المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولم يكن حوحو وحده في الميدان، ولكنه كان هو المجلى - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٨

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌الفصل الأولاللغة والنثر الأدبي

- ‌حالة الأدب والثقافة غداة الاحتلال

- ‌التعامل مع اللغة العربية

- ‌الدراسات البربرية

- ‌الدراسات النحوية والمعاجم

- ‌بلقاسم بن سديرة

- ‌عمر بن سعيد بوليفة

- ‌النثر الأدبي

- ‌المقالة الصحفية

- ‌الأسلوب من عاشور الخنقي إلى الإبراهيمي

- ‌الرسائل

- ‌التقاريظ

- ‌الخطابة

- ‌محمد الصالح بن مهنة وكتابه

- ‌خطب أبي يعلى الزواوي

- ‌الروايات والقصص والمسرحيات

- ‌ المقامات

- ‌أدب العرائض والنداءات والنصائح

- ‌مؤلفات وشروح أدبية والتحقيق

- ‌محمد بن أبي شنب

- ‌الأدب باللغة الفرنسية

- ‌الفصل الثانيالشعر

- ‌مدخل في تطور حركة الشعر

- ‌الدواوين والمجاميع

- ‌كتاب شعراء الجزائر في العصر الحاضر

- ‌الشعر الديني

- ‌الشعر السياسي

- ‌الشعر الإسلامي والإصلاحي

- ‌شعر المدح

- ‌شعر الرثاء

- ‌الشعر الإخواني

- ‌الشعر الذاتي

- ‌مبارك جلواح

- ‌الشعر التمثيلي والأناشيد

- ‌شعر الفخر والهجاء وغيرهما

- ‌الشعر الشعبي

- ‌ثورات وشعراء

- ‌في الشكوى وذم الزمان

- ‌أغراض أخرى للشعر الشعبي

- ‌الفصل الثالثالفنون

- ‌الفنون التقليدية - الشعبية

- ‌الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين

- ‌فيلا عبد اللطيف

- ‌معارض الفنون الإسلامية

- ‌الآثار الدينية

- ‌القصور والمباني الحضرية

- ‌المتاحف

- ‌الرسام ناصر الدين (إيتيان) ديني

- ‌النقش والرسم والخطاطة

- ‌مؤلفات في الخط

- ‌عمر راسم وأخوه محمد وآخرون

- ‌مؤلفات وآراء حول المسرح ورواد التمثيل

- ‌آراء ومؤلفات في الموسيقى

- ‌تطورات أخرى في مجال الموسيقى والغناء

- ‌ محمد ايقربوشن

- ‌المحتوى

الفصل: ولم يكن حوحو وحده في الميدان، ولكنه كان هو المجلى

ولم يكن حوحو وحده في الميدان، ولكنه كان هو المجلى فيه، فإلى جانبه ظهر عدد من كتاب القصة، بعضهم استكمل أو كاد شروطها الفنية، وبعضهم حاولها كفن أدبي جديد، ثم سار إلى غيرها من مقالة ودراسة وشعر إلخ (1). ومن هؤلاء أحمد بن عاشور، والشريف الحسيني ومحمد الطاهر فضلاء وعبد الله ركيبي وأبو العيد دودو، وسعدى حكار (2) ثم ظهر جيل آخر كان منه زهور ونيسي والطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة. وقبل أن نتحدث عن الرواية والقصة باللغة الفرنسية نتحدث عن فن‌

‌ المقامات

، باعتبار المقامة من فنون النثر الأدبي.

