الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضع دراستها واهتمامها الدائم. إن تلك الجرائد أصبحت تصف الإنتاج البوربري (الملحون) بأنه (كلام عوام) وتتعجب من كون المشاركين في الاحتفال المئوي (1930) يهتمون بالفلكلور والأدب الشعبي ولا يهتمون بالقصيدة الفصيحة (1). وهكذا نرى أن إهمال الفصحى والعناية بالدارجة الذي بدأ مع الاحتلال قد تحول بعد مائة سنة إلى العكس على يد الشعوب المغاربية، أي العناية بالفصحى وقلة الاهتمام بالدارجة، لأن الفصحى هي لغة الدين والتراث والقومية والاستقلال.
الدراسات البربرية
عرفنا أن دراسة اللغة العربية ولهجاتها كانت قائمة عند الفرنسيين، منذ بداية الاحتلال، على حاجتهم إلى فهم الشعب الجزائري وتوفير وسيلة الاتصال به والتجارة معه ومع غيره. أما دراسة البربرية ولهجاتها فقد جاءت فيما يبدو، نتيجة لما سمي بالسياسة الفرنسية البربرية، وهي السياسة التي قامت على تبعيد السكان عن بعضهم وتقسيمهم إلى بربر وعرب، وأقلية وأغلبية، لكي تظل الكلمة الفصل للفرنسيين أنفسهم.
وعلى هذا الأساس تكون السياسة سابقة للدراسة. وقد عرفنا في مكان آخر أن السياسة البربرية بدأت مع بحوث العقيد كاريت في الأربعينات من القرن الماضي. ثم توسع فيها وعمقها الدكتور وارنييه في الستينات، ثم واصلها وكشف عنها كميل صابتييه خلال الثمانينات والتسعينات. وقد تبنتها إدارة الشؤون الأهلية والكنيسة. أما الإدارة فقد سلكت تلك السياسة في ميادين التعليم والقضاء والضرائب والتقسيم الإداري والنيابة ونحو ذلك. وكان آخر ذلك إحلال القضاء الفرنسي محل الشريعة الإسلامية، وإحلال
(1) نفس المصدر، ص 10. وبعد الحرب العالمية الثانية رجعت (البصائر) في سلسلتها الثانية (1947) إلى نفس الدفاع عن التعليم الحر بالعربية وإحياء الفصحى، بل بلهجة أشد حدة وأكثر وعيا.
القضاة الفرنسيين محل القضاة المسلمين، في المناطق التي سميت بالبربرية. ومنها إحداث قسمين (عربي وبربري) في المجلس النيابي بالعاصمة سنة 1898، وهكذا (1). أما الكنيسة فقد ذهبت تنشط برجالها ونسائها البيض في الجبال والصحارى بحثا عن الضحايا وضعاف الإيمان، حسب رأيها، لكي تنشر بينهم العلاج الطبي ومبادئ اللغة الفرنسية وبعض الصنائع. وبذلك تهيأ الجو لفهم ودراسة البربرية، والمقصود بها عندئذ لهجة زواوة? القبائلية.
يقول رينيه باصيه الذي تخصص بعد وصوله إلى الجزائر سنة 1880 في تعلم وتعليم البربرية: إن الاهتمام بلهجاتها ودراستها بدأ منذ حوالي التسعينات. وأخبرنا أن الحكومة وكذلك أكاديمية الآداب والفنون الفرنسية قد شجعت على ذلك ورصدت له الجوائز. ومن جهة أخرى خصصت مؤسسة قارنييه Garnier أموالا لبعثة دراسية للهجة زناقة (صنهاجة) بالسينيغال. وبعد أن ذكرنا باصيه بأعمال هانوتو عن لهجة وشعر ونحو زواوة، قال إن (المجلة الآسيوية) فتحت صفحاتها لأعمال تكمل ما بدأه هانوتو. ثم توالت الدراسات للهجات البربرية الصحراوية في الجزائر والمغرب وليبيا أيضا. وقد قامت الحكومة نفسها بنشر القاموس الذي تركه الراهب، شارل دي فوكو، حول لهجة الهقار (القاموس الهقاري - الفرنسي)، وبنشر عمله أيضا في النحو التارقي (2).
