المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٨

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌الفصل الأولاللغة والنثر الأدبي

- ‌حالة الأدب والثقافة غداة الاحتلال

- ‌التعامل مع اللغة العربية

- ‌الدراسات البربرية

- ‌الدراسات النحوية والمعاجم

- ‌بلقاسم بن سديرة

- ‌عمر بن سعيد بوليفة

- ‌النثر الأدبي

- ‌المقالة الصحفية

- ‌الأسلوب من عاشور الخنقي إلى الإبراهيمي

- ‌الرسائل

- ‌التقاريظ

- ‌الخطابة

- ‌محمد الصالح بن مهنة وكتابه

- ‌خطب أبي يعلى الزواوي

- ‌الروايات والقصص والمسرحيات

- ‌ المقامات

- ‌أدب العرائض والنداءات والنصائح

- ‌مؤلفات وشروح أدبية والتحقيق

- ‌محمد بن أبي شنب

- ‌الأدب باللغة الفرنسية

- ‌الفصل الثانيالشعر

- ‌مدخل في تطور حركة الشعر

- ‌الدواوين والمجاميع

- ‌كتاب شعراء الجزائر في العصر الحاضر

- ‌الشعر الديني

- ‌الشعر السياسي

- ‌الشعر الإسلامي والإصلاحي

- ‌شعر المدح

- ‌شعر الرثاء

- ‌الشعر الإخواني

- ‌الشعر الذاتي

- ‌مبارك جلواح

- ‌الشعر التمثيلي والأناشيد

- ‌شعر الفخر والهجاء وغيرهما

- ‌الشعر الشعبي

- ‌ثورات وشعراء

- ‌في الشكوى وذم الزمان

- ‌أغراض أخرى للشعر الشعبي

- ‌الفصل الثالثالفنون

- ‌الفنون التقليدية - الشعبية

- ‌الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين

- ‌فيلا عبد اللطيف

- ‌معارض الفنون الإسلامية

- ‌الآثار الدينية

- ‌القصور والمباني الحضرية

- ‌المتاحف

- ‌الرسام ناصر الدين (إيتيان) ديني

- ‌النقش والرسم والخطاطة

- ‌مؤلفات في الخط

- ‌عمر راسم وأخوه محمد وآخرون

- ‌مؤلفات وآراء حول المسرح ورواد التمثيل

- ‌آراء ومؤلفات في الموسيقى

- ‌تطورات أخرى في مجال الموسيقى والغناء

- ‌ محمد ايقربوشن

- ‌المحتوى

الفصل: ‌الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين

المولود الزريبي، وفتح محلا لتجليد الكتب في العاصمة. وقال عن نفسه (فأنا في هذا قد سددت فراغا وقمت بمهم)(1). وكان المغرب متقدما في هذه الصنعة، فلعل محمد العلمي قد نقلها إلى الجزائر وأضاف إليها الطابع المحلي. ومن ملاحظته نعرف أنه قام بسد فراغ في هذا الباب، وهو يعني تجليد الكتب وزخرفتها ربما بالحروف والزخارف العربية التي أضرت بها صناعة التجليد بالحروف اللاتينية.

‌الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين

يرجع اهتمام المستشرقين الفرنسيين عموما بالشرق والجزائر إلى ما قبل سنة 1830 بعقود. ولكن الحملة الفرنسية هي التي فتحت لهم أبواب الشرق على مصراعيه، فرافقها بعضهم ولحق آخرون في أعقابها. ومن هؤلاء وأولئك بعض الفنانين البارزين أمثال دي لاكروا وهوراس فيرنيه. ثم تلاحقت زيارات الفنانين وإقامتهم بالجزائر و (اكتشافهم) لأسرار وعطور الشرق فيها إلى أن أنشئت (فيلا عبد اللطيف) التي أصبحت في أول هذا القرن مدرسة يتكون فيها الفنانون الفرنسيون الموهوبون، وخصصت لهم المنح والجوائز. فمهمة هذه الفقرة إذن هي تتبع تطور الاستشراق الفرنسي في النواحي الفنية بالجزائر (2).

