودية وإنشاء المدارس للجنسين منهم. وكانت هذه المدارس تعتمد على المعونات من الجمعيات الدينية وعلى ما يدفعه الأطفال أنفسهم، ثم المساعدات الحكومية. وقد وضعت هذه المنشآت تحت رقابة الإدارة الفرنسية، ولكنها كانت تستشير الجمعيات الدينية لليهود، وهي السلطات الروحية (الكونسيستوار) فيما يتعلق بتعيين أو عزل المعلمين وإجراءات الانضباط، وكذلك ما يتعلق بمواد الدراسة ولجان المدارس. وكان التعليم في المدارس اليهودية يشمل الدروس الدينية واللغة الفرنسية، كما تكفل الربيون بمراقبة المدارس والمعلمين. وفي مدارس البنين كان المعلمون اليهود يتكفلون بالمواد الدينية، أما المعلمون الفرنسيون فيتكفلون بتعليم القراءة والكتابة والحساب باللغة الفرنسية. وأما مدارس
(1) جان ميرانت (كراسات الاحتفال المئوي)، 1930، ص 76.
البنات اليهوديات فكانت تديرها نساء يهوديات.
وهذا النوع من المدارس الفرنسية - اليهودية الذي كان يشبه المدارس الفرنسية الشرعية الموجهة للمسلمين بعد التسعينات، كان غير متطور في نظر الفرنسيين. فالبنات بدأن سنة 1836 بعشرين تلميذة ووصلن بعد ذلك إلى 80، ولكن لم يسجل سنة 1843 سوى ست عشرة بنتا. كما أن البنين من اليهود لم يكونوا يواظبون أكثر من سنتين، كما جاء في تقرير رسمي سنة 1843. فقد لوحظ أنهم بمجرد تعلمهم القراءة والكتابة والحساب (المواد الفرنسية) يغادرون المدرسة. ووصل الأمر إلى أن طالب أحد المعلمين بإغلاق مدرسة وهران سنة 1865 لأن التلاميذ لا ينصفون المدرسة ولا يقدمون عنها صورة صحيحة. ولاحظ الفرنسيون أن ذلك راجع إلى كون التلاميذ يفضلون المدارس الفرنسية، وهم (أي الفرنسيين) يسمون ذلك مدارس التعليم المشترك (موتويل). فقد كان عدد التلاميذ اليهود في هذه المدارس أكثر من عدد تلاميذ المدارس المسماة الخاصة باليهود، سواء في ذلك البنون والبنات. وحسب بعض الإحصاءات فقد كانت مؤسسات التعليم العمومي الفرنسية سنة 1838، تضم 145 طفلا و 85 طفلة من اليهود. وحوالي نفس العدد كان في المدارس اليهودية أو الخاصة، بنين وبناتا. وكان إحصاء 1863 قد أثبت وجود 2،973 تلميذا، يهوديا في التعليم العمومي الفرنسي، منهم 597 تلميذة (1).
وكان اليهود، رغم المعاملة الخاصة، يعتبرون (أهالي) أو أندجين، في نظر القانون الفرنسي، مثلهم في ذلك مثل المسلمين. وكانت القوانين الرسمية لا تمنحهم حق المواطنة الفرنسية لأنهم (أهالي) فهم أيضا رعايا فرنسيون. ومرسوم 1865 الخاص بالجنسية الفرنسية أو التجنس بشروط، منها التخلي عن الأحوال الشخصية، غير خاص بالمسلمين بل كان يشمل الأهالي جميعا، بمن فيهم اليهود. ولم يمض على صدور هذا المرسوم
(1) ميرانت، مرجع سابق.
