المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التعامل مع اللغة العربية - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٨

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌الفصل الأولاللغة والنثر الأدبي

- ‌حالة الأدب والثقافة غداة الاحتلال

- ‌التعامل مع اللغة العربية

- ‌الدراسات البربرية

- ‌الدراسات النحوية والمعاجم

- ‌بلقاسم بن سديرة

- ‌عمر بن سعيد بوليفة

- ‌النثر الأدبي

- ‌المقالة الصحفية

- ‌الأسلوب من عاشور الخنقي إلى الإبراهيمي

- ‌الرسائل

- ‌التقاريظ

- ‌الخطابة

- ‌محمد الصالح بن مهنة وكتابه

- ‌خطب أبي يعلى الزواوي

- ‌الروايات والقصص والمسرحيات

- ‌ المقامات

- ‌أدب العرائض والنداءات والنصائح

- ‌مؤلفات وشروح أدبية والتحقيق

- ‌محمد بن أبي شنب

- ‌الأدب باللغة الفرنسية

- ‌الفصل الثانيالشعر

- ‌مدخل في تطور حركة الشعر

- ‌الدواوين والمجاميع

- ‌كتاب شعراء الجزائر في العصر الحاضر

- ‌الشعر الديني

- ‌الشعر السياسي

- ‌الشعر الإسلامي والإصلاحي

- ‌شعر المدح

- ‌شعر الرثاء

- ‌الشعر الإخواني

- ‌الشعر الذاتي

- ‌مبارك جلواح

- ‌الشعر التمثيلي والأناشيد

- ‌شعر الفخر والهجاء وغيرهما

- ‌الشعر الشعبي

- ‌ثورات وشعراء

- ‌في الشكوى وذم الزمان

- ‌أغراض أخرى للشعر الشعبي

- ‌الفصل الثالثالفنون

- ‌الفنون التقليدية - الشعبية

- ‌الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين

- ‌فيلا عبد اللطيف

- ‌معارض الفنون الإسلامية

- ‌الآثار الدينية

- ‌القصور والمباني الحضرية

- ‌المتاحف

- ‌الرسام ناصر الدين (إيتيان) ديني

- ‌النقش والرسم والخطاطة

- ‌مؤلفات في الخط

- ‌عمر راسم وأخوه محمد وآخرون

- ‌مؤلفات وآراء حول المسرح ورواد التمثيل

- ‌آراء ومؤلفات في الموسيقى

- ‌تطورات أخرى في مجال الموسيقى والغناء

- ‌ محمد ايقربوشن

- ‌المحتوى

الفصل: ‌التعامل مع اللغة العربية

وهكذا يمكننا القول إن الثقافة العربية قد عاشت في ثلاثة مراكز وانطلقت منها: المركز الأول: المدارس العربية الفرنسية (الرسمية)، والمركز الثاني: المعاهد والزوايا في البلدان العربية والإسلامية، والمركز الثالث: الزوايا والمدارس البعلية أو الحرة في الجزائر نفسها. وإذا كان التقارب قد وقع في غالب الأحيان بين طلاب المركزين الثاني والثالث، فإنه قلما وقع مع طلاب المركز الأول. وكان على الثقافة العربية أن تعاني من هذه الإزدواجية إلى اليوم. وهي ليست إزدواجية الثقافة الفرنسية المحض والثقافة العربية المحض، ولكنها إزدواجية الثقافة المتأثرة بالفكر الفرنسي والثقافة البعيدة عن هذا الفكر، بل المضادة له. ومهما كان الأمر فإن لكل مدرسة نتاجها. وسنرى عند تناولنا لهذا الإنتاج أيها كان أكثر ارتباطا بالتراث وأبعد تأثيرا في المستقبل.

‌التعامل مع اللغة العربية

اعتبر الفرنسيون اللغة العربية لغة أجنبية والفرنسية هي اللغة الرسمية. وكان ذلك موقفا واضحا من الدين الإسلامي أيضا لأن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولغة الحضارة التي كتب بها تراث الدولة الإسلامية. ومن جهة أخرى كان موقفا سياسيا واضحا أيضا، لأن العربية كانت هي لغة البلاد الإدارية والقضائية والتعليمية. فإذا استثنينا الجهاز المركزي بالعاصمة حيث كان الخلط بين العربية والتركية، فإن إدارة الأقاليم والأوطان والجماعات والمدارس والمحاكم كانت كلها باللغة العربية. وهكذا فإن اعتبار اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية كان نفيا لما عداها، مما يعني السيادة السياسية لفرنسا وضرب الدين الإسلامي ولغته وحضارته.

ولكن هذا لا يعني استغناء الفرنسيين عن اللغة العربية. لقد فهموا أن حاجاتهم الإدارية والاجتماعية لا يمكن أن تنجز إلا باستعمال هذه اللغة. وقاموا من أجل ذلك بمحاولتين، الأولى هي إهمال تدريس العربية في

ص: 13

المدارس القديمة، وذلك بقطع مصادر الوقف عنها. والثانية هي الاكتفاء بتدريس العربية الدارجة لضباط الجيش والراغبين في العمل الإداري من الفرنسيين. وقد تركوا المسلمين يحفظون القرآن وحده في الكتاتيب بدون دراسة للعلوم المساعدة على فهمه وتفسيره. ومن ثمة بقي القرآن في الصدور دون الكتب ودون تطبيق تعاليمه على الحياة العامة. وكادت تختفي العلوم العربية (النحو والصرف والبلاغة والإنشاء والعروض، الخ). والعلوم الدينية (الفقه والتوحيد والحديث والتفسير، الخ). لولا وجود الزوايا القليلة التي تأثرت هي أيضا ولوضع العام (الاستيلاء على الأوقاف والحروب، والغلق) ولكنها مع ذلك واصلت تعليم العلوم المذكورة بطريقة تقليدية.

