المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يترفون عنه، وإذا ساهموا فيه فبأسماء مستعارة.   ‌ ‌الشعر الشعبي تضم هذه الفترة - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٨

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌الفصل الأولاللغة والنثر الأدبي

- ‌حالة الأدب والثقافة غداة الاحتلال

- ‌التعامل مع اللغة العربية

- ‌الدراسات البربرية

- ‌الدراسات النحوية والمعاجم

- ‌بلقاسم بن سديرة

- ‌عمر بن سعيد بوليفة

- ‌النثر الأدبي

- ‌المقالة الصحفية

- ‌الأسلوب من عاشور الخنقي إلى الإبراهيمي

- ‌الرسائل

- ‌التقاريظ

- ‌الخطابة

- ‌محمد الصالح بن مهنة وكتابه

- ‌خطب أبي يعلى الزواوي

- ‌الروايات والقصص والمسرحيات

- ‌ المقامات

- ‌أدب العرائض والنداءات والنصائح

- ‌مؤلفات وشروح أدبية والتحقيق

- ‌محمد بن أبي شنب

- ‌الأدب باللغة الفرنسية

- ‌الفصل الثانيالشعر

- ‌مدخل في تطور حركة الشعر

- ‌الدواوين والمجاميع

- ‌كتاب شعراء الجزائر في العصر الحاضر

- ‌الشعر الديني

- ‌الشعر السياسي

- ‌الشعر الإسلامي والإصلاحي

- ‌شعر المدح

- ‌شعر الرثاء

- ‌الشعر الإخواني

- ‌الشعر الذاتي

- ‌مبارك جلواح

- ‌الشعر التمثيلي والأناشيد

- ‌شعر الفخر والهجاء وغيرهما

- ‌الشعر الشعبي

- ‌ثورات وشعراء

- ‌في الشكوى وذم الزمان

- ‌أغراض أخرى للشعر الشعبي

- ‌الفصل الثالثالفنون

- ‌الفنون التقليدية - الشعبية

- ‌الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين

- ‌فيلا عبد اللطيف

- ‌معارض الفنون الإسلامية

- ‌الآثار الدينية

- ‌القصور والمباني الحضرية

- ‌المتاحف

- ‌الرسام ناصر الدين (إيتيان) ديني

- ‌النقش والرسم والخطاطة

- ‌مؤلفات في الخط

- ‌عمر راسم وأخوه محمد وآخرون

- ‌مؤلفات وآراء حول المسرح ورواد التمثيل

- ‌آراء ومؤلفات في الموسيقى

- ‌تطورات أخرى في مجال الموسيقى والغناء

- ‌ محمد ايقربوشن

- ‌المحتوى

الفصل: يترفون عنه، وإذا ساهموا فيه فبأسماء مستعارة.   ‌ ‌الشعر الشعبي تضم هذه الفترة

يترفون عنه، وإذا ساهموا فيه فبأسماء مستعارة.

‌الشعر الشعبي

تضم هذه الفترة الشعر الشعبي العربي والبربري. وهو كالشعر الفصيح، تناول أغراضا عديدة، ولكنه تناول بالخصوص المدائح النبوية والتوسلات ومدح الفرسان والأبطال، والشكوى من الزمان وأهله أي من الظلم والحرمان، والسياسة ولكن بطريقة ساخرة أحيانا. وفيه يجد الباحث ألوانا من وصف الطبيعة والحب والحكمة والمغامرات والصيد، والمدح والفخر. وقد شاركت كل جهات الوطن في هذا اللون من التعبير. وكان الشعر البدوي صافيا من تأثير الثقافة الفرنسية، ولكن شعر المدن قد تأثر بها، ويظهر ذلك في كثرة الكلمات الأجنبية المعربة.

ولا يعني وجود تلك الأغراض كلها في الشعر الشعبي أننا سنتناولها جميعا هنا. فنحن سنكتفي بوضع التصنيف التالي لهذه الفقرة. سنشير إلى بعض الدراسات التي درست الشعر الشعبي وأغراضه ولغته وتأثيره وصلته بالحياة العامة. ثم نتناول المجامع الشعرية سواء ظهرت في شكل دواوين أو في شكل نماذج في المجلات، كما أننا سنتتبع ردود فعل الشعراء الشعبيين عن الأحداث التي جرت في البلاد مثل الثورات والتشريعات والزيارات وكيف وصفوها. ومن خلالها سنتعرف على بعض هؤلاء الشعراء وأبطالهم من الفرسان المنتصرين أو المنهزمين.

وقبل أن يدرس الجزائريون الشعر الشعبي اهتم به العلماء الفرنسيون منذ الاحتلال لأنه في نظرهم يعبر عن حقيقة الروح الجزائرية المقاومة لاحتلالهم. وقد حاربت السلطة الفرنسية المداحين أو القوالين، وراقبت نشاطهم لأنهم كانوا نقلة هذا الشعر ومروجيه، وكان معظمهم من الشعراء المرتجلين، وأخذ بعض الضباط المستعربين يحللون نصوص الشعر الشعبي الصوفي لغموضه عندهم ولاحتوائه على رموز وتلميحات تاريخية وسياسية

ص: 307

معادية للفرنسيين. فالعناية بالشعر الشعبي في القرن الماضي كانت لأغراض سياسية في أغلب الأحوال. ثم أخذ المستشرقون يدرسون هذا الشعر باعتباره مصدرا اجتماعيا ولغويا وإثنيا. ومن الذين برزوا في ذلك رينيه باصيه وتلميذاه الإسكندر جولي وجوزيف ديبارمي. ومن تلاميذه الجزائريين محمد بن شنب الذي نشر وترجم بعض شعر محمد بن إسماعيل عن حرب القرم وأشعارا أخرى لابن مسايب وغيره. ثم جاء محمد صوالح فنشر شعرا لمصطفى ثابتي عن وضع الجنود الجزائريين في الحرب العالمية الأولى عندما جندوا ونقلوا إلى أوروبا. ومن جهة أخرى كان لويس رين ودومينيك لوسياني قد اهتما بالشعر الزواوي الذي قيل في ثورة 1871، وقد نشر كل منهما نماذج من ذلك، بعضه لإسماعيل ازيكيو، وبعضه لمحمد بن محمد (محند أو محند)، وبعضه لمجهولين (1).