تصادفت الحملة الفرنسية على الجزائر مع عنفوان الحركة الرومانتيكية في أوروبا وفرنسا بالخصوص. وكان الرومانتيكيون يبحثون عن المجهول وعن البداية وعن كل ما هو غريب، هروبا من المجتمع الواقعي - الكلاسيكي الذي رأوا فيه الجحيم بعينه. هرب بعضهم إلى البحيرات والجزر النائية، والتجأ آخرون إلى الخيالات البعيدة، واستعمل بعضهم الخريف والحزن والقتامة شعارا لهم في الحياة. وكان سحر الشرق يأخذ بألبابهم ويتصورون فيه الجنة المفقودة. على أن بعض الرومانتيكيين رأوا في المغامرات العسكرية

(1) السنوسي (شعراء الجزائر)، 2/ 116.

(2)

انظر فصل الاستشراق.

ص: 374

والروح القومية مجالا لخيالهم الخصب، فكانت الحملة على الجزائر بالنسبة لهذا الفريق فرصة ذهبية لتحقيق أحلامهم وأمجادهم. وللتعبير عما يجيش في نفوسهم لجأ الرومانتيكيون إلى الشعر والرسم والمسرحيات. وهكذا أنتج الفنانون الفرنسيون بعد أن تأثروا بحياة الجزائر الجديدة أعمالا في غاية الروعة الفنية ما تزال محل إعجاب المعجبين.

أننا لا نريد أن ندرس الفن الفرنسي في الجزائر، ولا حياة الفنانين الفرنسيين لذاتها، ولكن هدفنا من عقد هذه الفقرة هو متابعة مدى تأثير الجزائر (الشرقية) على حياة الفنانين الفرنسيين الذين اتصلوا بها، ثم مدى تأثر الفنانين الجزائريين بهذه المدرسة الفرنسية والتفاعل الذي حصل بين الطرفين في مجال الفن. ولا بد من تحديد بعض المصطلحات الأخرى. إن المقصود بالجزائر (الشرقية) هو ما تصوره أولئك الفنانون من حياة البربر والعرب والمسلمين القاطنين في الضفة الأخرى للمتوسط، تلك الحياة المتصلة بالعالم الإسلامي والعربي والإفريقي. ففي رواسب الذاكرة الفرنسية أن هؤلاء القوم هم الذين عاشوا ألف ليلة وليلة، وهم الذين أنجبوا هارون الرشيد، ونقلوا حضارة الهند وفارس، ووصلت حضارتهم هذه إلى الأندلس وجنوب فرنسا وإيطاليا. وإن صلاح الدين منهم، وهو الذي استرجع القدس وما حولها وهزم الصليبيين. وأخيرا فقد كان في رواسب الذاكرة الفرنسية أن القراصنة كانوا أحفاد هارون الرشيد وصلاح الدين، وربما أحفاد حنيبعل أيضا. وقد ساعد دعم البابوية للحملة الفرنسية على إعطاء الطابع الصليبي لها. وكانت تصريحات المسؤولين على الحملة تزيد هذا الشعور إذكاء، فهي تتحدث عن (استرجاع) الكنيسة القديمة في الجزائر، وكانت تتخذ من القضاء على القرصنة حجة لدعم تجار مرسيليا وبرجوازية باريس لها. فكان الفنانون نتاج هذه الظروف كلها.

فتحت الجزائر أمام الفنانين الفرنسيين أبواب المغامرة والأحلام. فالمدن فتحت لهم الشهية في الاطلاع على أسرار القصبة ذات الأسوار العالية، وما تحويه من حريم وخصيان، ومؤامرات وشهوات، وحب للمال

ص: 375

والجمال. وفي أذهانهم أن البازارات تلمع بالجواهر وتفوح منها روائح الهند وسمرقند، وتتدلى منها المطروزات الحريرية ذات الألوان الباهرة والغريبة. والريف كان يفاجئهم بالإنسان البدوي الذي يعبر عن البراءة المتوحشة، وهو الإنسان النموذجي الذي كان يبحث عنه الرومانتيكيون، وهو يعني عندهم إنسان الفطرة الصافية (1). والطبيعة ملأت أنظارهم بالزرقة الفاتنة - زرقة السماء والبحر، والضوء الغامر، ضوء الشمس الإفريقية. فالمدن والأرياف، والإنسان والشمس والبحر ومفارقات الساحل والصحراء وتناقضات الشرق والغرب، كلها أعطت للفنانين رؤية جديدة للحياة، وقد عبروا عنها في لوحاتهم ومؤلفاتهم وتماثيلهم وقصصهم وأشعارهم.