ثم تضاعفت الدراسات البربرية، لغة ومجتمعا، بإنشاء عدة كراس لها في مدرسة اللغات الشرقية بباريس وفي المعهد الذي أنشأه المارشال ليوطي في الرباط تحت عنوان المعهد العالي للدراسات المغربية، كذلك استحدث في المغرب مشروع الأرشيف البربري في مقابل الأرشيف المغربي الذي بدأ في باريس سنة 1906. وبدعم من حكومة الحماية في المغرب نشرت أعمال عن اللهجات الشلحية والبرابر ولهجة النتيفة.
(1) انظر فصل مذاهب وتيارات.
(2)
رينيه باصية (تقرير عن جهود فرنسا) في (المجلة الآسيوية)، 1920، ص 93. وكان باصية هو الذي أشرف على إعداد ما تركه دي فوكو من أوراق للنشر.
ومن الدراسات المبكرة للبربرية ما قام به هانوتو. إن هذا الضابط الذي كان حاكما لزواوة فترة طويلة، قد سبق غيره في الاهتمام بلهجتها وأصدر بشأنها عدة مؤلفات جاءت نتيجة اعتماده على علماء المنطقة وبحوثه في عين المكان. وقد خرج من ذلك بالكتاب الضخم الذي أصدره بمعية زميله لوتورنو، بعنوان جرجرة وعاداتها.
كما أصدر هانوتو كتابا آخر عن النحو القبائلي، وثالثا عن الشعر الشعبي في زواوة. وقد تولت نشر ذلك الحكومة والوزارة الفرنسية. ومن أعمال هانوتو حول البربرية كتابه عن النحو التمشقي (لهجة الهقار). كما أن بروسلار ألف قاموسا عن اللهجة البربرية لبجاية. وقد أصدرت نشرة (المراسل الإفريقي) التي كانت تصدر عن مدرسة الآداب في الجزائر، مؤلفات كاملة عن اللهجات البربرية في واحة سيوة وغات والهقار والونشريس، وبنى سنوس وميزاب وزناقة ودمنات بالأطلس المغربي وبعض لهجات تونس. ونحن نعرف أيضا أن إيميل ماسكري قد اهتم باللهجة الشاوية ونشر عنها، بينما موتيلانسكي نشر عن لهجات ميزاب وغدامس وغيرهما. ويخبرنا رينيه باصيه الذي كتب سنة 1920، أن ما بقي ينتظر الإنجاز في هذا المشروع - الدراسات البربرية - هو دراسة كل لهجة على حدة، وإصدار مؤلفات عن النحو والمعاجم والألفاظ المقارنة، على امتداد سيوة شرقا والمحيط غربا والأبيض المتوسط شمالا ونهر النيجر جنوبا (1).
وقد نشطت الدراسات البربرية كثيرا. في عهد رينيه باصيه وابنيه وتلاميذه. وقدم هو تقارير عن تقدم هذه الدراسات للمؤتمرات العلمية الأروبية، ومنها مؤتمر المستشرقين الذي عقد في همبورغ سنة 1902. فكان تقرير باصيه قد تضمن مسحا كاملا لما أنجز من دراسات حول البربرية والهوسة (2) خلال سنوات 1897 - 1902. وبقطع النظر عن رأي باصيه
(1) رينيه باصية (تقرير)، المجلة الآسيوية، 1920، ص 93 - 94.
(2)
باصية، تقرير عن الدراسات البربرية والهوسة، باريس، 1902.
والفرنسيين في الموضوع، فإن التقرير ما يزال مفيدا جدا. أما التقرير الثاني فقد قدمه إلى نفس المؤتمر والذي انعقد في كوبناغن سنة 1908 (1). ثم تولى ولداه هنري وأندري باصيه المهمة بعده. فعمل أحدهما في الرباط في معهد الدراسات البربرية، وعمل الآخر في الجزائر. وتصادف هذا النشاط مع احتلال المغرب. ولذلك جندت فرنسا لهذه الدراسات بعض الجزائريين من زواوة، ومنهم بوليفة ونهليل ومعمري. فأرسلت الأول في مهمة دراسية إلى المغرب، وأرسلت الثاني والثالث للتدريس والاتصالات. كما تولى ديستان (وهو تلميذ باصيه) كرسي البربرية في مدرسة اللغات الشرقية بباريس بعد أن أدار مدرسة السينيغال.
