الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفنون التقليدية - الشعبية
تتمثل هذه الفنون في عدة نماذج من المصنوعات التقليدية ذات الاستعمال الفردي والعائلي، وهي تستعمل أيضا للمنازل والحيوانات. وكانت هذه الفنون مزدهرة مع ازدهار التجارة وانفتاح البلاد على الأسواق الأوروبية والشرقية والإفريقية، وكذلك مع وجود طبقة اجتماعية تتذوق وتستهلك هذه المصنوعات، ووجود مدن كبيرة ذات بازارات وحرفيين مختصين. وقد كان للفنون نقاباتها كما كان لغيرها نقابات. فلصانعي الفضة والذهب (الصاغة) نقابتهم وكذلك للنحاسين والسراجين والطرازين نقاباتهم. وهي نقابات ليست فقط للتنظيم الاجتماعي والمالي ولكن للمحافظة على اتقان الصنعة وأصالتها وتطويرها.
وليس لدينا كتابات وصفية دقيقة عن وضع الفنون التقليدية عند الاحتلال. فالجزائريون يبدعون أو يستهلكون هذه الفنون ولكن قلما ألفوا فيها. ولذلك فان اعتمادنا سيكون على ما ألفه عنها الأوروبيون. وهؤلاء كانوا إلى جانب اهتمامهم الفني والحضاري كانوا مهتمين بالجانب التجاري وتنافس البضائع الأهلية والأوروبية (1)، وملاحظة التحولات التي طرأت على المجتمع بعد الاحتلال واختلاط العناصر الأوروبية بالجزائريين.
ومن نافلة القول أن ننبه إلى أنه قد وقع للفنون الشعبية ما وقع لغيرها نتيجة الاحتلال. ولعل إصابة الفنون كانت أعمق وأسرع. ذلك أن الفئة التي كانت تنتجها وتستهلكها قد أصابها الذعر فهاجرت من المدن الكبرى حيث كانت الفنون مزدهرة. والمعروف أن الاحتلال قد بدأ بالمدن الرئيسية. وإلى جانب الهجرة تعرضت الأسواق والبازارات والقصور إلى الهدم، سيما في
(1) كتب القاضي شعيب الجليلي رسالة بالعربية وترجمت إلى الفرنسية عن مصنوعات تلمسان. انظر حياته، وكذلك فصل العلوم الاجتماعية. ونحن نجد في (حكاية العشاق) للأمير مصطفى بن إبراهيم باشا أسماء عديدة ووصفا هاما لبعض المصنوعات التقليدية، انظره.
العاصمة وقسنطينة وبجاية. كما تعرضت التحف والنماذج إلى النهب والسرقات ورجع تقريبا كل ضابط وجندي فرنسي إلى بلاده بتحفة فنية على قدر ذوقه وقدرته على النهب، بما في ذلك الكتب المذهبة (1).
وتشمل الصناعات التقليدية الحلي والطرز والخزف والنسيج والأسلحة والنحت على الجبس والنحاس والصباغة والنقش على الخشب وأنواع الأثاث والزخرفة والديكور، وغيرها. وكانت كلها مزدهرة قبل الاحتلال، رغم أن بعض النقاد الفرنسيين قد لاحظوا بداية تدهورها من القرن 18 م. وقد كتب عن هذه الفنون وتطورها واستعمالاتها عدد من النقاد والدارسين، منهم الضابط روزي، وبيربروجر، وأوديل، وفي عهود متأخرة كتب عنها جان ميرانت وأوغسطين بيرك وماري بوجيجا.
أنواع الحلي تتمثل في الخواتم والأساور والأقراط والعقود الذهبية والخلاخل. يضاف إلى ذلك حلي تستعمل للمناسبات مثل الصرمة والريحانة والبدل والمشرف والتيغار والخلال وخيط الروح. ويصاغ الذهب والفضة لهذه الحلي. وقد تكون من الجواهر أو من قطع الذهب (السلطاني) واللويزة. كما أن منها النوع الفضي الجيد. ومعظم الحلي كان للنساء. أما الرجال فيستعملون منه بعض الخواتم والأوسمة وتزيين السلاح وبعض المستعملات الأخرى، مثل الساعات وعلب الدخان أو النشوق.
وكانت الحلي غالبا من صنع جزائري، ولكنها قد تكون مستوردة من المشرق أو من أوروبا. أما من أفريقيا فكان استيراد الآبنوس وتراب الذهب وأسنان الفيل والعاج، وكانت تصنع محليا لنفس الغرض. واشتهر بنو يني في الزواوة بصنع الحلي، وكذلك صاغة العاصمة وتلمسان وقسنطينة. ولكن هجرة اليهود من الأندلس ثم نزوح بعضهم من ليفورنيا إلى الجزائر، جعلهم يسيطرون على صناعة الحلي. وكان اليهود هم محل ثقة الباشوات في اختبار
(1) تعرض لمسألة النهب في التحف والوثائق و (الكنوز) عدد من المؤلفين الفرنسيين، منهم: أدريان بيربروجر في الأوائل، وشارل أندري جوليان في الأواخر.
العملة الرسمية وأصالة الجواهر والمذهبات التي ترد إلى الدولة في الهدايا والغنائم. وهذا الامتياز أعطى لليهود أيضا اليد العليا في صناعة الحلي. وكانت هداياهم الذهبية، سيما لنساء البايات والباشوات، وهي رشوة واضحة، قد سهلت عليهم مهمتهم في السيطرة على سوق العملة والذهب والفضة، وهي أساس صناعة الحلي. وقد ظلوا يستعملون نفس السلاح، حتى أنه عندما زارت امبراطورة فرنسا الجزائر سنة 1860 قدم لها نساء اليهود هدية ثمينة من الحلي (1).
الحلي الجزائرية عليها رسومات تمثل الذوق المحلي والديني. فهي على العموم ذهبية أو فضية، كما ذكرنا، وترسم عليها الجواهر والورود والأغصان. وهناك عقود مذهبة ومحببة. وفي الزواوة يصنعون الحلي الفضية عادة وهي ذات ألوان زاهية وتتدلى منها أشكال مختلفة بسلاسل دقيقة ذات ألوان زرقاء وخضراء وصفراء وبنية وطينية (لون الطين).