المقامات

المقامات فن قديم في الجزائر، وقد تعرضنا إليه في الجزء الثاني. وإنما الجديد هو ما نشأ في العهد الذي ندرسه، والذي نريد أن نعرف ما إذا كان قد تأثر بالحياة الجديدة. وإذا كانت المقامات تعتمد الأسلوب الشيق والقص الطريف والشخصيات الذكية والثقافة الواسعة، فإن ذلك لم يتوفر لها في العهد الذي ندرسه إلا نادرا. فخلال القرن الماضي ولا نكاد نجد كاتبا واحدا للمقامات الجيدة المتوفرة على الشروط التي ذكرنا. كانت هناك محاولات بدون شك، بعضها في الجزائر وبعضها على يد من هاجروا منها. وكانت بعض المقامات قريبة من الدارجة وبعضها بالفصحى. ومما نلاحظه أنه بعد تقدم التعليم واطلاق تباشير النهضة الأدبية حدث تجديد في الشعر

(1) جربت أنا أيضا هذا الفن مبكرا، فنشرت قصة عنوانها (سعفة خضراء) في جريدة البصائر. وهي منشورة ضمن المجموعة التي تحمل نفس العنوان.

(2)

نشر هؤلاء قصصهم إما في جريدة البصائر وهنا الجزائر والمنار وغيرها وإما في مجموعات بعد الاستقلال. وظهر إنتاج الطاهر وطار وابن هدوقة أثناء الثورة. وهناك آخرون لا يتسع المقام لذكرهم. ولكن مرحلة الثورة والاستقلال خارجة عن نطاق هذا الفصل. ومما نشره سعدي حكار قصة (في ليلة واحدة) في مجلة إفريقية الشمالية، يونيو، 1948.

ص: 145

وفي المقالة وظهرت القصة والمسرحية، ولكن المقامة بقيت نادرة. وربما كان البعض ينظر إليها على أنها وسيلة للغموض والتقعر والتفاصح الفارغ، سيما إذا كان الذين يحاولونها غير ملمين بالأحداث الكبرى ولا يحسنون فن القص الأدبي. وقد ذكرنا أن الإبراهيمي قد برع في أسلوب معين سماه سجع الكهان نشر منه نماذج بين 1947 - 1952.

والمقامات التي علمنا بوجودها أو اطلعنا عليها قليلة. وها نحن نذكرها حسب ترتيبها بقدر الإمكان:

1 -

المقامة الصوفية أو شبه المقامة، وقد وضعها الأمير عبد القادر في صورة قصصية، كمقدمة لكتابه (المواقف) في التصوف. تصور الأمير أنه كان في مجمع من الأصحاب فأخذوا يتساجلون أثناء بحثهم عن الحقيقة الإلهية، وهي كما قال محمد طه الحاجري، تلك الغائية الفاتنة (1). والمعروف أن التصوف لم يكن جديدا على الأمير، فقد ورثه عن الأسرة، وكانت طريقة والده هي القادرية، ولكنه اتصل بعد حجته الثانية بعدد من المتصوفين في الحجاز ومنهم الشيخ محمد الفاسي الذي أدخله الطريقة (النقشبندية؟). لقد كانت حجته (1863 - 1864) فرصة لتجديد العهد بأقطاب التصوف والعودة إلى ملكوته اللامتناهي.

وقد اختار الأمير لمقامته اسم المعشوقة وهو يقصد بها الحقيقة. وجاء فيها (حضرت محاضرة من محاضرات الشرفا، ومسامرة من مسامرات الظرفا، في ناد من أندية العرفا، فجاؤوا في سمرهم بكل طرفة غريبة ومستظرفة عجيبة، وكان الحديث شجونا وألوانا وفنونا، إلى أن تكلم عريف الجماعة ومقدم أهل البراعة، فقال: أحدثكم بحديث هو أغرب من حديث عنقاء مغرب، فاشرأبوا لسماعه ومدوا أعناقهم، وفرغوا قلوبهم وحدقوا أحداقهم، فقال: إن في الوجود معشوقة غير مرموقة، الأهوية، إليها جانحة، والقلوب بحبها طافحة، والأبصار إلى رؤيتها طامحة، يطير الناس إليها كل

(1) محمد طه الحاجري (جوانب من الحياة العقلية

)، القاهرة، 1968، ص 61.