خمس سنوات حتى صدر قرار أدولف كريميو بتجنيس يهود الجزائر دفعة واحدة. وكان كريميو يهوديا ووزيرا للداخلية في حكومة بوردو سنة 1870، وطالما طالب سابقا، وهو خارج الحكومة، بتجنيس اليهود، وكذلك بادر كوزير إلى إنقاذ أهل دينه، في نظره، بمنحهم الجنسية والمواطنة الفرنسية التي تعطيهم كامل الحقوق السياسية والمدنية. وبينما كانت المستعمرات، ومنها الجزائر، تعاني من ويلات الاستعمار الذي انطلق منذئذ في قمع الشعوب بقسوة ونجا يهود الجزائر (الأندجين) سابقا من ذلك القمع، بل وارتفعوا إلى حالة المواطنة وأصبحوا فئة محظوظة وسط الأهالي الآخرين، بل أصبحوا في نظر بقية السكان (مستعمرين) كالفرنسيين تماما، وأصبحوا حكاما مطاعين، بيدهم الحل والعقد، والأمر والنهي، والسياسة والاقتصاد. والمثل يقول: ويحك من الضعيف إذا عز!
لم يرحب كل اليهود بقرار كريميو بالتجنس الجماعي الذي لم يستشاروا فيه. ولكن أغلبيتهم رضيت به، ورأته وسيلة للسلطة والملك ورفع الرأس والتحرر والخروج من المعاملة الخاصة. وربما لم يفكر هؤلاء عندئذ في الحركة الصهيونية ولا نشأة إسرائيل ولا في ظهور هتلر ولا ثورة الجزائر. ذلك أن الغيب لا يعلمه إلا الله، ولا يتكهن به إلا قليل من العباقرة، ولكن سنن الطبيعة كانت تقتضي أن دوام الحال من المحال وأن العاقل من فكر في البعيد لا في القريب. وحتى اليهود الذين تحفظوا أول مرة من قرار كريميو رضوا به بعد ذلك ورأوه فرصة ذهبية يجب اغتنامها. وهكذا أصبح الفرنسيون في الجزائر واليهود متساوين في الحقوق والواجبات أمام القانون، وبقي المسلمون وحدهم في الدرك الأسفل، رعايا فرنسيين، محرومين محتقرين مستغلين أبشع استغلال، تحكم عليهم محاكم الصلح الجائرة طبقا لقانون الأندجينا وتسلط عليهم سياط المتصرفين الإداريين في البلديات المختلطة.
واستقبل الرأي العام الفرنسي في الجزائر قرار كريميو بمشاعر مختلطة. بعضهم قبله كأمر واقع، وبعضهم نظر إليه على أنه ضربة لمصالحهم الاقتصادية والسياسية. حقيقة أن يهود الجزائر لن يشكلوا خطرا سياسيا على
التوازن بين الأوروبيين، ولكنهم سيلعبون ورقتهم كحزب مرجح في الانتخابات في مختلف المستويات، وبذلك يصبحون قوة كبيرة ضاغطة. وكان دور اليهود الاقتصادي في الجزائر وارتباطاتهم بيهود فرنسا وأوروبا عموما قد جعلهم خطرين في هذا الميدان بالنسبة لفرنسي الجزائر. وقد أثبتوا من قبل معرفتهم بالبلاد وبأسواقها وعاداتها ولغتها. ولذلك وقع التململ الشديد ضدهم في الأوساط الفرنسية. ويقول شارل أندري جوليان إن الضغط كان شديدا على حكومة بوردو لإلغاء قرار كريميو حتى أن تيير Thier (رئيس الجمهورية) كان سيتراجع عنه. ولكن حاجته إلى دعم الثري اليهودي، ألفونس دي روتشيلد، صاحب البنوك والأموال، لكي يقدم قرضا تدفعه فرنسا لتحريرها من ألمانيا نتيجة حرب السبعين، هي التي جعلته يتمسك بقرار كريميو. وكان الكثير من فرنسيي الجزائر مستعدين لرؤية اليهود (الإسرائيليين) يتعاطون التجارة والحرف، ولكنهم كانوا ينظرون إليهم بعين السخط بالنسبة للمهن الحرة وبعين التقزز والامتعاض بخصوص التعليم، لأنهم كانوا يعتبرون اليهود سلالة دنيا. أما المجال السياسي، فهو، كما يقول جوليان، مرفوض لليهود نظرا لتأثير المنشآت الدينية (الكونسيستوار) عندهم على الجماهير (1).
