الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سعد الدين بن شنب مقالة في مجلة (الأديب) اللبنانية، وأعاد نشرها في مجلة (هنا الجزائر) تناول فيها حالة الأدب العربي تحت عنوان (اللغة العربية والأدب العربي في الجزائر) فلم يدرج الأدباء الجزائريين الذين رفعوا رأس اللغة والأدب العربي واكتفى بذكر نماذج من النوع الذي ترضى عنه السلطات الفرنسية (1). ولكن ابن شنب كتب عن الشاعر محمد العيد وترجم بعض شعره (2). أما الإبراهيمي وأمثاله فلم يذكرهم، ربما خوفا من سخط الإدارة.
الرسائل
أدب الرسائل فرع هام من الأدب العربي، برع فيه البعض دون البعض وتفنن فيه آخرون وقصر دونه فريق آخر. والرسائل على أنواع، منها ما هو بين الإخوان والعائلات، وما هو بين العلماء والمثقفين، ومنه ما هو ديواني وإداري. ولكل طابع يميزه. وقد عرف الجزائريون هذه الأنواع من الرسائل. ومن الصعب علينا الإحاطة بها جمعا وتصنيفها، لأن معظمها قد ضاع، وما يزال منها نصيب في المحفوظات الخاصة والعامة.
والرسائل التي تعنينا الآن هي التي تدور حول موضوع معين، سياسي أو إداري أو اجتماعي، وفيها يتفنن كاتبوها بعض التفنن في الأسلوب والتعقل في اللغة والتصوير، وهي التي تدور عادة بين الفئات الخاصة وليس العامة. أما ما يدور بين عامة الناس من رسائل بسيطة، الهدف منها قضاء الحاجات وتبليغ السلام والسؤال عن الأحوال، فذلك لا يعنينا هنا. وهو كثير بدون شك.
(1) سعد الدين بن شنب (اللغة العربية والأدب العربي في الجزائر) في مجلة (الأديب)، يناير، 1954، وكذلك في (هنا الجزائر) رقم 21، فبراير 1954.
(2)
نشر ذلك في الوثائق الجزائرية (التي تنشرها الحكومة العامة بالجزائر، عدد 7، 15 يوليو، 1946. وبعد أن عرف به في صفحتين ترجم له قطعتين هما: أين ليلاي؟ ويا رياض الجنى. وقد كتبت عن الإبراهيمي أديبا ومصلحا بعض الرسائل الجامعية في الجزائر والمشرق العربي.
ولنبدأ بالرسائل الديوانية، وهي تلك الصادرة عن الإدارة أو باسمها وكذلك الموجهة إليها بنفس الأسلوب والطريقة. وقد كان للإدارة الفرنسية كتاب جزائريون ومترجمون فرنسيون يتولون ذلك، فيكتبون الرسائل إلى أعيان البلاد، ويتلقون رسائلهم ويترجمونها. كان ذلك في الفترة الأولى من الاحتلال، واستمر التعامل به على مستوى المكاتب العربية العسكرية. ولكن هذه الرسائل من الجانبين ليس فيها عناية بالأدب، ولم يكن في المكاتب ولا المترجمين من يتقن اللغة والأساليب إلى درجة الرقي بها إلى مستوى رفيع. ولك أن تقرأ الرسالة التي بعثت بها الإدارة الفرنسية إلى المفتي الحنفي تهدده إذا لم يتراجع عن موقفه إزاء زميله المفتي المالكي (1).