ص: 146

مطار، ويرتكبون الأخطار، ويستعذبون دونها الموت الأحمر، ويركبون لطلبها المكعب الأسمر (أي قناة الرمح)، ولا يصل إليها إلا الواحد بعد الواحد في الزمان المتباعد، فإذا قدر لأحد مشارفة حماها، ومقاربة مرماها، ألقت عليه اكتسترا لا له مادة ولا مادة، ولا هو عين ممتدة، فيحصل انقلاب عينه، وجميع الأعيان في عينه، إلى عين هذه المعشوقة، التي هي غير مرموقة، المعلومة المجهولة، المغمودة المسلولة، الباطنة الظاهرة، المستورة الساترة، الجامعة للتضاد

ولا يقدر أن يعبر عنها بعبارة

أكثر من قوله: وصلتها وحصلتها. وبعد التعب والعنا

وجدت هذه المعشوقة (هي) أنا، ويتبين لي أنني الطالب والمطلوب والعاشق فما كان هجري للذاتي، إلا في طلب ذاتي

ولا وصولي إلا إلي، ولا تفتيشي إلا علي، ولا كان سفري إلا مني في إلي) (1).

2 -

ومن العائلات المهاجرة عائلة المبارك، هاجرت منذ بداية الاحتلال - الأربعينات - ومنها محمد المبارك بن محمد. وقد تميزت العائلة في بلاد الشام بإتقان اللغة العربية والتوسع في الأدب حتى أن هذه (الصنعة) قد توارثتها أجيالها، ولد محمد في بيروت سنة 1848 وعاش إلى أن توفي في دمشق سنة 1912. ثم واصل أبناؤه وأحفاده مسيرته. وقد درس على علماء جزائريين وشاميين، وتوظف في عدة وظائف، ومنها القضاء في أزمير، وأسس مدرسة النهضة العلمية، وترك مجموعة من الآثار الأدبية، منها رسالة في رثاء الأمير بعنوان (لوعة الضمار في رثاء الأمير عبد القادر) وهي مطبوعة، كما طبع أعمالا في شكل مقامات (حسب عناوينها)، منها (غريب الأنباء في مناظرة الأرض والسماء) و (غناء الهزار في محاورة الليل والنهار). والمناظرة والمحاورة فن آخر من أسلوب المقامة.

أما أعمال محمد المبارك المخطوطة فمنها: (المقامة اللغزية والمقالة

(1) كتاب (المواقف)، المجلد 1، ص 10 - 11. انظر أيضا بحث عبد الله ركيبي (فن المقامة في النثر الجزائري الحديث) في مجلة الأصالة، عدد 12، 1973، ص 33 - 35.

ص: 147

الأدبية)، و (المقامات العشر لطلاب العصر) و (أبهى مقامة في المفاخرة بين الغربة والإقامة). فإذا ثبت أن هذه كلها من نوع المقامات التي نحن بصددها، فإن محمد المبارك يكون من المكثرين من هذا النوع الأدبي (1). وقد توفر لمحمد المبارك في المشرق، مع الطباعة والجو الأدبي والجرائد، ما لم يتوفر لمواطنيه في الجزائر. وإذا أتيحت للأدباء الجزائريين الفرص والظروف المناسبة فإنهم يبدعون ويبزون غيرهم، كما حدث مع الشيخ طاهر الجزائري أيضا.

3 -

وشبيه بالشيخ المبارك في الإكثار من المقامة، الشيخ الديسي (محمد بن عبد الرحمن). وقد عرفنا أنه كان ضريرا ومعلما في زاوية الهامل قرب بوسعادة وأنه كان متقنا للغة العربية رغم محاربتها من السلطات الفرنسية. وقد لاحظ الشيخ محمد بيرم الخامس أثناء زيارته للجزائر في آخر السبعينات من القرن الماضي أن العربية بقيت في النواحي الصحراوية النائية وبعض المراكز كالزوايا حيث يتغرب طلبتها في سبيل العلم ثم يرجعون لبثه بين المواطنين بطريقة التهريب تقريبا. ولا ندري إن كان الديسي قد تغرب في سبيل العلم ولكن عددا من زملائه قد فعلوا ذلك، ومنهم الشاعر عاشور الخنقي. والشيخ محمد بن بلقاسم مؤسس زاوية الهامل.