أما تدريس العربية الدارجة فقد تولاه الفرنسيون أنفسهم. حقا لقد بدأه بعض المشارقة الذين رافقوا جيش الحملة، مثل جوني فرعون (وهو سوري - مصري) سنة 1832، ثم واصله لويس برينييه منذ 1836 (1). وقد شاركه في ذلك عدد آخر من المستشرقين الذين انتشروا في غرب البلاد وشرقها، ومنهم شيربونو في قسنطينة، وماشويل في وهران. وصدرت عن هؤلاء مجموعة من الكتب التعليمية بالعربية الدارجة والفرنسية، وهي كتب تقرأ من اليسار إلى اليمين، كما صدرت عنهم قواميس في نفس الموضوع. وكان التلاميذ في كل ولاية بين الثلاثين والخمسة عشر في كل موسم. ومعظمهم كانوا عسكريين في المرحلة الأولى (إلى 1870)، وكانت تعقد لهم المسابقات وترصد الجوائز. وكانت تنتظرهم الوظائف في المكاتب العربية العسكرية، وفي الإدارة المركزية، كما أن بعض المدنيين قد استفادوا من هذه الدروس. وقد أصبح الخريجون عادة مترجمين بدرجات متفاوتة تحدث عنها شارل فيرو في كتابه (مترجمو الجيش الإفريقي)(2)، ويمكن أن نسميهم مستعربين.

وهل يعني هذا أن الفرنسيين لم يدرسوا اللغة العربية الفصحى؟ الواقع

(1) انظر فصل الاستشراق.

(2)

فيرو (مترجمو الجيش الإفريقي)، الجزائر 1876.

ص: 14

أن بعضهم قد فعل، ومنهم هوداس وشيربونو ودي سلان وبرينييه وكور. وقد اعتبروها ضرورية لبلادهم من الناحية السياسية والتجارية والعلمية. ونشروا منها نصوصا عديدة وترجموا من تراثها الكثير، ولا سيما فئة المستشرقين المتأخرين أمثال فانيان وباصيه وماسينيون. وقد استعانوا بمجموعة من الجزائريين في هذا المجال نذكر منهم محمد بن شنب والحفناوي بن الشيخ وعلي بن سماية ومحمود كحول (ابن دالي) وأبا يعلى الزواوي.

وعاشت العربية الفصحى أيضا، في المدارس الرسمية الثلاث التي بدأت تعمل، كما ذكرنا، سنة 1850. ومرت بمراحل من حيث البرمجة: مرحلة التعريب الكامل، ومرحلة الفرنسة الجزئية (1876)، ثم مرحلة ازدواجية البرنامج (العربي والفرنسي) بعد وضعها تحت إشراف مستشرقين فرنسيين منذ التسعينات من القرن الماضي. وكانت الدراسة بالفرنسية في المواد الفرنسية، كما أن الإدارة وطرق التعليم كانت أيضا فرنسية. ولذلك كانت اللغة العربية غريبة في المدارس الرسمية - في المرحلتين الأخيرتين - فهي كما قلنا تدرس كلغة أجنبية وكانت وسيلة تعليمها هي اللغة الفرنسية طبعا. وكذلك كان حال العربية في مدرسة ترشيح المعلمين أو في الثانويات الفرنسية.

ذكرنا أن الفصحى ظلت تقاوم في بعض الزوايا التي سمح لها بالنشاط التعليمي، مثل بعض زوايا زواوة، وزاوية الهامل، وزاوية طولقة. وكانت المساجد الرسمية قد حافظت أيضا على الفصحى إلى حد كبير من جهتين: الجهة الأولى هي الخطب الدينية، فهي على بساطتها وسذاجتها كانت بالعربية الفصحى أو المعربة، ومن ثمة تأتي العلاقة بين العربية والدين، مما جعل بعض الفرنسيين يشبه العربية باللاتينية في الكنائس ويحكم بأنها لغة ميتة كاللاتينية أيضا. والجهة الثانية هي بعض الدروس العامة. وقد كانت الدروس في أول الأمر مقتصرة على جمهور محدود من عامة الناس القريبين من المسجد وعلى موضوع محدود وهو الفقه. ولكن المدرسين كانوا، باستثناء عدد منهم، يستعملون اللغة القريبة من الفصحى بحكم النصوص التي ينقلون عنها وتأثرهم بالمدرسة التى تخرجوا منها. وكان هؤلاء المدرسون قد سمح

ص: 15

لهم في نهاية القرن الماضي بتطوير تدريسهم ليشمل تعليم الشباب والتلاميذ المترشحين للمدارس الثلاث وليشمل أيضا موضوعات غير دينية كالنحو والأدب، والبلاغة. وإلى جانب هذه الدروس (الرسمية) رخصت الإدارة لبعض المدرسين (الأحرار) بإعطاء دروس في مساجد قراهم حول نفس الموضوعات. وهكذا كانت اللغة العربية الفصحى تنافس الدارجة العربية والبربرية والفرنكوية. وكل ذلك كان قبل ظهور الحركة الإصلاحية وانطلاق مدارسها ودروسها في التعليم والوعظ بالعربية الفصحى المتطورة.