وقد حاول البعض أن يربط بين تجنيس اليهود الجماعي وثورة 1871 ورأوا أن من أسبابها اشمئزاز المسلمين من حكم اليهود، وشعورهم بالنقص مما قلب الأوضاع السياسية التي كانت سائدة. وقد يكون لقرار كريميو دور في الثورة ولكن بوجه آخر، وهو أنه كان يدل على ضعف فرنسا الذي ظهر في الهزيمة نفسها، فالقرار ماهو إلا متابعة للهزيمة العسكرية الفرنسية وسقوط نابليون واحتلال باريس، وتغيير الحكم في الجزائر إلى حكم مدني وتمكين اليهود من رقاب المسلمين. أما الشعور العام لدى المسلمين فهو احتقارهم لليهود لأنهم قد غيروا دينهم (وطورنوا)،
(1) شارل أندري جوليان (إفريقية الشمالية تسير)، ص 29 - 30.
حسب التعبير العشبي. فالمسلمون لم يحسدوا اليهود على نعمتهم بل رثوا لحالهم، وتأكد لديهم (حرص اليهود على الدنيا) ولو على حساب دينهم (1). ويمكننا القول إن المسلمين قد ازدادوا قناعة، في ضوء ما وقع لليهود خلال عقدي الثمانيات والتسعينات مع الكولون، بأنهم كانوا على حق عندما رفضوا عرض نابليون التجنس بشروط، وازدادوا اعتزازا وتمسكا بدينهم الذي كان يمثل (هويتهم).
وسرعان ما بدأ التوتر بين الفرنسيين الأوروبيين واليهود الأهالي عند إجراء أول انتخابات في الجزائر. وظهرت (معاداة السامية) مكشوفة، كلما حدثت معركة انتخابية. ويقول جوليان إن (درومون) الذي ألف كتابا، بعنوان (فرنسا اليهودية) والذي نسب فيه كل المساوئ التي حدثت في فرنسا إلى أعمال اليهود، هو الذي فاز فوزا ساحقا بمدينة الجزائر في انتخابات سنة 1897. وقد ظهرت معاداة السامية على أشدها عندما أصبح رئيس الحزب المعادي لليهود، وهو ماكس ريجس، رئيسا لبلدية الجزائر. كان ريجس لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره عندئذ، ويقولون إنه كان من المتجنسين حديثا بالجنسية الفرنسية ومن أصل إيطالي. وفاز معه معاونه أيضا، على نفس البرنامج الذي يتلخص في ضرورة تركيع اليهود والقضاء عليهم. وكان هذا الحزب يطالب بإلغاء قرار كريميو، ودخل مع اليهود في معارك جرت في مدينة الجزائر وفي غيرها، وحاول جر المسلمين إلى هذه اللعبة ولكنه فشل ليقظتهم لعواقبها. وكادت (فرنسا الجزائرية) تدخل في حرب أهلية عمياء لولا السياسة التي اتبعها والدك روسو، رئيس الحكومة الفرنسية، والحاكم العام لافيريير. فقد ألغى هذا الحاكم الانتخابات البلدية واتبع سياسة الصرامة والتدخل الإداري. ولم تفشل الحركة المعادية للسامية، رغم أنها لم تنل مطلوبها، إذ بقيت إلى الحرب
(1) قارن ذلك بما نشره يحيى بوعزيز في مجلة (الثقافة) عن موقف المسلمين من تجنيس اليهود، وقد نشر وثيقتين لأعيان قسنطينة، إحداهما تنفي تأثرهم بالقرار والأخرى تثبت تأثرهم به، لأن القرار جعل اليهود هم فرنسا بحملهم السلاح، أي هم السلطة.
العالمية الثانية توالي ضغطها حتى حكم لها نظام فيشي، أي بإلغاء قرار كريميو، سنة 1941.