ومنذ 1830 انطلقت تجارة السياحة والسفر إلى الجزائر على قدم وساق. وكان وراءها (أدلاء) السفر، تلك الكتيبات التي تضم وصفا مغريا للبلاد وأهلها ولغتها وعاداتها وتقاليدها، وتنظيم الزيارات فيها ووسائل الإقامة وأثمانها، وقد ضاعفت مع الأيام واستقرار الإدارة العسكرية والسيطرة على المدن. وكانت الصحف توالي نشر أخبار الجزائر وأوصافها، وكانت الحكومة الفرنسية نفسها تشجع الفنانين والأدباء على زيارة الجزائر والكتابة عنها ليعرف الرأي العام الفرنسي والأوروبي عنها، ويوجه المهاجرون إليها بدل أمريكا وأستراليا. وهكذا جاء دي لاكروا، وفيرنيه، وفرومنتان، وثيوفيل غوتييه، وألفونس أوديه، والاخوان غونكور، والإسكندر دوماس، وشاصيرو، وآخرون (2). وهناك فنانون جاؤوا الجزائر زائرين فقط، وهناك

(1) انظر كتاب آن تومسون (بلاد البربر في أعين المتنورين الأورويين)، نيويورك 1987، وقد راجعناه وبعثنا ذلك للنشر. وعن أوائل من زار الشرق والجزائر من الفنانين، انظر أيضا جان ألازار في كتاب (مدخل إلى الجزائر) 1957، 351. وكذلك عفيف بهنسي (أثر العرب في الفن الحديث)، 54، وهنا وهناك. وجان كلود بيرشيه Berchet (الرحلة إلى الشرق)، باريس 1985.

(2)

من الذين زاروا الجزائر أيضا الأديب غوستاف فلوبير (1858) فزار سكيكدة وعنابة وسوق أهراس وقالمة. وأندري جيد الذي زار الساحل والصحراء، مثل فرومنتان. عن أدلاء السفر وحركة الأدباء الفرنسيين في الجزائر انظر شارل نجار (الجزائر في =

ص: 376

من اتخذها مقاما، بل إن هناك من ولد فيها مثل ليموز، وأتلان، وأندري مارك، وكلو. وقد قال الشاعر ثيوفيل غوتييه ان السفر إلى الجزائر أصبح بالنسبة للمصورين أكثر أهمية من الحج إلى إيطاليا. فكانت الأسفار والزيارات لا تنقطع نحو الجزائر.

وقبل أن نذكر بعض الفنانين وما تميز به كل واحد منهم، نذكر بعض الموضوعات التي أوحت بها الجزائر إلى الفنانين الفرنسيين. لقد مثل الفنانون بالدرجة الأولى الروح الاستعمارية، فكانت الغلبة في إنتاجهم دائما للجيش الفرنسي والهزيمة على الجزائريين. وهكذا كان موضوع الغالب والمغلوب أو المستعمر والمستعمر رئيسيا في أعمالهم. ويظهر ذلك في معركة قسنطينة لفيرنيه، والاستيلاء على الزمالة حيث ظهرت المرأة الجزائرية باللباس الشفاف راكبة ظهر جمل وعليها سيماء الهزيمة والعار. وقد دخل الفنانون الأماكن المحرمة على أمثالهم من قبل، فأظهروا في فنهم أنهم دخلوا الحريم، والمساجد، والحمامات، وذهب البعض إلى أنهم قد اتخذوا من المرأة اليهودية نموذجا، وأجبروا بعض النساء المسلمات على التوقف أثناء المشي وصوروهن. ومن المشكوك فيه أنهم دخلوا الحمام النسائي. أما المساجد فقد استباحها الفرنسيون بالدخول والهدم ونحوهما. كما أن الصور التي تركها الفنانون عن الجزائريين تمثل طابع العنف والوحشية في الغالب. وهكذا فسيوف الجزائريين كانت مضرجة بالدم، مع رسم الهيكل العظمي خلف الصور، وكانت صورة فرنسا الحضارة هي الماثلة دائما.

