الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونعتقد أن هناك تقاريظ أخرى لم نقف عليها. ويمكن أن تدخل ضمن التقاريظ أيضا تلك التعاليق التي كتبها المتأدبون على الإنتاج الأدبي، مقالة أو قصيدة أو كتابا، كإشادة الإبراهيمي وشكيب أرسلان والطيب العقبي بشعر محمد العيد في مناسبات عديدة (1).
الخطابة
نعني هنا الخطابة باللغة العربية ارتجالا أو كتابة. وقد مرت بمراحل سنذكرها. وتنوعت إلى أربعة أنواع على الأقل، وهي الخطب السياسية - الجهادية، والخطب الدينية، والخطب الإصلاحية - الاجتماعية، والخطب التعليمية والتأبينية. ومن الجدير بالذكر أن الخطباء نادرون لأسباب يرجع بعضها إلى طبيعة الجزائري نفسها التي تتميز بالتحفظ والتردد في الكلام عادة، وإلى ظروف السياسة التي قيدت الخطباء وحرية التعبير وأنشأت قوانين القمع والرعب، وأخيرا يرجع إلى ضعف المستوى الثقافي الذي تحدثنا عنه في فصول التعليم ومحاربة اللغة العربية.
والمراحل الرئيسية التي مرت بها الخطابة هي عهد الأمير، وعهد الأشراف والمرابطين، ثم عهد المصلحين والساسة. ففي العهد الأول وجدنا الخطابة متصلة بزعماء المقاومة وعلى رأسهم الأمير عبد القادر. فكان خطيب الأمة وخطيب الجهاد وخطيب الصلوات. أول خطبة ألقاها تتمثل في قبول البيعة والحث على الجهاد والطاعة. ثم توالت بعد ذلك الخطب في
= (سائق السعادة)، انظر سابقا. وخلال الخمسينات كان أحمد الأكحل من كتاب مجلة (هنا الجزائر) أيضا.
(1)
انظر كتابنا (شاعر الجزائر: محمد العيد) ط. 3؛ في آخر الجزء الثاني ذكر الهادي السنوسي في (شعراء الجزائر) مجموعة من التقاريظ، منها تقريظ الشيخ مبارك الميلي. وفي جريدة (البصائر) الصادرة سنة 1947 عناية خاصة بما تصدره المطابع وتنويهات بالكتب مثل الظاهرة القرآنية وغادة أم القرى.
المؤتمرات وجموع القبائل والحشود العسكرية. وقد ذكر المترجمون للأمير مجموعة من تلك الخطب السياسية - الجهادية. وليرجع من شاء إلى هذه المؤلفات: تحفة الزائر، وحياة الأمير عبد القادر لتشرشل. ومن ذلك خطبته بعد البيعة الأولى والبيعة الثانية. وقد قال صاحب (تحفة الزائر) في الخطبة الأولى إنها (مبتكرة طويلة تحتوي على وعظ ووعد ووعيد وأمر ونهي وحث على الجهاد). وقد تحدث عنها أيضا تشرشل (1).
ومن الخطب البليغة والمؤثرة في عهد الأمير خطبة عمه علي بن أبي طالب سنة 1837. وكان مدار الخطبة هو إقناع المعارضين لمعاهدة التافنة بقبولها لأنها تخدم، في نظر الخطيب، مصالح الدين والوطن. وقد استعمل فيها علي أبو طالب السجع الجميل في أغلبه، ولمح فيها إلى الشواهد المؤثرة في سامعيه. وربما التجأ إليه الأمير لإقناع المعارضين في مجلس الشورى وذلك لمكانة عمه الدينية والأخلاقية. وكان الأمير متزوجا ابنة عمه المذكور. وفي الخطبة وصف لحالة الحرب وحالة البلاد عموما في ذلك التاريخ. وقد تميزت بأسلوب فني كان له مفعوله على جمهور الحاضرين. وكانت معاهدة التافنة قد وقعت في نهاية الأمر بين الأمير والجنرال بوجو، ممثل فرنسا عندئذ في وهران وما احتله الفرنسيون من أقليمها.
