الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
درى هؤلاء الجزائريون أهم كانوا يلعنون أنفسهم وآباءهم وأجدادهم في سكرة من سكرات الإغواء الفرنسي.
ومعاداة البربر
يعتبر المدح الذي كاله العقيد كاريت ود. وارنييه وغيرهما للبربر سبة لهم وحطا من قدرهم. ذلك أن البربر يعتبرون المس بدينهم إهانة كبرى لهم. كما أن اعتبارهم حلفاء للفرنسيين هو هدية مسمومة إلى البربر. وقد ردوها على أصاحبها أكثر من مرة. والبربر بدون شك قوم يفتخرون بماضيهم ولغتهم وتقاليدهم، وهم أيضا قوم فخورون بدورهم العظيم في فتح الأندلس (12 ألف جندي على الأقل)، وفي حمل الإسلام إلى وسط فرنسا نفسها وإلى جنوب إيطاليا، وإلى إفريقية، وفخورون أيضا بتأسيس القاهرة والأزهر الشريف، وإقامة الممالك الكبرى قبل أن تتكون في فرنسا مملكة أو كيان سياسي. ولكنهم لا ينفون أنهم فعلوا ذلك كمسلمين عقيدة ولغة، وأن إنتاجهم الحضاري المكتوب قد اختلط بإنتاج العرب حتى لم يعد أحد يستطيع معرفة الفرق (1).
ومع ذلك فإننا - وللتاريخ - نذكر ما كان كتاب فرنسا يخططون للجزائريين، وكيف كانوا يضعون شباكهم لصيد البلهاء. وأي فضيلة لهؤلاء الكتاب إذا كانوا دائما يكتبون عن خطط تسمح لفرنسا بتفريق الجزائريين وإحكام قبضتها عليهم واستعبادهم؟ ذلك أن المدح للبربر والقدح في العرب، وأحيانا العكس، لا يقصدون من ورائه خدمة العلم والحقيقة، وإنما خدمة الإدارة الاستعمارية وتمكين الحضارة الفرنسية على حساب حضارة
(1) ليس من غرض هذا البحث الرجوع إلى أصول العرب والبربر والمؤلفات العربية والبربرية القديمة التي تجاهلها الفرنسيون عموما وتمسكوا (برأيهم) الخاص القائم على النظريات العرقية والسلالية (الأنيربولوجية والأثنية) التي برزت خلال القرن التاسع عشر، والقائم على معاداة السامية أيضا.
البربر والعرب معا. ولم نسمع، رغم الضجة الكبرى، بتخلي فرنسا عن جزء من أرض الجزائر لهذا الفريق أو ذاك لأنه في نظر كتابها كان أقرب إليها من غيره وأصدق في تحالفه معها من بقية المواطنين، بل إن فرنسا كانت تعاملهم على حد سواء. فهم (رعايا) فرنسيون أولا وهم (أندجين) ثانيا. وعند انتزاع الأراضي وتوزيعها على الكولون لا يسأل الجزائري هل أنت من السكان المستقرين أو من السكان الرحل، وعواقب الثورات كانت واحدة على الجميع. والغريب أن د. وارنيه الذي طالما امتدح البربر على هدوئهم بعد سنة 1857، وعلى قربهم من الحضارة الفرنسية بحكم اتصالهم القديم بالرومان (؟) الخ. هو الذي نصب لهم المحاكم والمشانق بعد ثورة 1871 واغتصب أراضيهم وفرض عليهم الغرامات الثقيلة (1). ولعله قد راجع بعد ذلك نظرياته في الكتاب الذي كتبه تحت وطأة الحملة المسعورة ضد نابليون وحاشيته.