وكثير من الفنانين اتخذوا موضوع الحيوانات في صورهم، فنجد منها: الغزال والأسد والحصان والجمل والكلب والحمار والطيور على اختلاف أشكالها. وهم يظهرون أحيانا الألفة بين الإنسان والحيوان. ومن الموضوعات التي استأثرت باهتمامهم أيضا الثروة الطائلة عند بعض الأعيان،

= الأدب الفرنسي) 1925، وجاكلين بيلي Bayle (عندما أصبحت الجزائر فرنسية) 1984، ص 262.

ص: 377

وكان الفنان يظهرهم باللباس الفخم والجواهر، والأسلحة المحلاة بالذهب والفضة، وصناديق النقود، والقصور الفاخرة. كما أن الفنان يرسم المسألة الطبقية في المجتمع بإعطاء الأولوية للأشخاص: ففي الصورة يظهر السيد والمرأة الوصيفة والخصي على الترتيب (1).

دي لاكروا: كان من أوائل الفنانين الذين زاروا الجزائر بعد الحملة مباشرة. وقد قال بعضهم إنه لم يبق سوى ثلاثة أيام، وقال آخر بل هي عشرة أيام (سنة 1832). ومع ذلك فقد ترك أثرا فنيا خالدا، وهو لوحته الشهيرة عن (نساء الجزائر). وادعى أنه رأى حريما أو دارا من الداخل المحرم على أمثاله، فصور المنظر الذي قد يكون في أحد المنازل اليهودية، لأنه وصف أيضا بعض الأعراس اليهودية. وقد عرضت لوحته سنة 1834 واعتبرت أروع ما أنتج الفن الفرنسي، فقد قيل أنه لأول مرة يقدم فيها الفنان المنظر الشرقي من وثائق محددة وطبقا لمواصفات دقيقة. وقد رسم دي لاكروا لوحة أخرى لمرسى الجزائر، وهي تعتبر لوحة واقعية. وامتاز دي لاكروا بتمثل الطبيعة والقدرة على تفسيرها. وكان من الفنانين الرومانتيكيين، وقد اكتشف في دعواه روما والرومان من خلال المغرب العربي (شمال أفريقية)، فكان معجبا بالقديم شأن معظم أهل هذه الحركة، وهم يعنون بالقديم العهدين الإغريقي والروماني. والمعروف أن دي لاكروا كان أيضا عضوا في البعثة الدبلوماسية للمغرب (مراكش)(2).

هوراس فيرنيه الذي يسميه البعض (العسكري المصور)، قد زار الجزائر مبعوثا من الحكومة لتصوير معركة قسنطينة الثانية التي انتصر فيها الجيش الفرنسي، والمعروف أن المعركة الأولى (1836) قد انهزم فيها هذا

(1) لورنس ميشالاك في (معرفة المغرب - العربي)، باريس، 1984، ص 47 - 63. انظر ص 50 منه عن قائمة الفنانين الذين زاروا بلاد المغرب.

(2)

انظر ألازار، مرجع سابق، وبيلي، مرجع سابق 262. عن دي لاكروا انظر أيضا عفيف بهنسي (أثر العرب في الفن الحديث)، الباب الثالث، الفصل الأول. وقد تحدث عن تأثره بالحركة الرومانتيكية والروم الشرقية.

ص: 378

الجيش وعاد أدراجه منتظرا الفرصة للعام التالي (1837). وقيل إن فيرنيه قد أصبح من الكولون (مستعمر) في منطقة متيجة حيث سكن مدينة بوفاريك، وأصبح يرسم معارك لم يحضرها أبدا، وإنما يرسمها من الخيال والحكايات، وربما من وصف الجرائد. وكان بيته هو (حوش ابن قبة) الذي أصبح مرسمه بعد أن طرد صاحبه منه. وكان فيرنيه يرتاد خمارة (كابريه) في بوفاريك ويدفع ثمن ما يشربه برسم اللوحات (1). وقد زار فيرنيه الجزائر أكثر من مرة. ومن لوحاته الشهيرة المناظر العسكرية، وتوجد منها بالخصوص نماذج في قصر فرساي. وكان يظهر فيها غلبة الجندي الفرنسي على المقاوم الجزائري. ومناظره كانت تمثل المدرسة الرومانتيكية ونفوذ الاستشراق في الجزائر والتأثر بألوان الطبيعة وضوئها. وفيها يظهر أيضا الملمح الإسلامي - المسيحي (2).