وإلى جانب العربية والتركية كان بالجزائر غداة الاحتلال لهجات كثيرة عربية وبربرية، بالإضافة إلى لهجة ساحلية (لغة إفرنكية) يتحدث بها أصحاب السفن وعمال الموانئ والتجار. ان اتساع رقعة الجزائر جعل استعمال وشيوع لهجة واحدة غالبة أمرا مستحيلا. كما أن نظام الحكم نفسه ساعد على عزلة الناس عن بعضهم. فهو حكم أقلية غريبة عن أهل البلاد. فظلت أقلية متقوقعة على نفسها. ونتيجة لذلك كانت العاصمة عاصمة فقط من حيث المركزية السياسية والسلطة. أما ثقافيا وحتى تجاريا فلم تكن هي عاصمة البلاد. كان كل أقليم له عاصمته، وكانت السلطات الإدارية (المخزنية) قد جعلت البلاد تشكل وحدات (فدراليات) مستقلة ولكن دون حدود تجارية ولا تعليمية. وهذا الوضع كله قد ساعد على بقاء اللهجات مجهولة عند بعضها البعض، سواء أكانت لهجات عربية أو غيرها. أما التركية فلم تكن معروفة خارج الإدارة المركزية بالعاصمة والثكنات. وقد كانت وسيلة التواصل بين الجزائريين هي اللغة العربية، مهما تباعدوا في المكان، وهي لغة الكتابة عندهم، ولغة الخطاب الرسمي، واللغة الأدبية والدينية. وبها كانوا يتعلمون وبها يحررون السجلات القضائية والمداولات العرفية ويعقدون الاتفاقات الدولية والصفقات التجارية (1)، بالإضافة إلى تأليف الكتب وقرض الشعر.

وكان على الفرنسيين منذ البداية أن يدرسوا اللغة العربية ولهجاتها

(1) هناك اتفاقات دولية كانت أيضا بالتركية (العثمانية).

ص: 16

لينجحوا في مهمتهم. وقد فهموا ذلك رغم غيرتهم على لغتهم التي كانوا يسمونها (لغة السادة). وفهموا أنه لا التركية ولا اللهجات العربية أو البربرية ولا الخليط الساحلي الإفرنكي (اللغة الإفرنكية) سيجعلهم يفهمون الجزائريين وتراثهم. لذلك عقدوا العزم على تعلم العربية مهما كان الثمن، وبرروا ذلك بأنه لا يمكن مطالبة المغزوين (الجزائريين) بتعلم لغة الغزاة (الفرنسيين) فورا. (وكان الرأي العام كله مع هذه الفكرة (حسبما جاء في كتاب فور ميسترو Fourmestront)(1) .

ولقد أكد ذلك أكثر من واحد خلال فترة الاحتلال الأولى. فهذا بريسون، المتصرف المدني سنة 1836، كتب إلى المفتش العام للتعليم قائلا إن مهمة فرنسا في الجزائر تتوقف على دراسة اللغة العربية والتوسع فيها، من أجل التعرف على الأهالي والاتصال بهم، كما أن الاستعمار نفسه (الإستيطان واستغلال الأرض) يتوقف على معرفة اللغة العربية. ولا يكفي في ذلك الاعتماد على المترجمين. ومن جهة أخرى أكد بريسون على ضرورة دراسة اللهجات أيضا كلما توسع الاحتلال في الجزائر، وأخبر أن الإدارة سوف لا تقبل مستقبلا من الفرنسيين إلا الذين يعرفون العربية والفرنسية (2).

وفي نفس هذا المعنى أعلن الدوق دورليان، وهو ابن الملك لويس فيليب، وقد شارك في حملات عسكرية، واجتاز مع الجيش الفرنسي مضائق البيبان قادما من قسنطينة إلى العاصمة عن طريق البر سنة 1838، وهو الاجتياز الذي تسبب في أزمة بين الأمير والفرنسيين. قال دورليان إن معرفة اللغة العربية ضرورية لتقريب الفرنسيين من الجزائريين، وأن جيشه الذي عبر البيبان كان يعرف العربية من ثمة كان نجاحه في العبور. ولم يكن في حاجة إلى مترجمين لأن هؤلاء قد أساؤوا في نظره أكثر مما أحسنوا (3).

(1) نقل ذلك كور، ص 20 عن كتاب فورميسترو (التعليم العمومي في الجزائر من 1830 - 1880)، باريس، 1880.

(2)

الرسالة نشرتها الجريدة الرسمية (المونيتور الجزائري)، 10 فبراير، 1837.

(3)

الدوق دروليان (قصة حملة)، باريس، 1892، ص 258. من الغريب أن يقول =

ص: 17

وهذا المؤرخ المحافظ جان بوجولا، مؤرخ عهد بوجو، والمتحمس كثيرا لاستعادة الكنيسة، أعلن أن الأروبيين كانوا، سنة 1844، يتعلمون اللغة العربية لتكون علاقاتهم مع الأهالي أكيدة ومنتجة. وأعلن أيضا أن تعلم اللغة العربية شرط أساسي لتسريب الأفكار والعادات والثقافة الفرنسية إلى الأهالي. وطالب بحرية رجال الدين في تعلمها لكي يتصلوا بالأهالي ويبثوا الأفكار النصرانية عن طريقها (1).

وكان المارشال بوجو قد أصدر قرارا بأن تكون اللغة العربية شرطا أساسيا في الوظيف ابتداء من يناير 1847. وجرى التحضير لذلك بالمسابقات والجوائز والامتحانات. وكان لويس برينييه هو المشرف على هذا البرنامج. وهكذا عممت العربية في الإدارة المدنية المركزية والمكاتب العسكرية المتصلة بالأهالي سواء في العاصمة أو خارجها. ونشطت حركة الترجمة وتوسعت حلقات اللغة العربية في وهران وقسنطينة. وبدأ الحديث عن إنشاء معهد عربي - فرنسي في فرنسا، ثم أنشئ في الجزائر المعهد النابليوني بدلا منه سنة 1857، كما أشرنا. ويقول أوغست كور إن العربية يمكن أن تقدم لفرنسا فوائد جمة لأنها كانت لغة الحديث منذ قرون. وهو يضيف بأن العربية لن تمكن الفرنسيين من فهم الذين يحكمونهم فقط ولكن ستمكنهم من تذويقهم طعم الحضارة الفرنسية. وتوسع كور في هذا المعنى قائلا إن دراسة أدب الجزائريين سيؤدي إلى معرفة عبقريتهم وأصالة فكرهم وشعرهم المؤثر، ومعرفة كتبهم في مختلف العلوم، ومن ثمة معرفة أصول أفكارهم وأحكامهم وتقاليدهم (2).

