الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نبوغه قد وظفه المستشرقون - سيما ماسكري وباصيه - وشلوا موهبته. ولم تستفد منه الجزائر إلا حظا ضئيلا، رغم أنه عاش في النصف الثاني من القرن الماضي حين كانت تبحث لها عن مثقف يأخذ بيدها. لقد كان مكنه هو وحسن بن بريهمات والمكي بن باديس وأحمد البدوي وعبد القادر المجاوي وشعيب بن علي ومحمد بن رحال أن يلعبوا دورا وسيطا في مرحلة حرجة من تاريخ الوطن. ولكن التنسيق والوعي كانا مفقودين عندهم، وكانت الطموحات والمؤثرات مختلفة. فكانت جهود ابن سديرة بالخصوص بعيدة كل البعد عن جهود زملائه الآخرين. ولعل جهود ابن سديرة الباقية هي مجموعاته في اللهجة العربية، وفي كتاب الرسائل، وفي مهمته بزواوة والنصوص المحفوظة فيها.
عمر بن سعيد بوليفة
كان بوليفة من أوائل النخبة الذين وقعوا ضحية المخططات الفرنسية. فهو أحد أبناء زواوة الذى عانوا الفقر واليتم، رغم أصل عائلته الشريف أو المرابط. وقد كان يمكنه أن يصبح في طليعة المثقفين المزدوجين، بعد تلقيه تعليما فرنسيا، إلى جانب تعليم الزوايا أو المعمرات الذي تلقاه في أول عهده، وأن يلعب دورا رئيسيا في الحياة الفكرية. غير أن احتواء الفرنسيين له منذ الطفولة جعله في دور قزم مثله مثل دور ابن سديرة وأحمد بن بريهمات وعلي بوضربة.
اسمه العائلي هو بوليفة الذي يبدو أنه ارتضاه بعد تغيير الأسماء والألقاب في الثمانينات من قبل الفرنسيين. أما اسمه الحقيقي أو الأصلي فهو عمر بن سعيد من آل بلقاسم بن عمر. أو عمر أو سعيد آيت بلقاسم أو عمر. ونظرا لأصله المرابط - من رجال الدين والشرف - فإنه يضاف إلى اسمه أيضا لقب سي (سيدي). ولد عمر بوليفة في قرية عدني بزواوة، لعائلة متواضعة الدخل. وقد توفي والده مبكرا فتيتم صغيرا. ولكن والدته احتضنته بشدة
فقربته من أعيان تامزيرت وهم آل عمر (آيت عمر)، وفيهم قياد؛ وهناك أدخله عمه المدرسة الفرنسية الجديدة، وهي الأولى من نوعها في زواوة، سنة 1875. وكان الترشح إليها نادرا. ويمكننا أن نفهم أمرين على الأقل من هذه المرحلة المبكرة من حياة الصبي عمر بن سعيد. الأول أنه فتح عينيه على جرح زواوة الذي ظل مفتوحا منذ ثورة 1871، فكانت المصادرات والقمع والنفي وأحكام الإعدام. والثاني أن عمه قد يكون أراد التخلص منه بإدخاله المدرسة الفرنسية الوحيدة والجديدة في القرية. فكان القدر يخطط للصبي عمر طريقا آخر، ربما لم يخطر ببال هذا العم الذي لا نعرف الآن مستوى تعلمه ولا تفكيره.
ومع ذلك كان طريقا مدروسا ومعروفا. فالذي يتخرج من مدرسة فرنسية ابتدائية قلما يجد له عملا إذا كان من الأهالي. ولكن حظا معينا كان ينتظر أبناء زواوة إذا أكملوا تعليمهم الابتدائي، وهو مواصلة التعلم في الفرع الأهلي من مدرسة ترشيح المعلمين. وهكذا كان الأمر بالنسبة لعمر بن سعيد. فقد بدأ مسيرته معلما ممرنا بسيطا في قرية تامزيرت، ثم أصبح معلما أهليا مساعدا (وهو منصب خاص بالأهالي، ولا يترقى الأهلي إلى رتبة معلم مرسم مهما طالت به الوظيفة) في مدرسة ترشيح المعلمين ببوزريعة، سنة 1896. ولم يعترف له الفرنسيون بصفة المعلم في مدرسة ابتدائية إلا قبل وفاته بعشر سنوات، أي سنة 1922. ومع ذلك فإنه قضى كل حياته تقريبا في ميدان التعليم الابتدائي: فهو معيد في البربرية سنة 1890 بمدرسة النورمال - ترشيح المعلمين -، ثم معيد أيضا في مدرسة الآداب العليا، منذ 1901، ربما على إثر شغور مكان الهاشمي بن الونيس الذي سبق ذكره والذي عين هناك سنة 1880. أو وفاة بلقاسم بن سديرة.