هذه الصناعة التي كانت مزدهرة ومنسجمة مع الذوق الوطني والديني، أخذت في التدهور لعدة أسباب، منها أن اليهود ازدادت مكانتهم في عهد الاحتلال، سيما بعد تجنيسهم الجماعي سنة 1870. وأدت الهجرة الجزائرية إلى إحداث فراغ في اليد الصانعة الماهرة، وكذلك سيطرة البضائع والمصنوعات الأوروبية المستوردة، واختلاف الأذواق، مع الافتقار الذي حل بالمجتمع الجزائري. ولكن صناعة الحلي مع ذلك لم تنقرض، فقد تطورت مع الزمن وأخذت أشكالا جديدة تنافس بها الذوق الأوروبي، ولا سيما في المدن، أما في الأرياف (وكان معظم الجزائريين أهل ريف في عهد الاحتلال) فقد استمرت صناعة الحلي، رغم تأثير اليهود، وظل الاستعمال على ما كان عليه تقريبا فى الحياة اليومية وفى المناسبات الاجتماعية.
(1) انظر محاضرة ماري بوجيجا عن الحلي الجزائرية في مجلة الجزائر SGAAN، 1931، ص 203 - 224. أيضا ميرانت (كراسات الاحتفال)، ص 44. وماري بوجيجا أيضا (نحو نهضة
…
) في المجلة المذكورة، 1923، ص 325.
والطرز كان أحد الصناعات التقليدية الرائجة والمتجددة. وله أماكن مشهورة وهي العاصمة وقسنطينة ووهران. وقد أخبرنا فانتور دي بارادي منذ آخر القرن 18 أن الذوق الجزائري يظهر حقيقة في المطروزات. وأكد ذلك روزي الذي رافق الحملة الفرنسية وكان في قيادة أركان بورمون، بعد تجواله في المدن التي وقعت تحت الاحتلال (1). وكانت المطروزات تظهر على الحرير وعلى قماش الملف بالألوان المنسجمة، وكان اللون البنفسجي بالخصوص يستعمل في الطرز على الحرير. أما الألوان الأخرى، فهي الأحمر والأزرق وأحيانا الأخضر والأصفر، وحتى الأزرق الفاتح، وكانت تستعمل أحيانا كإضافات. وقد تجول روزي في العاصمة والقليعة عندئذ ورأى الشال (المنديل الكبير) المطروز يباع هناك، مع العلم أن هذه الصناعة قد تأثرت بالاحتلال وبالهجرة التي ذكرناها وغلق المحلات وكساد التجارة.
ولم يكن لباس المطروزات خاصا بالنساء بل كان الرجال يلبسون المطروز أيضا، وكان ذلك من علامات الثروة والأبهة والذوق السليم. ويذهب بعض النقاد إلى أن العثمانيين هم الذين أدخلوا الطرز، وهو قول مارسيه، ولكن المعروف أن الأندلسيين قد برعوا في هذا الفن. فالقول بأن الجزائر مدينة في صناعة الطرز (للأتراك) فيه مبالغة ظاهرة. والعبارة في حد ذاتها غير دقيقة لأن التأثير عموما كان شرقيا، بمعنى أن الصناعة قد تكون شامية أو فارسية وليست (تركية) بهذا المعنى. وللشام علاقة وطيدة بالأندلس وفنونها. ومن جهة أخرى فإن الذوق الوطني أو المحلي كان واضحا في المطروزات، يظهر ذلك في العقود الفنية والأشجار والغصون والتشابكات وانسجام الألوان. ومن عادة الفرنسيين أنهم يجردون الجزائريين من كل شيء حتى الذوق والفن، فقد قالوا إن قيمة المطروزات لا تظهر في الجودة والاتقان والذوق ولكن في كمية الذهب الذي تشتمل عليه. أما المطروزات
(1) روزي في كتابه (رحلة في إيالة الجزائر)، 1833، نقل عنه ميرانت، مرجع سابق.
ذاتها فهي (خشنة)، حسب تعبيرهم (1). وسنرى أن محاولات فرنسية ستجرى لتجديد الفنون التقليدية، ومنها الطرز.
واشتهرت عائلات جزائرية بالطرز الجيد فأصبحت متخصصة فيه، كما اشتهر فيه أفراد يشار إليهم بالبنان، مثل محمد بن الحاج الذي عرف عنه أنه كان يطرز الأقمشة الحريرية بالذهب والفضة. ويشمل ذلك الأحزمة والمناديل والفوطات. ومنذ 1845 التفت الفرنسيون إلى هذا الفن، وبدأوا يهتمون به، بعد أن لاحظوا تدهوره واتجاهه نحو الانقراض. وكان الطرز في بداية الاحتلال مصدر دخل لمن يصنعه، كما كان تجارة رابحة للسواح الأوروبيين الذين تهاطلوا على الجزائر. ولذلك أسست السيدة لوس (المعروفة أيضا أليكس)، باتفاق مع المارشال بوجو، مدرسة للطرز، وجلبت إليها بعض الفتيات الجزائريات لتروج هذه الصناعة من جهة، ومن جهة أخرى لتنشيط الحركة التجارية فيها مع السواح، ثم الدخول عن طريقها إلى دواخل الأسرة الجزائرية المنغلقة على نفسها في نظر الفرنسيين. وهكذا أصبح فن الطرز لا يذكر مع العائلات والأفراد الجزائريين المتقنين له، ولكن يذكر على أنه إنتاج مدرسة لوس أو ابن عابن وغيرهما. فالنقاد الفرنسيون نسوا دور الجزائريين المباشر وأصبحوا يتحدثون عن ورشات الطرز التي تأسست بجهود فرنسية وما أخرجته من تلميذات جيلا بعد جيل، فتلك الورشات هي التي استخرجت حسب تعبير بوجيجا (سر هذا الفن) بعد أن أحيته لوس ومررته عبر الأجيال (2). أما محمد بن الحاج وأمثاله فقد نسي الناس حتى أسماءهم. وهكذا يكون الاحتلال لم يستول على الأرض ويسقط الدولة فقط ولكنه استولى أيضا على الفن واغتصبه من أهله وبنى على جهودهم جدارا يحجبها عن الأجيال.
وكان النسيج من الصناعات التي تفتخر بها الجزائر. وقد كانت له
(1) ميرانت، مرجع سابق.
(2)
بوجيجا، مرجع سابق، ص 395. عن حيا ودور لوس، انظر فصولا أخرى.