ومن أشهر الفنانين الذين بقوا في قسنطينة عدة أسابيع (سنة 1846) فريدريك شاصيريو، بدعوة من الخليفة علي بن أحمد (حامد)، أحد أعيان قسنطينة. وقد رسم له لوحة رائعة حسب نقاد هذا الفن، وتجول في الجزائر بعض الوقت (3)، وقد كان يسير على هدى مدرسة دي لاكروا، ومن لوحاته (الراقصات بالمناديل)، وله أخرى بعنوان (الخروج من الحمام) و (دخول الحريم). فموضوعاته ذات صلة بالمرأة والحياة الداخلية (المحرمة).

وشاصيريو ولد في سان دومينيك، لأحد الدبلوماسيين الفرنسيين، وقد بدأ اهتمامه بالرسم مبكرا، بينما كان في العاشرة من عمره. ونال جوائز على لوحاته الدينية، وتأثر بدي لاكروا واستعار منه. وتشمل أعماله واحدا وتسعين رسما. واستعمل فيها الألوان المختلفة وبعضها مجرد رسومات خفيفة. أما أعماله الجادة فهي المتصلة بالاستشراق، مثل الاهتمام بالأسواق

(1) بيلي، مرجع سابق.

(2)

قوانار (الجزائر)، ص 282.

(3)

هذه الصورة موجودة نسخة منها في كتاب شارل اندري جوليان (تاريخ الجزائر المعاصرة)، باريس، 1964، وهي تمثل الخليفة علي بن أحمد على جواده بلباسه العربي وهيبته.

ص: 379

والفرسان والنساء والشخصية العربية والراقصات والمعارك والوصيفات

فهي كلها من وحي الشرق في نظره. والرسم الذي وضعه للخليفة علي بن أحمد اعتبره النقاد أول رسم أدخل شاصيريو لصالون الفن. ويمثل الرسم الخليفة على صهوة جواده وسرجه وركابه، ولحيته الكثة وملابسه الوطنية. وتظهر مدينة قسنطينة خلفه بصوامعها. والغريب أن الصورة قد رسمها شاصيريو في باريس قبل سفره إلى قسنطينة، فهي صورة من الخيال لا من الواقع، ومع ذلك فقد علق النقاد على الصورة بأنها مشابهة جدار لأصل، سيما رسم العيون التي تؤثر على نساء باريس. ولا ندري من أين لشاصيريو الوصف الواقعي الذي بنى عليه وصفه الخيالي للخليفة المذكور، وهل عدل من الصورة بعد أن رأى الخليفة عيانا؟.

وقد قيل إن أعمال شاصيريو تمثل إيديولوجية المستعمر الغالب، فهي تمثل الوطن الفرنسي، والتجارة، والاستعمار. ولها عناوين غريبة تعبر عن ذلك (مثل العرب يحملون موتاهم) بعد هزيمتهم سنة 1856. وبقي هذا الرسم يدغدغ العواطف الاستعمارية في المعارض التي تقام من وقت لآخر مثل المعرض الاستعماري لمرسيليا سنة 1906. كما رسم شاصيريو (الغالبون يدافعون عن أنفسهم) سنة 1855. وقد قلنا إن أبرز موضوعاته أيضا. هي المرأة في مظهرها المضطهد، مثل الاغتصاب، والقيود، والاغتيال (1). وسيبقى موضوع المرأة هو المفضل لعدد آخر من الفنانين حتى عند ناصرالدين ديني، ولكن برؤية مختلفة.