وحفظت الأيام عددا من مقامات الديسي، منها واحدة مطبوعة بعنوان (المناظرة بين العلم والجهل)(2). وقد قال عنها صاحب تعريف الخلف أنه قد

(1) عن محمد المبارك انظر سهيل الخالدي (المهاجرون الجزائريون) مخطوط. وقد ترجمت له عدة مراجع أخرى، منها (حلية البشر) و (أعيان دمشق) و (تعطير المشام) و (أعلام الفكر الإسلامي) و (منتخبات التواريخ)، وغيرها. انظر أيضا فصل المشارق والمغارب.

(2)

طبع تونس، دون تاريخ، وقد صدرت بأخطاء كثيرة، كما قيل في وقتها. انظر (تعريف الخلف)، 2/ 407 - 417. وقد درس عمر بن قينة حياة الديسي ونشر بحثه في كتاب اشتمل على التعريف به وبآثاره وعصره، تحت عنوان (الديسي)، الجزائر، 197.

ص: 148

ضمنها فوائد تاريخية ولطائف علمية وإشارات إلى حوادث عظمى تتميز بها الأجيال والممالك في الماضي والحاضر. ونفهم من ذلك أن المؤلف قد ساقها في مجال العبر والاتعاظ. وها هو الديسي يقول بنفسه (بعد حمد ملهم الصواب، وكاشف الأوصاب، والصلاة الكاملة، المتواصلة الشاملة، على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه والفئة العالمة العاملة، فقد اقتضى الحال، أن يقع بين العلم والجهل مناظرة وجدال، فاجتمع قوم، وعينوا لذلك يوم. وقد شاخ وأسن، وأدركه الضعف والوهن، بادئ الإعواز، يتوكأ على عكاز

وقال: يا جهل! ما أنت لخطابي بأهل

) أما على لسان الجهل فقد قال مخاطبا: (يا قليل الجدوى، يا داعية الكبر والدعوى، أتفخر ببنيك الشعث الغبر، الذين ليس لهم، عند أهل الدنيا اعتبار ولا قدر

) (1). وللديسي مقامات أخرى.

4 -

وفي سنة 1913 نشر فرنسيان مستعربان كانا مهتمين بالأدب الجزائري، وهما ج. ديلفان، والجنرال فور بيقي مجموعة من المجالس الأدبية أطلق عليها صاحها (المقامات العوالية). والمؤلف هو محمد بن علي بن الطاهر الجباري، وهو من قبيلة الجبارة في ناحية سعيدة الآن. وكان الجباري قد سكن وهران، وقيل إن أصله من بطيوة، وربما درس في المدارس القرآنية وبعض الزوايا قبل أن يلتحق بمدرسة تلمسان الفرنسية الرسمية لتخريج القضاة. وقد حكى ديلفان أن الجباري قد وصل إلى رتبة عالية في ميدان القضاء. ولكن عصره كان عصر حرب شعواء ضد القضاة والقضاء الإسلامي. ويبدو أنه توفي مغموما محروما بعيدا عن أهله وبلدته، رغم أن ديلفان يقول إنه سعى في تبديله لدى السلطات ولكن دون جدوى. ولم يترجم المستعربان الفرنسيان نص مقامات الجباري إلا بعد وفاته بسنوات

(1) تعريف الخلف، 2/ 415. انظر عنه أيضا فصل التعليم في الزوايا. أشار عبد الله ركيبي أن لعمر بريهمات مقامة كتبها بمناسبة حضوره مؤتمرا في باريس سنة 1897 وأنه قد نشرها في جريدة (المغرب) الجزائرية سنة 1903 (دون تحديد العدد). وهي فيما يبدو مقامة أدبية انطباعية. انظر عبد الله ركيي، الأصالة عدد 13، 1973.