ويذكر أحد الباحثين، وهو إدمون بورك، أن تنافسا حدث بين مدرسة لوشاتلييه ومدرسة ليوطي حول الدراسات البربرية في المغرب. فبينما كان شاتلييه متوليا لمؤسسة البعثة المغربية العلمية ومجلة العالم الإسلامي وكرسي علم الاجتماع الإسلامي في باريس (الكوليج دي فرانس)، كان ليوطي قد أنشأ في المغرب معهد الدراسات المغربية العالية لدراسة البربرية، وظل (ليوطي) مرتبطا بمدرسة الاستشراق في الجزائر ومدرسة المكاتب العربية العسكرية فيها. وهو الذي جاء بمحمد نهليل الزواوي لتدريس البربرية في المعهد المذكور (2). ولا شك أن محمد معمري كان يعمل أيضا تحت سلطته.
ومنذ وفاة رينيه باصيه سنة 1924، واصل تلاميذه تنشيط الدراسات البربرية في الجزائر، وكان منهم بوليفة وألفريد بيل وجوزيف ديبارمي.
أما من الناحية الإقليمية فقد اعتنى علماء الفرنسيين باللهجات البربرية، وأصدروا بشأنها مؤلفات ومقالات وقواميس. فقد اهتم إيميل ماسكري كما سبق بالبربرية عموما. وزار بنفسه المناطق المدروسة وعمل في بعضها،
(1) باصية، تقرير عن الدراسات البربرية والهوسة، باريس، 1908.
(2)
إدمون بورك E. Burke (الأزمة الأولى للاستشراق 1890 - 1914) في كتاب (معرفة المغرب - العربي -) إشراف جان ك. فاتان.
ونشر عنها دراسات وارتبط ببعض علمائها. وقد تعرضنا إلى ذلك في مكان آخر. وكان ماسكري قد ظل على علاقة علمية، وربما سياسية، مع الشيخ محمد بن يوسف أطفيش، وهو الذي استكتبه حول تاريخ ميزاب. وكان ماسكري هو الذي أوصى باحتلال ميزاب سنة 1882 بعد أن كانت محمية منذ 1853. وفي تنويهه به ذكر أوغسطين بيرنار أن ماسكري يقف على درجة واحدة مع الضباط والإداريين الفرنسيين المخلصين، لأنه فهم أن مهمة فرنسا القائمة على السيف والمحراث قد أتت أكلها وحانت مهمة فرنسا القائمة على الكلمة والقلم، حسب تصور بيرنار (1).
ويأتي موتيلانسكي على أثر ماسكري في الاهتمام باللهجات البربرية الإقليمية. وخلافا لماسكري المولود في فرنسا، ولد موتيلانسكي في مدينة معسكر وتربى بين الجزائريين، ودرس في ثانوية الجزائر. واشتغل في الترجمة العسكرية، وأرسلته حكومته في مهمات إلى ميزاب أثناء احتلالها فدرس لهجتها أيضا ومذهبها وعاداتها ومخطوطاتها. ثم أخذ يتوسع في الاهتمام باللهجات فتاقت نفسه إلى التعرف على لهجات الهقار وغدامس وما وراء ذلك. وبقي خمس سنوات في ميزاب فتمكن من (اكتشاف) الصحراء عن طريق العلماء وأدلاء القوافل وربط علاقات معهم. وكان نشره للمخطوطات الإباضية قد أدخله إلى عالم الاستشراق. فتولى كرسي اللغة العربية وإدارة مدرسة قسنطينة، فكان بذلك يشرف على الدراسات العربية والإسلامية في عاصمة الشرق الجزائري، ولكنه ظل مهتما أيضا بالدراسات البربرية. فكتب بحثاعن لهجات جبل نفوسة (ليبيا) سنة 1885. وفي 1903 أرسلته الحكومة إلى وادي سوف لدراسة اللهجة الغدامسية عن طريق السوافة الذين كانوا أدلاء القوافل إلى غدامس، وعن طريق تجار غدامس في سوف. وقدم عن ذلك دراسة تاريخية وجغرافية ولغوية ونشرها سنة 1904، وفي 1906 توجه إلى الجنوب الأقصى لاستكشاف المنطقة ودراسة لهجتها فعاد من ذلك
(1) أوغست بيرنار (إيميل ماسكري) في (المجلة الإفريقية)، 1894، ص 350 - 369، ترجمة كاملة لحياته وأعماله. عن ماسكري انظر أيضا فصل الاستشراق.