صناعة كاملة وأسواق رائجة في مختلف أنحاء البلاد، وفي المدن الرئيسية كانت سوق خاصة بأسماء الأقمشة والحرير والأصواف ونحوها، مثل سوق الحرارين، وفلان الحرار، وسوق الصوف (رحبة في قسنطينة)، وسوق الشواشي. وكانت الجزائر تصدر إلى المشرق الأحزمة الحريرية. واشتهرت، من الناحية الفنية بصناعة الزرابي، والحياك والفوطات التي تستعمل للحمام، والمناديل والأحزمة والملابس كالبرانس والقنادر (ج. قندورة) والصدريات والسراويل. فهي صناعة وطنية كاملة تمثل الذوق المحلي، لا سيما في الزرابي إذ تظهر كل جهة أو منطقة تفننها الخاص، مما كان يؤدي إلى التنافس وتعدد الاختيار أمام الزبائن.
وقد أخذ فن الزرابي بألباب الأوروبيين منذ الاحتلال. لاحظوه أولا في المساجد، كما ذكر روزي، إذ هدموا جامع السيدة، وهو أجمل مسجد بالعاصمة، سنة 1830، واغتصبوا زرابيه وثرياته. كما لاحظوا ذلك على جامع كتشاوة الذي حولوه إلى كنيسة، وكذلك حولوا غيره في مختلف المدن، سيما العاصمة وقسنطينة ووهران وبجاية. وكان أول احتلالهم للقصبة قد جعلهم على خطوات من جامع القصبة وجامع باب الجديد اللذين يفترشان زرابي فاخرة. ويقول روزي إنه قد زار في مدينة الجزائر - وقد هجرها الأغنياء والصناع - عددا من مصانع الزرابي، وذكر تفاصيل هامة عن صباغة النسيج عندئذ والألوان المستعملة فيها.
ويقال إن الزرابي التي بقيت شائعة إلى حوالي 1860 كانت لا تخرج عن ستة أنواع: الفراشيات، والزرابي الصوفية، والحنبل، والقطيفة، والمطارح، والزرابي الملساء - بدون خملة. والأماكن التي اشتهرت بالزرابي هي: مدينة الجزائر، وآفلو، والسور، وبسكرة، وباتنة، وبوسعادة، ووادي سوف، وشلالة، والقلعة، وسطيف، وسعيدة، وتيهرت، وتلمسان، وكذلك اشتهرت بالزرابي المسيلة، وفرندة وجبل عمور، وجبال بوطالب، وقصر البخاري. وتتميز أنواع الزرابي عن بعضها باستعمال الألوان والأشكال واستخدام الذوق المحلي لكل منطقة، مع الإبداع الفردي. وهكذا نجد
الألوان الآتية متغلبة، وهي الأحمر القاني، والأصفر والأحمر العادي، والأسود، مع بعض الألوان الأخرى الثانوية أحيانا لتضفي تجديدا وتهذيبا وراحة للنفس. ومرة أخرى يدعى النقاد الفرنسيون أنهم تدخلوا لاسترجاع فن الزرابي، وبدأ ذلك على يد السيدة لوس المشار إليها حين أسست ورشتها واستخدمت النساء الجزائريات، وبحثت عن الفن الأكثر أصالة - في نظرها - وأحيته، وتخرج على يديها فيه عدد من التلميذات اللاتي أصبحن ممتهنات في ورشات جديدة، وهكذا (1). كما راجت صناعة الزرابي بين السواح والتجار، واستفادت السوق الفرنسية من هذه العملية. وكان للآباء البيض دور في تشجيع ذلك أيضا.
ولكن هذا الادعاء فيه قفز على التاريخ وإجحاف بحق الجزائريين الذين استمروا، رغم الصعوبات، في صنع الزرابي حسب الذوق المحلي، كما ذكرنا. لقد كان هناك متخصصون يطلق عليهم اسم (الرقامة)(2) - ومفردها رقام -. وكان الرقامة يتجولون على أهل الصنعة ومراكز الزرابي المعروفة، فيراقبون، ويشيرون بآرائهم لتحسين الصناعة والمحافظة على الأصالة والتقاليد. وهم يحذقون هذه الصنعة أبا عن جد، أو هي محفوظة عندهم في القلوب، كما يقولون. فهم لا يتلقونها في مدرسة ولا يطالعونها في كتاب، ولكنهم ورثوها عن بعضهم.
وتتألف عناصر النسيج الجزائري من جريدات النخيل التي هي فارسية الأصل، حسب ميرانت، ومن الوردة ذات الشكل البسيط. يضاف إلى ذلك الخطوط المركبة ذات الأشكال الهندسية المبتكرة، إذ تتخذ أشكال المربعات والمستطيلات، والشكل اللوزي، وكل هذه الأشكال تتداخل باعتبارها عناصر أساسية في الصنعة. ويبرز الفن البربري بوضوح في النسيج أيضا. وهو يظهر بحرية صارخة وبأسلوبية متميزة، ولكن تبدو عليه البساطة والنظرة الساذجة
(1) بوجيجا، مرجع سابق، ص 393.
(2)
من الرقم والترقيم، وهو هنا يعني الزخرفة والتزيين والتوشيات ونحوها، ومن ذلك تسمية ابن الخطيب أحد كتبه (رقم الحلل).
للحياة، بالإضافة إلى أنه فن قليل التطور، ربما لعدم تأثره وعزلته (1).
وقد قيل الكثير عن علاقة فن الزرابي بالكائنات الحية ورسمها في النسيج. انه كفن إسلامي كان بعيدا عن تصوير الإنسان. أو الحيوان في الزرابي ونحوها. فكان الناسج يلجأ إلى تعويض ذلك بالنباتات والأشكال الهندسية والخطوط التي تمثل تجريدا بعيدا عن الإساءة إلى الدين وعقيدة التوحيد. وقد بحث الفرنسيون، حسب قول ميرانت، فوجدوا أن السبب يرجع إلى العامل الإسلامي. ولكنهم ادعوا أيضا أنه راجع إلى الخرافات وشيوع السحر والعقائد الوثنية. كما أن البدائية تؤدي إلى إبداع فن بسيط في موضوعه من جهة ومثير للخوف والغموض من جهة أخرى. والغريب أن الفرنسيين خلطوا بين الحركة الرومانتيكية عندهم وبين الموضوعات البسيطة والتعلق بالخرافي والخيالي والمجهول وحتى بالبدائية الأولى لدى الجزائريين. فجعلوا ذلك كمالا عندهم، وجعلوه نقصا عند الفنانين الجزائريين الذين أبدعوا فنونا من الزرابي والأنسجة الأخرى خالية من التصوير البشري والحيواني.