وكانت إدارة الأمير عبد القادر قد وفرت الشروط لمراسلات ديوانية رفيعة المستوى. فقد جند الأمير مجموعة من الكتاب المتأدبين، بعضهم معروف بالاسم، مثل قدور بن رويلة ومحمد المخروبي وأحمد البدوي، ومصطفى بن التهامي، وبعضهم غير معروف لنا الآن. وقد قلده خلفاؤه في ذلك، فكان لمحمد بن علال كتابه، ولمحمد البوحميدي كتابه، إلخ. كما أن الخلفاء أنفسهم، والأمير بالطبع، كانوا متعلمين من صنف المثقفين والمرابطين غالبا. ولنذكر منهم الحسين بن عزوز، ومحمد البركاني، وأحمد الطيب بن سالم. وإذا عدنا إلى الرسائل الصادرة عن إدارة الأمير العامة أو إدارة خلفائه، نجدها متقيدة بقواعد اللغة محافظة على الأساليب العربية في الحكمة والمثل والاستشهاد بالشواهد والإيجاز. وهذه الخصائص نجدها في الرسائل الصادرة عن إدارة الأمير سواء كانت موجهة إلى الفرنسيين، أو إلى الجزائريين أو إلى غيرهم من الساسة والعلماء، مثل الرسائل التي وجهها الأمير إلى حكام فرنسا وحكام بريطانيا وأمريكا وإسبانيا، وكذلك حكام المغرب والدولة العثمانية. ومن شاء فليراجع مراسلة الأمير إلى السلطان عبد المجيد (2).
(1) انظر ذلك في أبحاث وآراء، ج 3. فصل (من رسائل علماء الجزائر).
(2)
عبد الجليل التميمي (بحوث ووثائق مغربية)، تونس، 1972.
وفي هذا النطاق تدخل رسائل محمد بن علال إلى المارشال فاليه، حاكم الجزائر (1). وكذلك بعض الرسائل التي نشرها أوغست كور التي كانت بحوزة شارل فيرو، وهي من بعض القادة الجزائريين إلى السلطات الفرنسية (2). وبهذا الصدد نذكر أيضا رسائل الحاج أحمد، باي قسنطينة إلى بعض الحكام الفرنسيين من جهة وإلى السلطان محمود الثاني من جهة أخرى. ومنها الرسالة التي وجهها الحاج أحمد، أو كتبت على لسانه، قبيل وفاته، إلى الجنرال دوهوتبول سنة 1850. وقد اطلعنا عليها فوجدناها مليئة بالأخطاء. وقد هنأه بولاية حكم الجزائر وتمنى له النجاح في مهمته وتوفير الأمن والعافية للبلاد في عهده، واعدا إياه بالزيارة (وهذا هو المراد)(3).
ومن السجون والمنافي وجه زعماء جزائريون رسائل كثيرة الى السلطات الفرنسية، وقد اتخذ معظمها طابع الشكوى ووصف الحالة السيئة التي كانوا عليها وطلب العفو أو إطلاق السراح. وكثير من هذه الرسائل ما يزال مكدسا في الأرشيف الفرنسي، لم يصنف لأنه بالعربية. وقد اطلعنا على بعضها فوجدنا لغتها ضعيفة، إلا في بعض العبارات أو الاستشهادات. ومن ذلك رسائل الحسين بن عزوز، ورسائل أولاد الصادق بلحاج لطلب السراج من السجن (4).
وهناك الرسائل التي دارت بين مثقفين جزائريين وقادة وأدباء فرنسيين.
(1) جورج ايفير في (المجلة الإفريقية)، 1914، ولا سيما الرسالة الأولى، ص 120، والأخيرة، ص 19. ويمكن اتخاذ الرسالتين نموذجا في هذا الباب.
(2)
أوغست كور في (المجلة الإفريقية)، 1914، ص 91 - 117. مجموعة من الرسائل مصنفة دون نصوصها. لا بد من الرجوع إليها في الأرشيف.
(3)
أشيل روبير (رسالة الحاج أحمد بن محمد الشريف، آخر بايات قسنطينة) في مجلة (روكاي)، 1916، ص 147 - 157. النص والترجمة.
(4)
اطلعنا على ذلك سنة 1982 في أرشيف إيكس، ثم ضاعت منا البطاقات الخاصة به. وقد نشر عبد الحميد زوزو بعض رسائل أولاد الصادق بلحاج في أطروحته. ومع ذلك نجد أحدهم، وهو إبراهيم، يؤلف فى التصوف.