ببحث عن غات وغدامس ولهجات التوارق، مع نصوصں وحكايات (1).
واعتنى ديستان بلهجة بني سنوس أثناء توليه إدارة مدرسة تلمسان بعض الوقت. وأثناء ذلك أيضا تعرف على لهجات معسكر وندرومة وتلمسان وسعيدة، واللهجات البربرية المحيطة بالمنطقة، مثل لهجة بني سنوس. وعن طريق تلاميذه كان ديستان يحصل على المعلومات - وهي طريقة سلكها معظم الدارسين (المستشرقين وغيرهم) الفرنسيين كما لاحظنا - فبواسطة تلميذ له يدعى بلقاسم بن محمد تمكن من نص بربري مكتوب بالحروف العربية، وهو نص يتعلق بالاحتفال بشهر الناير أو رأس السنة عند البربر (2). وقد صادف نشر هذا النص حملة المستشرقين الفرنسيين في جمع النصوص العربية والبربرية ودراستها وتصنيفها.
وفي هذه الأثناء نشر دومينيك لوسياني عدة نصوص بربرية مترجمة إلى الفرنسية وأحيانا مع حروفها العربية. وقد استعان على ذلك بالشيخ محمد السعيد بن زكري، أحد علماء زواوة، وكان ابن زكري من المدرسين والمفتين أوائل هذا القرن. وبواسطته نشر لوسياني بعض النصوص للشيخين: إسماعيل أزيكيو ومحمد بن محمد (سي محند). كما نشر لوسياني نص كتاب بالبربرية في الفقه بالحروف العربية ألفه أحد فقهاء السوس بالمغرب، وهو محمد بن علي بن إبراهيم، من أهل القرن 18 الميلادي. وعنوان الكتاب هو (الحوض)(3).
(1) عن رحلته إلى سوف سنة 1903 انظر (المجلة الآسيوية) م 2، السلسلة 10، ص 157 - 162. انظر عنه أيضا أرمون ميسبلي في (المجلة الجغرافية للجزائر وشمال إفريقية) SGAAN، 1907، ص 119 - 121. ومجلة (روكاي) 1907، ص 1 - 14. وقد ترجمنا هذه الرحلة ونشرناها في (الثقافة).
(2)
ديستان (أناير عند بني سنوس) في (المجلة الإفريقية)؟ ص 51 - 70. النص البربري ص 51 - 55 فقط.
(3)
لوسياني (الحوض) في (المجلة الإفريقية) 1896 - 1897. انظر دراستنا عن هذا الكتاب في (أبحاث وآراء)، ج 4.
إن هذه الدراسات البربرية والبحث في لهجات البربر عبر مساحة شاسعة في منطقة المغرب العربي قد امتدت أيضا إلى المناطق الصحراوية والجنوبية، كما ألمحنا. وقد بدأ ذلك في وقت مبكر أيضا. فكتابات كاريت في الأربعينات من القرن الماضي عن التجارة الصحراوية وعن طرق القوافل قد مهدت لذلك. كما مهد لذلك تقرير جيسلان Geslin الذي استقر في الأغواط منذ أوائل الخمسينات واتخذ منها نقطة اهتمام بالجنوب. وقد ذكرنا أنه كتب خمسة عشر كراسا عن اللهجات مع النصوص وقدمها إلى الحاكم العام (راندون) الذي قدمها بدوره إلى جمعية المستشرقين في باريس. وقد تولى المستشرق رينو Rienaud قراءة تقرير عنها في أكاديمية الفنون والآداب 14 و 19 مارس 1856 وكانت اللجنة التي استمعت إلى التقرير مؤلفة من أعيان الاستشراق الفرنسي، ومنهم جومار ودي سولسي، وكوسان. لقد جمع جيسلان معلوماته من أفواه العلماء والرحالة الذين كانوا بالأغواط أو كانوا يترددون عليها. ووصل اهتمامه إلى جنوب الصحراء وإفريقية الوسطى (1).