بدأ علي أبو طالب خطبته - بعد أن حمد الله وصلى على النبي - ص- بقوله: (وقد علمتم أيها السادة أنه لما تكاثرت المظالم، وتواطأ العمال ومن وافقهم على ارتكاب الماثم، انتقم الرب تعالى منهم وعمنا ذلك منهم، قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}. وهو يشير (بالعمال) إلى الحكام العثمانيين - الأتراك - الذين أشاعوا الظلم والفساد في نظره، وهو سبب الاحتلال (فسلط الله علينا عدو ديننا فتكالب على بلادنا، واستولى على مراسينا، واستبدل مساجدنا فيها بالكنائس، وأخلاها من المدرس
(1)(تحفة الزائر) ط. 1903، 1/ 97. انظر أيضا ترجمتنا لكتاب تشرشل (حياة الأمير عبد القادر)، ط. 2، 1982.
والدارس). ثم ذكر كيف تبدلت الأحوال واضطرب الناس وغاب عنهم القائد وتحيرت عقولهم (فمرج لذلك أهل قطرنا، وضاقت بهم أرض مغربنا، واستبدلوا القصور المشيدة بخيام الشعر ومضارب الوبر، وتفرقوا أوزاعا في المواطن، وتباينوا في الموارد والمعاطن
…
إلى أن طالت القصة، وعز ما ندفع به عن هذه الغصة، ومالت شمس الاتفاق إلى الأفول، وتهيأ جند التناصر والتعاضد للرواح والقفول، فأظهر الله تعالى بلطفه بدر الدين، ومؤيد كلمة المؤمنين، ابن أخي هذا السيد عبد القدر بن محيي الدين، فبذل جهده في الذب عن الدين والوطن، وأتى في ذلك من العجائب والغرائب ما هو به قمن).
ثم وصف علي أبو طالب مسيرة المقاومة تحت راية الأمير وما حققته، وتوالت الحروب والإمدادات العسكرية الفرنسية. وكيف (استدعى حضرة الأمير
…
ملوك الإسلام في أقاصي البلاد، واستنصرهم للجهاد، فأعاروه أذنا صماء ولم يسمعوا له نداء، بل أجابه لسان الحال لا حياة لمن تنادى، ولا معين على من تمادى). وخلص الخطيب إلى أن الأمير إذا لم يقبل ما عرضه العدو عليه فإنه، وهم جميعا معه، سيكونون ممن يلقون بأيديهم إلى التهلكة. وبذلك يرجع الفساد وتمشى سماسرة الفتنة بين الناس. ولكن (اذا صحت النية، وصحت المقاصد السنية، فلا حرج على حضرة الأمير فيما استشاركم فيه واستلفتكم إليه، إذ هو من سياسة السلف، ومن تبعهم من ملوك الخلف، وهو الذي عليه فتوى الفقهاء وبه عمل العلماء
…
وصون دماء المسملين فرض متعين حتى في الجهاد. وقد قيل
…
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرطه الأمن على النفس والأهل والمال مع ظن الإفادة
…
فالنظر أيها السادة إنما هو للإمام لا لغيره
…
) وقد أنهى الخطبة بحث أعضاء المجلس على قبول الصلح وتوكيل الأمير في ذلك. وهو ما وقع بالفعل (1).
(1) تحفة الجزائر 1/ 175 - 176. وأيضا محمد طه الحاجري (جوانب من الحياة العقلية
…
في الجزائر)، مرجع سابق، ص 71.
وبعد الأمير كادت الخطبة السياسية - الجهادية تنحصر في خطب الأشراف والمرابطين الذين تميز بهم العهد من 1848 إلى 1882. وكان هؤلاء يظهرون بين الفينة والأخرى فيهزون المجتمع هزاه عنيفا، ولا سيما المجتمع الريفي، فيدعون إلى الجهاد وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف والطاعة، وذلك في عبارات قصيرة وحماس وغيرة على الدين والوطن. وهؤلاء الخطباء عادة يحلون كلامهم بالقرآن والحديث لإقناع سامعيهم والتأثير عليهم. ومن هؤلاء الشريف بو بغلة، والشريف بوزيان، والشريف المقراني والشريف محيي الدين (ابن الأمير) والمرابط محمد الحداد وابنه عبد العزيز، والمرابط بو عمامة، والأجواد من عائلة أولاد سيدي الشيخ. ولا توجد حتى الآن خطب مكتوبة أو مدونة لهؤلاء لأنهم كانوا يلقون كلامهم في الجموع ثم يفترقون استعدادا للجهاد.