ولقد اهتم جولي بالشعر الشعبي في الجنوب: مناطق الحضنة والأغواط وتيارت وبسكرة وعين الصفراء. وكان قد حصل على منحة لجمع ودراسة هذا الشعر. وقد استعان على ذلك ببعض الجزائريين، مثل غيره، فكان القاضي عبد الرزاق الأشرف من المساعدين له في جمع المادة وتحليلها لغويا وفهم معاني الشاعر. أما جولي فكان له حظ الترجمة والتصنيف والتعليق. وكذلك استعان لوسياني في ترجمته لنماذج الشعر الزواوي بالشيخ محمد السعيد بن زكرى. وأما ديبارمي فقد (تخصص) في الأدب الشعبي عموما، ومنه الشعر، في منطقة متيجة، بما في ذلك البليدة والمدية وأوطان الحجوط والخشنة والقليعة وبودواو ويسر. وقد ترجم قصصا وأشعارا كثيرة حصل عليها من بعض (الطلبة) والفلاحين المتصلين بالأوروبيين في المنطقة. وكان ديبارمي يحسن قراءة أفكار الشعراء إلى درجة المبالغة أحيانا. فكان يستخرج منهم المعاني الظاهرة والباطنة في نظره ويربط ذلك بالوقائع والواقع.

(1) عما نشره رين (وهو ضابط) انظر كتابه (انتفاضة 1871).

أما ما نشره لوسيانى فتجده فى المجلة الإفريقية، 1899. انظر لاحقا. وكان لوسيانى مسؤولا عن إدارة الشؤون الأهلية.

ص: 308

وقام سعد الدين بن شنب أوائل الخمسينات بدراسة للأدب الشعبي، ولكنه كاد يقصر اهتمامه على الشعر. وقد نجح في رصد أغراض هذا الشعر وتناول حياة بعض الشعراء. ورأى أن الموضوع الخالد في هذا الشعر هو الحب، ولكن الشعراء تناولوا أيضا الدين والتوسلات بالرسول صلى الله عليه وسلم والأولياء، والفروسية والصيد والبطولات والتغني بالطبيعة وجمال الريف، إلى جانب النصائح والحكم والرثاء والفرح والتعاسة والشكوى من الدهر. ومن الشعراء الذين أشار إليهم، عبد الله بن قريو الأغواطي (ت. 1921) الذي تغنى بامرأة أحبها، وكانت الأخلاق الاجتماعية لا تسمح بإعلان ذلك. فاكتفى بالتغني بالجمال والشكوى قائلا:(أشكو إليك يا قاضي الحب). ومنهم محمد العنقاء (و. 1907) الذي تغنى أيضا بالحب وزمز للمحبوبة بالحمام الذي طار من يديه. وكان عبد الرحمن الأعلى من هؤلاء الشعراء الذين تناولوا الجانب الاجتماعي ووصفوا شقاء الناس ونادوا بفعل الخير والإحسان. وأما رابح بن الطاهر (1) الصحراوي فقد امتلأ قلبه بحب الطبيعة وابتهج بالجمال في الصحراء ولكنه أيضا تناول مواضيع الحزن والغربة، وصور مشاعر شاب اغترب عن أمه في فرنسا ومأساة البطالة وطلب العمل في البلد الأجنبي.

وبالإضافة إلى هؤلاء الشعراء ذكر سعد الدين بن شنب، سيدي ابن عمر الذي تميز بالشعر الديني ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، والحنين إلى مكة والمدينة والرغبة في العيش في أرض الإسلام. وهو الشعر الذي يحبه الرأي العام ولا سيما في المناسبات الدينية. وكان عبد الرحمن عزيز قد تولى غناء هذا النوع من الشعر. وأدى الشاعر عيسى بن علال الشملالي فريضة الحج وركب البحر فصور هذه التجربة الفريدة عنده، وهي الحج والبحر. وامتاز الشاعر محمد عبابسة (ت. 1953) بشعر الحكمة والمثل، وتقديم المواعظ والنصائح الفلسفية. وكانت قصائده يتغنى بها المنشدون. وأثناء الأحداث الكبيرة

(1) كذا مكتوب، ولعل له صلة بالشاعر محمد بن الطاهر المازوزني البوزيدي الذي ذكره الشاعر عاشور الخنقي في ديوانه (منار الإشراف) 1914، ودارت بينهما مراسلة سنة 1896.

ص: 309

يسارع الشعراء الشعبيون إلى تصوير الحدث ومشاركة المجتمع والارتفاع إلى أسمى درجات الشعور الإنساني، كما حدث أثناء زلزال الأصنام وثورة نوفمبر. وقد ذكر ابن شنب أن هناك حوالي مائة شاعر شعبي (1).

ولنذكر الآن بعض الدواوين والمجامع في الشعر الشعبي، وهو الذي يسميه البعض بالزجل والملحون، ويسميه بعض المشارقة بالشعر النبطي.

1 -

كنوز الأنهار والبحور في ديوان السر والنور: وهو (ديوان قدور بن أحمد بن قدور بن عاشور الندرومي). ظهر منه الجزء الأول في وجدة على أنه سيتبع بأجزاء أخرى. والشاعر من مواليد ندرومة. وكانت سنة ميلاده 1280 هـ (1863) تقريبا. وقيل إن للمؤلف ترجمة في الكتاب، وإنه هو حفيد قدور بن عاشور الذي كان خليفة لباي وهران (مخزن؟) في ناحية ندرومة. وكان الشاعر قد حفظ القرآن الكريم ثم تركه إلى الموسيقى حتى بلغ فيها درجة عالية. ثم أصبح من خدمة بعض الصالحين، كأحمد البجائي الذي تعلم منه نظم الشعر، ومصطفى بن عمرو الذي أدخله في رحاب التصوف، وقيل إن قدور غرق في عالم التصوف بعد وفاة شيخه المذكور حتى (أدرك الغوثانية العظمى (؟)) (2).