ثم توالت الرحلات والاهتمامات باللهجات البربرية وحالة سكان الصحراء والجنوب. فكانت رحلة إسماعيل بوضربة إلى غات سنة 1858 (2) ثم رحلة هنري دوفيرييه إلى غات وغدامس سنوات 1859 - 1861. وقد ترك لنا الأخير معلومات هامة عن لهجات الناحية والأبجدية المستعملة. ومن أفواه سكان الناحية وعلمائها نعلم أن اللهجة كانت تسمى التماشك (التمشق) أو التماهق، حسب الأمكنة. وأن العرب قد أطلقوا عليها اللهجة التارقية،
(1) تقرير حول لهجات الجزائر، باريس 1856. في مجلة الشرق؟، وبلغ التقرير وحده 26 صفحة. ومن المعروف أن أحد متعلمي الأغواط كتب حوالي سنة 1826 رحلة عن حالة سكان الصحراء ولهجاتهم. وقد نشرنا ذلك مترجما عن وليام هودسون الأمريكي. انظر أبحاث وآراء، ج 2. فهل حصل جيسلان على نسخة كاملة من الرحلة المذكورة؟ وهل عاش الحاج ابن الدين، صاحب الرحلة، إالى أن لقي جيسلان؟.
(2)
عن رحلة إسماعيل بوضربة انظر فصل التاريخ والرحلات.
نسبة إلى المتكلمين بها، وهم التوارق = التوارك. وقد حصل دوفيرييه على نسخة من كتاب في تاريخ الأزجر والهقار، ألفه الشيخ إبراهيم ولد سيدي، أحد علماء التوارق. وكان قد كتبه بطلب من الشيخ محمد العيد بن الحاج علي التماسيني، شيخ الزاوية التجابة. وقد جاء في الكتاب أن الأصول القبلية لسكان الأزجر ترجع إلى الأدارسة، فهم أشراف، وقبائلهم هي الإيفوغاس والإيمنان (السلاطين). على أن بعضهم كانوا من بني أمية، حسبما جاء في الكتاب. وبدون شك فإن بعضهم كانوا من أشراف البربر، وقد اختلطت دماؤهم وأحسابهم بأشراف العرب سواء كانوا من المغرب والأندلس أو من صحراء الجزائر اليوم. وتدل أسماؤهم ولهجتهم على الأصول البربرية.
وأخبر دوفيرييه أن هناك فرنسيين قبله اهتموا باللهجات البربرية، وذكر منهم فانتور دي برادي وديلابورت وبروسلار وهانوتو. كما ذكر أن المكتشف الدكتور أودني ouadny قد جمع أبجدية من تسعة عشر حرفا سنة 1822 كان التوارق يعبرون بها عن كلامهم وأفكارهم. ولا ندري كيف توصل هانوتو إلى معرفة لهجة الهقار - التمشق - حتى ألف كتابا في نحوها وجمع شعرا وحكايات وقصصا حولها. فنحن نعلم أنه لم يذهب إلى هناك وربما لم يخالط أحدا من أهلها. والغريب أنه ألف ذلك الكتاب في نحو اللغة التمشقية، وظهرت الحروف المعروفة بالتفيناغ (الفينيقية) في المطبعة أيضا. وقد عرفنا في مكان آخر أن أحد علماء الهقار قد زار باريس وأخذه الفرنسيون إلى المطبعة وطبعوا أمامه نصا بالحرف التفيناغ والحروف اللاتينية لتخليد الذكرى. وفي سنة 1862 أصدرت مطبعة هريسون الإنكليزية كتابا في النحو بلهجة التمشق عنوانه (الخلاصة النحوية في لهجة التماشق) وقد ألفه ستانلوب فريمان الذي كان حاكما لمدينة لاغوس (بنيجيريا اليوم). وكانت الجمعية البيبلية (الإنجيلية) الإنكليزية قد أصدرت قبل ذلك بلندن بعض الكتابات حول لهجة التماشق بناء على ما عثر عليه جيمس ريتشاردسون الذي توفي أثناء رحلته الاستكشافية.