ونبدأ بالإشارة إلى مراسلات الأمير عبد القادر الكثيرة مع نابليون الثالث وغيره. ومن ذلك الرسالة التي بعث بها الأمير إلى المارشال كاستلان سنة 1277 شاكرا له بعبارات ضافية مع التمنيات والثناء لنابليون بعبارات شرقية فخمة (وقد كتبت الرسالة على لسانه)(1). والمعروف أن الأمير راسل عدة قادة فرنسيين مجاملة أو طلبا للتدخل لصالح بعض أقاربه وأصدقائه في الوظيف وغيره. كما تدخل لصالح بعض الزعماء المسلمين مثل شامل الداغستاني؛ ونحن نعرف أنه كتب أيضا إليهم بمناسبة دخول ابنه محي الدين للجزائر سنة 1870.
أما غير الأمير من القادة فقد تراسلوا أيضا مع المترجمين والأدباء والقادة الفرنسيين في أغراض مختلفة، بعضها للمجاملات، مثل رسائل محمد الشاذلي مع بواسونيه، وبعضها لطلب التدخل للتعيين في وظيف مثل رسالة محمد الصالح العنتري إلى شارل فيرو. وهناك رسائل من القاضي شعيب بن علي إلى القاضي الفرنسي زيس. وقد درسنا مراسلات محمد الشاذلي في كتابنا عنه، كما نشرنا رسالة العنتري إلى فيرو في غير هذا. ومن الصعب إحصاء هذا النوع من الرسائل، وقد نشر بلقاسم بن سديرة مجموعة من الرسائل التي دارت بين بعض أعيان الجزائر والمسؤولين الفرنسيين (2). ولكن الطابع الأدبي يكاد يكون منعدما في أغلبها.
وقد عثرنا على مجموعة من المراسلات التي جرت بين عدد من علماء الدين والسلطات الفرنسية. وهي رسائل من المفروض فيها التفنن والتنميق الأدبي، لأنها صادرة عن مثقفين وموظفين بارزين. ولكن خاب ظننا، إذ وجدناها قد اتخذت طابع الأسلوب الإداري المحض: عبارات قصيرة مكتفية بالمرغوب والمطلوب، تطرح المشكلة مثل وفاة موظف أو سفره، وتقترح تعيين خليفة عنه من ثلاثة أشخاص. وهي عادة رسائل تبدأ بالتحية وعبارات
(1) نصها في المكتبة الوطنية - باريس، رقم 7038.
(2)
انظر ابن سديرة (كتاب الرسائل).
المجاملة، وتنتهي كذلك مع التوقيع والتاريخ. فهذا النوع من الرسائل رغم أنه صادر عن فئة العلماء ورجال الدين كان ديوانيا - إداريا جافا، لأن المخاطب، وهو الإدارة الفرنسية، لا يروق له الأسلوب الأدبي (الشرقي)، وربما تكون الإدارة قد أوصت بطريقة الكتابة مقدما، لأن كل رسالة كانت لا تقدم إليها إلا بعد ترجمة مرفقة يقوم بها أحد المترجمين المختصين (1).
ولم نطلع على رسائل لعلماء الجزائر بالعربية إلى السلطات الفرنسية في هذا القرن، لأن الجزائريين أصبحوا لا يقدمون عملا من هذا الصنف إلا مترجما إلى الفرنسية. ولا ندري الآن هل كانت خطابات جمعية العلماء وزعيمها ابن باديس، ترفع مباشرة إلى السلطات الفرنسية أو بعد ترجمتها إلى الفرنسية. أما البيانات والتصريحات والاحتجاجات الصادرة عن جمعية العلماء فقد كانت بالعربية الجيدة.
وسنقسم باقي الرسائل إلى رسائل اجتماعية وإخوانية، وهي تلك التي تبادلها بعض المتعلمين. وهناك نوع آخر من الرسائل تبادله جزائريون مع علماء وأدباء المغرب والمشرق. ورسائل النوع الأول تكون عادة خالية من التفنن والعبارات الأدبية وإنما هي تجري مجرى الخواطر والأشواق بين أفراد العائلة والسؤال عن الأحوال في عبارات بسيطة وموجزة.