وهناك آراء أخرى عديدة من العسكريين والمدنيين، السياسيين

= دورليان ان الخمر كانت من بين الوسائل التي استخدمها الفرنسيون بنجاح. وقد تحدث أكثر من واحد عن نشر الجيش الفرنسى الخمر بين الجزائريين، ولا سيما الشبان والأغرار.

(1)

جان بوجولا (دراسات إفريقية)، ص 176.

(2)

كور (ملاحظات على كراسي اللغة العربية) في (المجلة الإفريقية)، 138، ص 31 - 32.

ص: 18

والمستشرقين، وكلها كانت تحث على تعلم اللغة العربية كوسيلة لفهم الجزائريين ونشر الثقافة الفرنسية. وقد أضيف إليها منذ آخر القرن الماضي مبرر آخر وهو بناء الروابط التجارية والسياسية مع البلاد العربية والإسلامية. ولكن هذه الآراء لم تكن آراء كل الفرنسيين في القرن الماضي، فقد انتصرت عندئذ السلطة في فرض اللغة الفرنسية وأصبح المغلوبون هم الذين عليهم أن يتعلموا لغة الغزاة، حسب تعبير بعض الكتاب. والغريب أنه بقدر ما كان الفرنسيون مؤمنين بضرورة تعلم العربية لأنفسهم كانوا يمنعون الجزائريين من تعلمها، رغم أنها لغتهم القومية والوطنية والدينية.

ومنذ التسعينات انطلقت الدراسات الاستشراقية للهجات العربية في الجزائر. ويعترف رينيه باصيه الذي كان مديرا لمدرسة الآداب بالجزائر سنوات طويلة، أن هذا الاهتمام بدأ حوالي 1890. ونتيجة لذلك أخذ كل مستشرق يدرس لهجة أو أكثر في المدن والأرياف، فكان يذهب لزيارة المكان ويتصل بأهله، وربما يستعين بتلاميذه الجزائريين في الناحية، ويأخذ في جمع المادة والمقارنة ثم يكتب دراسة أو كتابا لنشره مسلسلا في المجلات ثم في المطابع. وهذا لا يعني أن دراسة اللهجات العربية لم تبدأ إلا سنة 1890، ولكنه يعني أن الخطة قد وضعت عندئذ لتطوير الدراسات وتوسيعها للوصول إلى غرض اجتماعي وسياسي وهو حصر اللهجات ومعرفة الأصول اللغوية والعرقية للسكان ومدى تأثير لهجة ما على ما جاورها، وكيف تنقلت القبائل عبر العصور واستوطنت جهات عديدة، رغم أنها قد تكون من أصل واحد.

وفي هذا النطاق صدرت دراسات عن اللهجات الآتية - لاحظ أنها غير خاصة بالجزائر: دراسة عن أشراف سيق، ووهران، وأولاد إبراهيم بسعيدة، وتلمسان، والجزائر، وقسنطينة، ثم لهجة طنجة، ولهجة الحسنية بموريطانيا، ولهجة الجبالة. وأنت لا تكاد تفتح كتابا أو مجلة عندئذ إلا ستجد فيه دراسة عن لهجة كذا، ولهجة كذا .... le parlé arabe de. وقد اختص بعض المستشرقين بلهجة أو ناحية أو ظاهرة أدبية، مثل اهتمام

ص: 19

الإسكندر جولي في أول هذا القرن بالشعر العربي الشعبي في البوادي.

وبينما كانت المؤسسات الحكومية، بل الحكومة نفسها، تدفع تكاليف الطبع وتخصص الجوائز لطبع الدراسات الخاصة باللهجات البربرية - في الجزائر والمغرب - لا نجد الحكومة ولا مؤسساتها تساهم في طبع دراسات عن اللهجات العربية. وربما يعود ذلك إلى أن عددا كبيرا من المؤلفات قد ظهرت بالعربية الدارجة منذ الاحتلال، وقد أشرنا إلى ذلك. يقول رينيه باصيه: ظهرت منذ الاحتلال أكوام من المعاجم والقواميس وكتب المحادثة ومجموعات الرسائل بهدف تعليم العربية الدارجة. انها مكتبة كاملة. أما الدراسة العلمية للهجات العربية فلم تبدأ إلا حوالي سنة 1890 (1). ويؤكد هذا قول أوغست كور إن المسؤولين الفرنسيين لم تختلف نظرتهم إلى اللغة العربية (الدارجة)، لا في أهمية دراستها من الناحية السياسية ولا في مبدأ تعليمها، إلى نهاية القرن التاسع عشر (2). وكانت هذه القناعة العامة ترجع إلى التقرير الذي كتبه سولفي Ch. Solvet سنة 1846 وأوصى فيه بضرورة تعليم العربية (الدارجة؟) لتوفير المترجمين الإداريين والاحتياطيين لدفع فكرة التقدم ودمج الأهالي إذا أمكن (3).

أما عن تمسك الجزائريين باللغة العربية ونضالهم من أجلها فله أدبيات كثيرة لا يتسع المقام لذكرها هنا جميعا. ويكفي أن نذكر فصلا عما يسميه جوزيف ديبارمي (بردود الفعل اللغوية). لقد احتج أوائل الجزائريين ضد التعسف الذي ضرب مؤسسات التعليم العربي منذ الاحتلال وفرض الفرنسية. ونشير هنا إلى قصة المفتي مصطفى الكبابطي سنة 1843، فقد كان موقفه

(1) رينيه باصيه ا (تقرير عن جهود فرنسا العلمية)، في (المجلة الآسيوية)، 1920، ص 93.

(2)

اوغست كور (ملاحظات على كراسي العربية) في (المجلة الإفريقية)، رقم 138.

(3)

جوزيف ديبارمي (رد الفعل اللغوي) في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية، 1931، ص 19.