وبناء على دوفيرييه فإن لهجة جنوب الهقار تسمى التماشق ولهجة شماله تسمى التماهق. وأن النساء هن اللائي كن يعرفن القراءة والكتابة بهذه الحروف. أما الرجال فلا يتجاوز الذين يعرفونها الثلث. وعندما طلب من يعلمه إياها تطوع بعض النسوة لذلك. وقد أطلعهن على كتاب هانوتو في النحو التماشقي، فتعجبن منه وافتخرن به (؟) ونعلم من دوفيرييه أن هانوتو لم يزر المنطقة، ولذلك لم يفرق بين لهجتي الشمال والجنوب. ونعلم أيضا أن بنواحي الهقار أربع قبائل رئيسية تتكلم لهجات مختلفة ولكنها حافظت على نفس الحروف الكتابية. غير أن أشكال الحروف كانت تختلف من لهجة إلى أخرى حسب إرادة العلماء والنساخ، وهكذا فإن الحروف التي شاهدها دوفيرييه لا تختلف، في رأيه، عن حروز التقة Tugga المعاصرة للعهد القرطاجني.
وتكتب التفيناغ من اليمين إلى اليسار كالعربية، ولكنها ذات حروف حرة يمكن كتابتها عموديا أو أفقيا أو من فوق إلى أسفل أو العكس. وفي كل الحالات يمكن للحرف أن يلتفت نحو اليمين أو نحو اليسار، أو إلى فوق أو إلى أسفل. وهكذا فإن حرف ط وشكله هو E يمكن أن يكتب: E، أو w أو m وقد أورد دوفيرييه الأبجدية التفيناغية على صفحة 388 (1). ومن جهة أخرى أخبر أن الكتابة التفيناغية موجودة في شكل حروف على الصخور والأسلحة والآلات الموسيقية والأساور والجلود والمطروزات، الخ. أما الكتابات الجادة كالمراسلات والتواريخ والمؤلفات فهي بالعربية. وهناك نسخة من كتاب في الشريعة والفقه مترجمة إلى التماهك بالحروف العربية. وقد أخبره الشيخ عثمان أن نسخة منها توجد عند الشيخ إبراهيم ولد سيدي، عالم قبيلة إيفوغاس الذي سبق ذكره. ويبدو أن دوفيرييه قد حصل على نسخة
(1) هنراي دوفيريه (اكتشاف الصحراء)، باريس، 1864، ص 318 - 323، 389. لام دوفيرييه (التعصب السياسي) للمسلمين على محو اللغة القرطاجنية (الفينيقية)، وهي التي حافظ عليها، في نظره، سكان الهقار. وهو رأي لم يخل من تعصب أيضا، لأن المسلمين لم يحاربوا أية لغة ولم يفرضوا أية لغة. وقد انتشرت العربية كوسيلة لفهم الدين وليس كلغة قومية كما فعل الفرنسيون.
منها لأن الشيخ عثمان وعده بذلك، كما حصل من قبل (أي دوفيرييه) على نسخة من التاريخ الذي كتبه إبراهيم ولد سيدي ليحملها إلى الشيخ محمد العيد التجاني (1).