وكل نسيج تقريبا لا بد له من صبغة. وكانت الصباغة هي إحدى الصناعات المحلية النافقة قبل الاحتلال. وقد أورد روزي عدة تفاصيل عن صباغة أنواع النسيج سنة 1833. فتثبيت الألوان واختيارها يرجع إلى أيادي ماهرة، وإلى حلقات من التحضير والبحث. فاللون الأصفر مثلا كان يستعمل له العفص، وكان موجودا بكثرة حول مدينة الجزائر، واللون الأحمر البنفسجي كان يستحضر من خشب شجر البقم Campeche، والأزرق كان يحضر من النيلة، والأسود من قشور الجوز المعروف بالغرناطي. وهكذا فإن مواد الصباغة قائمة من أساسها على النباتات. فالأحمر الغامق مثلا يستخرج من نبات الفوة الممزوج بالعفص، والأزرق من النيلة، كما ذكرنا، والأحمر الفاتح من قشور الجوز الغرناطي والأخضر من رغوة النيلة المغلية. وهناك عدة زخارف أخرى ملونة تأتى عن طريق مزج النيلة والعفص أو غيرهما.
(1) ميرانت، مرجع سابق، 39 - 40.
وأما اللون الأسود فيأتي من خليط النيلة والكبريت الحديدي ومن العفص وثمرة جوزة الطيب. وأما اللون البنفسجي فإنه يستحضر بإضافة رغوة الدردي إلى النيلة. ويقول ميرانت إن هذه الصناعة ستعرف بعض التحول عندما أدخلت المواد الكيمياوية على تحضير الألوان (1). ثم إن نباتات عديدة اختفت نتيجة الحرائق واستيلاء الفرنسيين على الأراضي وتحويل حقول العفص مثلا إلى حقول زراعية أكثر فائدة، ربما، من صبغة المواد النسيجية. كما اختفى الرقام من الوجود الفني.
ومن الصناعات التقليدية التي كانت رائجة المصنوعات الخشبية، رغم أن بعضهم يقول إنها كانت في درجة ثانية من الأهمية. وتحدث عنها ليون الإفريقي (الحسن الوزان) ومرمول، وهايدو. ولكن الأخير قال ان الجزائريين كانوا لا يستعملون الموائد والسفرات، وليس لهم خزائن، بل كانت تكفيهم علبة أو صندوق لحوائجهم. غير أن مؤلفين آخرين أثبتوا عكس ذلك، فقد لاحظوا وجود خزائن الكتب، وخزائن الملابس، والموائد، والأرائك، والمناضد، وحاملات المصاحف. ولهذه الصناعات مراكز كانت معروفة، وهي العاصمة والمدية ووهران وقسنطينة وقالمة والزواوة وأم البواقي (2).
والمصنوعات الخشبية كانت تزخرف بعدة أشكال وألوان. وذكرت بوجيجا أن الزخرفة كانت بواسطة الزهور وفن الأرابسك الذي يرسم على الصناديق والأدراج في أشكال مختلفة. وألوان هذه الرسومات تتألف من الأبيض والأخضر والأصفر وغيرها (3).
ويتصل بهذا الفن - فن الصناعات الخشبية - بعض الأثاث العربي. ويظهر ذلك في الكراسي الموضوعة في المساجد، وأبواب المنازل والمساجد وغيرها، والمناضد المستطيلة، وصناديق حفظ القماش، لكن الزخارف على
(1) ميرانت، مرجع سابق، ص 51.
(2)
نفس المصدر، ص 44 - 45.
(3)
بوجيجا، مرجع سابق، ص 388.
المصنوعات كانت مدهشة، وعليها نقوش ونماذج موزعة بمهارة. ومن هذه الزخارف نجد الكتابة العربية ذات الخطوط الفنية الرائعة. وكان الخطاطون والنقاشون البارعون أمثال سي محمد بن عودة، وسي أحمد أمين البنائين، والسيد السفطي، يضفون على هذه المصنوعات ذوقا وجمالا، مع الطابع المحلي والديني. ولكن هذا الفن تدهور أيضا بل اختفى مع الجهل بفن الخط، ومزاحمة المستوردات الأوروبية من الخشب.
ولا بد من ذكر صناعة النحاس أيضا. فقد كانت إحدى الصناعات التقليدية الرائجة. وقد أخبر روزي سنة 1833 أن مختلف أنواع الأسلحة كانت تصنع في الجزائر عدا المدافع. وكانت مصانعها موجودة في أمكنة عديدة، منها العاصمة وقصر البخاري والأغواط وبوسعادة. وكانت المادة الخام تستخرج محليا، وتستورد أيضا من المغرب والأندلس (إسبانيا). وهذه المادة كانت تستعمل في أغراض عديدة، منها الأطباق وأحواض الحمام، وأواني الكسكسي، والسكريات والمصابيح (الثريات). وهناك أبواب كاملة من الخشب كانت مغطاة بالنحاس، وقد نقشت عليها نقوش متناسقة، كما حدث في جامع سيدي بومدين في تلمسان وجامعها الكبير. وقد صنعت الثريات في هذه الأماكن من نفس المادة، وحافظت قسنطينة والعاصمة على صناعة النحاس بينما أخذت تنقرض فيما عداهما. ومن أشهر المهرة في هذه الصنعة سي الحاج القصباجي الذي كان يصنع منها المهاريس. وهناك غيره من الفنانين الجيدين. ويذهب بعض النقاد إلى أن معظم الباقين من هؤلاء الفنانين كانوا من أصل سوري. وكانوا يستعملون النماذج السورية التي يعرفوها أو يقلدون نماذج متحفية (1).
وقد اشتهرت الجزائر بصناعة السيوف والسكاكين، وبالأدوات المستعملة للفرس كالركاب واللجام. ويذهب ميرانت إلى أن الصناع الجزائريين لم يبلغوا درجة إخوانهم فى المغرب وتونس فى الإتقان.
(1) بوجيجا، مرجع سابق، ص 386 - 387. ولا ندري الفترة التي تشير إليها الكاتبة.