2 -

الكنز المكنون في الشعر الملحون: تأليف محمد قاضي. وهو مجموع ظهر سنة 1928. وقد ضم أشعارا شعبية قديمة وحديثة، في الحكمة والمواعظ والوصف والتوسل. فمن القديم قصيدة ابن مسايب التلمساني في التأسف على أحوال تلمسان (ت. 1766) وقد استعمل البعض شعره ضد الفرنسيين أيضا. وهناك شعر يمجد أشراف غريس كتبه السيد عدة التحلايتي.

(1) سعد الدين بن شنب (الأدب الشعبي) في (مدخل إلى الجزائر)، 1955، ص 301 - 308.

(2)

من علي أمقران السحنوني. وقد ذكر أن الديوان المذكور يضم صورة للشاعر، وأن الطبع كان في وجدة، دون تاريخ، ويضم 114 صفحة.

ص: 310

وطالما ألف المؤلفون حول أشراف غريس، ولكن دخول الشعر الشعبي هذا الميدان أمر يلفت النظر. وقد اتخذ الشعراء مسألة الأشراف حجة للبكاء على الماضي وضياع المدن وضعف الدين وتدخل الفرنسيين في الحياة الخاصة للمسلمين كفرض الضرائب، ويسمونها (المغارم). والغرايم. والشعراء يوجهون خطابهم (للمسلمين)، كما نقول اليوم (أيها الشعب). وهذا الشيخ ابن عثمان يتأسف على أن الأوضاع قد انقلبت مع الاحتلال الفرنسي فتقدم الوضيع على الشريف، وامتاز النحاس على الذهب، معتبرا ذلك من عجائب الزمان. وقد ذهب ديبارمي الذي راجع (الكنز المكنون) عند ظهوره إلى أن هذه الأفكار موجودة عند أهل الزوايا الذين يكنون بغضا شديدا للفرنسيين ويستعملون التقية ضدهم.

والظاهر أنه لا صلة بين مؤلف الكنز المكنون والعقيد الذي حمل الهدية الفرنسية إلى الشريف حسين بالحجاز سنة 1916، رغم أنهما متعاصران. وكلاهما يلقب (قاضي)(1)، وقد نوه محمد قاضي في الكنز بمكانة العرب في الشعر قاتلا إنه عندهم سجية، سواء منهم المتعلم والأمي، والعرب هم الشعب الوحيد الذي ينظم مبادئ العلوم شعرا، رجزا وغيره، كنظم المتون النحوية والفقهية والطبية، ونحوها. لأن النظم عندهم سليقة. وافتخر المؤلف بالآباء والأجداد في هذا المجال، ولمح إلى أن الفرنسيين قد حاربوا اللغة الفصحى التي هي الأصل في النظم، ولكن الجزائريين لم يتوقفوا عن النظم فقالوا الشعر الملحون غير المتقيد بالقواعد النحوية والعروضية. ونصح باتباع السلف في ذلك، وشكر الله الذي (أكرم وطن إفريقية بشعراء عظام من فحول العرب (الذين) تركوا لنا كلاما نفيسا يجد القارئ فيه الفصاحة والبلاغة والحكمة).

وكان دافعه على التأليف هو الخشية من ضياع الشعر الملحون وتلاشيه من الجزائر. لأن الجيل الجديد غير مهتم به ولأن الشعر نفسه قد أصابه

(1) عن العقيد قاضي انظر فصل المشارق والمغارب وفصل التاريخ والرحلات.

ص: 311

الإهمال، فأصبح مجهولا عند الكثير من الناس. وهكذا فإن جمعه للقصائد وتقديمها للطبع كان بدافع الرغبة في حفظها وانتفاع الجزائريين (المسلمين) بها، والتذكير بالأسلاف الأطهار، والإطلاع على أعمالهم وعصرهم وإنجازاتهم، فلعل الجيل الجديد على التشبه بهم. وهكذا فإن رسالة محمد قاضي تبدو (وطنية)، فهو يخاطب المعاصرين الذين ابتعدوا عن أسلافهم ويدعوهم إلى الرجوع إلى مآثرهم عن طريق الشعر الملحون، وهو الوسيلة الوحيدة الباقية من تراثهم الأدبي.

ولكن محمد قاضي أخذ يحث الناس أيضا على الصبر على الشدائد والمحن، وعدم العجلة التي فيها الندامة، ووجوب طاعة الرؤساء وذوي السلطان (وهم الفرنسيون) امتثالا، لقول العرب (إدفع حق السلطنة وارقد بالباب) وقولهم:(جانب السلطان واحذر بطشه). ونصح الناس باتباع سياسة اللين حتى مع العدو (كيف يسوس العدو حتى يرجعه حبيبا، ويتلاطف مع الحبيب ويغفر له عثراته

) ثم أضاف: (ومن كان بقرية أجنبية فلا يتداخل في أمور أهلها ولا يجعل منهم عدوا، ويعرف مقامه مقام الأجنبي، ولو بلغ ما بلغ). وعاتب من كان ينظر إلى الأجنبي على أنه لا فائدة منه، ذلك أن المؤلف يرى أن في الأجنبي فوائد عظيمة. ومن غريب قوله إن (الأرض (الجزائر؟) ليست هي لمخلوق

وإذا نظرنا المسألة على الوجه الشرعي فنجدها للدولة الفرنساوية من حيث أخذتها عنوة، كما كانت لأسلافنا في السابق). وإذا كان الإنسان ضعيفا، فعليه في نظر المؤلف، أن لا يعاند القوي ولو ظلمه (1)!.