وبناء على وارنييه فإن البربر هم قدماء المسيحيين وقدماء الكولون للرومان، وهم الذين ما يزالون متعلقين بالممارسات والتنظيمات الرومانية. إنهم هم الشعب الإفريقي الساكن في المنطقة الممتدة من ليبيا وتونس والجزائر إلى المغرب، وتمتد مواقعهم إلى توات والتوارق وساحل السنغال، فهم عنده كل الجنس الأبيض القاطن وسط إفريقية. وقدر عددهم بعشرة ملايين على الأقل. وقال إن الجبليين منهم قد حافظوا على تقاليدهم الرومانية في نظره وعلى أصولهم، عدا الدين. أما سكان السهول منهم فقد تعرضوا للغزوات العربية مما أفقدهم روحهم المعنوية، حسب دعواه.
وزعم د. وارنييه من جهة أخرى، أن البربر كانوا مسيحيين وأنهم اعتنقوا الإسلام على مضض، وقد ظلت عقيدتهم فيه ضعيفة جدا. اختار بعضهم المذهبية حيثما ظهرت. وادعى أن البعض منهم يأكلون لحم الخنزير مع العمال الأوروبيين فى المزارع الفرنسية، رغم أن القرآن قد حرم ذلك.
(1) أصبح وارنييه من المسؤولين البارزين في الجزائر بعد قيام الجمهورية الثالثة. وبتلك الصفة أصدر قررات صارمة لمعاقبة ثوار سنة 1871. انظر ذلك فى محله.
أصبح وارنييه من المسؤولين البارزين في الجزائر بعد قيام الجمهورية الثالثة. وبتلك الصفة أصدر قررات صارمة لمعاقبة ثوار سنة 1871. انظر ذلك فى محله.
كما زعم أن القرآن عندهم ليس قانونا ولا دستورا سياسيا وإنما هو كتاب دين فقط. وهم في القضايا المدنية والسياسية يحتكمون إلى العرف (القانون الذي جاء اسمه من (الكانون canon) عند الرومان، وعند المسيحيين. وهذا العرف (الكانون) مثله مثل الكنيسة البدائية، إنما تشرعه جماعة المؤمنين. وذهب وارنييه في مزاعمه إلى أبعد من ذلك حين قال إن أغلب البربر كانوا يحملون الصليب في شكل وشم على الجباه والوجنات. وقال إنهم أكثر تسامحا من غيرهم في الشؤون الدينية. والدليل على ذلك عنده وجود كنيسة مسيحية في جزيرة جربة. فالحضارة البربرية تتبع في نظره، الحضارة الرومانية والمسيحية مثلها في ذلك مثل حضارة أوروبا الغربية، عدا الدين الإسلامي الذي جاء به العرب. وهكذا فإن التنظيم البلدي - نظام الجماعة - موجود عند البربر والعرب معا، ولكنه عند البربر أقرب إلى التنظيم الأوروبي. إن القبيلة عند البربر عبارة عن بلدية داخل ولاية (1).
وفي ميادين الخدمة العسكرية، البرية والبحرية، لاحظ د. وارنييه ملاحظات عديدة على الجندي البربري من عهد القرطاجيين والرومان إلى عهد الاحتلال الفرنسي. ووجد أن الجندي البربري أكثر مهارة وقدرة على الحملات البعيدة من غيره. ذلك أن جيش حنبعل الذي غزا أوروبا - مدينة رومة - كان من البربر فقط، وأن أسطول قرطاج كان منهم، كما أن الرومان ساهموا في استمالة المؤهلات العسكرية، البرية والبحرية، للبربر. وكان الفرسان العرب الذين عبروا المضيق (مضيق جبل طارق) سيتخلون عن مشروع الفتح لولا دعمهم بجيش عرمرم من المشاة البربر. كما أن الأسطول الجزائري أثناء العهد العثماني قد صنع من الخشب المجلوب من زواوة وبأيدي العمال البربر، وكان على هذا الأسطول عمال (بحارة) من البربر. وكانت بعض البلدان، مثل تونس، تعتمد على مشاة زواوة (الزواف). لقد كان البربر دائما، عسكرا جيدا وبحارة مهرة. وكانت في الجزائر أثناء كتابة
(1) د. وارنييه (الجزائر أمام الامبراطور)، مرجع سابق، ص 12، 21، 53.