ص: 149

طويلة. وقد وصفه ديلفان بالشرف والإخلاص.

والجباري كان أديبا بطبعه، محبا للغة العربية، ينظم الشعر ويهوى التمثيل، ويعرف خبايا الناس في الوسط الديني الذي درس فيه والوسط الإداري الذي ارتبط به عمله غير المجدى، كما يقول ديلفان. كان الجباري حريصا على تأليف مقامات يحفظ بها اللغة العربية من الضياع، ولعله أحس بغريزته أن هذه اللغة كانت تتدهور وتتلاشى فكتب مقاماته مستوحيا الحريري والهمذاني، ثم قدم ذلك ديلفان تاريخا وأسلوبا ولغة وموضوعا. قال إن المؤلف (الجباري) قد عاش في وهران وسعيدة ومعسكر والدليمة التي سماها الفرنسيون سان لوسيان، وكان أصله من بطيوة (أرزيو). وما دام الجباري قد تنقل بين أماكن عديدة فمن الصعب، في نظر ديلفان، أن تكون المقامات بلهجة واحدة، فلا بد أن يكون قد تنقل من جامع إلى آخر، على عادة الطلبة القدماء، بحثا عن العلماء والمخطوطات والأوقاف.

اعتمد الجباري في كتابة مجالسه التسعة عشر على الذاكرة، فكان محفوظه غزيرا. وكان يروي المغامرات المسلية، ويتداخل فيها. فمقاماته نوع من السيرة الذاتية له أيضا. لقد كتبها بأسلوب هزلي مفصل. واختار لها الكلمات المناسبة في الوقت الذي لا وجود فيه للمسرح عند الجزائريين. وقال ديلفان إن الجباري كان يقترب كثيرا من الفصحى ويستعير منها، وحذر من أن يظن المستعربون الفرنسيون أن في ذلك تعديا على اللغة الفصحى. وكان الجباري حريصا على اللغة والتراث، ولذلك كان يورد أيضا أبياتا شعرية على طريقة المقامات، لتمليح النص. وكان أحيانا يذكر شعرا ملحونا أو زجلا. وقد كان هو نفسه شاعرا (1).

أخبر ديلفان أنه عندما كان يقيم في وهران وصل إلى يده مجلس من مجالس الجباري أو مقاماته. فنظر إلى أهمية ما جاء فيه من حيث لهجة المنطقة - وكان المستشرقون مهتمين بذلك - فبدأ مساعيه للحصول على كل

(1) كتب الجباري شعرا تمثيليا وطبعه في وهران. انظر فصل الشعر.

ص: 150

المجالس التي سمع أنها بلغت تسعة عشر، كما ذكرنا. طلب ذلك من المؤلف نفسه، وكان صديقا له، ولكن الموت عاجله، فلم يتم تحرير كل المجالس. وأقر ديلفان أنه حصل على اثنى عشر مجلسا. بصعوبة ومثابرة. وحرصا على هذه المجالس قدمها للنشر بعد ترجمتها والتعليق عليها، وقد قال إن المؤلف لم يكن في نيته أن يرى عمله مطبوعا ذات يوم (1).