وكان الفخار من أنشط الصناعات المحلية. وقد ذكر مارسيه أن مصنعا للفخار والخزف كان قرب العاصمة في عهد الاحتلال. وأقر روزي أنه كان بباب الواد (العاصمة) سنة 1830 عدة مصانع للفخاريات. وقد قضى الاحتلال بالهدم وتنفير الصناع من البقاء فاضمحلت هذه الصناعة بالتدرج. بينما يعترف ميرانت، وهو الذي يستنقص تقريبا كل ما ينسب إلى الجزائريين من أعمال جيدة، بأن الفخار الجزائري كان ذا شهرة واسعة قبل الاحتلال. وقد أشار إلى أن الدكتور شو (القرن 18) قد أكد على وجود مصانع للفخار والخزف في شرشال وأن الجزائريين كانوا يستعملونه بكثرة. وكذلك يعترف ميرانت أن هذه الصناعة الرائجة والمستعملة بكثرة قد أصابها الكساد بعد الاحتلال نتيجة ظهور الخزف الأوروبي. ولم يسع الجزائريون إلا محاولة تقليد هذا النوع الطارئ عليهم. فلم يبلغوا فيه مبلغ الاتقان، وظل إنتاجهم من النوع العادي. وربما بقي النوع الزواوي محافظا على أصالته بعض الوقت لعزلته عن المدن، غير أن ميرانت يقول أيضا كعادته، إن هذا النوع لم يبلغ درجة عالية من الرقي الفني (1). ويجد المرء في أخبار الأمير، ما كان يفعله لتزيين سروجه وأعلامه وتسويم الجند وغير ذلك مما يحتاج إلى الزخرفة (2).
والخلاصة أن الصناعات التقليدية المذكورة كانت كلها ذات شأن في الجزائر، لها خبراؤها وأمناؤها وطبقتها الاجتماعية. وبعضها كان رائجا في الداخل والخارج، ولكن الاحتلال أوقف مصانعها وشتت أهلها وأفقر من بقي منهم. ونتيجة الاحتلال أيضا حلت الصناعات الأوروبية محل الجزائرية فأدت إلى منافستها في الجودة وفي الأثمان. وبعد هذا التدهور الذي طال أمده، ماذا فعل الفرنسيون؟.
…
(1) ميرانت، مرجع سابق، ص 42 - 43.
(2)
انظر (تحفة الزائر) 1/ 120 وما بعدها، وص 201 عن علم الأمير (الراية). وكذلك جورنال دي مينوار سنة 1841 في (المجلة الإفريقية)، عدد 441، سنة 1955 ص 133.
يذهب ميرانت إلى أن التدهور بدأ منذ القرن السادس عشر (بداية العهد العثماني) ربما لكي يبعد كل الوصمة عن الاحتلال الفرنسي الذي يقر ميرانت نفسه أن الصناعات والفنون الجزائرية قد تدهورت خلاله. ولكنه يعزو (الانحطاط) في ذلك إلى تكاثر العمليات العسكرية منذ 1830، وهذا أمر لا يحتاج إلى برهان وبحث طويل، فالاحتلال قد فجر المقاومة، واستمر الصراع عقودا طويلة، وقد نتج عن ذلك اقتلاع جذور المجتمع في المدن وبعثرة الحياة القبلية وزعزعة الاستقرار في الوطن كله. ومع اختفاء الطبقة المستهلكة لنتاج الصناعات والفنون اختفت أيضا فئة المختصين في ذلك واضمحلت حرفهم وصناعتهم. ويعترف الفرنسيون أيضا بأن تغييرات أخرى قد حدثت في هذا المجال ضاعفت من تدهور الصناعات والفنون التقليدية. ومن ذلك تحول طرق التجارة عن مجراها السابق، وعزلة الأماكن والمراكز التي اشتهرت بالانتاج عن الأسواق التي كانت تروج فيها بضاعتها، كما افتقدت زبائنها المعتادين. وبالإضافة إلى ذلك فقد تحول الاهتمام عند الناس وتغيير الذوق تدريجيا مع دخول ومنافسة المصنوعات الفرنسية.
وهناك ظواهر اجتماعية واقتصادية تشهد على أن المجتمع لم يبق على ما كان عليه. ويسمى الفرنسيون ذلك (تقدما) في الحياة المادية للسكان. والواقع أن المجتمع قد تعرض لهزات عنيفة بسبب حلول آلاف الغرباء (الكولون) مع عاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم. ثم بسبب الإفقار والإهمال (اغتصاب الأرض، ومصادرة الأوقاف، والاستيلاء على أملاك الذين شاركوا في المقاومة أو هاجروا، والتجهيل المنظم). ومع امتداد الاستعمار تأثرت حياة البداوة والرعي وأصبحت الأراضي مزروعة، ولكن فيه ملك الغرباء الفرنسيين. وتحول الجزائريون بالتدرج إلى (خماسة) في الأرض التي كانوا يملكونها أو يرعون ماشيتهم عليها. ويذهب ميرانت إلى أن ذلك التحول قد أدى إلى حلول الدار (المنزل) محل الكوخ (القوربي) وحلول الأثاث الأوروبي في المنزل محل الزرابي في الخيمة. لأن اختفاء قطعان الماشية قد أدى إلى اختفاء صناعة الزرابي.
ولا شك أن تحولات عديدة قد حدثت في الملابس والأثاث والأسلحة حتى خلال العهد العثماني، ولكن ذلك كان بطيئا ولم تفرضه الظروف فرضا كما حدث في أيام الاحتلال. فمنذ 1830 غزت البضائع الأوروبية الجزائر فأثرت وبسرعة على الصناعات التقليدية وأفقدتها أصالتها وأسواقها. وقد اختفت شخصية (الرقام) الذي كان يلعب دورا تقليديا حيويا في المحافظة على أصالة الزرابي والسجاد والإشراف على الألوان النباتية المناسبة. وهكذا حلت الألوان المعدنية. وفقدت الصباغة مادتها الأولية. فأشجار البلوط أو الزان (Chene - Kermès) التي كانت تعطي اللون الأحمر جهة القلعة قد تعرضت للحرائق عدة مرات، نتيجة الصراع بين المقاومة والاحتلال. ثم ان حقول نبات الفوة Garance التي كان منها الكثير حول العاصمة قد تعرضت بدورها إلى تغيير أفقدها مهمتها الأولى، لقد أصبحت أيضا في يد الغرباء يستغلونها للزراعة (1).
