الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعتمدهم لقهر الشعب. بدأ ابن زلماط حركته حوالي 1917، وكان الأوراس عندئذ منطقة ثائرة، ولذلك بادر الحاكم العام (شارل ليطو) بعزل الأوراس عن العالم وجوع أهله بالحصار الشديد، واستعمل جنود السينيغال ضد الثوار وعلى رأسهم ابن زلماط، بضعة أشهر (1). وفي يوليو 1920 حكمت عليه المحكمة الفرنسية في باتنة بالإعدام.
ولكن ابن زلماط، مثل بوزيان القلعي وغيره من الأسطوريين، لم ينته بإعدامه، فقد خلده الشعر الشعبي وظل اسمه على لسان الأمهات والمظلوميين. وليس لدينا الآن نماذج من هذا الشعر سوى ما ذكره البعض (2).
في الشكوى وذم الزمان
شاعت بين الباحثين في الأدب الشعبي قصيدة الشيخ عبد القادر في (رثاء مدينة الجزائر). وهي تشبه، من عدة وجوه، مرثية محمد بن الشاهد، وقد ذكرناها. ولم يتوصل الباحثون إلى نسب الناظم (الشيخ عبد القادر) ومكانته في المجتمع، غير أن (مجلة الشرق) التي كانت تنطق باسم المستشرقين الفرنسيين سنة 1843 قد نشرت ترجمة للقصيدة بقلم أوسون دي شانصيل. وقد ذكر المترجم أن الناظم اسمه عبد القادر المازوني، أي من مازونة. ولكنه لم يورد سيرته، فهل هذه النسبة صحيحة؟ وهل كان المازوني مقيما في العاصمة عند رثائه لها، وهو الأقرب، أو كان في مازونة أو في إحدى المدن الأخرى، ولكنه أحس بالفاجعة وتأثر بها فنظم قصيدته. والقصيدة وإن كانت في رثاء مدينة الجزائر فإنها في الحقيقة رثاء لكل الجزائر
(1) كان الفرنسيون قد أرسلوا بالجنود الجزائريين إلى أوروبا، وجاؤوا بالسينيغاليين إلى الجزائر، حتى لا ينضم الجنود إلى الأهالي كما وقع سنة 1871.
(2)
ذهب جغلول (عناصر ثقافية)، مرجع سابق، ص 183 - 186 إلى أن ابن زلماط قد سقط والسلاح في يده، مارس 1921. أما عبد الحميد زوزو (أطروحة الدكتوراه)، فقد قال انه قبض عليه وحوكم ثم أعدم، كما ذكرنا. وكان عمره عند إعدامه حوالي 26 سنة.
لأن ما وقع في العاصمة في أول الأمر وقع مثله في غيرها بعد ذلك. ويغلب على الظن أن القصيدة قيلت بعد الاحتلال بقليل، أي بعد استيلاء الفرنسيين على المدينة وجلاء معظم أهلها عنها وتعطيل المدارس والمساجد وهجرة العلماء والطلبة، والاستحواذ على الخزينة، كما تروى القصيدة.
لم يورد دي شانصيل في مجلة الشرق النص العربي مع النص الفرنسي، وإنما المجلة الإفريقية هي التي نشرت النص العربي بمناسبة الذكرى المائوية للاحتلال (1930). وبالرجوع إلى النصين الفرنسي الذي نشر سنة 1843 والعربي الذي نشر سنة 1930 ندرك أنهما من أصل واحد. فالنص الفرنسي للقصيدة يبدأ بالحمدلة والتصلية، ويذكر أيام الخميس والجمعة والإثنين، والجهاد والحور العين، وطلب الغفران من الله، ثم مخاطبة الشاعر إخوانه المسلمين معزيا ومسليا قائلا إن الأيام دواليك، والدهر متقلب، ثم تأسف على ضياع الجزائر وخراب قصورها وقلاعها وصوامعها، وعلى انقطاع القرآن والعلم في المدارس والمساجد، وعلى هجرة العلماء. وتأسف كذلك على المعابد التي داسها الكافر بقدميه وأضرحة الأولياء، ومصائر رجال الدين والقضاة والإسلام (1).