اعتقد الجباري أنه من الأهمية وضع مدخل لمجالسه يطرح فيه نظريته في التغيير الذي أصاب اللغة العربية الفصحى في المغرب العربي من جراء تأثير البربرية، فما بالك بتأثير الفرنسية. ومما يذكر أنه أجرى الحديث على لسان بطل يسمى سي الحبيب بن عيسى العوالي، وهو أحد الجماعة في الدوار، وكان أيضا من الطلبة، قضى حوالي ثلاثين سنة من عمره في التعلم، لكنه بقي جاهلا ولم يكن يعرف سوى معلومات عامة، وكان لا يحسن حتى النطق بالإعراب والأدب في المجالس، ولم يكن هناك من يتعاطف مع هذا النوع من الطلبة. ولكن أهل الدوار احتفلوا به عند قدومه مع ذلك، لأن قدومه كان فقط فرصة لاستعادة الذكريات. وكان ابن عيسى العوالي بدينا بعد أن تقدمت به السن. ويبدو أن الجباري أراد المساهمة عندئذ في مهاجمة التعليم التقليدي - الزوايا والكتاتيب - لأنه تعليم في نظره عقيم، فالمرء يقضي سنوات طويلة ثم يخرج ولا يحفظ سوى القرآن عن ظهر قلب، ولا يحسن القراءة والكتابة والحساب، ولا يستطيع منافسة أنداده المتخرجين من المدارس الفرنسية رغم دراستهم القليلة. هذه الظاهرة النقدية انطلقت مع آخر القرن الماضي، وظهرت في عدة أعمال منها كتاب (أوضح الدلائل) لابن زكري وكتابات الزواوي.

وعنوان المقامات الكامل هو (كتاب المقامات العوالية في أخبار

(1) المدخل الذي كتبه ديلفان للمقامات أو المجالس يمتد من ص 285 إلى 292 في المجلة الآسيوية، 1913. وكم من مؤلفات وكتابات ضاعت باسم ذلك الشعور القاتل، وهو أن الكاتب الجزائري كان يعرف مسبقا أن جهده سيضيع لا محالة ولن يرى النور.

ص: 151

العلالية) على اللغة المغربية (المغرابية؟). وهذه هي الفاتحة: (يقول عبيد الله القاهر الباري، محمد بن علي بن الطاهر الجباري. الحمد لله الذي هدانا للهداية، وأرشدنا للاستقامة، وملك أعنتنا فقهر، وعفا عن عباده الصالحين وتجاوز عن سيئات من زاغ منهم وغفر

أما بعد، فإني لما سيقت بي الأقدار بجولات الأماكن، جعلت استقراري بمدينة بلاد (سان لوسيان)(1)، فوجدتها ذات قيمة سنية، موجودة بوطن الظليمة فصرت كمن جلس بين فرشين وتوسد مخدتين، فشرعت أهوى الخلطة مع بعض من طلبة نجع الغرابة، وأتقلب طورا مع بعض من عرش الزمالة، وأخرى أحاكي بها الظهرة والغابة، وقد طال ما بحثت عن إفادة بعض العلوم، فلم أجد مرشدا عليه والى من إليه يقوم، حتى خلت أن شجرة العلم لم يغرس ببلادهم، ونبذة الأدب لم يزرع بترابهم

فما لبثت على ذلك إلا قليلا

إذ بي وجدت ابن عيسى العوالي يتقلب بالأوصاف والأحوالي، فمرة يحضر مع الطلبة والجنائز، وطورا يقصد خطبة العجائز، وتارة يميل إلى مجالس العلامة (العلماء؟)، وأخرى يحضر مع كبار الجماعة، وساعة يأتي راكبا مع الميعاد، ويتخالى مع الأمراء والقياد

بيد أنه مع تقلب أوصافه أن مع عرب البربر قوالا. فرميت النظر عليه، وتسببت في الخلطة إليه

ثم إني امتزجت معه كما يمتزج الماء باللبن، وانطلقت بدواخله كالحكة في الجبن

فلما رأيت من ارتكام ظلمات الجهل، وانقطاع الأدب بهذه الواسطة على الأصل، تذكرت ما سمعت عن بعض الثقة والأمان

أن رياسة الرجال الصناديد من بلاد الشرق لما وصلوا لهذه الأوطان، وأمروا بفتح تلك المدن، بتعريب (؟) أصحاب هذه البلدان، بعد معاركتهم ومحاربتهم إياهم، أن يدخلوا في الإسلام طوعا ومحبة لأعلاهم.