ولد يوجين فرومنتان في لا روشيل، وهو ابن لطبيب في الأمراض العقلية. درس القانون دون رغبة منه، ثم اختار دراسة الفن. وزيارته للجزائر كانت هروبا من سيطرة والده عليه. كان منذ الطفولة مولعا بالرسم والنثر. سافر إلى الجزائر سنة 1846 مرافقا لصديق فنان اسمه شارل لابي، وكان هذا رساما، ومستشرقا، وكان لابى ذاهبا لزيارة أخت له متزوجة فى البليدة.

(1) ميشالاك، مرجع سابق، ص 55.

ص: 380

وابتداء من سنة 1847 بدأ فرومنتان يرسل إلى صالون الفن الذي كان في متحف اللوفر برسوماته. وكان مولعا برسم صور الفلاح الجزائري على حماره وطبيعته، أو صورة القافلة العربية وهي تمزق الأفق بلونها الأسود، مع تصويره للملابس القديمة وعلامات الفقر والضعف والهزيمة. في السنة المذكورة (7 184) أرسل فرومنتان إلى الصالون ثلاث لوحات، ثم توالت لوحاته، وأخذ النقاد يستحسنون أعماله. وحصل له أكبر نجاح سنة 1859 حين حصل على ميدالية واستدعاء لمقابلة نابليون الثالث.

اهتم فرومنتان أكثر من شاصيريو بالحياة الجزائرية الواقعية، كان دقيقا في ملاحظاته. وقد عبر عنها بالرسم والكتابة. فمن كتبه (صيف في الصحراء) الذي ظهر سنة 1854 و (سنة في الساحل) الذي ظهر سنة 1857. لم يكن فرومنتان متعجلا في وصفه للناس والأماكن التي زارها، كان ناضجا في ملاحظاته ويتتبع كل التفاصيل. وكان يتجول على هواه، ويظهر اندماجه في الحياة في الأماكن التي يصفها. وقد عاب على من سبقه اهتمامهم بالسطحي فقط دون العمق، والمظهر دون الجوهر. فالحياة العربية عنده مجبولة على الجدية والصرامة والهدوء والحزن. وقد عرف هو كيف يفسر، حسب النقاد، قوة الضوء في الجنوب. أما في رسوماته فقد اهتم بالأفق، وعناصر فنه هي: الخيل، والأشجار، والإنسان العربي، والسماء (الأفق). غير أن الروح الاستعمارية كانت واضحة عنده. فالجزائر كانت عنده مجرد موضوع جميل، ريفها وصحراؤها وسماؤها، ولذلك فهي موضوع للامتلاك والاستغلال وإذن فهي عنده فريسة يجب قنصها، وقطعة من الشرق يجب فرنستها (1). ومن لوحاته: جمل وجمال، والصيد بالصقور، وقطاع الطرق، وعرب هاجمهم أسد في مضيق.

وبعد هؤلاء حل بالجزائر عدد آخر أو جيل آخر من الفنانين، ولكنهم ظلوا مبهورين بها، ويعتقدون أنهم كانوا (يكتشفونها). ومن هؤلاء غيوميه

(1) ميشالاك، مرجع سابق، ص 59، وجان ألازار، مرجع سابق، ص 352.

ص: 381

Guillaumet الذي قام بتسع رحلات إلى الجزائر بين 1862 و 1883. وقد (اكتشف لا برسوماته بوسعادة وبسكرة وزواوة والأغواط. وولع أيضا برسم المرأة، والنقاد يعتبرونه الفنان الأول الذي اهتم حياة الأكواخ (القربيات) ورسم حياة البداوة، بعيدا عن الحضارة الغربية الزاحفة. لقد رسم غيوميه حياة منطقة السهوب ونساء واحاتها وجبالها. ومن لوحاته: سوق عربي في الجزائر.

وهناك ألبير لوبورغ، ورونوار، ونواريه، كان الأول على رأس مدرسة الانطباعيين وقضى في الجزائر خمس سنوات. ومن لوحاته رسم الاميرالية. ومن لوحات رونوار: المرأة الجزائرية وهي تصطاد بالصقر. وتخصص نواريه في رسومات الجنوب، واهتم بمنظر الشروق والغروب. كما أن بونيول رسم مناظر زواوة، ورسم بول إيلي دوبوا منطقة الهقار الأزرق. وهناك بازيي Bazille الذي زار الجزائر سنة 1870 ورسم لوحات عن الزنجية والمسجد والمرأة أمام المنضدة، وكان بازيي عسكر، في فرقة (الزواف) (1). ومن لوحات دودنك: موسيقيون عرب، ومن لوحات ديكومب: مدرسة تركية (في الجزائر)، وهي موجودة في متحف شانتييه.

