الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
في هذا الفصل كثير من القضايا. فنحن سنتناول فيه النثر الأدبي أو الفني ومسائل اللغة من دراسات ومعاجم ونحو وصرف. وفي النثر الأدبي تفريعات عديدة هي: المقالة والمقامة والرسالة والخطبة والتقريظة. وفي الدراسات اللغوية سنتحدث عن اللغة العربية الفصحى ولهجاتها ومن أنتج بها خلال هذا العهد، وما كتبه الفرنسيون عنها من مدح أو طعن وما جاء حول ذلك من ردود على لسان علماء الجزائر. وسنتناول أيضا الدراسات البربرية وما كتب في الموضوع من معاجيم وما نشر من مخطوطات وآثار مكتوبة. كما سنعرض لنشر المخطوطات في إحدى الفقرات لأنه ساهم في النهضة الأدبية والثقافية. وإلى جانب ذلك سنترجم لبعض الأدباء واللغويين الذين أثروا في هذا الميدان.
حالة الأدب والثقافة غداة الاحتلال
إذا حكمنا من الكتابات التي عاصرت الاحتلال في مرحلته الأولى أدركنا أن الثقافة كانت تعاني ضعفا كبيرا. كان هناك شعراء مجلون أمثال محمد بن الشاهد - وقد كان في آخر عمره - ولكن لا وجود لأدباء مجلين. فمدرسة أحمد بن عمار قد تلاشت ولم يخلفه في ميدان النثر الأدبي والفني من ساواه أو قارب. والأدباء الأحرار الذين كانوا ينشطون خارج الإدارة أصبحوا نادرين ومعظمهم هاجروا. أما الكتاب (الخوجات) الإداريون فقد كانوا ضعافا ثقافيا صفة عامة، وكان عملهم الديواني لا يحتاج إلى منافسة أدبية. فإذا رجعنا إلى كتابات مسلم بن عبد القادر الحميري الذي كان كاتبا لباي وهران عند الاحتلال وجدناها متوسطة بل ضعيفة. وحمدان خوجة لم يكن من الكتاب الإداريين فى العاصمة، ولكن كتاباته فى (إتحاف المنصفين
والأدباء) لا تدل على تمكن قوى في اللغة والأدب، وكان أسلوب فيه أسلوب العالم المتوسط الثقافة. وكان باي قسنطينة وباي التيطري يتخذان كتابا لا نعرف عن آثارهم شيئا، رغم أن وثائق الحاج أحمد باي تشهد على أن شهادات ومحاضر للعلماء قد صيغت لإعلان الولاء له أو مراسلة السلطان العثماني لصالحه. وهي على كل حال شهادات ووثائق إدارية وليست أدبية متميزة، رغم وجود أشخاص مثل أحمد العباسي ومحمد العربي بن عيسى.
وفي العاصمة عرف هذا العهد ابن العنابي والكبابطي. وكلاهما من رجال الدين والإفتاء. فإذا رجعنا إلى آثارهما لم نجد فيها مسحة أدبية تدل على أسلوب خاص. خذ مثلا كتاب (السعي المحمود) - ألف سنة 1826 - لابن العنابي فإنك ستجده مليئا بالنقول والأسلوب الفقهي لا الأدبي. وأما رسائل ابن الكبابطي التي عثرنا عليها فهي فقيرة في المعاني وفي الروح الأدبية والأسلوب، وهي قصيرة لا يمكن أخذ نموذج منها على وجود فن الأدب، رغم أن الكبابطي كان ينظم الشعر أيضا. ويبدو أن فن النثر قد تطور على يد هؤلاء وأمثالهم (ابن رويلة، وابن الشاهد، الخ.) على إثر أزمة دينية - فكرية، وهي وجوب الهجرة من الجزائر أو البقاء فيها رغم الاحتلال. وسنعرض إلى ذلك في حينه.
وفي قسنطينة القريبة جغرافيا من جامع الزيونة والمتأثرة بالثقافة المشرقية أكثر من غيرها، نجد مجموعة من رجال الدين والوظائف الرسمية والتدريس. ملتفة حول بلاط الحاج أحمد باي والمدرسة الكتانية ومساجد المدينة وزواياها. ولكن لا عائلة ابن باديس ولا عائلة الفكون كان لها عندئذ أديب لامع. كان الشيخ أحمد العباسي هو الذي يشار إليه عندئذ، ولكن بصفته علما من من أعلام النحو والتدريس والقضاء وليس الأدب. وهناك أسماء لأشخاص متصلين بالزوايا أمثال الشيخ أحمد المبارك، وهو، كما سنرى، مثقف له معارف كثيرة ولكنه ليس أديبا. وقل مثل ذلك في المكي البوطالبي وفي مصطفى بن جلول ومحمد العربي بن عيسى. إنه من الغريب حقا ألا نجد فى قسنطينة عندئذ سوى هذه المجموعة من الأعيان وأمثالهم
الذين كانوا يعيشون على تراث عريق ولهم مكتبات ومدارس، ومع ذلك ليس لهم أدب راق ولا شعر.