(فلما عرفوا لذة لغتنا وفوائدها استعملوها، ومع أن كانوا يبعدونها من قواعدها وعن صافي أصلها واستأصلوها، فقد حصل لها بسبب إدخالها بعض

(1) وهي الدليمة، كما ذكرنا سابقا، وقد كتبها (الظليمة). والغرابة والزمالة من قبائل الغرب الجزائري الشهيرة.

ص: 152

الألفاظ الملحونة، من لغاتهم المختلفة المثبونة، مثل الشلحة، والتمزيغية والتوارقية والوارقلية، اختلاف عجيب واتساع، ليس له يزيد الإشفاع، فبإضافة لغتهم إلى لغتنا لم يتركوا سائر ألفاظ اللسان المضبط، حتى صاروا العلماء لا يفهمون لها نمط مرتبط، لا سيما ناس الشرق الذين لم يسملوا (يصلوا) هنا، ولم يخالطوا المستعربة من أوطاننا، لأنهم لا يعثرون على هذه الألفاظ في سائر كتوبهم العظام).

(ولا يخفى أنه في بلاد الغرب كثير من فصحاء الكلام، منهم المؤرخون، والمداحون، والراويون، والشيوخ أرباب التلحين والقوالون. وأنهم الآن ليست لهم شهرة عند العامة ولا عند ناس الشرق ولا المجانبة

فلما رأيت خبو هذا المنهاج

تضجرت وتأملت وتنمرت

ثم إني اتبعت الفكرة الهامدة وامحنت (امتحت) القريحة الهانية (1)، وعزمت لإتيان مرامه، اثنتا عشر مقامة (2)، أتلو فيها جملة من الألفاظ المستعملة، في ناحية القبلة والظهرة، وفي نجوع التل والصحرة، عند ناس الديار وأهل الخيام، والبداوي والمدني والقرى والمقام

).

ثم أخذ يتحدث عن المشائخ والطلبة، وعن الفلاحين وفلاحتهم، والصناع وصنائعهم. وتتضمن المقامات أحاجي مغاربية وانظاما (أشعارا) ومواعظ ووقائع. وقد جعل كل ذلك في شكل إملاءات على لسان ابن عيسى العوالي، وأسند روايتها إلى محمد بن العربي. وكان هدفه خدمة اللغة العربية الفصحى وتطريب قارئها. وأخبر أنه ألفها على شكل المقامات، وأن سلفه في ذلك هو بديع الزمان والحريري، وأنه قصد بذلك تنشيط الطلبة وتسليتهم (3).

(1) يبدو لنا أن الكلمات المكتوبة خطأ ترجع إلى سوء فهم ديلفان لتخريج النص أو الخطأ المطبعي وليس إلى المؤلف.

(2)

سبق أن ذكر ديلفان أن المؤلف خطط لكتابة تسع عشرة مقامة.

(3)

المجلة الآسيوية، مرجع سابق، ص 207 - 293. المقصود بالواسطة هي بلاد الجزائر، والظهرة منطقة شاسعة جنوب مستغانم. والصحرة هي الصحراء.

ص: 153

وإليك الآن عناوين المقامات الاثنى عشرة: فقد سمى الأولى المقامة الصحراوية وضمنها أخبار الشيخ ابن عيسى العوالي عندما كان سخارا وجوالا في الصحراء. وروى على لسان امحمد بن العربي قال (كنت في زمان سعيد الكوكب أنه سمع وهو تاجر في الصحراء بثورة بوعمامة وأنه (نافق - ثار- بأعلامه، وطاح على الطرافي بازدحامه، وأخذ أولاد إبراهيم وخوض الإمامة، فلما تحققنا بهذا العبث، وخشينا الهلاك في اللبث، فافترقت رفقتي قبل النفث، فمنهم من قصد المنقار الفوقاني، ومنهم من وعد المنقار التحتاني، ومنهم من توجه لأبي سمغون، ومنهم من بقي في العقلة (1) متأملا فيما يكون، فالتفت لما سمعت هذه البلية، ودخلت لبلاد المشرية، فانخزنت فيها كما يتخزن المخوف