صادف وجود بوليفة معيدا في مدرسة الآداب انطلاقة الاستشراق الفرنسي والاهتمام باللهجات المحلية والإسلام والمجتمعات الإسلامية. كما صادف الاهتمام المتزايد لفرنسا بأحوال المغرب الأقصى والتمهيد لاحتلاله. وقد كثرت البعثات الفرنسية إلى المغرب منذ آخر القرن الماضي، وكان فيها
جزائريون وفرنسيون. ومن الجزائريين إسماعيل حامد الذي حل بالمغرب في مهمة رسمية سنة 1899. وفي سنة 1904 أرسلت السلطات الفرنسية عمر بوليفة إلى المغرب لدراسة اللهجات البربرية وجمع المعلومات الاجتماعية. ولا ندري كم أقام في المغرب، ولكننا نعلم بعض نتائج مهمته. وقد لخصها أستاذه رينيه باصيه نفسه فيما يلي:
أ - جمع عدد من المخطوطات البربرية التي حصل عليها من مراكش، وقد نشرها يد وصف لها، في باريس سنة 1905. وقام باصيه بمراجعة هذا المجهود وامتدحه عليه (1). وقال باصيه إن محتوى المخطوطات لا يخرج عن مسائل الدين. أما اللغة المكتوبة بها فهي تماثل تلك اللغة التي كتبت بها مخطوطات أخرى وكانت توجد في مكتبة الجزائر وباريس والمكتبة الملكية ببرلين. إنها صيغة بربرية لبردة البوصيري ومجموعة أشعار في المدائح النبوية وسيرة الصحابة. كما جاء بوليفة بنسخة من مخطوط (الحوض) المكتوب أيضا بالبربرية والحروف العربية، والذي قلنا إن لوسياني كان قد نشره قبل ذلك.
ب - أما العمل الثاني الذي قام به بوليفة في المغرب فهو جمعه لنصوص حول الحياة الاجتماعية لقبائل الشلوح، والموضوعات هي: الميلاد، والزواج والختانة والطلاق والحرب والمرض والجنائز والحفلات الدينية، وتحضير الصوف والزيت، وبعض العادات حول الحيوانات، وبعض القصص. جمع بوليفة هذه النصوص بواسطة طالب من دمنات في الأطلس. وكانت مكتوبة بلهجة القبائل المذكورة (الشلوح). وقد طبع منها القسم الأول في باريس أيضا بعنوان (نصوص بربرية من الأطلس المراكشي - المغربي) سنة 1908 (2). وكانت الحكومة الفرنسية هي التي صرفت على نشر هذه المطبوعات.
(1) رينيه باصيه في المجلة النقدية (ريفو كريتيك) رقم 43، 28 أكتوبر، 1907. ويذكر سليم شاكر أن بوليفة شارك في بعثة سيقونزاك إلى المغرب segonzac، بين 1904 - 1905. انظر (مجلة الغرب الإسلامي) ROMM 1987، ص 102 - 106.
(2)
رينيه باصيه (تقرير عن الدراسات البربرية والهوسة) 1902 - 1908، في المجلة الإفريقية، 1908، ص 255.
ويبدو أن رحلة بوليفة إلى المغرب كانت هي الرحلة الوحيدة له خارج الجزائر. فلا نعرف أنه زار فرنسا، ولا أنه زار المشرق أو توجه إلى الحج. فهل فقد بوليفة ارتباطه بالمرابطية واعتبر نفسه منسلخا عن تراثه بعد هذه التجربة في المدرسة الفرنسية؟ ولكي نحكم عليه في ذلك يجب الرجوع إلى أوراقه الخاصة. وقد قيل إن مكتبته قد أحرقت خلال حرب الحرير من قبل العدو، أما زمامه أو دفتره الخاص الذي سجل فيه رحلته إلى المغرب فقد أنقذ. كما أن كتابه في تاريخ جرجرة يضم بعض أفكاره، ولكننا لا نملكه الآن. ويبدو أن بوليفة كان مثل ابن سديرة، غير مهتم بأحوال العصر الاجتماعية والسياسية فلم يكتب في صحيفة ولم يناقش قضايا الوقت، مكتفيا بجمع النصوص والتعليم في أغلب الأحيان.