ومن ذلك الرسائل التي بعث بها الشيخ محمد وعلي السحنوني من المدينة المنورة إلى ابن عمه محمد السعيد بالجزائر. ورغم أنها رسائل اجتماعية فإننا نستفيد منها أخبار الحجاج الجزائريين وسياسة فرنسا نحوهم، وأخبار الحجاز والطرق الصوفية. أما الأخبار الاجتماعية فمنها حالة الفقر التي كان محمد وعلي يعاني منها، وطلبه إرسال النقود إليه، وكذلك إرسال زوجة لعدم ارتياحه لنساء الحجاز (وقد أرسلت إليه امرأة من الجزائر وتزوج
(1) انظر عن ذلك (من رسائل علماء الجزائر في القرن الماضي) في كتابنا أبحاث وآراء، ج 3.
بها)، وحالة التجارة بين مصر والحجاز ونحو ذلك (1). ويرجع تاريخ الرسائل إلى سنوات 1878 - 1891. وهذه ليست رسائل أدبية بالطبع، وليست من النثر الفني في شيء.
ومن رسائل العلماء ما بعث به القاضي شعيب بن علي إلى محمد بن عبد الرحمن الديسي سنة 1317 هد. فمن تلمسان بعث يشكره على قيامه بشرح عقيدة التوحيد التي كتبها القاضي شعيب، ويعتذر له عن كونه لا يملك نسخة من شرح خطبة بهرام. ومن القاضي شعيب أيضا صدرت رسالة إلى عبد الحليم بن سماية واصفة إياه (بمن له بالرواية غاية العناية، وهو في الدراية آية). ويرجع تاريخها إلى سنة 1327 هـ. وأرسل القاضي المذكور رسالة أخرى إلى قدور بن سليمان، وهو من المتصوفين. وقد صدرت عنه مجموعة من الرسائل حفل ببعضها كناش ما يزال مخطوطا، ويعتقد أن الكناش كان بحوزته إلى أن انتقل إلى الشيخ عبد الحي الكتاني (2).
كما تلقى القاضي شعيب رسائل عديدة من بعض المعاصرين الجزائريين، منهم محمد ولد بن عودة بن سليمان. ومحمد بن عبد الرحمن الديسي، وعلي بن الحاج موسى قيم ضح الشيخ الثعالبي، وعبد القادر بن قارا مصطفى، مفتي مستغانم.
أما رسائل القاضي شعيب إلى علماء المشرق والمغرب فنذكر منها رسالته إلى المكي بن عزوز. ورغم أن فيها تكلفا واضحا، فهي تعبر عن
(1) نصوصها بخط الأخ علي أمقران السحنوني، بتاريخ 23 فبراير، 1981. عن الشيخ محمد وعلي انظر فصل التصوف وكتاب الحركة الوطنية، ج 1. وهناك رسائل دارت بين العربي بن أبي داود وشيخه محمد بن بلقاسم الهاملي. وكذلك ما راسل به البشير بن هدوقة الشيخ العربي بن أبي داود، بتاريخ 1311 - هـ. كل ذلك حسب وثائق علي أمقران السحنوني.
(2)
نقصد الكناش رقم ك 48، الخزانة العامة بالرباط، وهو كناش غني فيه أخبار كثيرة عن علماء الجزائر أول هذا القرن. وحصلنا منه على نسخة بواسطة صديقنا الدكتور عباس الجراري.
النوازع الأدبية بين الرجلين، وربما كان القاضي شعيب يطلب الإجازة منه. وبدايتها:(المولى الذي يعتقد قلبي محبته، وتود عيني رؤيته، تاج رؤوس الأقران، وبديع العصر والأوان، العلامة الدراكة سيدي محمد المكي بن عزوز). وكان هذا قد أرسل أيضا رسالة إلى القاضي شكيب. ووصلت رسالة أخرى إلى هذا القاضي من أحد أدباء تونس اسمه محمد الشافعي بن محمد النفطي الذي قيل عنه إنه كان كثير الترحال وذلك سنة 1330 هـ. ومع الرسالة قصيدة مدح تعبر عن الرغبة في زيارته (1). ولا نعرف أن القاضي شعيب قد تراسل مع علماء مشارقة، أمثال الأفغاني ومحمد عبده، فقد كان معاصرا لهما واكتسب بعض الشهرة على إثر مشاركته في مؤتمر المستشرقين بالسويد سنة 1892. وقد ذكره محمد أمين فكري باشا في كتابه (إرشاد الألبا) (2). ونعتقد أن هناك مراسلات للقاضي شعيب مع غير هؤلاء أيضا مثل مراسلته مع قاضي وجدة، ومع بعض علماء المغرب المعاصرين، ومنهم عبد الحي الكتاني وأحمد سكيرج (3).