ص: 20

الرافض لإدخال الفرنسية في المدارس القرآنية سببا في عزله من وظيفه ونفيه إلى فرنسا ثم الإسكندرية (1). ويقول ديبارمي إن الأهالي سرعان ما شعروا بالخطة الفرنسية وخطورتها على اللغة العربية، لأنها خطة تقتضي إماتة هذه اللغة ودراساتها كلغة ميتة، فوقف الجزائريون ضد هذه الخطة من البداية. فقد علموا أن الأساتذة الذين عينهم الفرنسيون منذ جوني فرعون، كانوا يسمون أساتذة اللغة العربية الدارجة، وأن هذه الدارجة لا تكتب، وأنها لهجة شفوية ينشدها المداحون في الاحتفالات والأعراس وليالي الطرب. وكان ديبارمي ضد استعمال الفصحى لأنها لغة القرآن - لغة مقدسة حسب تعبيره - ولأنها تفصل الجزائريين عن الفرنسيين، وتجعل هؤلاء لا يعرفون (أسرار المسلمين) لأن هذه الأسرار لا تكون بالدارجة (2).

ويقول المستشرق فيليب مارسيه سنة 1956 إن المتعلمين بالعربية في الجزائر قليلون جدا، وهم، حسب تقديره، لا يتجاوزون عشرة آلاف. وليس لهم معرفة بالنصوص الصعبة. ولكنه لاحظ أنهم سواء كانوا متعلمين أو نصف متعلمين أو مبتدئين فإن لهم رغبة مشتركة ومخلصة وأحيانا حادة، في معرفة أعمق للعربية والحصول من الفصحى على نصيب أوفر يستطيع أن يدغدغ عواطفهم ويشرف هيبتهم كمسلمين (3). إن هذا الشعور الصادق لدى الجزائريين في ضرورة تعلم لغتهم والالتصاق بها والمحافظة عليها كان واضحا في مختلف المطالب والعرائض الفردية والجماعية، والحزبية التي صدرت عبر مراحل الاحتلال. ولنشر إلى مقالات احمد بن بريهمات في الثمانينات، وعرائض أهل قسنطينة في نفس الفترة، وكتابات محمد بن رحال في نهاية التسعينات، وعريضة رؤساء عدة بلديات من نواحي قسنطينة، وهي

(1) درسنا قضيته بالتفصيل في موضوع خاص، انظره في (أبحاث وآراء) ج 2.

(2)

ديبارمي (رد الفعل اللغوي) في مجلة الجمعية الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية، 1931، ص 19 - 20.

(3)

فيليب مارسيه، (التساكن في الجزائر) في (السيكرتارية الاجتماعية لمدينة الجزائر) 1956، ص 57.

ص: 21

العريضة المسماة (مقالة غريق) والموجهة إلى لجنة مجلس الشيوخ (1892). وفي 1904 طالب الوفد الزواوي (القبائلي) في مجلس الوفود المالية بتكوين مدرسة في بجاية على غرار مدرسة تلمسان وقسنطينة والثعالبية لتحفظ التراث العربي الإسلامي، ولكن السلطات الفرنسية رفضت الطلب متعللة بعدم وجود ميزانية.

وفي 1921 وقف محمد بن رحال أمام مجلس الوفود المالية ونادى بضرورة تعليم اللغة العربية في المرحلة الابتدائية. وهي اللغة الأم لملايين الأطفال المسلمين. وتساءل ابن رحال: كيف يعبر شعب بدون لغة عن أفكاره أو يتصور أفكار الآخرين، أو يثقف نفسه ويصلح أخلاقه وسلوكه. وهاجم أولئك الذين يرون آلاف الأطفال وهم لا مدارس لهم سوى كتاتيب فيها ألواح يحفظون بها القرآن وبعض الحروف العربية، ويزعمون مع ذلك أن الأطفال لا يتعلمون إلا التعصب، ويطالبون من أجل ذلك بغلق هذه الكتاتيب. ولذلك نادى ابن رحال لدعم التعليم الإسلامي الابتدائي، لأن المسلمين يدفعون الضرائب لميزانيته، ولأن ذلك من مصلحة الجزائريين والفرنسيين معا (مصلحتنا ومصلحتكم). وكان هذا الرأي سببا في الهجوم على صاحبه من قبل أعداء التعليم العربي من الكولون. وقد علمنا أن زملاءه النواب في المجلس قد أيدوه (1).

وقد نقل ديبارمي عن جرائد الوقت، ومعظمها صدر خلال العشرينات، مثل النجاح والمغرب (لأبي اليقظان) والبلاغ والشهاب. فقال إن المغرب نشرت في عددها الأول دعوة إلى الشباب ليتعلم العربية الفصحى (26 مايو 1930) لأنها لغة القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم. ونقل عن البلاغ قولها إن العربية لغة الملايين وأنها مقدسة (34 يناير، 1931)، أما النجاح فنقل عنها مقالة عنوانها (اللغة العربية فى الجزائر) وقالت إنها هى أساس القومية المغاربية

(1) عبد القادر جغلول (عناصر ثقافية)، ص 58، نقله عن جريدة (صدى الجزائر) الفرنسية، 18 يونيو، 1921. وقد نقل ذلك ديبارمي أيضا في المرجع السابق، ص 22.

ص: 22

والدين الإسلامي. وقد نقل عن جريدة الإقدام سنة 1923 أنها قالت إن تخلي الإنسان عن لغته (العربية) يعتبر انتحارا. وأخبرنا ديبارمي الذي تابع الموضوع بدقة ربما بالغ فيها، أن الأهالي جميعا يعتبرون المسألة اللغوية مسألة حياة أو موت للشعوب المغاربية. وهم الآن قد وضعوها موضع الدرس والاهتمام، واعترف ديبارمي أن العربية الفصحى قد عرفت سقوطا تدريجيا خلال النصف الثاني من القرن 19، ثم تسارع سقوطها، حسب رأيه، خلال النصف الأول من هذا القرن. ولكن الجزائر تشهد الآن (1931)(ثورة لغوية) وهي ظاهرة تحتاج إلى تفسير. ذلك أن المثقفين بالعربية أصبحوا يرفضون الدارجة والفلكلور والشعر الملحون باعتباره (كلام العوام)(1).