ولكن أعماله الأدبية والتاريخية تشهد على غزارة إنتاجه وتنوع اهتمامه. ففي ميدان الأدب واللغة جمع مجموعة من الشعر الزواوي (القبائلي) ونشرها سنة 1904 (1). وقد ترجم ذلك إلى الفرنسية وعلق عليه. ويتمثل معظمها في الأغاني الشعبية. وفي نظر باصيه أنها أغاني (أشعار) لم يسبقها إلا مجموعة هانوتو عن الشعر الزواوي، ولكنها في نظر باصيه الذي اعتاد الحط من كل ما يقوم به الجزائريون، كما فعل مع الصدقاوي أيضا، أشعار أقل أهمية مما جمع هانوتو، لأنها لا تكاد تخرج عن موضوع المرأة. ولكن باصيه قال إنه بالرغم من ذلك فإن المجموعة تحتوي على وثائق هامة حول المجتمع البربري المعاصر، ولذلك ألح على أهمية العمل من الوجهة اللسانية وليس الأدبية.
ولبوليفة عمل آخر سماه (توفيقي أو قانون عدني). وعدني هي مسقط رأسه كما عرفنا، وتضم عرشا يقطن خمس قرى بين تيزي وزو وعين الحمام
(1) راجعها فان جيناب Van Ginap في المجلة العامة للبيبليوغرافية الفرنسية، المجلد 2، ص 312 (. R.G.DE.B.F).
(فور ناسيونال)، حسب تحديد باصيه. (وقانون عدني) هو البحث الذي تقدم به بوليفة إلى مؤتمر المستشرقين الرابع عشر الذي عقد بالجزائر سنة 1905، ثم نشره على حدة. وقد أحال باصيه (1) على كتاب هانوتو ولوتورنو في أهمية القوانين (الأعراف) في زواوة ومجتمعها. فهي قوانين غير مكتوبة ولكن تحتفظ بها الذواكر عند القدماء، واعترف باصيه أن إحلال القوانين والتشريعات الفرنسية محل هذه الأعراف سيجعلها تختفي، ومن ثمة تظهر أهمية العمل الذي قام به بوليفة، فقد دون قانون عدني ودرسه، وقام بعمل يضاهي، حسب باصيه، عمل ماسكري وابن سديرة وهانوتو (2).
ومن أعمال بوليفة التي دخل في اختصاصه التعليمي: منهج اللغة القبائلية الموجه للسنة الثانية، وهو دراسة لغوية واجتماعية لأهل جرجرة. وقد ضم نصوصا متبوعة بقائمة مفردات (3). وهو عمل يخدم أيضا اللغة الفرنسية. ولكن أبرز أعمال بوليفة التي يبدو أنه ختم بها حياته العلمية، هو (جرجرة عبر التاريخ)، الذي تناول فيه حياة المنطقة من أقدم العصور إلى الاحتلال الفرنسي (1830). وقد ظهر الكتاب سنة 1925 مؤشرا إلى عدة اعتبارات. منها أنه ظهر أيام له النشاط السياسي للحركة الوطنية بالأسلوب الجديد، بعد تجربة ثلاثين سنة من العرائض والاحتجاجات والمطالب ومخاض النهضة. وظهر على إثر نفي الأمير خالد، وعشية ميلاد نجم الشمال الإفريقي، وكذلك عشية الاستعداد للاحتفال المئوي بالاحتلال. وكانت الحرب العالمية الأولى قد تركت بصماتها على الجزائريين، ولا سيما العمال والجنود الذين كان شباب جرجرة من أكثرهم عددا واغترابا في فرنسا. وكان قد سبقه إلى الظهور بقليل كتاب (تاريخ الزواوة) للشيخ أبي يعلى الزواوي، في دمشق سنة 1924. وكان الزواوي قد فكر في الكتابة
(1) باصيه، مرجع سابق، مس 257 - 258.
(2)
نفس المصدر.
(3)
الجزائر، 1913. وقائمة المفرادات نعني بها القاموس أو (قلوسري).
عن هذا الموضوع منذ 1912، ثم طوحت به الحرب إلى مصر والتقى بالشيخ طاهر الجزائري السمعوني هناك ثم خرجت الفكرة في الكتاب المذكور. وهكذا فإن (جرجرة عبر التاريخ) يجب ألا ينظر إليه معزولا عن هذه المعطيات كلها. وفي الكتابين المذكورين ظهرت الروح الأقليمية قوية خلافا لمن كتبوا من قبل تاريخ المدن (قسنطينة مثلا) مجردا عن الإحساس بالأقليمية، بل عبارة عن تسجيل للحوادث، وخلافا أيضا لمن كتب التاريخ الوطني في نفس الوقت، كما فعل الشيخ محمد مبارك الميلي سنة 1929. وقد ألح بوليفة على أن زواوة كانت مستقلة في العهد العثماني عن الإدارة المركزية. وهو إلحاح لم يعجب الفرنسيين أيضا إلا بالمقدار الذي يباعد بين الزواويين والعثمانيين (1).