فإذا التفتنا نحو الغرب وجدنا مجموعة أخرى من (العلماء) مرتكزة حول وهران التي أصبحت العاصمة الجديدة للإقليم بعد معسكر، منذ 1791. وكانت مازونة والقيطنة وتلمسان روافد لمدرسة وهران هذه. ولكن الإشعاع كان محدودا. فبالإضافة إلى بعض الكتاب (الخوجات) الإداريين نجد أيضا في المدارس والزوايا والمساجد أعيانا من المتصوفة والعلماء أمثال الحاج محيي الدين (والد الأمير) وأحمد بن التهامي، وعبد الله سقط، وعبد الله المجاوي، ومحمد بن سعد. وقد اشتهر بعض هؤلاء بالنحو والبراعة في التدريس. ولكن آثارهم الأدبية مفقودة عندنا. وقد بعثرهم الاحتلال بسرعة فهاجر بعضهم إلى المغرب، ودخل بعضهم صفوف المقاومة واختلط عندهم حبر الأقلام بدم الأبطال.
وفي المناطق الأخرى من الوطن لا نكاد نميز أديبا ذاع صيته وترك أثره. فالمدية رغم أنها كانت قاعدة باي التيطري، لم يحفظ لنا التاريخ اسم أديب فيها على ذلك العهد، سواء أكان كاتبا إداريا أو حرا. وكانت جاذبية المدية نحو العاصمة والبليدة. ورغم انتشار الطرق الصوفية في مختلف المدن والقرى فإن التعليم الذي يكون الأدباء كان محدودا ومقصورا على بعض العواصم والمراكز. فلا بجاية ولا ميزاب ولا بسكرة قد قدمت أديبا معروفا. غداة الاحتلال. ولا شك أن الثقافة الشعبية كان لها أدباؤها، ولكن ذلك ليس هو موضوع حديثنا الآن.
والخلاصة أن نمط التعليم وتغلغل التصوف والجمود الثقافي قد جعل من الصعب على الأدباء أن يبرزوا أو يجدوا لهم مكانا في الجزائر غداة الاحتلال؛ ثم كان الاحتلال نفسه (ضغثا على إبالة)، كما يقول القدماء. فقد شرب التعليم ضربة قاضية على إثر مصادرة الأوقاف (الأحباس)، فأغلقت المدارس وتوقفت حلقات الدروس الحرة فى المساجد، وهاجر العلماء
ونهبت المكتبات. وانشغل الباقون من المتعلمين بحفظ الرمق وخافوا من الكتابة، بينما التحق بعضهم بالمقاومة التي تولاها عبد القادر بن محيي الدين في غرب البلاد والحاج أحمد في شرقها.
وقد تركت لنا فترة الأمير عبد القادر (1832 - 1847) مجموعة من التراث الأدبي سندرسه في محله، كالرسائل الديوانية، والمراسلات، والخطب. كما أن فترة الحاج أحمد (1830 - 1837) قد تركت بعض الإنتاج المتمثل في المحاضر والشهادات والمراسلات. وسنعرض إلى ذلك أيضا.
ومنذ الاحتلال، وظف الفرنسيون بعض الجزائريين في مختلف المجالات الدينية والديوانية والترجمة والصحافة (وهي فن جديد عليهم). فنشأ عندئذ أدب مختلف عن سابقه فكرا وروحا وأسلوبا، متأثرا بالمخالطات الاجتماعية والتأثيرات اللغوية والفكرية الفرنسية. ولم يظهر ذلك فجأة وإنما أخذ يتطور مع الأيام ويتسع مع الحاجة. فقد وظف الفرنسيون بعض رجال الدين في الإمامة والإفتاء والقضاء، كما وظفوا آخرين في التدريس والترجمة، وعينوا محررين ومصححين في الصحافة التي أنشأوها. وقد أصبح هؤلاء ينشؤون الرسائل الإدارية والمقالات الصحفية ويلقون الخطب الوعظية في الجمعة والأعياد على الطريقة الجديدة المعينة لهم من الإدارة الفرنسية. ومن ثمة أخذ ينشأ في الجزائر نوع آخر من الأدب العربي - الفرنسي أو (الفرنكو - أراب). وقد ظهر ذلك في رسائل رجال الدين إلى الإدارة الفرنسية (1). وفي مقالات أحمد البدوي وأحمد الفكون وعلي بن عمر وأضرابهم الذين تعاملوا مع جريدة (المبشر). وسيتوسع هذا الفن ليشمل العرائض أيضا. ويجب أن يكون مفهوما من البداية أن هذا النوع من الإنتاج العربي - الفرنسي (أو المتفرنس) قد استمر طيلة الاحتلال واتخذ لذلك
(1) انظر دراستنا (من رسائل علماء الجزائر في القرن الماضي)، في (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج 3.