إن محمد قاضي قد استعمل لغة الرموز في معالجة الوضع بالجزائر سنة 1928، وهي فترة الاستعداد للاحتفال المئوي بالاحتلال، وبداية الصحوة الوطنية. ولعله تأثر بالشعر الملحون نفسه، لأن الشعراء قالوه بطريقة رمزية

(1) محمد قاضي (الكنز المكنون في الشعر الملحون)، ط. الثعالبية، الجزائر، 1928. وجاء في الغلاف أن المؤلف كان المحامي الشرعي بتيارت.

ص: 312

أيضا في ظروف كانت عادة صعبة، وهو الأمر الذي جعل ديبارمي يحكم بأن رجال التصوف وشعراء الملحون كانوا يستعملون التقية.

والشعراء الشعبيون اعتبروا التجنس بالجنسية الفرنسية خروجا عن الدين الإسلامي، ووصموا المتجنسين بلقب (المطورنين) أي المرتدين. ورثى الشعراء حالة الجزائر في العهد الفرنسي وتأسفوا من التأثير الفرنسي في الحياة الاجتماعية. ومن هؤلاء الشاعر قدور بن خليفة الذي قيل إنه كان من جنود الأمير عبد القادر، وكان أميا، ولكنه تمتع بموهبة شعرية جعلت شعره يخلد بين 1867 و 1910. وكان شعره يتناول الجوانب الاجتماعية التي ذكرناها ومدى التأثير المعنوي الفرنسي. وقال ديبارمي إن تأثير شعره بقي قويا إلى سنة 1910، إذ وجد من شعره نسخة في البليدة أوائل هذا القرن. ويرى ديبارمي أن التأسف على الماضي عند الشعراء يوحي لهم بالتحرر مستقبلا ويشجعهم على ذلك. ومن شعراء الأمير أيضا، الطاهر بن حواء، وله شعر في كتاب الكنز المكنون، ولكننا سنذكره أيضا عند حديثنا على من ناصر ومن عارض الأمير من الشعراء. وكان رثاء الجزائر من الموضوعات الشائعة لدى شعراء القرن الماضي، ومنهم ابن البقال (السقال؟) التلمساني، الذي ذاع شعره، حسب ديبارمي، في مختلف أنحاء البلاد، وقد جمع منه ديبارمي مجموعة سنة 1917 بالبليدة (1).

3 -

قراءات مختارة لتعليم العربية الدارجة (2): جمعها عبد الرحمن (؟) الذي كان أستاذا بثانوية (ليسيه) وهران. وقد ذكر كور أن المجموعة قد ضمت جزءا من قصيدة قدور بن محمد البرجي المعروف بو نقاب، وكان قد

(1) جوزيف ديبارمي (ردود الفعل الوطنية في الجزائر) في (المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية) SGAAN، 1933، ص 35 - 54. وعن محمد قاضي نعرف أنه كان سنة 1918 كاتبا بالمكتب العربي بوجدة (المغرب)، انظر كور (الشعر الشعبي السياسي في عهد الأمير) في (المجلة الإفريقية)، 1918، ص 486، ثم أصبح محاميا شرعيا في تيهرت (تيارت) سنة 1928.

(2)

ط. جوردان، 1906.

ص: 313

هجا بها الأمير ثم طلب العفو منه. وهي القصيدة التي نشرها كور كاملة، بعد ذلك، كما سنرى.

4 -

الشعر الشعبي السياسي في عهد الأمير عبد القادر: مجموعة نشرها أوغست كور سنة 1918. وقد اشتملت على قصائد قدور البرجي (بونقاب) سابق الذكر والطاهر بن حوا الذي ناصر الأمير. وذكر كور أنه جمع قصائد بونقاب من تلاميذه الجزائريين، أثناء وجوده في مدرسة تلمسان سنة 1912. وقد استعان أيضا بالعلماء والطلبة لترجمة النصوص والحصول على المعلومات، منهم سي محمد الستوتي الذي كان حارسا لملجإ العجزة بتلمسان، وسي محمد قاضي الذي كان كاتبا بالمكتب العربي بوجدة، والذي أصدر فيما بعد كتاب (الكنز المكنون)، ثم سي البها الحاج رحو المجاجي.

ونعني بالشعر السياسي ذلك النوع الذي وقف من الأمير موقفا مؤيدا أو معارضا. وكان التأييد على أساس ديني وعائلي وقبلي ووطني، وكذلك كانت المعارضة، غير أن المعارضين، بمن فيهم الشعراء، كانوا معتزين بالانتماء القبلي والرفعة الاجتماعية، لأنهم غالبا ما كانوا من الأجواد المخازنية أصحاب السيف والبارود والجاه والسلطان، ولم يألفوا حكم رجل الدين والطرق الصوفية كما كان عليه حال الأمير. فكان قادة الأجواد قد رفضوا الأمير على أنه ابن شيخ زاوية وليس من المحاربين المخازنية، وكان وراء المعارضين رجال مشهورون أمثال سيدي لعريبي البرجي، والغماري، زعيم قبيلة أنجاد، ومصطفى بن إسماعيل، زعيم الدوائر والزمالة. وكانت سمعة سيدي العريبي تشمل المنطقة بين الشلف ومستغانم. ولكن الأمير حارب سيدي لعريبي والبرجية 1843، ومصطفى بن إسماعيل، لأن الدوائر والزمالة وقعوا اتفاقا خاصا مع الفرنسيين ضده سنة 1835.