وارنييه لكتابه، فرقتان واحدة من الفرسان العرب والثانية من الرماة (التوركو) من البربر. وقال وارنييه إن الأولى مجندة من الخيام الأرستقراطية العربية، والثانية من الجماعات الديموقراطية البربرية. وقد نجحت فرقة (التوركو) في حرب القرم وفي إيطاليا وفي السينيغال والهند الصينية والمكسيك. وكلما كانت المسافة أبعد في المغامرة والحرب كلما وجد الفرنسيون الإرادة والاستعداد للسير وراء العلم الفرنسي من الفرقة الأخيرة (التوركو). أما فرقة الفرسان العرب فقد أرسلتها فرنسا إلى حرب القرم شرفيا فقط ثم أعادتها بسرعة، ثم استدعيت إلى باريس 1864 وعوملت معاملة محترمة جدا، ثم وقع التراجع عن ذلك في المرة الثانية. ومن رأي وارنييه أن الجندي البربري جندي كامل، أما الجندي العربي فهو واسطة بين الدركي والحرس الوطني، لأن من طبيعته أيضا عدم الابتعاد عن نسائه وقبيلته وماشيته. ولذلك سمح بأن تجند فرنسا الفرسان أيضا من البربر لأنهم قادرون على الحرب في كل الظروف. وتجنيد البحارة منهم أيضا لأنهم عرفوا البحر من قديم، أما العربي فلا يعرفي البحر (!)، وهو ضد الحضارة الفرنسية ومتباعد عن الفرنسيين (1).
والقياس عند الفرنسيين هو مدى الاستعداد لقبول التقدم والتفتح على الحضارة الفرنسية. فالأمير عبد القادر اعتبره وارنييه بربري الأصل، بناء على هذا المقياس. وروى د. وارنييه أنه سمع الأمير يقول عند بناء مدينة تاقدامت، إنه كان يعيد بناءها لأن أحد أجداده (يعني عبد الرحمن بن رستم) قد حكم في تيهرت (2)، وكان الأمير يعرف أن أجداده من البربر. ولذلك عرف كيف يجند البربر تحت لوائه. وذهب وارنييه، تمشيا مع مبدئه في الربط بين المسيحية والرومنة والفرنسة، إلى أن أجداد الأمير كانوا أيضا مسيحيين قبل الإسلام، وفسر تدخله في أزمة بلاد
(1) د. وارنييه، مرجع سابق، ص 38، 40 - 41.
(2)
إذا صح أن الأمير صرح بذلك، فإنه يعني أجداده المسلمين، ذلك أن ابن رستم لم يكن عربيا ولا بربريا وإنما كان أميرا مسلما. فانظر إلى أي حد كان د. وارنييه يحاول أن يقنع البلهاء.
الشام سنة 1860 بأنه يتماشى مع تقاليد أجداده (!).
وأكد لويس رين نظرية د. وارنييه بعد حوالي ربع قرن. ويبدو أن رين قد تبنى النظرية المعادية للسامية. فقد ذهب إلى أن البربر من الجنس الهند أوروبي، وأن طارق بن زياد النفزاوي النفطي قد يكون من أصل فارسي، وأن الساميين، ومنهم العرب، لم يستطيعوا تنظيم أنفسهم عسكريا ولا سياسيا. وعد منهم الخلفاء الراشدين والنبي داود عليه السلام. وقد اعتمد رين في ذلك على بحوث أرنست رينان، سيما بحثه المعنون (تاريخ اللغات السامية). وكذلك اعتمد على دراسة هنري فورنيل التي سبق ذكرها والتي حكم فيها بفشل الاحتلال العربي (كذا) لإفريقية، وزعم رين أيضا أن البربر لم يعتنقوا الإسلام بحرارة وظلوا يتمردون عنه مع الفرق الخارجية والحركات الانفصالية، أثناء العهد الذي يسميه أوغسطين بيرك بعهد وصاية الشرق، ويسميه غوتييه بالعصور الغامضة.