وقد فسر ديبارمي هذه الثورة اللغوية بالتطور السياسي لبلاد المغرب عموما. ذلك أن هذه المنطقة تتقوقع حول نفسها إذا ما حاصرتها الدول الإسلامية (الخلافة من المشرق أو من المغرب، كما يقول) فتصبح مهتمة بالفكرة الإقليمية أكثر من الفكرة الإسلامية أو العالمية. أما في وقته فقد أصبحت بلاد المغرب العربي محاصرة بدولة نصرانية. لذلك كان على أهل هذه البلاد أن يبحثوا عن قواعدهم في الأصالة والرجوع إلى الجسور القديمة والروابط الإسلامية. وأول ما يفعله مواطن هذه البلاد عندئذ هو أن يتكلم لغته. واستشهد بكلام جريدة النجاح (أول يناير 1931) الذي وجهته إلى الشباب طالبة منهم الإبقاء على الفصل بين العربية والفرنسية وأن لا يرطنوا بكلام عربي ممزوج بالفرنسية. وفي عدد آخر من النجاح نفسها (15 يناير 1930) قالت: إن العربية هي لغة آبائنا وأجدادنا، ولغة نبينا وكتابنا المقدس، وعلينا أن نحميها وننشرها. وأضافت البلاغ أن العربية والعقيدة توأم (21 أكتوبر 1930). وأن دراسة العربية تضمن للجزائري الشخصية أو الذاتية والجنسية، بينما دراسة الفرنسية تجعله لا يعرف، حسبما روى ديبارمي،

(1) ديبارمي، مرجع سابق، ص 2 - 10.

ص: 23

سوى تاريخ فرنسا وأفكارها. وقالت النجاح إن النهوض باللغة العربية هو خدمة للوطنية. وروى ديبارمي أن أطفال المدارس إذا رددوا ما جاء في الكتب الفرنسية من أن أجدادهم هم سكان بلاد الغال (فرنسا) فإن أطفالا آخرين يجيبونهم بأن أجدادهم هم العرب المسلمون يصلون بهم عن طريق اللغة العربية وأنهم يتصلون بالرسول عن طريق الشرق (1).

واللهجة العربية في الجزائر - والمغرب العربي؟ - يسميها ديبارمي في شيء من السخرية، البوربري Beurbri . وهي العربية الفصحى بعد أن عجمت ودخلت عليها الأصوات والتأثيرات البربرية وغيرها. وقد سخر ديبارمي حتى من أستاذه هوداس لأنه نصح المعلمين الفرنسيين باستعمال الفصحى بدل الدارجة، وعندما طلب هوداس التحدث بالفصحى (ابتسموا منه). وهكذا أصبحت الدارجة عند ديبارمي ومدرسته هي لغة أهل المغرب العربي المتبربرة. ولكن هل ذلك ينفي اللهجات البربرية؟ إن ديبارمي لا يجيب على ذلك ويكتفي بالقول إن جميع الأشعار الملحونة التي صيغت بالعربية الدارجة إنما هي في نظره بالبوربرية. فهي موجودة في أشعار الشعراء الذين مدحوا الأمير أو هجوه، وهي موجودة في النثر غير الخاضع للقواعد النحوية والبلاغية. وقد كانت هذه اللهجة الملحونة هي لغة الشعر والنثر - حسب رأيه - عند الاحتلال. ولم يبق للعربية الفصحى عنده إلا مجال اللغات الميتة، وهي النصوص الفقهية والقضائية والصلوات، بعد أن حوصرت على كل الجبهات: الجبهة الفرنسية والجبهة البوربرية (الدارجة) وجبهة اللهجات البربرية.

وقد ذكرنا أن ديبارمي يعتبر الفصحى قد ماتت إلا في بعض النصوص الدينية، وأن البوربرية أيضا قد تقلصت وكادت تضمحل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم تسارع سقوطها في النصف الأول من القرن العشرين. وقد استشهد بكلام صاحب كتاب (الكنز المكنون) عندما قال إنه نشر الأشعار

(1) ديبارمي، مرجع سابق، ص 13 - 14.

ص: 24

الشعبية الدارجة (البوربرية) لأنه يعتقد أن الناس قد نسوها، بعد أن كانوا غير راضين عنها في الماضي، ولعلهم قد أضاعوها تماما. ومن رأي ديبارمي أن صاحب الكتاب المذكور قد وجه تلك الأشعار إلى العامة (الأميين) الذين لا يذوقون طعم الأدب، ثم إلى طلبة الزوايا حيث ما يزالون يتذوقون اللغة. ولكن الأمر اختلف بعد بضع سنوات، وحدثت (الثورة اللغوية) حسب تعبير ديبارمي، وهي التي كانت تقودها الصحف العربية المكتوبة باللغة المقدسة، بلغة قريش القديمة، وهي ظاهرة تحتاج في نظره إلى تفسير (1).

والذي ننتهي إليه من ذلك هو أن الجزائريين عن طريق نوابهم وصحفهم وسياسييهم قد نادوا بتعلم اللغة العربية، وربطوا بينها وبين الدين، ثم بينها وبين الوطنية والجنسية. ولا داعي لإيراد نماذج أخرى من منقولات جوزيف ديبارمي عن ردود الفعل اللغوي من خلال الصحف التي صدرت قبل 1931. وقد نشأت جمعية العلماء في هذه السنة (1931) وكان برنامجها ينص على أن تعليم اللغة العربية يمثل حجر الزاوية في وجودها، وكل أدبيات الجمعية وجرائدها وخطب رجالها، وأعمالهم تشهد على ذلك. ولا نرى داعيا لإيراد شواهد على ما نقول عنها (2). إنما نذكر أن المؤتمر الإسلامي الجزائري لسنة 1936 قد طالب بالحرية الكاملة في تعلم اللغة العربية وإلغاء كل ما اتخذ ضدها من إجراءات وقوانين وإنهاء اعتبارها لغة أجنبية، والاعتراف بها لغة رسمية (3).