وكان الشاعر قدور بن محمد البرجي (بونقاب) قائدا، على البرجية فعزله الأمير لأنه ساند سيدي لعريبي ضده. وكانت موهبته الشعرية عظيمة. فأخذ يهجو الأمير ويعلن خصومته، فسخر من الأصل الاجتماعي للأمير ومن عائلته

ص: 314

وكونه ابن زاوية وحضريا وتساءل: هل رأيتم أبدا سلطانا خرج من زاوية؟ وهل رأيتم أبدا حضريا أصبح قائدا للعرب؟. وقد كان الشاعر بونقاب يعتقد أن المسألة اجتماعية. وكان خصمه السياسي في القيادة هو الحبيب بوعالم.

وقد أرادت الدوائر والزمالة ذات يوم أن تجعل من الشاعر قدور بونقاب لسان حالها كما كان ابن السويكت شاعر الامحال في الماضي. وكان الاعتقاد القبلي لا ينظر إلى الفرنسيين على أنهم هم الأعداء للجميع، وإنما ينظر إلى النزاع نظرة اجتماعية وسلطة دنيوية. فكأن القبائل عندئذ كانت في عهد الجاهلية، فكانت كل قبيلة تبحث عن شاعر ينافح عنها وتتغنى به. وهكذا دعت قبيلة الدوائر الشاعر قدور البرجي إلى مأدبة وحاولوا ضمه إليهم. وبعد تناول الطعام قالوا له إنهم جميعا أقسموا على أن تكون أنت بمثابة ابن السويكت لنا، فتنظم الشعر باسمنا. فاعتذر إليهم في البداية. وفسر كور ذلك الاعتذار بأنه قد يكون راجعا إلى كون الدوائر قد تحالفوا مع الفرنسيين (النصارى) أو لأن الشاعر كان خائفا من عقاب الأمير. ولذلك سجنه الأمير فترة لموقفه المعادي له، ثم تدخل أصدقاء الشاعر لصالحه فأطلق الأمير سراحه، ولكنه أبقى عائلته تحت المراقبة. ثم تدخل الشاعر نفسه وأصدقاؤه من جديد لكي يسرح الأمير العائلة فأبى. وأثناء ذلك نظم قدور البرجي قصيدته المشهورة:

عييت صابر ونراعي فيك الانتصال

يا قريب الضحكة وبعيد في رضاك

ما سمعت ولا شفت القصى كقصاك

وفي هذه القصيدة كرر للأمير طلب العفو عنه وإطلاق سراح أهله. وقد انتشر شعر قدور في عهد الأمير، وكان يخشى على نفسه فهرب واختفى. وقد قيل إنه استسلم للأمير، رغم أن كور ينفي ذلك، ربما عن رواية كبار الناحية. وظل الشاعر على حاله إلى أن أدركه التعب والكبر والموت. ولكن شعره ظل محفوظا في نواحي وهران، كما يقول كور. أما الشاعر الرسمى للأمير فهو الطاهر بن حوا. وقد كان الأمير شاعرا

ص: 315

وفارسا، وكان يقدر الشعر ويعرف قيمته الدينية والإعلامية (الدعوة). وكان الأمير يعرف ما كان للشعر من دور في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، ويذكر قصيدة (بانت سعاد) ودور حسان بن ثابت في الدفاع عن الإسلام ورسوله. ولذلك قرب الأمير منه الطاهر بن حوا وأغراه بخدمة جهاده كما خدم حسان وعبد الله بن رواحة الدعوة الإسلامية. وقد تصدى ابن حوا لخصوم الأمير، ولم يكن شاعر قبيلة وإنما كان شاعر جهاد وأمير وفكرة. ومن شعره الذي مدح فيه الأمير ودعا له بالنصر على أعدائه، قوله:

يا من درى شي من يوم سلطاني مبارك

ممزوج بالمسرات والرضا مبروك

بلى تجد واللي تريد يجمع شملك

ويدير ليك مولاك في المضيق سلوك (1)

وحوالي مدار هذا القرن جمع الإسكندر جولي مجموعة من الشعر الشعبي وسماها (ملاحظات على الشعر العصري عند البدو الجزائريين). وكان جولي قد رافق بعثة (فلامان) نحو الجنوب سنة 9 189. فجمع أشعارا عديدة أثناء رحلته إلى عين صالح. وقد حضر بعض السهرات، ونقل من أفواه الكبار. ثم رتب ذلك الشعر وصنفه. وفي نظره أن شعر الجنوب البدوي يختلف عن الشعر الحضري في الشمال من عدة وجوه.

وقام الإسكندر جولي بدراسة فنية ونوعية أيضا للشعر الشعبي في الجنوب. وذكر منه هذه الأنواع: الزغوية، والنم (بكسر النون)، والمدح، والقول (بضم القاف المعقودة)، والهجوة، والقطاعة (بشد الطاء) وهي أغنية الطريق أو الحداء، والعيدي وهو شعر الحرب والأعراش، والغناء وهو الشعر المرفوق بصوت آلة الطرب. وقال جولي إن هذا النوع الأخير نادر عند البدو ولكنه شائع عند أهل الحضر. وعرف (القول) بأنه شعر قصير ينشد بتنغيم موقع وهو ليس غناء حقيقيا. أما الهجوة فهي الهجاء المعروف في الشعر الثري.

(1) كور (الشعر السياسي الشعبي في زمن الأمير عبد القادر) في (المجلة الإفريقية)، 1918، ص 458 - 493.

ص: 316

ومن شعر (القول) جاء جولي بنموذج لسي ابن حرز الله، وهو من الحرازلة، وهم قبيلة كبيرة من الأرباع، قرب الأغواط. وهو شعر بسيط وطبيعي يتماشى مع ما فرضته الطبيعة والمناخ الصحراوي. وهو يمثل الذوق العربي البدوي. أما (النم) فهو المناجاة أو حديث النفس والغنائي الذاتي بصوت منخفض كشعر الحب. وجاء جولي بنموذج منه لبوزيان،. وهو شاعر من أولاد يعقوب الزرارة بجبل عمور، وهم فرقة من أولاد فاطمة. كما أورد نموذجا من شعر (القطاعة)، وهو نوع من الزغوية أو غناء الطريق - الحداء -، وهو شعر يرتجله الشعراء في الغالب للتغلب على طول الطريق. أما الموضوع فهو دائما قصة عن الرحلة التي ترد فيها أسماء الأماكن. وقد أورد جولي نموذجا للقطاعة من شعر سي بوزيد بلحاج بلقاسم، وهو من قصر سيدي بوزيد عند جبل عمور أيضا (1).