قلنا إن معاداة اليهود لم تنقطع بعزل ماكس ريجس وإنما تحولت إلى نوع من التهدئة والتوافق. وقد ظهرت صحف عديدة تتحدث عن معاداة السامية واليهود خلال العشرية الأولى من هذا القرن (1). ويقول أحد الكتاب إن الاضطهاد قد نشط العقيدة الدينية عند يهود أوروبا، ولذلك بدأت حركة ريجس في الجزائر شاذة عن القاعدة، لأنها ليست، في نظر هذا الكاتب، حركة مضطهدة دينيا. وكذلك كان إجراء حكومة فيشي ضد اليهود، فهو إنما جاء نتيجة لمعاداة السامية. وكانت الضجة التي فجرتها حادثة (دريفوس) في فرنسا ما تزال تهز المجتمع عندما قامت حركة ريجس في الجزائر. ولذلك حاول رئيس الحكومة الفرنسية (والدك روسو) أن يطفئ النار قبل استشرائها. ويذهب جوليان إلى أن المشاعر المعادية لليهود ظلت كالنار في الرماد بين الفرنسيين إلى أن ظهر هتلر، وكره الفرنسيون الجبهة الشعبية، لأن رئيسها (ليون بلوم) يهودي، وهي الكراهية التي أدت إلى أن يدخل حزبان (الحزب الاجتماعي والحزب الشعبي) في دعاية قوية لتجنيد الأوروبيين وحتى العرب في صفوفه بالجزائر. وقد تزعم (دوريو) المناداة بإلغاء قرار كريميو أيضا. سنة 1938 وأصبح ذلك هو كلمة السر في الموضوع. وقد تحقق ذلك في عهد فيشي، كما قلنا (2).
كان يهود الجزائر من الفرع المعروف بالصفرديين. وقد حافظوا على تقاليدهم الاجتماعية والدينية في وجه الحضارة الأوروبية. وظلوا على نظامهم الأبوي، فالأب هو رئيس العائلة وهو الذي يتصدر المائدة ويقرأ الدعاء بالشكر والحمد، وهو يصلي الصلوات اليومية ويذهب إلى البيعة كل سبت، ويحتفل بالمواسم الدينية. وليس ضروريا أن يكون الأب
(1) انظر بحث إيمانويل سيفان (الاستعمار والثقافة الشعبية في الجزائر) في كتابي أبحاث وآراء، ج 4.
(2)
جوليان، مرجع سابق، وكذلك قوانار (الجزائر) مرجع سابق، ص 298.
عالما دينيا. وقد ألف بعض علماء اليهود إرشادات لتربية وتوجيه الجيل الجديد مثل (مواعظ هلاخيك) التي ألفها داود كوهين سكالي سنة 1861 وهو من مواليد وهران. وقد راجت مواعظه بين يهود شمال وافريقية. وفي سنة 1865 نشر الأخوان حاييم ويعقوب كوهين سلال (هقادة دي بيسه) بالحروف العبرية. وكان على الأولاد اليهود أن يحفظوا (التوراة) كما يحفظ المسلمون القرآن الكريم، وهم يستعملون مع الأطفال طريقة الضرب أحيانا. وبعد حفظ التوراة كان الأولاد يحفظون التلمود. وكانت المرأة عندهم لا تتعلم مثل الرجل، ولكنها كانت حرة في دخول البيعة. وقد طبق عليهم الفرنسيون النظام الذي سنه نابليون الأول (1808) ليهود فرنسا. فأنشأت لهم فرنسا هيئة (الكونسيستوار)، وهي هيئة مركزية مقرها الجزائر، ولها فرعان أحدهما في وهران والآخر في قسنطينة.