) (2). ونفهم من هذا أن الجباري قد عاصر ثورة بوعمامة وأنه كان ضدها، ولكنه أجرى الحديث على لسان الرواة حتى لا يعلن عن موقفه الصريح. والمقامة من هذه الناحية تضمنت فائدة تاريخية هامة، بالإضافة إلى فائدتها اللغوية والأدبية.

أما المقامات الأخرى فنقتصر منها على العناوين، وهي أيضا تتضمن فوائد اجتماعية وتاريخية ذات بال:

1 -

المقامة الكرموسية (الكرموس = التين)، وتتضمن أوهام ابن عيسى العوالي وطمعه وخلاف وعوده، ومدح التين بالشعر.

2 -

المقامة الدوايرية (جمع دائرة، والدوائر عرش كبير معروف) وهي تتحدت عن رحلة ابن عيسى والدواير السبع وتذكره وتأسفه وفرحه وحزنه.

3 -

المقامة التمتامية، في خبر ابن عيسى وابنه الجالس في حجره والخوف عليه من الموت وهو حي وفتنته مع جماعة.

4 -

المقامة الزهوانية في سفرة ابن عيسى لوهران ومغامراته الغرامية

(1) المنقار (الموقار) وأبو سمغون والعقلة والمشرية وغيرها هي أسماء أماكن صحراوية جرت فيها ثورة بوعمامة سنة 1881.

(2)

المجلة الآسيوية، مرجع سابق، ص 297.

ص: 154

ونظمه للشعر في وصف الحسن والجمال.

5 -

المقامة الوعدانية (الوعدة = النذر) في أخبار ابن عيسى بوعدة الزمالة وصحبته للجمالة وتفسيره الأحاجي.

6 -

المقامة الإخياطية، في ألفاظ ونكت خرجت، كما قال، من بطن ابن عيسى، وجوابه عن مكتوب المحبة.

7 -

المقامة المعسكرية في تأملات ابن عيسى ودخوله حالة الحال الصوفي واستدارة حلقة الدراويش عليه وهو مغشى.

8 -

المقامة العروسية في خبر ابن عيسى أنه كتب لأحد الطلبة رسالة بالواوية في شأن ابنة متعرض، أي الرجل المربوط في حالة تعرسه.

9 -

المقامة الندرومية وفيها يخبر ابن عيسى أنه باع النقط (؟) في سوق ندرومة وما حدث له في تلمسان مع الشرطي.

10 -

المقامة الكرصية الميدانية في خبر ابن عيسى بوهران وشأن رجل مات مصهودا في الحمام ومن الزهد في الميدان.

11 -

المقامة الفوكية (فوكة قرب العاصمة على ساحل البحر) وهي في شأن المخاصمة التي حدثت هناك حول زردة الربيع وحكم ثبوتها وما جرى فيها (1).

ورغم أن ديلفان قد قال إن مشروع المقامات كان يتضمن تسع عشرة مقامة فقد رأينا أن المؤلف نفسه تحدث في المقدمة عن اثنتى عشرة مقامة فقط. ولاحظ أن الأماكن التي روى فيها المؤلف عن ابن عيسى العوالي هي النواحي الغربية مثل وهران وندرومة ومعسكر وتلمسان والزمالة والدواير وغيرها. والمدينة الوسطية الواردة في النص هي (فوكة) التي تقع على ساحل البحر غربي العاصمة. ويبدو أن الشيخ الجباري كان قد توظف فيها قاضيا.

(1) المجلة الآسيوية، مرجع سابق، 1914، ص 373. كلمة (الكرصية) لعلها من كلمة الكروسة التي تعني العربة التي تجرها الخيل في بعض اللهجات.

ص: 155