وفي وقت لاحق جمع جولي أيضا قصائد من نفس المنطقة لشعراء آخرين. ففي حوالي 1900 جمع من فم باعفو بن سليمان شعرا من 14 بيتا لشاعر مجهول. ومكان جمعها هو الوادي الأحمر قرب حاسي المطقوين، جنوب الأغواط. وابن سليمان كان من الشعانبة القبالة، ويفهم من النص أن الشاعر نفسه من ناحية ورقلة والصحراء الشرقية، ذلك أنه يرد في شعره رحيل البطلة إلى توزر، وهو الرحيل الذي أثار أشواق الشاعر. وتبدأ القصيدة هكذا:

أملاح الناس اللي بي

ساكنين السد الوعر

طاعنين الأوطان القبلية

ناس فاطنة زهو الخاطر

نفضت دماغي الزيدية

حبها على قلبي جوار (2)

(1) الإسكندر جولي (ملاحظات على الشعر العصري عند البدو الجزائريين) في (المجلة الإفريقية)، في حلقات، الأولى سنة 1900، ص 283 - 311.

(2)

أ. جولي (ملاحظات

)، مرجع سابق 1903، ص 171 - 178. وفيه النص والترجمة الفرنسية والتعليق. وفاطنة هي فاطمة في بعض اللهجات.

ص: 317

ومن نواحي طاقين قدم المغني صفراني قصيدة طويلة وشهيرة جدا في وقتها في الجنوب الغربي. أما ناظمها فهو دحمان بن معاوز، أصله من ستيتن، جنوب وهران. غير أن هناك من قال إنها من نظم وليد محمد، من معسكر. ورأى جولي أن للقصيدة عدة صيغ مما يدل على أنها قد تكون منحدرة من أصل واحد قديم ولكنه ضاع. ولم ينته هو (جولي) إلى رأي أخير في ذلك. وبداية هذه القصيدة:

يا مرقوم الريش اسعاني

حشمتك اد عنواني

خفق بجناحين (1)

ونظل في شعر الجنوب لنقول إن المجلة الإفريقية قد نشرت ثلاث قصائد للشاعر الأغواطي عبد الله بن كريو (قريو) مع ترجمة فرنسية وتعاليق. ورغم أن اسم المترجم غير مذكور فإنه من المرجح أن يكون هو نفسه الاسكندر جولي الذي سبق ذكره والذي اهتم، كما أشرنا، بهذا اللون من الشعر. وفي هذا الشعر يذكر الشاعر عددا من الأولياء والصالحين أمثال الحاج عيسى الأغواطي، وأحمد التجاني، وأحمد بن يوسف الملياني. ومحمد بن عودة الغيليزاني، ومحمد البركاني (المدية - شرشال)، ثم عبد القادر الجيلاني. وبداية القصيدة الأولى هي:

لا تقنط يا خاطري سعف الأقدار

تماهل لمصايب الدهر الفاني

وبداية الثانية:

يا لايم في محنتي ما فاد اللوم

ما دركك شي ذا العزام ومشعاله

وأما الثالثة فبدايتها:

(1) نفس المصدر، ص 178 - 194. وفي 1909 نشر جولي أيضا في (المجلة الإفريقية) (سجل الأغاني لمدينة الجزائر ونواحيها). وجاء بنماذج من الشعر الغنائي الأندلسي مطبقا على أنغام العاصمة مثل انقلاب صيكة، ومصدر مجنبة، وبطيح رصد، وانصراف حسين، ودرج حسين، وصياح. وذكر جولي اسمي المغنيتين عندئذ وهما عائشة ويامنة.

ص: 318

قمر الليل خوالفي تتونس بيه

نلقى فيه أوصاف يرضاهم بالي (1)

وهناك شعر يعزى إلى الحاج عيسى الأغواطي، وهو، حسب التقاليد الشعبية، من الصالحين والأشراف، ومتوفى قبل الاحتلال. ولكن تأثيره ظل قويا بعده. وهذا الشعر عبارة عن قصيدة في الصيد بالصقر. والنص بالعربية والترجمة الفرنسية بدون تعاليق، وقد نشره المترجم القضائي في قصر البخاري عندئذ (1908)، السيد سيدون. ويبدأ النص هكذا:

نحوا مهامزي وتماقي عيانا

واليوم يوم تعبة يا بو كلتوم

صبحوا مراكزي بسبوعة نيانا

يتخازروا براني بصدور نجوم (2)

وقد اشتهر محمد بن قيطون البوزيدي بنظم الشعر أيضا. وما تزال قصيدته (حيزية) شائعة إلى اليوم، وهي مأساة إنسانية قبل أن تكون قصة حب عذري. ولا بد أن تكون هناك ترجمة وافية لابن قيطون، ولم نطلع عليها. وممن ذكره وعاصره وراسله الشيخ عاشور الخنقي. فقد ذكر سنة 1896 أنه تلقى منه قصيدة (أو أرجوزة) مدحه فيها على انتصاره للأشراف. ولم يذكر عاشور هذه القصيدة، لنعرف هل هي فصيحة أو زجلية. وقد وجدنا في أحد المصادر أن محمد بن قيطون نظم قصيدة (حيزية) سنة 1295 هـ (1878) وهو تاريخ مذكور في آخر القصيدة نفسها. وسواء كان ابن قيطون هو البطل أو هو فقط الشاعر الذي أحسن تمثيل القصة (وهذا هو الراجح)، فإنه قد نجح غاية النجاح في تصوير العاطفة التي طبعت علاقات البطل سعيد بالبطلة حيزية. وقد ترجمت القصيدة إلى الفرنسية ثم إلى الإنكليزية ونشرت في طبعة ثانية سنة 1901 (3). ومطلعها:

(1) مجهول (المجلة الإفريقية)، 19، ص 285 - 307 مع النصوص والترجمة.