ومنذ 1933 نادى نجم شمال إفريقية بتعليم اللغة العربية إجباريا. وقد نصت المادة الثالثة من برنامجه على أن اللغة الرسمية للبلاد ستكون هي اللغة العربية، ونصت المادة السادسة على أن التعليم سيكون باللغة العربية ومجانيا

(1) ديبارمي، مرجع سابق، ص 2، 9.

(2)

القانون الأساسي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ط. عدة مرات بالعربية والفرنسية، أولها سنة 1931. ويوجد في الحركة الوطنية، ج 3.

(3)

الشهاب، عدد خاص، يوليو 1936، وكذلك الحركة الوطنية، 3/ 255.

ص: 25

وإلزاميا في جميع المراحل (1). وقد نادى المؤتمر العام لحزب الشعب الجزائري سنة 1938 بإصدار مرسوم يجعل تعلم اللغة العربية إجباريا في جميع المستويات على غرار الوضع في المغرب وتونس والمشرق العربي. كما طالب بتأسيس كلية للأدب العربية بجامعة الجزائر إلى جانب تدريس التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع باللغة العربية، وتحويل المدارس الثلاث الرسمية إلى جامعات إسلامية يدرس فيها بالعربية أساتذة مسلمون (جزائريون)(2).

وفي (البيان الجزائري) الذي صاغه وقدمه فرحات عباس باسم الشعب الجزائري إلى الحلفاء سنة 1943، وردت المطالبة بالاعتراف باللغة العربية لغة رسمية على قدم المساواة مع اللغة الفرنسية (3). وقد أكدت ذلك مختلف الوثائق الرسمية الصادرة عن فروع الحركة الوطنية بين 1945 و 1954. ونتيجة لذلك الضغط المتواصل واعترافا بالأمر الواقع أعلن الفرنسيون سنة 1947 في القانون الخاص بالجزائر أن تعليم اللغة العربية سيكون إجباريا ورفعوا عنها صفة اللغة الأجنبية (4).

ومنذ الثلاثينات قامت السلطة الفرنسية بحملة منسقة ضد اللغة العربية باعتبارها أحد مقومات الهوية الوطنية. وتجلت الحملة في إغلاق المدارس

(1) عبد الحميد زوزو (دور المهاجرين الجزائريين في الحركة الوطنية)، ط. 1980، ص 188 - 189. وكان النجم قد طالب منذ 1927 في بروكسل (بإنشاء المدارس باللغة العربية). انظر محفوظ قداش (تاريخ الحركة الوطنية)، 2/ 909.

(2)

المؤتمر العام لحزب الشعب الجزائري، 23 - 24 غشت، 1939.

(3)

انظر (الحركة الوطنية)، 3/ 264.

(4)

عبد الرحمن العقون (الكفاح السياسي والقومي) 3/ 44. عن (حرية تعليم اللغة العربية) كما جاء في ملحق (البيان الجزائري) 26 مايو 1943، انظر محفوظ قداش (تاريخ الحركة الوطنية) 2/ 952. وعن موقف حزب البيان سنة 1948 وهو (ترسيم اللغة العربية والتعليم الإجباري بها) انظر قداش 2/ 990.

ص: 26

الحرة والتأكيد على اعتبار العربية لغة أجنبية واضطهاد المعلمين الأحرار، وعدم الترخيص بفتح المدارس وقمع الصحف العربية، وصدور تصريحات معادية تولاها كبار المسؤولين الفرنسيين، كما أطلقوا العنان لبعض الإندماجيين الجزائريين لمهاجمة القومية العربية والوطنية والدعوة إلى أن الفرنسية هي لغة الحضارة للجزائريين (1). كما أن الصحف الفرنسية ذات الاتجاهات المختلفة، بما فيها الاتجاه الشيوعي، أخذت تهاجم اتجاه جمعية العلماء والحركة الوطنية. وقد صرح الجنرال (كاترو) بأن عشرين مدرسة فرنسية ستؤدي إلى اختفاء اللغة العربية تماما من الجزائر خلال عشرين سنة. ونادى وزير العدل (ركار) وغيره بترجمة القرآن إلى الفرنسية وفرضه على الشعب وحذف كل ما يمت بصلة إلى النخوة والقومية فيه، ومنع المسلمين من تعلم العربية. وطالب البعض بعدم الترخيص لأي معلم للعربية إلا بعد اجتياز امتحان خاص في الفرنسية. وكذلك باغلاق حدود تونس حتى لا يتسرب إليها الراغبون في التعلم بجامع الزيتونة (2).

وردا على هذه الحملة ساهم الشيخ الإبراهيمي بمقالاته في البصائر. وانبرى عدد من العلماء الآخرين ورجال الحركة الوطنية يردون على استخفاف الفرنسيين وذيولهم باللغة العربية. وظهرت هذه الردود في الصحافة موجهة أحيانا إلى الأفراد وأحيانا إلى العموم. كما ظهرت في شكل عرائض صادرة عن جمعية العلماء وأنصارها ومن جمعيات حرية الصحافة العربية، ومنها تقرير وفد مدينة بوفاريك الذي قدم إلى لجنة التحقيق الفرنسية سنة

(1) قال ذلك أحمد لعيمش في (مجلة الجزائر وشمال إفريقية)، رقم 96. وقد أشار إلى ذلك ديبارمي في نفس المصدر، 1931، ص 31. وكان السيد لعيمش محاميا في محكمة الاستئناف بالجزائر. ولم يكن وحده في هذه الدعوى.