وإلى جانب ذلك عينت عليهم فرنسا ربيين غير جزائريين بناء على اقتراح تقدم به يهود باريس (؟) فالربي يجب ألا يكون من أهل البلاد، فكان الربيون (ومنهم فيل weil، وقوقنهايم، وشارلفيل، وايزنباخ) كانوا لا يصلون بهم بالطريقة المعهودة عندهم، وكان تكوينهم مختلفا عنهم، ولذلك كان يهود الجزائر يصدمون من بعض تصرفات ربييهم، كالصراخ وبعض الممارسات الغريبة الصادرة عنهم. وقد بنى اليهود لأنفسهم، كما بنت لهم فرنسا، البيع (المعابد) حتى بلغت 112 في الجملة، ووصلت المعابد الكبيرة إلى خمسة، وكان أكبرها هو معبد وهران. ونشطت حول هذه البيع الجمعيات الرياضية والثقافية وكذلك التعاضديات والكشافة. وكان هناك أيضا (الاتحاد الإسرائيلي العالمي) الذي أنشئ في آخر القرن الماضي. وكان اليهود قد عرفوا أيضا الاتجاه المحافظ والاتجاد الليبرالي في تفكيرهم. وتراوحوا بين التعليم الديني والتعليم اللائكي الذي فرضته فرنسا منذ الثمانينات من القرن الماضي. وقد ثبت لليهود أن تلاميذهم لا يرغبون في المدارس الدينية التي كانت تنافسها مدارس الحكومة، فخسروا تلاميذهم كما خسر الاتحاد الإسرائيلي المذكور تلاميذه لصالح التعليم اللائكي، ولم يعد التلاميذ
المراهقون يهتمون بالتوراة والتلمود (1).
وليس لدينا دراسة شاملة ودقيقة عن تجنيد الحركة الصهيونية ليهود الجزائر. فلا نعلم متى بدأ تغلغلها بينهم، ولا متى بدأت نشاطها ولا مدى نجاحها أو فشلها. وهناك مسألتان نذكرهما هنا، الأولى هي صلة الماسونية بالصهيونية. والثانية وجود نشاط صهيوني بارز خلال الثلاثينات في الجزائر. أما المسألة الأولى فلا نطيل فيها لأنها أصبحت معروفة ومدروسة، وإنما نريد أن نذكر أن الماسونية قديمة في الجزائر قدم الاحتلال، إن لم تكن قد سبقته. ذلك أن بعض قادة الجيش الفرنسي وبعض السياسيين الذين نفتهم الحكومة الفرنسية كانوا أعضاء في الماسونية. وقد تأسست محافل وفروع ورموز لهذه الجمعية (أو التنظيم) السرية منذ أوائل الاحتلال، وتطورت وتشعبت كلما تطورت المدن وتمركز السكان وظهرت الصحف والنوادي والجمعيات، وانتشر التعليم.
أما المسألة الثانية فنقول عنها إن الحركة الصهيونية التي تشكلت رسميا في آخر القرن الماضي، قد تسربت إلى الجزائر عن طريق أجهزة الإعلام وتكوين العملاء في مختلف المدن والنوادي، وربما لم تجد الطريق ممهدة كما في فرنسا وأوروبا، ولكنها مع ذلك استطاعت أن تبني جسورا بينها وبين اليهود في الجزائر كما فعلت مع اليهود في فرنسا. ولا نعرف الآن ما موقف السلطة الفرنسية المحلية منها، لأن السياسة الفرنسية عادة تختلف في الأرض الفرنسية عنها في المستعمرات. ويقول السيد قوانار: إن الحركة الصهيونية هي التي نشطت اليهودية إذ حققت لليهود اعتزازهم بذاتهم، وزادتهم حرب الجزائر، حسب تعبيره، حماسا، وهي الحرب التي أدت إلى هجرتهم الجماعية. وهو يقول إن مدرسة الربيين كانت مفتوحة في بوزريعة قبل الهجرة اليهودية من الجزائر. والواقع أن (حرب الجزائر) لم تؤد إلى هجرة اليهود
(1) قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 297 - 298، في هذا المصدر بعض الإحصاء ات عن تناقص التلاميذ في الاتحاد الإسرائيلي بين 1900 و 1958.