وذهب رين أيضا إلى أن اللغة البربرية لغة هند أوروبية، تبعا لنظرية رينان، وقال إن البربر قوم آريون، وإن الإسلام في آسيا انتشر على يد غير الساميين مثل الفرس والترك وهم طورانيون، أما الإسلام في إفريقية وأوروبا فقد انتشر على يد البربر (الآريين). وقارن رين بين الغولوا (سكان بلاد الغال) وبين البربر، فقال إن الغولوا قد استوعبوا كل الذين أرادوا احتلالهم، رغم أن الفرنج (وهو اسم لقبيلة بلجيكية، كما قال، حتى لا يقول ألمانية)، فرضوا اسمهم على فرنسا، ولم يقل شيئا عن المسيحية التي فرضت عليهم أيضا، وقال بأن البربر أيضا قد استوعبوا ورفضوا كل اندماج في غيرهم، رغم أنهم تقبلوا الإسلام ولغة القرآن وسيادته بل قبلوا حتى اسم العرب، ولكن الجماهير منهم ظلت بربرية. وختم رين دراسته بقوله إنه كلما درس تاريخ ولغة البربر اقتنع بحقيقة وهي أن البربر هم في الحقيقة جنس آري، وأن لغتهم لغة هند أوروبية (1)
(1) لويس رين (بحث في الدراسات اللغوية والأثنولوجية عن الأصول البربرية)، كتاب =
وقد استمرت هذه النظرية سارية إلى العشرينات من هذا القرن. فقد رجع السيد ريمون بيروني، وهو من الضباط مثل لويس رين، إلى نظرية فورنيل وأرنست ميرسييه وفيكتور بيقي وغيرهم، حول البربر وموقفهم من الحضارة الرومانية والعربية والفرنسية. وقال بيروني إن الفرنسيين قد ظلوا على خطئهم في معاملة السكان بطريقة واحدة إلى مدار هذا القرن، وكان عليهم أن يميزوا بين السكان ويستفيدوا من الفروق. وقد أصبحت الإدارة الفرنسية تشعر بهذه الفروق منذ حوالي 1890 وأخذت توظفها سياسيا. وعندما احتل الفرنسيون المغرب الأقصى ظهرت المسألة البربرية بشكل أكثر وضوحا، وأعطى الفرنسيون دفعا جديدا للدراسات البربرية، وتحول الفرنسيون أيضا في تونس والجزائر وغيرهما وأخذوا يبرزون الفروق بين عناصر السكان. ولكن المسألة لم تكن مفهومة عند الرأي العام الفرنسي في فرنسا نفسها حتى نشر فيكتور بيكي كتابه عن (حضارة شمال إفريقيا) الذي قال فيه إننا كنا دائما نسمي المنطقة عربية بينما هي مسكونة بالعنصر البربري، وهو العنصر القريب من العناصر الأخرى في البحر الأبيض، وأرز أيضا العلاقة الوطيدة بين الرومان والبربر في نظره.
ومن رأي فورنيل أن الإسلام قد حرر البربر فأصبحوا أسياد أنفسهم. ولذلك حكم بفشل العرب في الاحتلال لأنه نظر إليهم كما نظر إلى كل الدول الغازية. أما أرنست ميرسييه فقد قال إن الفتح العربي كان عملا عسكريا فقط (؟) وأنه لم يعمر طويلا، وأنه ترك البربر أحرارا في حكم أنفسهم. لكنه قال إن الغارة الهلالية كانت ظاهرة اجتماعية نتج عنها تعريب المنطقة والقضاء في نظره، على الجنسية البربرية. وقد ظهر كتاب ميرسييه وكتاب فورنيل سنة 1875. أما بيروني Peyronnet فيرى أن التعريب لم يقض على الجنسية البربرية (1). ومنذ حوالي 1898 تقريبا انحصر التمييز الذي كان بين كل البربر
= نشره فصولا في المجلة الإفريقية، آخره سنة 1889، ص 97 - 121. تولى رين أيضا رئاسة الجمعية التاريخية، وقد توفى سنة 1905.
(1)
ريمون بيروني (مدخل عام للدراسات الشمال إفريقية)، في المجلة الجغرافية للجزائر =