ولو جمعت مراسلات الأمير عبد القادر مع غير الجزائريين من الأعيان والأداء لجاءت ربما في مجلد. فالرجل كان علما من أعلام العصر، وكان قاصدا ومقصودا في حياته. كتب مجيبا على أسئلة، وكتب مستفسرا. وكتب شاكرا ومادحا، ومعزيا ومهنئا، ونحو ذلك. وقد دارت بينه وبين الشيخ أبي الهدى الصيادي، والشيخ محمد عبده مراسلات وهو في آخر عمره، وراسل وزراء تونس في شأن المقرانيين وفي شأن ناصر بن شهرة وغيرهم. وربما كتب إلى الخديوي إسماعيل باشا عند مروره بمصر متوجها إلى الحجاز، وبعد حضوره افتتاح قناة السويس.
(1) نفس المصدر.
(2)
محمد أمين فكري باشا (إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا)، القاهرة، 1892، ص 608، 649 ويبدو لنا أن علماء الجزائر كانوا لا يتراسلون مع علماء المشرق خوفا من الإدارة الفرنسية.
(3)
انظر مخطوط ك 48، مرجع سابق، وكذلك عبد الحي الكتاني (فهرس الفهارس).
ومن رسائله ما كاتب به خير الدين باشا التونسي عند ظهور (أقوم المسالك) سنة 1867. وبعد إشادته بالكتاب وبجهود صاحبه كتب الأمير هذه العبارات الطريفة (فلله درك ودر ما به ألمعت، وما قربت من فنون المعارف وبعدت، ثم إنك حميت ضمار الشرع المحمدي وعضدته، وقطعت عنه ضرر الملحدين وخضدته، وذلك بما قررتموه من أن الشريعة المطهرة لائقة بكل زمان، صالحة للحكم في كل أوان
…
وقد اطلعنا على (أقوم المسالك) فرأينا فيه ما بهر العقول، وأدى الأفكار إلى الذهول، من قضايا المعقول والمنقول، فاتفقت القلوب على تفضيله، واختلفت الألسنة في تمثيله. أما نحن فقد تركنا التشبيه، وقلنا ما له في فنه مثيل ولا شبيه
…
كتاب تنفس الدهر به تنفس الروض في الأسحار
…
كتاب يزرى بتاج تراجم الأعيان، وكأنه مرآة انعكست فيه رسوم أخبار الملوك وأفاضل الزمان، فاتخذته مرتع ناظري، ومنتعش خاطري
…
ولا يخفى أنه لا بد لكل عصر من رجال يقومون بأعبائه، ويهيمون في أودية أنبيائه) وهناك مراسلات ومهاداة أخرى بين الرجلين يضيق المقام عن ذكرها (1).
ومن أشهر رسائل الأمير ما كتب به إلى نابليون (الثالث) على إثر إطلاق سراحه من سجن أمبواز، وهي الرسالة التي قيل إن الأمير قد تعهد فيها بعدم حمل السلاح في وجه فرنسا. وتهمنا نحن هنا صيغتها الأدبية وليس السياسية. فقد صاغها الأمير عن عاطفة أكيدة متأثرا بالحرية التي تعهد له بها ممثل فرنسا في الجزائر، ولكنه خان العهد. فكان الأمير مغتبطا بالحرية، شاكرا لنابليون صنيعه معه، ذاكرا أن الحرب بدأها بإرادة الله وأوقفها أيضا
(1) عن هذه المراسلات انظر محمد بن عبد القادر (تحفة الزائر) 2/ 196 - 199. وهنا وهناك. وقد عالجنا هذا الموضوع بكتابة بحث عن خير الدين باشا في نظر الجزائريين. انظر كتابنا أبحاث وآراء ج 4. وقد صدق ابن الأمير حين قال (ومن المعلوم أن الأمير من مشاهير العالم وأعيانه، والناس على اختلاف مللهم ونحلهم لهم به تعلق ومواصلة، فلا يخلو من كتاب وارد وجواب صادر). انظر (تحفة الزائر)، 2/ 189.