(2)

محمد الحاج الناصر في مجلة (المقتطف) أول نوفمبر 1947، ص 152 - 156، وهو مقال عن وضع الثقافة العربية في الجزائر. وقد ذكر أن بعض المثقفين الفرنسيين مثل جورج دوهاميل زار مصر ودعا فيها إلى تعلم اللغة والثقافة الفرنسية، وألقى محاضرة عنوانها (فرنسا هي حياتي). ودعا الحاج الناصر إلى المعاملة بالمثل من الجانب العربي ولا سيما من مصر وسورية.

ص: 27

1931 لائحة طالبت برفع الحيف على الجرائد العربية والكف عن اعتبارها صحافة أجنبية (1). وسارت صحيفة النجاح في هذا الاتجاه. ومنذ قرار ميشيل (1933) كانت جمعية العلماء ترفع عقيرتها بالاحتجاج والشكوى لأن ذلك القرار أضر بمصالح الجمعية ومنعها من تعليم اللغة العربية ومن إصدار صحفها بانتظام. وتلاقت عبارات التنديد بالإجحاف في حق العربية مع التنديد بدور الآباء البيض ورجال التنصير في الطعن في الإسلام، وسلوك الإدارة بخلق النعرات العرقية. ومن ذلك حملة جوزيف ديبارمي ضد استعمال اللغة الفصحى، وحملة مارسيل موران ضد الشريعة الإسلامية ودعواته للفصل بينها وبين العرف البربري، وادعاءات سيرفييه بأن العربية الدارجة خليط من الفينيقية وغير متصلة بالإسلام والمسلمين (2).

وكان رد عبد الحميد بن باديس على لويس ماسينيون جزءا من هذه الردود. فقد ادعى هذا المستشرق المعروف أثناء سفره إلى القاهرة لحضور اجتماع مجمع اللغة العربية، بأن (اللغة العربية ليست غريبة عنا - الفرنسيين - بل هي جزء من تراثنا القومي). فرد عليه ابن باديس قائلا: إن ماسينيون لو أراد حقا خدمة العربية لنصح حكومته الفرنسية بالتوقف عن الإساءة إليها في الجزائر حيث هي محاربة وتعليمها مضطهد، ولطالب حكومته بجعل اللغة العربية لغة رسمية، ولدعا إلى حرية تعليمها. واستغرب ابن باديس من قول ماسينيون إن العربية من تراث فرنسا القومي، مؤكدا له أن ذلك مجرد مجاملة منه للمشارقة، وفيهم تلاميذه من أمثال طه حسين وزكي مبارك، أما الحقيقة فهي أن اللغة العربية إنما هي (تراث القومية العربية فقط) وليس لفرنسا شأن في ذلك، بل إن اللغة الفرنسية هي تراث القومية الفرنسية فقط (3). أما الشيخ أبو يعلى الزواوي فقد رد على لويس ماسينيون من جهة أخرى. فحين دعا ماسينيون العرب إلى استعمال الحروف اللاتينية، كما فعل الأتراك، اتهمه

(1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، ص 344.

(2)

شارل روبير أجرون (الجزائريون المسلمون) 2/ 887.

(3)

ابن باديس (حول تصريحات م. ماسينيون) البصائر، 20/ 1/ 1939.

ص: 28

الزواوي باستعمال (الخزعبلات والسفسطات)(1)

ويروى ديارمي أنه أراد أن يختبر غيرة أحد الجزائريين المتعلمين بالعربية فقال له: إن الفرنسيين قد تخلوا عن اللاتينية

فرد عليه ذلك (الطالب) الجزائري قائان: إن الفرنسيين لم يكونوا يقاومون احتلالا أجنبيا. ثم حاجج ديبارمي طالبا آخر في استحالة نشر اللغة العربية (التي يسميها ديبارمي (لغة قريش)(تبعيدا لها عن الجزائريين) فاخبره هذا الطالب أن معجزة الاستقلال تتحقق عن طريق الدين الحق والعقيدة الوطنية. فاستنتج ديبارمي من هذا الرأي أنه يمثل خلاصة الوضع اللغوي وطموحاته في الجزائر، وهو ما يسميه برد الفعل اللغوي (2).

ولقد لعبت الصحافة والنوادي الجديدة دورا بارزا من أجل تثبيت اللغة العربية الفصحى. واتفقت في ذلك صحافة الحركة الإصلاحية وصحافة الطرق الصوفية والصحافة المستقلة. فأغلبها قد أيد نشر التعليم بالعربية الفصحى. ويصف ديبارمي دور الصحف والنوادي بأنه ليس قيادة الرأي العام فقط ولكن إنشاء (لغة المستقبل)، وهي حسب تعبيره، (لغة قريش القديمة)، أو (اللغة المقدسة). وكان هدف هذه الصحافة هو تطوير اللغة العربية وتطويعها وجعلها مناسبة لشروط الحياة العصرية. إن الصحافة كانت تعطي درسا يوميا للشعب عن اللغة الوطنية. وكانت هذه الجرائد تتوقف من وقت لآخر لعدم وجود القراء - ولم يقل ديبارمي بسبب المنع الإداري? ولكن سرعان ما تظهر صحف أخرى تعوضها وتواصل الهجوم على الجهل. ويقول ديبارمي في شيء من السخرية والمرارة أيضا إن أبطال هذه الصحف يملأون دائما حفر أجداثهم، عارفين أن تضحياتهم لن تذهب أبدا سدى (3). إن المسألة اللغوية قضية حياة أو موت للشعوب المغاربية، حسب الجرائد الجزائرية. وهي شعوب، كما يقول ديبارمي، متفقة على ذلك. وقد جعلتها

(1) جريدة (الإصلاح) 28 نوفمبر 1947.

(2)

ديبارمي، مرجع سابق، ص 33.

(3)

نفس المصدر، ص 23.

ص: 29