…
إن الصلة بين عائلة دوفيرييه والدكتور وارنييه كانت وطيدة. فقد كان وارنييه صديقا لوالد هنري دوفيرييه الذي كان من الكولون البارزين. وعندما رجع هنري من رحلته مرض وكاد يقضي نحبه لولا علاج وارنييه له. ولم يعاود هنري رحلته إلى الصحراء رغم محاولات الضغط عليه، لأنه كان في مقتبل عمره عندما قام بالرحلة الأولى. وفي الوقت الذي نشر كتابه عن أحوال التوارق ولهجاتهم وحروفهم وطعن في المسلمين المتعصبين، كما قال، والعرب الفاتحين، كان الدكتور وارنيه يشن حملته ضد مشروع المملكة العربية الذي قيل إن نابليون الثالث قد تبناه. فقد نشرت رحلة دوفيرييه سنة 1864 وهي السنة التي أصدر فيها الدكتور وارنييه أيضا - كتابه الأول ضد المشروع المذكور ثم كتابه الثاني سنة 1865. وإذا كان تركيز دوفيرييه على الجغرافية واللهجات والأحوال الاجتماعية للتوارق فإن تركيز وارنييه كان على الأعراق والطبائع والملامح الاجتماعية والأنثروبولوجية للبربر. فهو لم يكن مهتما باللهجات إلا بقدر ما تساعده على الوصول إلى إحصاءاته في عدد السكان البربر ومواقعهم (2).
وكان موقف بعض الكتاب والباحثين من البربرية موقفا سياسيا. محضا. فكميل صابتييه لم يكن دارس لهجات ولا متخصصا في التعليم والبحث وإنما استعمل البربرية (الزواوية) سلاحا سياسيا. فهو رجل إداري وسياسي قبل كل شيء. وقد ظهرت محاولاته في مجال التشريعات والنظم، مثل إنشاء فرع خاص بأهل زواوة في مجلس الوفود المالية الذي أنشئ سنة 1898. وكان
(1) نفس المصدر.
(2)
عالجنا هذه المسائل في فصل مذاهب وتيارات.
جان سيرفييه من الصحفيين وليس من اللغويين أيضا. فشن حملته على الإسلام والجامعة الإسلامية والعرب، واعتبرهم جميعا خظرا داهما على الفرنسيين. ولكنه من الوجهة السياسية اعتبر اللغة الدارجة خليطا من الفينيقية، وقال إن الفاتحين المسلمين لم يحملوها معهم. وسار مارسيل موران، الأستاذ في الشريعة الإسلامية والأعراف البربرية في جامعة الجزائر، على ذلك النهج أيضا، فقال إنه كان على فرنسا ألا تعين القضاة المسلمين على مناطق الأوراس والبيبان لأن ذلك اعتراف منها بأن أهلها مسلمون راسخون. وأعلن موران أيضا أن هناك تنازعا بين الشريعة الإسلامية والعرف الزواوي لأن أهل زواوة في زعمه (قد رفضوا الشريعة القرآنية تماما)(1). وقد تجاهل موران طلب زعماء زواوة في نفس الوقت بتعيين القضاة المسلمين عليهم وكتابة السجلات باللغة العربية أسوة ببقية الوطن، بل كانوا يطالبون بالتخلص من العرف، ولكن لوسياني وجونار وشارل ليطو أبقوا على العرف البربري لأسباب سياسية. ومع ذلك ظل المواطنون يتوجهون إلى القضاة والموثقين المسلمين الذين كانوا يحررون السجلات بالعربية. وحتى ألبان روزي الذي قيل عنه إنه كان صديقا للجزائريين، طالب سنة 1913 بأن تحرر كل البيانات الموجهة إلى أهل زواوة بالفرنسية أو بالزواوية (أي بالحروف اللاتينية فقط). ومنذ أعلن روزي ذلك أيدته الصحافة الاستعمارية التي كانت قد عارضته في مواقفه الأخرى، ولكنها طالبت بأن تكون البيانات محررة بالفرنسية فقط (2).
وكانت كتابات الشيخ محمد السعيد الزواوي المعروف بأبي يعلى تهاجم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ما آل إليه الوضع القضائي في زواوة. وكان الزواوي تارة يصب نقده على قومه لركونهم إلى ما فرضه الفرنسيون عليهم من إجراءات مقصودة. وتارة يصب غضبه على الإدارة التي سعت عن قصد إلى الإبقاء على الأعراف القديمة في المنطقة لضرب الشريعة، وتعرض أبو يعلى إلى مسألة عدم توريث المرأة وعدم الاحتكام إلى الشريعة في ذلك.
(1) آجرون (الجزائريون المسلمون)، 2/ 887.
(2)
نفس المصدر، 2/ 880، وأيضا 1/ 291 - 292.