ومنذ فاتح هذا القرن اختلطت بعض الخطب بالدروس المسجدية، وظهرت الخطبة الإصلاحية على يد الشيخ المولود بن الموهوب. وكان نادى صالح باي في قسنطينة مجالا لابن الموهوب لبث هذا النوع من الخطب التي تسمى أحيانا (محاضرات) بلهحة الصحف عندئذ. ومن أشهر ذلك خطبة قبوله وظيفة الفتوى سنة 1908 وقد حث فيها على التعلم واغتنام فرصة فتح المدارس الفرنسية. وهي خطبة مكتوبة، وقد عثرنا على نصها ونشرناه (1). وظهر خطباء آخرون في النوادي التي تأسست في العاصمة مقل نادي الرشيدية ونادى التوفيقية ثم نادى الترقي، ونحن نعرف أن الناديين الأولين قد تميزا بـ (المحاضرات) وليس بالخطب، أما نادي الترقي فقد عرف عدة خطباء بالمعنى الذي نقصده هنا، وهو استعمال اللغة العربية الفصيحة والارتجال في الكلام وتناول الموضوعات الإصلاحية. وكان أبرز الخطباء في النادي الأخير (تأسس سنة 1927) هو الشيخ الطيب العقبي وابن باديس وأحمد توفيق المدني (2).
(1) انظر كتابنا أبحاث وآراء، ج 3.
(2)
عن تأسيس نادي الترقي ودوره انظر فصل المنشآت الثقافية.
وهناك مناسبات عديدة ظهر فيها هؤلاء، وبالأخص العقبي وابن باديس، مثل الحفلات السنوية لبعض المدارس والجمعيات، وزيارة بعض الأعيان من العرب، وتأسيس جمعية العلماء واجتماعاتها السنوية، وهكذا. ومن المناسبات التي احتضنها نادي الترقي المؤتمر الإسلامي سنة 1936، وقد ألقيت فيه الخطب التحضيرية فقط، لأن نشاط المؤتمر قد وقع في بعض دور الحفلات أو في الملاعب العامة.
وقد توسعت الخطبة الإصلاحية في عهد جمعية العلماء لارتباط الجمعية باللغة العربية واستعمالها في التعليم والوعظ والإرشاد والصحافة وتعميمها في كامل القطر. وهكذ ظهر، بالإضافة إلى من ذكرنا، خطباء ووعاظ ومدرسون من أمثال أبي يعلى الزواوي والعربي التبسي، ومبارك الميلي وأحمد سحنون، وعبد القادر الياجوري. وكان الأخير من أبرز خطباء هذه المرحلة وقد جمع بين الخطاب السياسي والإصلاحي، وكان محركا للجماهير وموقظا للنفوس بطريقة مؤثرة (1). إن الخطبة الإصلاحية على يد هؤلاء قد خرجت من موضوع الاستنهاض والسلفية إلى الموضوعات الاجتماعية كالفقر والغنى والتكافل والتضامن والمرأة والتعليم، والموضوعات الوطنية كتاريخ الجزائر والعرب والإسلام والاستعمار واستقلال الشعوب وحريتها. وقد أعدت مدارس جمعية العلماء منهجا تربويا لتكوين الخطباء، فألزمت المعلمين بتعليم الأطفال فن الخطابة من الصغر وتشجيعهم على الإلقاء أمام زملائهم وفي الحفلات العامة وارتجال الكلمات المناسبة. كما أن جمعية العلماء قد أسست النوادي ليتبارى فيها الخطباء في المناسبات المختلفة. وسنرى أن الجمعية قد شجعت أيضا التمثيل كجزء من تشجيع الخطابة بين الشباب.
لقد اشتهر ابن باديس بخطبه النافذة والمؤثرة. وكان مخلصا في كلامه
(1) كنا كتبنا سيرة له وبدأت بعض الصحف في نشرها خلال غشت 1994. ثم نشرت كاملة في مجلة الثقافة، 1995، ولكن بدون التعاليق.