وإنما الذي أدى إلى هجرتهم هو قبولهم بالتجنس الفرنسي سنة 1870 فعاملهم الجزائريون معاملة الفرنسيين (1). والمقصود (بالهجرة) هنا الهجرة إلى فرنسا وليس إلى فلسطين. ولكن الحركة الصهيونية أدت إلى هجرة الكثير من اليهود الجزائريين إلى فلسطين منذ 1848، وهذه الهجرة لم يتحدث عنها (قوانار)(2). فقد فرغت القرى والمدن الصغيرة من الجاليات اليهودية على إثر قيام دولة إسرائيل.
ويعرف رجال الحركة الوطنية بعض أعيان الحركة الصهيونية في الجزائر، سواء الظاهرين منهم أو المتخفين تحت أسماء النوادي الماسونية وغيرها. وكانوا منزرعين في مختلف أنحاء البلاد. ومن أبرزهم في الثلاثينات، حسب بعض المعاصرين، الدكتور لوفراني والجنرال ويس. وكان الدكتور لوفراني بالذات ملازما لنادي الترقي في العاصمة حيث الفكر الإصلاحي والتيار العربي المعادي للصهيونية ولاستيطان اليهود في فلسطين. ومن أبرز المنشطين لهذا التيار كان الشيخ الطيب العقبي، مدرس النادي المذكور وخطيبه. وكان الشيخ العقبي معروفا بمواقفه المدافعة عن حق العرب والمسلمين في فلسطين ومن المتصلين الدائمين بالمشرق العربي وقضاياه. وقد نشطت الحركة العربية المعادية لدعوى اليهود والصهيونية في العودة إلى فلسطين منذ مؤتمر القدس 1931، وقامت المظاهرات والثورات في فلسطين وعلى رأسها: عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني، وحدثت معركة القسطل وغيرها. ومن جهة أخرى حدثت في قسنطينة فتنة بين المسلمين واليهود في غشت 1934. وقد فسرها البعض تفسيرا قوميا ودينيا، أي بين قوميتين ودينين. وكانت أحداث فلسطين والنشاط الصهيوني يجد صداه في الصحف الإصلاحية والوطنية عامة. وقد عزا بعضهم اتهام العقبي بالتحريض على قتل الشيخ كحول بأنه من آثار هذه اللعبة السياسية، وأن
(1) مع ذلك حاولت الثورة أن تفصلهم عن بقية الفرنسيين وأن تعاملهم معاملة خاصة على أساس أصولهم. انظر مقررات مؤتمر الصومام 1956.
(2)
قوانار (الجزائر)، مرجع سابق، ص 298.
العقبي كان ضحية، إذ الهدف هو إسكات صوته المضاد للصهيونية. والغريب أن الذي قام يدافع عنه بعد اعتقاله هو الدكتور لوفراني نفسه.
وقد أخبرني المرحوم الشيخ المهدي البوعبدلي في إحدى رسائله أن نادي الترقي ظل (يسيره) الدكتور لوفراني (عدة سنوات). وهو الذي كان في ذلك العهد رئيسا لفرع الجزائر للحركة الصهيونية. أما المشرف العام على نشاط هذه الحركة في شمال إفريقية فهو الجنرال ويس الذي كان قائد الطيران أثناء حوادث 8 مايو 1945. وأضاف الشيخ البوعبدلي أن المرحوم الشاذلي المكي قد أكد له ذلك بمصر، وأن (مأساة) وقعت له هو (المكي) شخصيا بنادي الترقي مع لوفراني. ونحن نعتقد أن هذا الكلام فيه غموض ويحتاج إلى دقة: فما معنى أن (يسير) لوفراني نادي الترقي، وكانت للنادي لجنته ومسيروه المسلمون؟ وما (المأساة) التي تعرض لها الشاذلي المكي في النادي؟ وهل صحيح أن الجنرال ويس هو قائد الطيران الفرنسي سنة 1945؟ وقد أحالني الشيخ البوعبدلي على المرحوم الشيخ حمزة بوكوشة الذي قال عنه إنه (أكثر المعاصرين اطلاعا) على بعض الخبايا، ومنها قضية تسيير النادي (1). وقد أكد لي الشيخ البوعبدلي ذلك مرة أخرى في بطيوة بداره (زاوية العائلة) في 23 يونيو، 1988 إذ قال إن الشيخ العقبي كان (محاصرا) من الدكتور لوفراني اليهودي الذي كان ملازما لنادي الترقي، وكان رئيسا للحركة الصهيونية في الجزائر.