أطوارا. كما أنه كان محدود المجال ومقصورا على الفئات المذكورة تقريبا، إلى أن ظهرت فئة الأدباء الأحرار والمعلمين الأحرار، كما ظهرت حركة التأليف ونشر المخطوطات والتأثر بالثقافة العربية الحديثة القادمة من المشرق في عهد النهضة الأدبية منذ أول هذا القرن.
إن هذا التطور الذي حدث في أساليب الكتابة يرجع في الواقع إلى عدة عوامل منها: إنشاء المدارس الرسمية الثلاث، وهي التي سميناها المدارس العربية - الفرنسية الشرعية (1)، وقد بدأت تحت رقابة محدودة سنة 1850، ثم مرت إلى رقابة كاملة منذ 1876، وتفرنست إدارتها وبرنامجها منذئذ. وكانت أساسا مدارس لتخريج رجال الدين والقضاء في ظل الثقافة الفرنسية. وقد أخرجت فعلا بعض العناصر الجيدة أمثال ابن الموهوب وشعب بن علي ومحمد بن شنب ومالك بن نبي. غير أن هؤلاء كانوا أصحاب مواهب متميزة. وكان من أساتذتها عبد القادر المجاوي ولكنه لم يتخرج منها، فقد تخرج من القرويين في المغرب، كما تخرج محمد الزقاي من الأزهر، وهو شيخ آخر من شيوخ هذه المدارس؛ ومن العوامل أيضا إنشاء المعهد النابليوني سنة 1857، فقد درس فيه أمثال حسن بن بريهمات. وهو أديب بارع بمقياس المدرسة العربية - الفرنسية. ومنها رجوع عدد من الجزائريين الذين درسوا في المشرق أو المغرب إلى بلادهم رغم القيود الكثيرة التي كانت مسلطة عليهم.
ولذلك يمكن القول إن ثقافة المشرق قد أثرت في الجزائر رغم سيطرة المدرسة الفرنسية. ولدينا عدد ممن درسوا في الأزهر والقرويين وزوايا تونس. ومنهم محمد الزقاي الذي سبق ذكره والذي تولى إدارة مدرسة تلمسان، وكان من كتاب الصحافة أيضا. ثم عاشور الخنقي الذي درس في زاوية نفطة وبعد ذلك انتصب للتدريس في قسنطينة خلال السبعينات، ثم في
(1) كانت (المبشر) تسميها المدارس (السلطانية) نسبة إلى (السلطان) نابليون الثالث لأنها ظهرت في عهده وكان يرعاها. انظر عنها فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.
زاوية الهامل حيث عاش فترة طويلة. ومنهم من هاجر أولا، إلى دمشق ودرس بها ثم رجع إلى الجزائر وتولى بها الوظائف الرسمية. ومن هؤلاء الطيب بن المختار، وهو شاعر وناثر، وكذلك عدد من عائلة بوطالب المعسكرية. ومن أدباء هذه العائلة أحمد المجاهد الغريسي وأبو بكر بوطالب.
أما في القرن العشرين فقد وجدنا مجموعة أخرى من الجزائريين الذين درسوا بالأزهر أو عاشوا بالشام أو هاجروا إلى الحجاز ثم رجعوا إلى وطنهم وشاركوا في نهضته، وقد تولى بعضهم الوظائف الدينية الرسمية. وتحضرنا الآن أسماء المولود الزريبي، وأبي يعلى الزواوي، والطيب العقبي، والبشير الإبراهيمي، والمولود الحافظي، والعربي التبسي، وأحمد رضا حوحو. وقد نضيف إليهم عبد الحميد بن باديس. والواقع أن العهد الأخير قد شهد أيضا عودة مجموعة من المتعلمين الجزائريين من الزيتونة وإلى حد ما من القرويين. وكان بينهم أدباء متميزون أمثال الشاعرين محمد العيد ومفدي زكريا. وكان من المتوقع أن يحدث صراع بين المدرسة العربية والمدرسة الفرنسية، وهو صراع بقي إلى عهد الاستقلال.
وهناك أدباء (بعليون)، إذا صح التعبير، ونعني بهم أولئك الذين درسوا بوسائلهم الخاصة وعانوا مرارة الحياة خارج النظام الاستعماري، ثم وجدوا أنفهسم داخل هذا النظام أو على هامشه. ومنهم أحمد البدوي الذي كتب للأمير عبد القادر، ثم أصبح محررا في جريدة (المبشر) مع المستشرق البارون دي سلان. وقد وظفت أسرة المبشر أيضا شخصا آخر له ثقافة غزيرة واستفادت من علمه وأدبه وهو الحفناوي بن الشيخ (أبو القاسم) صاحب كتاب تعريف الخلف. فقد وظفه المستشرق (آرنو) مدة طويلة. ومنهم محمد الديسي الذي درس في الزوايا المحلية وظل طول حياته مدرسا ومؤلفا في زاوية الهامل، وهو صاحب المقامات والإجازات والتقاريظ العديدة. وقد نذكر من هؤلاء شخصا آخر كان له قلم وفكر وكان أيضا بعليا عصاميا وهو محمد العاصمي.