صادقا في تعابيره، حاضر البديهة، كثير الاستشهاد بالشواهد، ومع ذلك كان محافظا على توازن القول فلا يميل إلى الهجوم ولا يغالي في التقريع. فكان اعتداله من خصائص شخصيته ومن أسرار نجاحه وتأثيره. وربما على النقيض منه الطيب العقبي الذي بدأ الخطابة في مساجد بسكرة ثم في نادي الترقي بالعاصمة حوالي عشر سنوات قبل أن تحل به أزمة 1936 الشهيرة والتي أدت إلى اعتقاله وسجنه (وترويضه). وكان العقبي قبل هذه الحادثة مندفعا كالتيار، اعتبره معاصروه من أخطب الخطباء ارتجالا ومن أفصحهم لسانا وأكثرهم تأثيرا على جمهوره. وربما يرجع ذلك إلى مزاجه الحاد وبيئته الصحراوية وتعليمه في الحجاز قبل رجوعه إلى الجزائر. هاجم العقبي الطرق الصوفية الضالعة في ركاب الإدارة الاستعمارية ومن خلالها مس الإدارة نفسها والأجهزة الفاعلة فيها. فلم يغفروا له اجتيازه الخطوط الحمراء.
أما خطابة الإبراهيمي فتميزت بالطابع الأدبي والبلاغي واستحضار المحفوظات والشواهد، وكان مؤثرا في الخاصة أكثر من العامة. وهو يجيد النكتة السريعة واللمحة الدالة. وقد ألقى الإبراهيمي الخطب الكثيرة في الجزائر، عند افتتاح مدرسة دار الحديث واجتماعات جمعية العلماء، وفي حفلات الزوار الأعيان، وافتتاح المدارس الحرة. ومن أشهر خطبه تلك التي ألقاها في باريس فاتح سنة 1952، وهو في طريقه إلى المشرق، وكانت أثناء الحفل الذي حضرته الوفود العربية. وفي المشرق اشتهر الإبراهيمي بالخطب المرتجلة في جمعية الشباب المسلمين وأثناء زياراته للأزهر ودار العلوم بمصر، وزياراته أيضا للأقطار العربية. وقد غطت البصائر كثيرا. من هذا النشاط قبل أن تتوقف عن الصدور سنة 1956 (1).
(1) بعض خطبه منشور في كتاب (في قلب المعركة)، مرجع سابق، وقد كان بعض تلاميذه يلخصون كلماته بأقلامهم لجمهور قراء البصائر مع المحافظة على بعض تعابيره المتميزة. ونكتفي بالإحالة على خطبه ولا سيما خطبته في باريس، وذلك لأهميتها وطولها. حضرت بعض خطب الشيخ الابراهيمي في جمعية الشبان المسلمين فكانت في صوته بحة وفيه تمديد بطيء بنبرة جزائرية واضحة. فلم يكن له =
بقي أن نتحدث عن الخطب الدينية ثم التعليمية والتأبينية. ونعني بالخطب الدينية خطب المساجد الخاصة بالجمعة والأعياد، وهي عادة يلقيها خطباء مختصون، ويمتازون بالفصاحة والبيان، والقدرة على الإسماع وحفظ القرآن، وكان الإمام العادي لا يقوم بالخطابة وإنما يؤدي الصلوات، أما الخطيب فله دوره وميزاته الأخرى كالتأثير في الناس وطلاقة اللسان، والتمكن من التفسير والحديث. ولذلك كان تجنيد الخطباء ليس بالأمر الهين، لأن عامة الناس هم الذين يحضرون للصلوات اليومية، أما صلاة الجمعة والأعياد فيحضرها الأعيان وقد يحضرها كبار المسؤولين والضيوف. وهكذا يحتاج الأمر إلى شخصيات علمية وسياسية أيضا.
أما في العهد الفرنسي فقد ضعفت الخطابة الدينية بالتدرج لضعف مستوى الثقافة وهجرة العلماء الأكفاء وإعطاء الوظيف لمن سأله لا لمن استحقه، بل لمن رضيت عنه السلطات الفرنسية. وكانت الإدارة هي التي تعد الخطب وتصوغها وتقدمها للخطيب فلا يخرج عنها إلا للأدعية والأذكار إذا شاء. وموضوعات الخطب سلبية جامدة، فلا تتحدث إلا عن العبادات وأحوال الآخرة والأموات وعذاب القبر.