أما النص العربي الذي نشرته المجلة الإفريقية، ثم أخذته عنها مجلات وكتاب آخرون، فيبدأ هكذا:
بالحمد نبتدا ذا القصة ونعيدها
…
استغفروا وتوبوا يا مسلمين
صلوا عليه قد الدنيا وامحانها
…
ما دمنا نشوفوا واحنا حيين
توبوا واستغفروا للمولا
…
هذا آخر الزمان ادركنا
وقد استمر الشاعر في ذكر (زمن الفتنة) الذي أصاب كل قبيلة، واعتبر من مات قد استراح، وأما الحي فهو الذي بقي يواجه المحن. وتساءل: أين هي جزائر مزغنة، سلطانة كل المدن، ها هي أصبحت في قبضة الأعداء،
(1) أوسون دي شانصيل (قصيدة الشيخ عبد القادر المازوني في رثاء الجزائر) في مجلة الشرق R. Le L'orient، 1843، ص 284 - 286.
وهم النصارى الفرنسيون. وبعدما كانت الأجناس والشعوب والدول تخاف الجزائر، فها قد تبدل حالها وانخفضت أعلامها (سناجقها) ودالت أوجاقها، لأن أهل الله الصالحين قد تخلوا عنها فاستولى عليها الأجانب، لقد أعطاها الصالحون إلى الأعداء وتخلوا عنها لفساد حكامها وانحراف أهلها. فأخذها الفرنسيون عنوة بالسفن الحربية العديدة، والجنود الذين كانوا كالجراد، والعتاد الكبير. إن العقل قد أصبح في ذهول مما حدث. وكانت اللازمة التي يكررها الشاعر هي حزنه الدائم على ضياع وطنه:(راني على الجزائر يا ناس حزين!).
ثم وصف الشاعر كيف حدثت عملية الاستيلاء على المدينة، فذكر المراسي وما كان فيها من مدافع وسفن والاستعداد لمواجهة العدو. ولكن هذا العدو لم يأت من الشرق كما كان متوقعا بل فاجأ وسائل الدفاع وهاجم من الغرب، من مرسي سيدي فرج. وكان ذلك يوم السبت - حسب الشاعر - وقد مات من المسلمين عدد كبير، وتكاثر عدد المجاهدين ودوت زغاريد النساء، ودامت الحرب يومي الأحد والإثنين. وبعد ذلك انعكست الآية، وتحول السرور حزنا لدى المسلمين، وفرح اليهود بهزية المسلمين وزغردت نساؤهم. واستولى الفرنسيون على الخزينة ذات الجواهر والمثمنات. وجرت معركة اسطاويلي، وتقدم العدو عن طريق الأبيار وبوزريعة ثم برج مولاي حسن (الثغريون). وأبيحت المدينة يومين، وتفرق أهلها هائمين على وجوههم. لقد أصابتها العين الحاسدة! أين دار السلطان، وأين البايات؟ وأين القضاة والشواش والسراي؟ وأين المفتون والعلماء؟ وأين الجوامع وخطباؤها ومنابر الرخام والصوامع وآذانها؟ وأين حلقات الدروس ومجالس الحزابين؟ لقد غلقت الأبواب وبات كل ذلك في عالم النسيان. وهدم العدو حتى الجامع الكبير (نقمة في المسلمين)، ووضعوا ساعة في مكان سوق القيصارية حيث كانت سوق الكتب والسفارين.
ولم ينس الشاعر تاريخ الجهاد البحري وجحافل الأسرى، وأكوام الغنائم التي كانت ترد إلى الجزائر، وهذه الذكريات جعلته يلتفت إلى الله
ويتوسل إليه بالرسول صلى الله عليه وسلم لكي يرزقها سلطانا رحيما وعادلا، فيحكم من قصورها وسراياها وتكون له الجيوش القوية، ويشيع الحق والعدل بين الناس. ثم كرر الشاعر لازمته:(راني على الجزائر يا ناس حزين!)(1).
إن قصيدة رثاء الجزائر للشيخ عبد القادر (المازوني) وثيقة تاريخية هامة، وهي ليست مجرد وصف وسرد للأحداث التي جرت نتيجة الاحتلال ولكنها مفعمة بالمشاعر الإنسانية العميقة، فالرجل لا ينطلق من دوافع شخصية ولكنه قد انطلق من غيرته على الوطن والدين والتراث والقيمة التاريخية لمدينته وآثارها. ولذلك يجب أن تدرس هذه الوثيقة مع قصيدة ابن الشاهد، في المدارس والجامعات في مواد التاريخ والأدب والآثار. وهي دليل على أن الأدب الشعبي الصادق يظل خالدا رغم مرور الزمان.