(2)

سيدون (أنشودة معزوة إلى الحاج عيسى الأغواطي) في (المجلة الإفريقية)، 1908، ص 272 - 294. والقصيدة في نحو عشرين بيتا.

(3)

نشرت بالإنكليزة ضمن مجموعة الأدب المغاربي The Moorish literature ترجمة سونيك وآخر، ط. جديدة، نيويورك، 1901، ص 187 - 194.

ص: 319

عزوني يا ملاح

في زينة البنات (1)

5 -

مجموعة الأشعار التارقية: وكان قد جمعها وترجمها الراهب شارل دي فوكو. وكان هذا قد أقام طويلا في الصحراء باحثا ومتجسسا ودارسا للأدب واللغة في الهقار، وبين توارق الشمال. وكان قد خدم في الجيش الفرنسي طويلا وتجول في المشرق العربي والإسلامي، ودخل جمعيات سرية عديدة. ومن أصدقائه المعروفين المارشال ليوتي، الذي احتل المغرب، وكان دي فوكو رفيقا له هناك أيضا. ثم استقر حوالي عشر سنوات في كهف بجبل الهقار حيث كان يترهب ويرصد حركة المرور ويجمع المعلومات للإدارة الفرنسية، إلى أن اغتيل سنة 1916 على يد ثوار الناحية. ويتهم الفرنسيون أنصار الطريقة السنوسية بتدبير اغتياله.

جمع دي فوكو إذن الأشعار التارقية من الأفواه لأن التوارق لا يكتبون أشعارهم وإنما يحفظونها حفظا شأن قدماء العرب. وكانوا يرتجلون الشعر في الأسفار والأسمار شأن العرب أيضا. فهم شعراء بالطبيعة. ولهم شعر غزير في الحب والمغامرات والفروسية. والرجال حسب قول الدارسين أشعر من النساء عندهم. وشعرهم يغني وينشد في المناسبات وفي الطريق وفي الخلوات. وبعد اغتيال دي فوكو عثر الفرنسيون على المخطوط الذي كان يسجل فيه الأشعار التارقية، وقيل إنهم وجدوه بعد يومين من الحادث، ولم يصبه التلف. ورأوا أن أفضل من يعهدون إليه بالإشراف على المخطوط هو المستشرق رينيه باصيه، الذي سبق له دراسة لغة التمشق وخطوطها ولهجات التوارق. فكلف باصيه ابنه هنري بمتابعة العمل، لكن هذا توفي في المغرب سنة 1925 (أي بعد والده رينيه بسنة واحدة)، فواصل العمل أخوه اندري باصيه، وساعدته الحكومة العامة بالجزائر على إنجاز العمل الذي تركه دي فوكو. وبناء على المقدمة التي كتبها أندري باصيه للمجموعة فإنها لا تمثل

(1) ومنذ 1862 ذكر دانيال سالفادور أنه جمع 400 أغنية في الحب والفخر والحرب، انظر ما كتبناه عن الموسيقى.

ص: 320

سوى الحد الأدنى من الأدب الشعبي التارقي الشمالي (أي توارق عين صالح ونواحيها)، وأخبر أن العمل سيتواصل بنشر مجلدات أخرى. ولا ندري إن كان العمل قد تواصل فعلا.

ونلاحظ أن المجموعة لا تضم إلا النص الفرنسي لأن دي فوكو لم يسجل الشعر التارقي إلا بهذه اللغة (الفرنسية) بدعوى أنه جمعه من الأفواه. واعتبرت النصوص الأصلية التماشقية أو العربية ضائعة، ولا تحفظها إلا الحافظة الشعبية. وقد قال الفرنسيون عن التوارق أشياء عديدة، كما فعلوا مع غيرهم، كقولهم إن إسلامهم رقيق، وأنهم جوالة (1)، ومن المعروف أن بوعلام بالسائح قد ترجم مجموعة من الأشعار التارقية إلى العربية منذ سنوات، والغالب أنه ترجمها عن الفرنسية من مجموعة دي فوكو التي نحن بصددها. وقد نشر ذلك في إحدى المجلات الوطنية (2).

6 -

مجموعة من الشعر القبائلي: جمعها ونشرها سعيد بوليفة سنة 1904. ومن ضمنها شعر لمحمد بن محمد (محند أو محند) (3). وهكذا حفظت من الضياع مجموعة من الشعر الشفوي. وقد قيل إن الشيخ محمد كان يرتجل الشعر أيضا ولا يكتبه. ولكننا نقول بغير ذلك، فقد كان رجلا متعلما بالطريقة التقليدية، فحفظ القرآن الكريم ودرس في زاوية عبد الرحمن اليلولي، ومن الأكيد أنه سجل أشعاره بالحروف العربية كما جرت عادة

(1) لوهورو (ضابط)(الأدب الشعري عند توارق الهقار) في المجلة الجغرافية للجزائر وشمال افريقية SGAAN، 1925، ص 234 - 244. وقال هذا المصدر إن هدف دي فوكو كان إعداد موسوعة (انسيكلوبيديا) تارقية وإحياء اللغة التماشقية. عن دي فوكو انظر أيضا فصل الاستشراق.

(2)

بوعلام بالسائح، مجلة الثقافة، 198.