وقد لاحظ حمدان خوجة منذ البداية أن العلماء قد ذلوا ولم يعد في إمكانهم مصارحة السلطات الفرنسية بما يجري أو بما يعتقدون لكثرة القمع والجوسسة من حولهم. وكانت أية كلمة إضافية خارجة عن نطاق الورقة المكتوبة يحاسب عليها صاحبها، حتى الدعاء للسلطان والخلفاء الراشدين ونصرة الدين قد غير صيغته الفرنسيون منذ بداية الاحتلال، ولم يعد في استطاعة الخطيب في الجمعة مثلا أن يدعو بالنصر للسلطان العثماني ولا باتباع السلف الصالح، بل إن الإدارة الفرنسية جعلت الخطباء ينوهون بأعياد فرنسا والدعاء لحكامها. يضاف إلى ذلك ضعف اللسان وقهر الجنان. ولقد
= تأثير سريع ومباشر على الجمهور. ولعل استعمالاته اللغوية وعنايته بالأمثال والشعر يفقده القدرة على التأثير إلا على الخاصة.
شاهدنا خطباء في المساجد الرسمية لا يكادون يهجون حروف الخطبة المكتوبة. فنحن إذن أبعد ما نكون عن البيان والبلاغة والبحث عن نماذج للخطابة الأدبية التي نحن بصددها.
هناك أسماء لعلماء اشتهروا مع ذلك بالخطابة في المساجد الرسمية. وقد أشاد بهم معاصروهم، لأن خطبهم لم تصل إلينا. فبالإضافة إلى مصطفى الكبابطي الذي كان يمثل بقية الجيل السابق للاحتلال نذكر حميدة العمالي وعلي بن الحفاف، وكلهم خطباء الجامع الكبير بالعاصمة. وكان أبو القاسم بن الشيخ قد ولى الخطابة في الجامع الكبير أيضا ولكن بعض تلاميذه قالوا إنه كان ينيب غيره في ذلك. ولا شك أن ذلك ليس تواضعا منه، فإما أن يكون خجولا أو خائفا، أما علمه فلا شك فيه، كما أن المنصب المذكور قد تولاه محمود كحول، وكان من الكتاب والصحفيين والشعراء والمدرسين. ولا ندري تأثيره في الخطابة ما دام لا يستطيع الخروج عما رسم له.
أما في قسنطينة فقد اشتهر من الخطباء والمفتين المولود بن الموهوب. وقد سبقه في الخطابة بالجامع الكبير محمد الصالح بن مهنة الذي سنتحدث عن خطبه. وكان علي بن عبد الرحمن مفتي وهران مدة طويلة، ولكننا لا نعرف أنه كان متوليا للخطابة فيها أيضا. وكان ابن عبد الرحمن هذا من علماء الوقت. وكان هناك خطباء جمعة وأعياد آخرون قادرين لو أتيحت لهم الفرصة ومنحت لهم الحرية في القول والإنشاء وتناول الموضوعات الحيوية المتعلقة بالمعاملات والحياة الاجتماعية. وقد عرف من الخطباء المرتجلين - وهذا غريب - الشيخ أبو يعلى الزواوي، وهو الذي سن نوعا من الخطب سنتحدث عنه بعد قليل. لقد كان الفرنسيون يعتبرون اللغة العربية قد ماتت ولم يبق لها سوى الاستعمال التعبدي في الصلوات حيث لا يفهمها أحد وحيث يكون مصيرها هو مصير اللاتينية.
ولكن ليس كل رجال الدين كانوا موظفين لا يخطبون إلا من أوراق مكتوبة أو كانوا عاجزين عن الخطابة الفنية. نحن سلم أن المساجد منها
الرسمي الموضوع تحت إدارة الشؤون الأهلية ومنها ما هو مستقل عنها. والنوع الأول هو الذي كان خطباؤه معينين رسميا ولا يخرجون عما ترسمه لهم الإدارة قيد أنملة، وهي التي كانت تدفع إليهم المرتبات الشهرية. أما النوع الثاني من المساجد فقد كان خطباؤه أحرارا مستقلين عن الإدارة ولا تدفع لهم شيئا، وإنما كانوا يعينون من قبل الجماعات أو كانوا متطوعين. وبعض المساجد كانت تابعة للزوايا وكان خطباؤها من المرابطين. والمساجد الأخيرة - المستقلة أو التابعة للزوايا - هي التي كان خطباؤها يعالجون موضوعات غير مملة، موضوعات اجتماعية ودينية تهم العامة والتربية العمومية. ولكن الإدارة الفرنسية كانت تراقب هذا النوع من خطباء المساجد عن طريق المكاتب العربية الرسمية وعن طريق الجواسيس الذين تبثهم في المصلين والمستمعين، وكذلك عن طريق القياد وشيوخ الأعراش وأعوانهم.