بإرادة الله. ومن ثمة لم يغلق الباب في وجه الحرب، كما فهم البعض، ما دام ذلك متوقفا على إرادة الله التي لا يتحكم هو فيها، وإنما قال إنه توقف عنها لأن الله أمره بذلك عندئذ. وذكر أن الدين الإسلامي والشرف العائلي يأمرانه بالوفاء بوعده وعدم الغدر. وإليك بعض العبارات الأدبية منها.
قال الأمير متحدثا عن نفسه ومخاطبا نابليون: (جاء إلى حضرتكم العلية بالله يستكثر بخيركم، ويتمتع بالنظر إليكم، فإنكم والله أحب إليه من كل محبوب، وفعلتم معه الفعل الذي هو فوق قدره وما يستأهله، ولكن فعلكم على قدر همتكم وعلو مقامكم وكمال شرفكم، ولستم، أعزكم الله، ممن يمدح بالباطل، أو يخدع بالكذب، وأنكم أمنتم فيه وما صدقتم من شك في أمانته وسرحتموه، وفعلتم من غير وعد، وغيركم وعد وما فعل. وهو (يعني نفسه) أعطاكم عهد الله وميثاقه وعهود جميع الأنبياء والمرسلين أنه لا يخالف أمانتكم فيه، ولا يخرج عن عهدكم، ولا ينسى فضلكم، ولا يرجع إلى قطر الجزائر أبدا، لأنه حين أوقفه الله تعالى وقف وضرب البارود على قدر ما قدر، وحين أراد الله جلوسه جلس ورضى بقضاء الله، وسلمت في الملك وجئتكم، وديني وشرفي يأمرانني بالوفاء بالعهد وعدم الغدر. وأنا شريف لا نرضى أن ينسبني الناس إلى الغدر، وكيف يكون ذلك وقد رأيت من إحسانكم وفضلكم ما نعجز عن شكره، (إن) الإحسان إلى الأحرار سلسلة في رقابهم تقودهم إلى محبة المحسن، وقد شاهدت من فخامة ملككم وقوة عساكركم وكثرة أموالكم ورجالكم وعدالة أحكامكم ونصيحة عمالكم واستقامة أموركم كلها ما نقطع ولا نشك فيه أنه لا يغلبكم ولا يردكم عن مرادكم إلا الله تعالى
…
) (1).
ولنذكر من النثر الفني خلال القرن الماضي الرسالة التي بعث بها
(1) مخطوطات المكتبة الوطنية الفرنسية (عربي)، رقم 7123. ص 96 - 97، منتصف محرم 1269/ 30 أكتوبر، 1852. نفس النص قام بترجمته إسماعيل أوربان (عربان) ونشرته (المجلة الشرقية والجزائرية)، المجلد 3، 1853، ص 379 - 381.
الطيب بن المختار إلى الأمير عبد القادر، وهي في وصف ما آل إليه حال العلم في الجزائر وحالة الجهل التي أصابت أهلها والترميز إلى الوضع السياسي المتردي (وإسناد الأحكام إلى غير أهل الرياسة). وديباجتها هي قوله مخاطبا الأمير:(سيدي الذي أستند في جميع أموري بعد الله إليه، ومولاي الذي أعتمد بعد الاعتماد على الله عليه، رب المحاسن التي صورها على منصة التنويه تجلى، والأحاديث التي لا تمل على كثرة ما تملى). وقد حلى الرسالة بشعر له وآخر لغيره، كما هي عادة الأدباء في أغلب الأحيان. ثم شكا الطيب بن المختار من الأوضاع المشار إليها فقال إنها (مجالسة الجهال فجرا والحال أنه ذهب من العمر أكره
…
فمن استعاذ من شيء فليستعذ مما نحن فيه، كيف وقد أسند الشيء لغير أصله، ووسد الأمر لغير أهله،
…
وقد تصدى من هذا الجنس أقوام لإلحاق الفرع وهيهات، بأصله، ووضع الشيء وليت شعري، في غير محله، فعدموا التوفيق، لتعاطيهم الرواية وما رووا، ودعواهم الدراية وما دروا، فرأوا إقامة الجمعة في غير الجامع، وراموا القياس بقطع النظر عن الأمر الجامع، فكان الأخذ عنهم ضلالا) (1).