(3)

سنة 1960 جمع مولود معمري أيضا أشعار محند أو محند ونشرها في باريس. عن بوليفة انظر فصل اللغة والنثر الأدبي. وفي سنة 1913 نشر لاييه E. LAYER في مدينة روان الفرنسية مجموعة من الشعر الشعبي القبائلي. وفي سنة 1946 نشر جان عمروش في باريس، مجموعة من الأغاني البربرية للقبائل. انظر أيضا سعاد خضر (الأدب الجزائري المعاصر)، بيروت 1967، ص 64 - 78.

ص: 321

المتعلمين في زواوة. ولا تعنينا هنا سيرته الشخصية، إذ قيل إن التعسف الذي تعرض له أهل زواوة على يد الفرنسيين منذ 1857 (والشاعر من مواليد 1845)، والتشرد الذي تعرض له قد أديا إلى انحرافه. فقد كان عمره اثني عشرة سنة عندما وقعت معركة ايشريضن واحترقت المداشر والمزارع وقتل عشرات المسبلين واعتقلت فاطمة نسومر، وفي ثورة 1871 قتل والده، وهاجر أخوه إلى تونس. فعاش الشيخ محمد حياة المأساة الذاتية والشعبية. وتعرضت زواوة بعد ذلك للغزو الفرنسي الآخر، الغزو التنصيري على يد الآباء والأخوات البيض الذين أرسلهم الكاردينال لا فيجري. ثم الغزو اللغوي إذ بدأت منذ الثمانينات تظهر المدارس الفرنسية في المنطقة. ولكن الشيخ محمد كان من جيل آخر، فوجد نفسه في آخر القرن وقد فاته الركب وأصبح شيخا من الآخرين، وقد توفي سنة 1906. وشمل شعره مختلف الموضوعات، ومنها الحب والخيانة (1).

7 -

ديوان مصطفى بن إبراهيم: وهو شاعر بني عامر، الذي عاش بين 1800 - 1867. وقد نسجت من حوله قصص كثيرة، نظرا للظرف الخاص الذي عاشه والوظائف التي تولاها، فهو لم يكن مجرد شاعر يتغنى بما يحلو له، ولكنه كان شاعرا مشاركا في الحياة العسكرية والسياسية والإدارية للبلاد. وقد وجده الاحتلال الفرنسي في ريعان شبابه، وكان قومه بنو عامر ممن ناصروا الأمير عبد القادر إلى آخر رمق. وكان الشاعر نفسه ممن حارب في صفوف الأمير، ولكنه لم يلبث أن خرج من الصف وقبل بوظيفة قايد على أولاد سليمان بإسم الفرنسيين. وبهذه الصفة كان عليه أن يصبح نصير عدوه السابق، ولو مكرها. فقد اعتقل الثائر بوسيف (محمد بن عبو) وسلمه إلى

(1) عبد القادر جغلول (عناصر ثقافية)؟، 19، ص 143 - 147. وذكر عمار إيزلي في جريدة (الوجه الآخر) سبتمبر 1994، الحلقة السادسة أن الشيخ محمد بن محمد (محند) كتب أشعاره على إثر ثورة الشيخ الحداد، واعتبر الثورة مستمرة منذ 1857. وهو صاحب المقولة (نكسر ولا نعصر). وكان متأثرا بالصوفية الذين أشاعوا أن العالم سينتهي مع القرن الرابع الهجري ..

ص: 322

الفرنسيين سنة 1848. وشارك بنفسه في قمع ثورة أولاد سيدي الشيخ سنة 1864. وفي أثناء قيادته لجأ إلى المغرب، لسبب غير واضح، قد يكون سياسيا أو ماليا أو غراميا. وكانت قبيلته نفسها قد لجأت إلى المغرب في آخر عهد الأمير. وما يزال الكتاب يبحثون في الموقف السياسي لمصطفى بن إبراهيم بين الوطنية والخيانة. والواقع أن كان مثل العشرات من الأعيان الجزائريين الذين لم يدركوا الفرق بين القبيلة والوطنية، وبين مصلحة البلاد العامة ونوايا الفرنسيين الاستعمارية، وكانوا يعتقدون أن مصلحة الفرد قبل الجماعة ومصلحة القبيلة قبل الوطن، والدنيا قبل الدين.

هذا من الناحية السياسية، أما من الناحية الأخلاقية فقد قيل عن مصطفى بن إبراهيم إنه كان منحرفا أشد الانحراف، ولعل هذا الانحراف الخلقي هو الذي أدى به إلى الانحراف السياسي أيضا. فكان على ما قيل، مدمنا على الخمر، وزيرا للنساء وخارجا عن الأعراف الاجتماعية. ولو عاش لشعره وفساده الأخلاقي لما استحق ربما ذلك الاهتمام السياسي ولعومل معاملة الشعراء الذين يهيمون في كل واحد ويلبسون مختلف الثياب. ولكنه ارتبط أيضا بالمقاومة وبقبيلة عتيدة مثل بني عامر. وقد نسبوا إليه أيضا الكرامات والخرافات، وصورة الإنسان (الكامل) التي لا تكتمل إلا بإضافة التصوف إلى إطارها. وكان فصيح القول واللسان، جوادا، معتزا بقبيله. وقد بقي يمثل الشاعر الفارس في صورته التي كانت للشعراء الفرسان في النصف الأول من القرن الماضي.

أما شعره فقد بقي منقولا شفويا بين قومه وقبائل الجنوب الغربي، يتغنى به المغنون في الأسمار والحفلات. ثم قام عبد القادر عزة بجمع ديوانه. وكان نصف الديوان تقريبا قد سجله المنشدون من أهل الحضر وغنوه بالآلات الموسيقية، أو من أهل البادية الذين تغنوا به على آلة القصبة (1). ولا

(1) جغلول (عناصر ثقافية) مرجع سابق، ص 153 - 156. بناء على هذا المرجع فإن عبد القادر عزة قد جمع ديوان الشاعر حوالي سنة 1980 (؟). وقد أورد جغلول نماذج من شعر مصطفى بن إبراهيم مترجمة إلى الفرنسية، ص 157 - 160.

ص: 323