ولكن الزمام كان يفلت أحيانا من يد الإدارة عند وقوع ثورة من الثورات، مثل ثورة 1871 وثورة 1881. فالخطيب حنيئذ يصبح هو نفسه داعية للتمرد وتصبح الكلمات مثورة ومهيجة. وليس لدينا أمثلة كثيرة على ذلك. ومنه ما قام به أبو القاسم البوجليلي أثناء ثورة 1871، فقد كان يخطب الجمعة ويعلن ولاءه للسلطان عبد العزيز العثماني. والمعروف أن فرنسا عندئذ قد هزمت في أروبا على يد بروسيا وأن حالة الاستنفار قد أعلنت في الجزائر على يد عدد من دعاة الثورة. وكان البوجليلي من الزعماء الرحمانيين ومن كبار المربين في وقته. وقد قيل إن خطبه كانت تدعو على هذا النحو: اللهم انصر خليفتك الإمام الناشر لواء الإسلام، ذا الأمانة والأمان، عبد الحميد (كذا) خان، اللهم انصره نصرا تعز به الدين، وتذل به رقاب الكافرين، اللهم أهلك الكفرة وما ابتدعوا، وشتت شملهم وما جمعوا، ووهن كيدهم وما صنعوا، واجعلهم فيئا للمسلمين، وغنيمة للموحدين، وانصرنا عليهم يا خير الناصرين) (1).
(1) عمار الطالبي، محاضرة عن البوجليلي في الملتقى 15 للفكر الإسلامي بالجزائر، وذكر الطالبي أنه أخذ المعلومة من مخطوط للبوجليلي يرجع إلى سنة 1278 هـ =
ولا شك أن هناك خطباء آخرين مستقلين أو مرابطين كانوا يجيدون الخطبة بقطع النظر عن الموضوعات السياسية والثورات. لأن هؤلاء عادة كانوا يتطوعون عندما يحسون في أنفسهم القدرة على هذه المهمة وهي الخطابة الارتجالية ذات الموضوعات الحية واللغة السليمة. كما أن إقبال الناس عليهم كان متوقفا على إجادتهم فن القول والإقناع.
والنوع الأخير من الخطب هو ذلك الذي كان يلقى في مناسبات تعليمية أو تأبينية. والمقصود بالتعليمية تلك التي تكون في الاحتفالات بافتتاح المدارس أو بتوزيع الجوائز على التلاميذ. وقد حدث ذلك أثناء الاحتفالات التي كان يحضرها المديرون وبعض الوزراء، وكان بعض الجزائريين يتكلمون فيها ترغيبا في العلم وإشادة بجهود فرنسا. ومن نماذج ذلك ما خطب به حسن بريهمات عندما كان متوليا إدارة المدرسة السلطانية - الرسمية - بالعاصمة، وفي عدة مناسبات أخرى.
من ذلك الحفلة التي أقيمت في قسنطينة في يوليو 1869 لتوزيع الجوائز على تلاميذ المدرسة السلطانية - في عامها الثاني عندئذ - ومن التلاميذ المجازين: عبد الكريم بن باديس الذي تفوق في الترجمة، وحسن بن محمد العنابي (1) في الأدب، وحميدة بن عمر في الرياضيات. بينما الخطابة الرئيسية تولاها الحاج أحمد المبارك صاحب تاريخ حاضرة قسنطينة، وكان المبارك هو أحد المدرسين بالمدرسة، وكان مفتيا أيضا ومن أعيان المتصوفة. وكانت خطبته مسجعة على هذا النحو: (الحمد لله الذي شرف من هداه بالعلم لحسن العمل، وزينه بالآداب المنيلة لغايات الأمل
…
) وقد دعا فيها بطول العمر لنابليون الثالث وسماه في الخطبة
= (1861). فإذا كان تاريخ الخطبة يصادف 1871، فإن السلطان الحاكم عندئذ هو عبد العزيز وليس عبد الحميد الثاني الذي لم يتول الحكم إلا سنة 1876.