ولم نطلع على نماذج من المراسلات التي قيل إن الشيخ محمد بن يوسف أطفيش تبادلها مع بعض المعاصرين مثل الشيخ محمد عبده. ونظن، بعد معرفتنا لأسلوب الشيخ أطفيش في بعض تأليفه، أن رسائله ستكون مختصرة وغير مسجعة، مع العناية باللغة والنحو، ولكن العناية أكثر بالموضوع (2).
ولو رجعنا إلى ما دار بين علماء الجزائر وعلماء العصر من مراسلات لملأنا صفحات. إن أمثال المجاوي وأطفيش وابن باديس والعقبى والإبراهيمي والزواوي والمدني والزاهري وأبي اليقظان قد تراسلوا مع علماء
(1) تحفة الزائر، 2/ 210 - 211.
(2)
بيير كوبيرلي (محمد أطفيش ورسالته) في مجلة معهد الأدب العربي IBLA تونس، 1972، ص 269 وما بعدها.
الجزائر ومع علماء المشرق والمغرب في شؤون الأدب والإصلاح والسياسة والدين. مع الثعالبي، وشكيب أرسلان، ومحب الدين الخطيب، وسليمان الباروني وغيرهم من زعماء الحركات الإسلامية والأدبية. وكنا قد نشرنا بعض مراسلات ابن باديس مع الشيخ الطاهر العبيدي أحد علماء سوف، وقد كان العبيدي يقيم ويدرس في تقرت (1). ولابن باديس مراسلات مع أصدقائه وزملائه وتلاميذه وهم كثيرون. وكذلك كان العلماء الذين ذكرنا بعض أسمائهم، وقد تكون في مراسلات الأدباء أمثال حمزة بوكوشة ومحمد العيد ومفدي زكرياء والأمين العمودي ومحمد الهادي السنوسي ورمضان حمود وسليمان بن يحيى (الفرقد) والربيع بوشامة والحفناوي هالي وغيرهم، أخبار أدبية وأساليب بلاغية ونكت حكمية. إن مدرستهم هي التي أحيت الأدب العربي الذي يسميه المستشرقون الفرنسيون الأدب الكلاسيكي تبعيدا له عن ساحة الجزائر (الفرنسية).
وأثبتت السير الذاتية لمجموعة من علماء الجزائر أن التراسل كان مستمرا بينهم وبين علماء المشرق. وحين اتصل شكيب أرسلان بكتاب (تاريخ الجزائر) لمبارك الميلي كتب إلى صديقه الشيخ الطيب العقبي يعبر عن إعجابه وأضاف له (كما إني معجب بكتابة ابن باديس. فالميلي وباديس والعقبى والزاهري حملة عرش الأدب الجزائري الأربعة)(2).
لقد كانت بين أبي اليقظان وسليمان الباروني مراسلات مستمرة وكذلك غيره من علماء ميزاب مثل إبراهيم امتياز والأخوين العنق (3). وكانت بين
(1) انظر كتابنا (تجارب في الأدب والرحلة)، الجزائر، 1982. وأيضا عبد الله حمادي (دراسات في الأدب المغربي القديم) دار البعث، قسنطينة، 1986، ص 345 - 358.
(2)
انظر بحثنا عن (شكيب أرسلان والحركة الوطنية الجزائرية) في الكتاب التذكاري المقدم إلى د. نقولا زيادة، لندن، 1992، وكذلك أبحاث وآراء ج 4. وفاتحة الجزء الثاني من (تاريخ الجزائر) لمبارك الميلي، ط 1.
(3)
عن مراسلات الباروني مع أبي اليقظان انظر كتاب (سليمان الباروني)، تأليف أبي =