أشرنا إلى أن السيدة لوس كانت قد أسست في العاصمة وباتفاق مع إدارة بوجو، أول ورشة للطرز وتعليم اللغة الفرنسية والحساب لبعض الفتيات الجزائريات. ولوس هذه كانت امرأة مغامرة بدأت حياتها في فرنسا، وتزوجت هناك من السيد اليكس، وأنجبت منه طفلة، ثم هربت منه إلى الجزائر ومارست مختلف الأعمال، وتعلمت اللغة العربية الدارجة، إلى أن شرعت في مشروعها المذكور (2). وقد ذكرنا أن الهدف المعلن من الورشة هو تعليم الطرز للجزائريات. والظاهر أن الورشة قد أدت مهمتها على غاية ما يرام، لأنها ظلت تتطور وتتسع حتى شاركت لوس في المعارض الدولية بالطرز الجزائري، ومنها معرض لندن سنة 1862. وتشهد السيدة روجرز أن
(1) ميرانت، مرجع سابق، ص 45 - 47.
(2)
حياتها مفصلة في عدة مصادر، ومنها كتاب السيدة روجرز الإنكليزية (شتاء في الجزائر) لندن، 1865، ص 191 - 199. وكانت روجرز قد عرفتها شخصيا في الجزائر وزارت ورشتها وشاهدت معرضها في لندن. انظر أيضا الحركة الوطنية، ج 1.
المطرزات كانت قد تدهورت سنة 1845، ولكن بفضل ورشة لوس عادت إلى الازدهار، وكان السواح الإنكليز يشترون المطرزات بأثمان باهظة حتى وصلت القطعة منها إلى 150 جنيه إسترليني (1).
وقد أخرجت ورشة لوس بعض الجزائريات أيضا، ومنهن السيدة نفيسة بنت علي، التي حصلت على (بروفي) أو دبلوم في الطرز سنة 1856. ولكنها لم تعمر طويلا بعد ذلك إذ توفيت سنة 1861. ومن تلميذات المدرسة أيضا السيدة ابن عابن التي تابعت أعمال لويس. ثم ظهرت في عهد جول كامبون (العشرية الأخيرة من القرن الماضي) مدارس عديدة للطرز وغيره من الأشغال اليدوية النسائية، وكان الغرض منها التجارة من جهة والمحافظة على الصناعات التقليدية (الأهلية) من جهة أخرى. وقد أولى شارل جونار في أول هذا القرن هذه الصناعات اهتماما، خاصا فازدادت الورشات وعممت في عدة أماكن.
تكونت مدرسة ابن عابن في العاصمة حوالي سنة 1850 وأعلنت أيضا أنها مدرسة لتعليم البنات الجزائريات اللغة الفرنسية والحساب، وكذلك الرسم وأشغال الإبرة وإدارة المنزل. ثم في سنة 1883 أنشأت السيدة سوسروت في قسنطينة مدرسة لتعليم الطرز ونسج الزرابي، وطبقت فيها الطريقة القديمة في الصباغة كما كانت مستعملة في الأعراش والبادية.
وخلال العشرية الأولى من هذا القرن نشأت عدة مدارس للفنون الشعبية والصناعات التقليدية بتشجيع من إدارة جونار كما قلنا. وجرى فيها البحث عن استعادة الأساليب القديمة في الطرز العربي وصباغة الزرابي والسجاد والأغطية، وكذلك أشغال الإبرة. وقد عرفت العاصمة وقسنطينة وبجاية ووهران وتبسة هذا النوع من المدارس والنشاط. وكذلك عرفت
(1) ظهر وصف لسيرة وأعمال لوس في مجلة إنكليزية عنوانها: مجلة المرأة الإنكليزية E.W. Journal كتبته السيدة بوديشون. وقد نقلت منه السيدة روجرز في كتابها المذكور.
شرشال والقليعة والمدية وتلمسان وتنس وبسكرة والأغواط وغرداية وعدة مراكز في زواوة، نماذج أيضا من هذه الورشات. ويجب ألا يختلط علينا أمرها بالمدارس الابتدائية أو نحوها، فنحن نتحدث هنا عن الورشات الخاصة بإنتاج المطروزات ونسج الزرابي وأشغال الإبرة، أي هذه الصناعات التي تدخل في إحياء التراث التقليدي من جهة والتجارة به من جهة أخرى.
ولا بد من الملاحظة هنا أن جمعية الآباء البيض والأخوات البيض كانوا يقومون أيضا بأعمال موازية في كنائسهم وورشاتهم التابعة للأسقفية. وكانت الورشات قد أنشئت حيث يكثر النشاط الديني التنصيري مثل غرداية وزواوة وبسكرة والشلف. وبذلك أصبح هناك غرض ثالث من هذه الورشات، وهو التنصير بدعوى إحياء الصناعات التقليدية. أما تعليم اللغة الفرنسية (وغسل المخ) والتوجيه الثقافي فهو قدر مشترك بين جميع المدارس والورشات. ومما يذكر أن هناك ورشات للطرز أيضا قد أسستها سيدات إنكليزيات كن يدن بالمذهب البروتيستنتي، في كل من شرشال وضاحية مصطفى باشا بالعاصمة (1).
وعشية الحرب العالمية الأولى كانت مدارس الطرز والنسيج التقليدي موجودة في عدة نقاط بالجزائر. من ذلك ورشة العاصمة التي كانت تديرها سنة 1913 السيدة قيتفيل. وكانت هذه السيدة قد تعلمت فن الصناعات التقليدية بالقيروان. ثم أسست ورشة في وهران، وأخيرا حلت بالعاصمة. وقيل إن مدرستها التي كانت في نواحي القصبة (شارع مرنقو)، قد ازدهرت، وكانت تضم حوالي 170 تلميذة، وكانت الورشة تضم ست عشرة بنتا يتعلمن بصفة دائمة، أعمارهن بين العاشرة والثالثة عشر. وكانت المدرسة متخصصة في صنع الزرابي والسجاد القديم بالأسلوب الفارسي والقبطي. وكان إنتاجها مطلوبا جدا. وهذا يبرهن، إذا صح، على تحويل الصناعات الوطنية عن
(1) بوجيجا إيمانويل، المجلة الجزائرية SGAAN (1938)، ص 72 - 74. حول دور المدارس الفرنسية المتجهة للتعليم الإبتدائي، انظر فصل التعليم الفرنسي والمزدوج.