ظهر بوليفة في ثوب الباحث الجاد في كتابه عن تاريخ زواوة وكذلك في بحثيه قانون عدني وقانون زاوية سيدي منصور. فقدم البحث الأول إلى مؤتمر المستشرقين كما ذكرنا؛ وقدم البحث الأخير إلى الكتاب التذكاري (ميلانج) المكرس لباصيه عشية وفاته (2). ومنذ هذا التاريخ لا نعرف أن بوليفة قد ألف أو نشر أعمالا أخرى. فلم يعترف به الفرنسيون معلما ابتدائيا إلا سنة 1922، كما أشرنا، ثم تقاعد سنة 1929، ووافته المنية في 8 جوان 1931، بالغا من العمر حوالي ستين سنة (3)، ورغم أنه عاش حتى أدرك الاحتفال المئوي بالاحتلال، فإنه ترك وطنه وقد استفاق وتكونت فيه الأحزاب والجمعيات وارتفعت فيه أصوات الوحدة والحرية والاستقلال.
(1) الجزائر، 1925، 409 صفحات + ملحق بالعربية من عشر صفحات + خريطة. انظر سليم شاكر، مرجع سابق. وقد نتناول (جرجرة عبر التاريخ) في فصل التاريخ والرحلات.
(2)
نشر الكتاب التذكاري في 1923، وتوفي باصيه سنة بعد ذلك.
(3)
توفي في مستشفى مصطفى باشا بالعاصمة، ودفن في مقبرة باب الواد، حسب رواية سليم شاكر.
لم يترك بوليفة أولادا. ولم يذكر من ترجموا له حياته العائلية. ولكنه ربى ابني أخيه أحمد وبلقاسم. وكان صالح بن بلقاسم هو الذي زود سليم شاكر بالمعلومات عن عمر بن سعيد بوليفة - عم أبيه. وكان صالح ما يزال يعيش في عدني عندما كتب شاكر مقالته عن بوليفة سنة 1987. وكانت والدة صالح هي التي أنقذت بعض أوراق بوليفة من النيران خلال حرب التحرير. وقد نوه شاكر بسي عمر بوليفة على أنه (بربري) متعدد الجوانب ومن رواد اليقظة البربرية - الزواوية. فهو بتدريسه اللغة البربرية واتخاذه الطريقة المسماة (المباشرة) في تعليمها، واهتمامه بتاريخ وآداب زواوة، كل ذلك في نظر شاكر، جعل منه رائدا من الرواد في هذا المجال (1).
ونحن نرى أن عمل بوليفة كان بالأساس موجها من قبل المستشرقين والإداريين لأسباب شرحناها. وليس الأمر مقصورا عليه، بل كان هو وغيره من ضحايا هذا المخطط. ولم تكن له مبادرة فيه أو اختيار إلا في كتابة تاريخ زواوة، ربما. أما تدريس اللغة وجمع نصوص آدابها وأغانيها فقد كان ضمن الحملة الاستشراقية التي اشترك فيها الجميع، جزائريون وفرنسيون، وشمل زواوة وغيرها. وحتى الاهتمام بتاريخ زواوة فقد رأينا أن أبا يعلى الزواوي قد سبق بوليفة في ذلك، أي منذ 1912، وقد أخرج الزواوي كتابه سنة 1924، سنة قبل ظهور كتاب بوليفة. كما أن الشيخ محمد السعيد بن زكري سبق إلى الحديث عن زوايا زواوة وقوانينها قبل أن يكتب بوليفة قانون عدني وقانون زاوية سيدي منصور. فكتاب (أوضح الدلائل) لابن زكري طبع سنة 1903، وربما كان هذا الكتاب مصدر وحي واهتمام لبوليفة الذي لم يبدأ في نشر بعض أعماله إلا سنة 1904. وليس هذا تفضيلا لأحد على آخر ولكنه فقط الاجتهاد في البحث وإعطاء كل ذي حق حقه من الريادة. وهو أيضا إنصاف لمن كتبوا بغير الفرنسية من مثقفي زواوة.
(1) سليم شاكر، (وثائق عن الرواد: مصلحان قبائليان
…
) في (مجلة الغرب الإسلامي) 1987، ص 102 - 106.