(1)
ربما محمد العنابي هذا هو صاحب كتاب (كشف البضائع). وقد كان مفتيا في وقته. فيكون ابنه حسن حينئذ من الجيل الثاني.
(مولانا وولي نعمتنا السلطان الأعظم والملك الأفخم
…
أن من عظيم النعم الإلهية على هذه الأمة الإسلامية، أن تكلفتها (كذا) ولاية هذا السلطان الكريم، الشفيق الحليم). والغريب أن الشيخ أحمد المبارك الذي كان من أنصار الحاج أحمد باي حتى عندما انهزم واستسلم سنة 1848، وهو الموقف الذي تسبب في عزل الشيخ نفسه من وظيفته فترة، قد تحول إلى نصير علني لنابليون الثالث واعتبر احتلال الجزائر (من الألطاف الخفية). فقد قال الشيخ في خطبته التي كان من المفروض أن تقتصر على العلم والجوائز:(ومن الألطاف الخفية استيلاؤه (أي نابليون) على هاته الأرض الجزائرية
…
ومن أوامره السعيدة
…
إحداث هذا القصر المشيد
…
لتعليم أولادنا وتأديبهم، ونفع ذلك عائد عليهم وعلى أهليهم
…
وما رغبة مولانا السلطان إلا الاتحاد بين الجنسين ومؤخات (كذا) الفريقين (1)).
كما حضر الوزير الفرنسي، كومبس، سنة 1896 توزيع الجوائز على بعض المدرسين والمتعلمين في مدرسة الجزائر وألقيت بين يديه كلمات من الأعيان، بعضها باللغة الفرنسية (2). وقد حدث ذلك أيضا عند افتتاح المدرسة الثعالبية الجديدة، ونحو ذلك، ولكن في معظم هذه المناسبات كانت الخطابة روتينية وفيها عبارات المجاملة، وأحيانا بالفرنسية. فهي لا تدخل فيما نحن فيه تجاوزا. غير أن حفلات افتتاح المدارس وتوزيع الجوائز قد اتخذت طابعا آخر في عهد الحركة الإصلاحية، وكانت مناسبة هامة في حياة اللغة العربية حيث يتفاصح الخطباء مشيدين بالعلم والتربية، داعين للنهضة، طالبين للتبرعات وتوسيع المشاريع الخيرية.
أما الخطب التأبينية فنعني بها الكلمات التي تلقى تنويها بجهود بعض الأعيان المتوفين. وكانت هذه الكلمات بالعربية الفصحى وأحيانا كانت
(1) المبشر، 12 غشت، 1869. ويقصد (بالجنسين) المسلمين والفرنسيين.
(2)
من الذين خطبوا عندئذ: محيي الدين الشريف وعلي الشريف (وكلاهما من عائلة الزهار - نقيب الأشراف). فخطب الأول بالفرنسية رغم أنه كان يمثل (أرباب المساجد) كما تقول المبشر 11 - 4 - 1896. انظر أيضا عدد 18 إبريل، 1896.
ارتجالية وأحيانا مكتوبة. وكان بعضها يلقى عند الوفاة وبعضها بعد حين، كإقامة ذكرى الأربعين. ولنبدأ بالإشارة إلى حفل التأبين الذي أقيم في العاصمة للخليفة حمزة زعيم أولاد سيدي الشيخ سنة 1861 (1). وكان الخطيب هذه المرة هو حسن بريهمات وهو الذي تقبل التعازي أيضا بتكليف من المارشال بيليسييه. وحين توفى أحمد بن محمد التجاني سنة 7 189 أقيم له حفل تأبين في الجامع الجديد بالعاصمة خطب فيه بعض الأيمة والمرابطين والقياد بحضور جول كامبون (الحاكم العام) على رأس من حضر من الجهاز الإداري الفرنسي.