أنشأ الفرنسيون مدرسة الفنون الجميلة ثم فتحوا فيلا عبد اللطيف أمام الفنانين الفرنسيين. أما المدرسة فقد دشنوها سنة 1881 في مدينة الجزائر. وبقيت حوالي سبعين سنة تعمل لتكوين الفنانين وإقامة المعارض ورعاية الفنون خدمة لفرنسا الممتدة وراء البحار. ولم ينل الجزائريون منها إلا النزر اليسير من الاهتمام في أوقات متأخرة. وفي سنة 1954 أعيد بناء هذه المدرسة على طراز أكثر ملاءمة مع رسالتها وموقعها في بلاد عربية -

(1) قوانار، مرجع سابق، ص 282. وبهنسي، مرجع سابق. ونشير هنا إلى أن المرجع الأخير ذكر، ص 31 لوحة (داي الجزائر) ولا ندري من رسمها. وهل اللوحة كانت لحسين باشا (الداي) أو كانت للمعركة التي جرت سنة 1824. انظر التاريخ الثقافي، ج 2، ص، 464.

ص: 382

إسلامية. وهي ما تزال اليوم حيث كانت بالأمس بعد أن آلت إلى أهل البلاد (1).

في إحدى الدراسات الحديثة عن تطور فن الرسم في الجزائر على العهد الفرنسي، ذكر أحد الباحثين أن هناك ثلاث مراحل لعلاقة الفنان الفرنسي بالجزائر: المرحلة الأولى سماها مرحلة الإنتاج الشرقي (الاستشراقي؟) التصويري المرتبط برؤية الاستشراق الفرنسي للأشياء الاستعمارية، وبأبعاد الحركة الرومانتيكية والحركة الفكرية الأوروبية على العموم. وكان النحت والتصوير من سمات هذا العهد الاستشراقي للفن، وسارا جنبا إلى جنب عند دي لاكروا وفرومنتان وغيرهما. وكان التركيز خلال هذه المرحلة على الحريم واللذة والخيال الشرقي والأزقة الضيقة (القصبة) وكذلك النخيل والحيوانات، والرقص الشعبي والأحلام.

والمرحلة الثانية تمثل تدخل السلطات الرسمية في الفنون واحتضانها الفنانين الفرنسيين. ويسمى الباحث هذه المرحلة بترسيخ الفن أو ترسيمه (جعله في يد السلطة). ويتمثل ذلك في وضع فيلا عبد اللطيف (1907) تحت تصرف الفنانين الموهوبين والممنوحين والمتفرغين لمدة سنتين لإنتاجهم الفني بكل حرية. وقد تبنى فنانو هذه (المدرسة) أفكار الاستعمار وسماته، وذوقه في الفنون والآداب، كما تبنى - حسب الكاتب - مبادئ الرأسمالية (2).

أما المرحلة الثالثة فهي عند الباحث مرحلة ظهور الفنانين المستقلين عن دعم السلطة، وقد تبنوا الموضوعات الإنسانية والديوقراطية. وفي رأيه

(1) تقع الآن قرب قصر الشعب ومتحف الباردو.

(2)

من الواضح أن الباحث ماركسي النزعة والتحليل. ورغم أننا لم نعثر على اسمه في الأطروحة التي وقعت بين أيدينا، إلا أن البحث قد جرى بالفرنسية في جامعة شارل في براغ بتشيكوسلوفاكيا (قديما). ومن الغريب أن الكاتب يسوي تحت كلمة (الجزائري): العربي والفرنسي واليهودي والأوروبي. كما أنه ينسب المرحلة الثانية (الديموقراطية) إلى فضل الحزب الشيوعي الجزائري. وكل ذلك يقدم اللون الذي يريد الكاتب صبغ أفكاره به في اطروحته.

ص: 383