ومن المحتمل القول إنه لو بقي اليهود على أهليتهم (أندجين) ولم يتجنسوا سنة 1870 لوجدت الحركة الصهيونية ربما صعوبة في التسرب إليهم. ذلك أن تمتعهم بكل حقوق المواطن الفرنسي قد منحهم حق الانتماء إلى مختلف الحركات وإصدار الصحف والتعبير الحر والتجمع. وقد شعر الجزائريون بحكم اتصالهم المبكر بالفرنسيين والرأي العام الأوروبي بالخطر الصهيوني، ولكن وسائلهم كانت محدودة، وكان قانون (الأندجينا) سيفا
(1) من رسالة الشيخ البوعبدلي في 17 أكتوبر سنة 1985.
مسلولا على رؤوسهم، ووسائل الاتصال مع المشرق محدودة. ومع ذلك نبه بعض الجزائريين منذ 1914 إلى خطورة الحركة الصهيونية، على مستقبل العرب والمسلمين.
فقد نشرت مجلة (المنار) التي كان يصدرها الشيخ رشيد رضا من مصر، خبرا خيرت فيه العرب والمسلمين بين الاتفاق مع الصهيونيين أو مقاومتهم بكل الوسائل، بما فيها حرب العصابات. وجعلت العنوان هو (المسألة الصهيونية). فعلقت جريدة (ذو الفقار) التي كان يصدرها عمر راسم، على ذلك بقولها إن على زعماء العرب والمسلمين مقاومة الصهيونية. ومن رأي عمر راسم أن (اتفاق زعماء العرب
…
مع زعماء اليهود مستحيل، لأنه اعتراف بزعامة اليهود ورضا بمشاركة هؤلاء الأجانب في بلاد اشترتها آباؤهم (أي العرب والمسلمين) بدمائهم الطاهرة. فلا يحق لغير العرب
…
أن يملك تلك الأرض ولا غير راية الإسلام أن تخفق عليها ما دام في عرق العرب دم وفي أجسام المسلمين روح). وتحدث مقال (ذو الفقار) عن انقسام الدولة العثمانية (وقد تسربت إليها الحركة الصهيونية، كما أصبح معروفاه الآن)، كما تحدث عن نشاط اليهود في فلسطين وعن دعم أوروبا لهم، وهو لا يقصد كل أوروبا بالطبع. وتنبأ عمر راسم بأن بقاء القيادة التركية التي باعت طرابلس (مثل جاويد وحقي وكاسو) سيوقع الدولة العثمانية نفسها لا محالة (في مخالب اليهود يوما ما)(1).
ولم تكن صيحة عمر راسم هي الوحيدة الصادرة من الجزائر، ولكنها كانت هي الصيحة المبكرة والواضحة. وفي كتابات ابن باديس والإبراهيمي والمدني والعقبى وأضرابهم صيحات وإنذارات أخرى في أوقات لاحقة. ولكن ذلك كان لا يجدي أمام الدعم السياسي الإنكليزي والدعم المالي
(1) العدد 4 من جريدة (ذو الفقار)، 28 يونيو 1914، عن قنان (نصوص)، ص 295. انظر أيضا ترجمتنا لبحث (الحركة الصهيونية وجماعة تركيا الفتاة) في كتابنا (في الجدل الثقافي)، ط. دار المعارف، تونس، 1993.