وجهتها وإدخال تأثيرات أخرى مستوردة عليها. وكانت المدرسة تنتج أيضا المخدات (الوسائد) والمطروزات التركية والجزائرية والمغربية. بالإضافة إلى أشغال الإبرة أو الدنتال. وكانت مدرسة آيت هشام بزواوة (ميشلي) قد فتحت أبوابها عام 1890، وحصلت في سنة 1900 على جائزة المعرض الدولي في الخياطة والطرز. وفي سنة 1913 كانت المشرفة على هذه المدرسة هي السيدة بيرين، وكان معها زوجها يساعدها في هذه المهمة. ولا ندري إن كانت لها علاقة بالنشاط الديني التنصيري هناك أيضا. وتضم المدرسة 34 تلميذة. أما مدرسة الشلف (الأصنام) التي كانت تديرها السيدة شوبير فقد كانت تضم سنة 1913، 146 تلميذة (1)، وهكذا.
في عهد جونار أيضا أنشئ مكتب خاص للرسم وألحق بإدارة مدير التعليم. وكانت مهمة هذا المكتب وضع جرد دقيق ومتواصل للأعمال الفنية الموجودة بالجزائر، ثم إعادة العمل بها حسب الحاجة. وكان على المكتب أيضا غربلة وتنقية وتصحيح هذه الأعمال الفنية، وذلك بالرجوع إلى الأشكال التقليدية - الكلاسيكية - الأصلية، وفي هذا النطاق طلبت إدارة جونار من السلطات الفرنسية في تونس والمغرب (احتلت المغرب سنة 1912، ولكن النفوذ الفرنسي هناك يرجع إلى عهد سابق) إمدادها بالنماذج من الفن الشرقي أو العربي - البربري لتطويره بالجزائر باعتباره تراثا مشتركا في المنطقة. وبهذه الإجراءات وقع تطوير وتنقيح الزرابي المعروفة بزرابي القرقور، وزرابي القلعة. كما وقع الرجوع إلى الشكل الهندسي الذي كان شائعا في الفن البربري.
كما جرى تطوير آخر في الطرز وغيره من الصناعات والفنون. فقد استفيد من تجربة المغرب في الطرز المعروف بالرباطي المشتهر باستعمال الزهور والألوان الزرقاء والخضراء مع البنفسجى الغامق والمذهب. وجرى
(1) ألفريد كولون (دروس الصناعات للفتيات الأهليات) في المجلة الجزائرية SGAAN (1913)، ص 545 - 563.
ذلك على الصناعات النحاسية إذ أدمج الأسلوب السوري مع الأسلوب الجزائري، وأصبح هذا الطراز الجديد يعلم في المدارس والورشات، كما ظهر في بعض الإنتاج. ويسمى ميرانت ذلك (نوعا من النهضة) في هذا الفن. وكانت إدارة التعليم هي التي وراء هذا التحديث والرجوع في نظر الفرنسيين، إلى الفن الأهلي الأصيل، وهي نهضة تعتمد البساطة والرشاقة في الرسومات والزخارف التي لا تتناقض أيضا مع تعاليم الإسلام (1).
ومن جهة أخرى ساهم استعمال المواد الكيمياوية في الألوان وإنشاء ورشة جديدة للصباغة في إعطاء حيوية للفن المحلي. فبعد الفوضى التي أصابت هذا الفن من اجتهادات المجتهدين الفرنسيين وبعد اختفاء أهله العارفين به، أصابه الاختلاط في الألوان وضياع الهوية الوطنية. ويبدو أن الفرنسيين كانوا يظنون أنهم بمراجعة ميدانية لما أصاب الفن الجزائري ومحاولة تدارك الألوان والصباغات، سيبعثون فيه الحياة. ولذلك رجعوا في الألوان إلى المواد الكيميائية، وأنشأوا ورشة للصباغة عهدوا بها إلى السيد دلاييه Delaye . فبعد صباغة الصوف بالمواد المذكورة تقدم إلى الورشات المستعملة لها. ويذهب ميرانت إلى أن هذه العملية قد جاءت بنتائج طيبة جدا. فقد وقع التجديد في الزخرفة (الديكور) وفي الألوان مما أدخل على الفن البربري - العربي حياة قوية وصلبة (2).
ولكن الذين كتبوا بعد ميرانت لم يكونوا متفائلين مثله. حقيقة أن المحاولات التي ذكرها قد وقعت، كما وقع الربط بين تعليم الفتاة الجزائرية والصناعات المهنية، كالطرز والخياطة وأشغال الإبرة ونحوها. ولكن التجربة قد فشلت فيما يبدو. لقد كان دافع الفرنسيين من إحياء الفن الجزائري الذي تدهور على أيديهم هو الكشف على أن الجزائر كانت بعد استقرار الاحتلال أحسن زبون لهولندا وإيطاليا في المواد الفنية. فكان من أول ما قام به جونار
(1) ميرانت، مرجع سابق، ص 48 - 49. وكان ميرانت معاصرا ومشاركا في توجيه الفنون والصناعات التقليدية في الفترة التي نتحدث عنها.
(2)
نفس المصدر، ص 51.
هو إنشاء ورشة جديدة للخزف والفخار. وصدرت عن هذه الورشة أنواع من الأباريق ذات الأسلوب البربري والعربي والأندلسي. وبدا وكأن النهضة التي أشار إليها ميرانت أصبحت حقيقة واقعة.
غير أن التجربة كانت مؤقتة. فقد ألغيت الورشة بعد جونار. وتقول بوجيجا إن خلفاءه لم يشعروا بضرورة إحياء هذا الفن (1). وقد كان محمد راسم (أمير فن المنمنمات) كما قال أوغسطين بيرك، قد ظهر خلال هذه الفترة، وسندرس حياته بعد قليل (2).