وكثيرة هي المناسبات التأبينية والخطابة فيها. فحين توفي المستشرق موتلانسكي، مدير مدرسة قسنطينة الرسمية، أقام له الفرنسيون هناك حفلة تأبين ودعوا إليها بعض العلماء الجزائريين، فألقى هؤلاء خطبا مناسبة. ولكن مجلة (روكاي) نشرت كل الكلمات ما عدا كلمات العلماء الجزائريين لأنها - كما قالت - بالعربية! ووقع تأبين محمد بن شنب الذي توفي سنة 1929 في حفلة أقامها أدباء وعلماء العاصمة، وحضرها الإبراهيمي والمدني والعاصمي والهادي السنوسي ومحمد العلمي وعبد القادر الحاج حمو (فكري). وقد جمعت هذه الكلمات في كتاب بعنوان (ذكرى الدكتور ابن شنب)(2). وقد ذكر المدني في شيء من المبالغة أن مدينة الجزائر قد أقامت لابن شنب حفلة تأبين لم تعرفها من قبل ولا عرفها شمال إفريقية!.
وعند وفاة ناصر الدين ديني، الفنان الفرنسي الشهير، أقيمت له حفلة تأبين في بو سعادة إثر جلب جثمانه من فرنسا حيث توفي، وكان ذلك في آخر يناير 1931. وقد حضر الحفلة وخطب فيها الشيوخ: المدني والعقبي وغيرهما، وكلماتهم مسجلة في الصحف المعاصرة (3).
(1) انظر قصة وفاته (مسموما؟) في الحركة الوطنية، ج 1.
(2)
انظر أحمد توفيق المدني (تقويم المنصور)، ج 5، 1348، ص 262. انظر أيضا كتاب (ذكرى الدكتور ابن شنب) لعبد الرحمن الجلالي، ط 2.
(3)
انظر مجلة الشهاب؟. وقد حالت قوانين الحرب العالمية الثانية دون إقامة حفل =
أما الخطب السياسية الحديثة فقد كانت انطلقت مع ظهور الأحزاب والتجمعات والمؤتمرات والانتخابات. وقد أصبح لكل حزب وجمعية خطباؤها. واستعملت لذلك العربية والفرنسية واللهجات المحلية. وكان خطباء جمعية العلماء لا يتدخلون في السياسة علنا، ولذلك نجد تدخلاتهم مصبوغة بالصبغة الدينية والاجتماعية أو مغلفة. المناسبات السياسية التي ظهروا فيها وألقوا خلالها بخطبهم إلى الجمهور، هي المؤتمر الإسلامي ولواحقه سنة 1936، وقد ظهر فيه ابن باديس والعقبي والإبراهيمي بشكل واضح. ويجد الباحث وصفا لذلك في الجرائد والمجلات المعاصرة كالشهاب والبصائر.
والمناسبة الثانية هي انعقاد ندوة جبهة الدفاع عن الحرية سنة 1952. وقد خطب فيها الشيوخ: العربي التبسي ومحمد خير الدين وأحمد توفيق المدني. والنصوص موجودة في البصائر والمنار. وكان الشيخان التبسي والمدني من المرتجلين للخطب، ويغلب على الأول الطابع الديني والاجتماعي، وعلى الثاني الطابع السياسي. وقد حضرت بنفسي خطابا مرتجلا للشيخ المدني (وكان من طبعه ارتجال الخطب) في باتنة سنة 1954 عند افتتاح إحدى المدارس أمام جماهير غفيرة، فكان خطابه مؤثرا ومثورا. كما حضرت خطاباته السياسية في القاهرة باسم جبهة التحرير الوطني في عدة مناسبات وأمام جموع الطلبة والمثقفين المشارقة. وكانت الموضوعات عند الخطباء المذكورين وأمثالهم هي السياسة العامة، والحقوق، والمظالم، والتربية والتعليم، وإحياء الأمجاد والإشادة بالعرب وأبطال المسلمين، والدفاع عن العربية والإسلام.
أما الخطب السياسية التي كانت الأحزاب الأخرى تشارك بها باللغة العربية، فكانت قليلة. وقد قيل إن الخطابة السياسية الحديثة بدأت بالأمير
= تأبين الشيخ ابن باديس سنة 1940. ولكن المناسبة ظلت تحييها الهيئات والأحزاب وتلقى فيها الخطب في الجزائر وتونس، بمشاركة خطباء البلدين.