وفي عهد هذه (النهضة) كتب إسماعيل حامد، أحد شهودها من (النخبة)، متحدثا عن الورشات والمدارس التي أنشئت لتعليم الفتيات الجزائريات الفنون التقليدية. وبعد أن ذكر ورشة لوس وابن عابن للطرز العربي، لاحظ أنها قد أهملت الأشكال الأخرى من تلك الفنون. ولاحظ حامد كذلك أن الجهود بعد أن كانت خاصة قام بها أفراد، تدخلت الحكومة وأصبحت هي التي تشجع على إحياء وتأصيل هذه الفنون. وقد أهمل حامد التعرض إلى مدارس وورشات الآباء البيض التي أنشئت لنفس الغرض، ولعله كان يعدها من الجهود الخاصة. ومهما كان الأمر فقد اختيرت مناطق معينة لفتح ورشات رسمية للبنات. وكان الغرض منها تعليم الفتيات الفنون والصناعات التقليدية، كجزء من التكوين المهني ولكن لفائدة السوق الفرنسية والسياحة، أكثر من تعليمهن العلم أو الحصول على وظائف مفيدة لهن.
وإليك الإحصاءات التي أوردها إسماعيل حامد عن هذا النوع من التكوين المهني الموجه لإنتاج الفنون التقليدية. في ولاية الجزائر بين 1903 - 1909: هناك ستة مراكز تضم 526 تلميذة في السجاد الشرقي (إيران وتركيا) والزرابي الإفريقية - الجزائرية، من نوع زرابي القلعة، ثم الطرز العربي والنسيج البربري.
(1) بوجيجا (نحو نهضة
…
) في المجلة الجزائرية SGAAN (1923)، ص 391.
(2)
انظر عنه لاحقا.
وفي ولاية قسنطينة بين 1893 - 1910، أحدثت سبعة مراكز، وكانت تضم 539 تلميذة متخصصة في النسيج البربري والطرز العنابي والدنتال أو أشغال الإبرة، وكذلك الزرابي المتنوعة، وأنواع المرصعات.
أما في ولاية وهران بين 1906 - 1910 فهناك أيضا سبعة مراكز، وتضم 674 متخصصة في الطرز المغربي - الزرابي الرباطية - وكذلك إنتاج جبل عمور.
ومن النقد الذي وجهه حامد لهذه التجربة أنها كانت في بداية الطريق، وهو يقصد المقارنة بين عدد البنات وعدد البنين في التعليم. والنقد الآخر هو ازدحام الأقسام الخاصة بهذا التكوين. ففي وهران مثلا كانت 242 بنتا تحت إشراف أربع معلمات فقط. وفي مستغانم وعنابة 156 تلميذة تشرف عليهن ثلاث معلمات. أما الخريجات من هذه المدارس والورشات فليس أمامهن باب لمواصلة دراستهن، وبذلك كن ينسين ما تعلمنه بسرعة (1).
…
ومن أشهر ما تميز به الفن الجزائري هو صناعة التجليد أو التسفير. فقد كانت هذه الصناعة شائعة ومتقنة في العهد العثماني. وكانت لها نقابة واختصاصيون مهرة. ولم تكن الكتب المطبوعة قد عرفت طريقها إلى الجزائر، فكان حفظ المخطوطات عن طريق إتقان فن التجليد. ولهم في ذلك ذوق رفيع في اختيار الألوان والتذهيب وأنواع الجلد. ولم يكن كل من يملك المخطوطات قادرا على تجليدها لأن ذلك يتطلب ثروة خاصة. وكان تجليد الكتب جزءا من الصناعة الجلدية عامة.
وكان التجليد من الحرف التي تورث أبا عن جد. وقد عرفنا من دراستنا للعهد العثماني أن ابن حمادوش كان من المجلدين أو المسفرين، وكان يعيش، كما قال، من هذه الصنعة. ومن الأسف أنه لم يترك لنا وصفا
(1) إسماعيل حامد (النساء المسلمات في شمال أفريقية) في مجلة العالم الإسلامي، يونيو، 1913، ص 293 - 295.
لها ولا لأدواته. وتذهب ماري بوجيجا إلى أن هذا الفن أوشك على الانقراض في العهد الاستعماري. وتأسفت أن هذا (الفن الجميل) قد اختفى تقريبا، وذكرت أنه على عهدها (سنة 1923) كان الشيخ محمد سفطة (1) - وهو اسم مرتبط أيضا بألوان الموسيقى والألحان - هو الوحيد الذي ما يزال يمارس هذه الصنعة، وذكرت أن هناك أعمالا أخرى شبيهة بها وأصحابها لهم نقابة خاصة بهم.
كان التجليد يقوم على على التزاوج بين الألوان، فهناك اللون الذهبي الممزوج بالبرتقالي واللون البنفسجي الممزوج بالزمرد. وقد اعترفت بوجيجا أنه نتيجة الاحتلال قد اختفى هذا الفن أو كاد. فقد تغير الذوق بالتدرج، وأصبحت خيالات الفنانين، في نظرها ضحلة. وهي لم تقل لماذا وقع ذلك، ولكنه واضح أن الحياة الاجتماعية قد انقلبت بعد الاحتلال، فالجمهور الذي كان يتذوق التجليد بالألوان المذكورة ويدفع في مقابل ذلك المال، قد تراجع واختفى بدوره. وقد هدمت المحلات الخاصة بالصناعات التقليدية، ومنها التجليد والوراقة، لأنها كانت تقع قرب المساجد وفي البازارات والأسواق الشعبية. ومن جهة أخرى لم يعد الفنان يجد الأدوات التي تعود عليها. فقد حلت المطبعة محل النساخ، كما حل جمهور أوروبي لا يتذوق فنه، ونهبت نماذج عديدة من مصنوعاته. وتقول بوجيجا إن الفن الفرنسي - ذوق لويس 14 و 16 قد أثر على الفن العصري الجزائري فجعله يفقد أصالته (2).
ومن أواخر من ذكرتهم المصادر في هذا الفن هو الشاعر محمد العلمي. وكان من مواليد المغرب، ثم جاء الجزائر وتتلمذ على الشيخ
(1) ورد اسم الصفطي والسفطي على أنه من الخطاطين والمسفرين للكتب، ومن أعماله خط المصحف الشريف الذي طبعه أحمد وقدور رودوسي. وقد عرفنا أن الشيخ الحدبي كان أيضا يشتغل بتسفير الكتب. انظر فصل الشعر. وفصل المنشآت الثقافية. انظر أيضا فقرة المؤلفات في الخط من هذا الفصل.
(2)
ماري بوجيجا (نحو نهضة
…
) في (المجلة الجزائرية) SGAAN، 1923، ص، 398.