وإن الشكوى من الزمان ومن الظلم والانتقام كانت سمة هذه الفترة، ولا سيما بعد فشل الثورات التي كانت تعطي الأمل والبدائل للشعب. ومن الظلم شيوع الفقر وكثرة المراباة وفقدان الأرض ومصادر الحياة والرزق. وقد شاع بين الجزائريين أن اليهود بالغوا في أخذ الربا وجمع الأموال على حسابهم، لا سيما أيام المجاعات والنكبات، فهم يقرضون المحتاجين ثم يأخذون منهم أضعاف ما أقرضوهم، وقد يؤول إلى اليهود كل ما يملك المقترض إذا عجز عن الدفع. وقد شاع ذلك سنوات الستين من القرن الماضي أيام اغتصاب الأرض بقانون 1863 ثم المجاعات التي حدثت سنوات 1867 - 1869. ولعل هذا هو ما يشير إليه الشاعر الشعبي المجهول الذي لعله من فترة ثورة 1871. والمعروف أن التعسف والجبروت قد كثرا على يد الكولون واليهود الذين منحهم الفرنسيون الجنسية الكاملة بعد حرب السبعين.
(1) المجلة الإفريقية 1930، ص 225 - 256. وكذلك جمال قنان (نصوص سياسية) ص 33 - 35. انظر فصل المعالم الإسلامية، لترى ماذا فعل الفرنسيون بالآثار التي ذكرها الشاعر من مصادر أخرى.
ومهما كان الأمر فقد اشتكى الشاعر من شيوع الفساد والربا واستنجد بالسلطان العثماني عبد العزيز (1) ليأتي من الشام (الشرق؟) وينقذ الرقاب المغلولة بالربا، وينصر جند الإسلام. وقد اعتز الشاعر بالقرآن والدين، وأعلن أن الوطن قد ضاق به ولم يبق سوى الهروب منه - وكانت الهجرة شائعة نحو الشرق عندئذ -:
يا رب عجل به من يفك الرقاب
…
يأتي من وطن الشام غيثنا بيه
يهدي (عبد العزز) يأمره للركاب
…
يعطيه جنود النصر ليه تحميه
في الدين حصلنا والكريم لينا كتاب
…
رب نزل قضى أذل خلقيه
ما بقات إلا الهرب
…
هذا الوطن انعاف
حتى يجي مولا النوب
…
سلطان من الأشراف (2)
وشاعت الشكوى من الزمان أو ذم الزمان وأهله في الأدب الشعبي عموما. ونحن نجد ذلك في مختلف المراحل من الاحتلال. وكان الاستنجاد بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبالأولياء وبالسلطان العثماني هي لازمة الشعر الشعبي. وكان البحث عن منقذ أو (فكاك الرقاب) كما عبر الشاعر السابق هو أعظم ما يقدمه الشاعر من أمل للناس الذين يستمعون إليه أو يروون شعره. وقد يصل اليأس إلى حد الهجرة من الوطن لأنه أصح (ينعاف) وهو أقصى ما يصل إليه الشاعر من الضيق. وقلما يدور اليأس الكامل بقلبه فيصل إلى الانتحار وما شابهه. وقد شاع في هذه الفترة أيضا التعبير (بقرن اربعطاش) دلالة على نهاية العالم وطي الدنيا: زمن أربعطاش، ذرية أربعطاش، وحكم أربعطاش
…
والمعنى أن الشاعر يسلي الناس بأن بداية القرن الرابع عشر الهجري (أربعطاش) ستكون هي الخلاص مما هم فيه. ولكن العهد الجديد قد حل، ولم يتغير الحال، فذهب الشعراء ومن على شاكلتهم يقولون إن الخلاص لن
(1) حكم بين 1854 - 1876.
(2)
عبد الحميد زوزو (نصوص)، ص 119. من كتاب F. Gourgeot (Les Sept Plairs (d'Algerie الجزائر، 1891، ص 168 - 170.
يكون في البداية ولكنه سيكون خلال مائة سنة - قرن أربعطاش -. وهكذا يقدم الشعر المواساة والمسكنات لقلق الناس على مصائرهم وفقدانهم الأمل والحرية.
وهناك من بلغ به اليأس درجة عالية فأدمن الخمر وانتظر القضاء يحكم له، فمات غما وكمدا، مثل الشيخ المختار بن فرحات. فقد ذكر المستشرق لويس ماسينيون أن المختار كان من عائلة كبيرة تنتسب إلى قبيلة بني المعارز (؟) وعاصر الاحتلال منذ كان جده، وهو الحاج المبروك، صيادا ماهرا للأسود. ورغم أنه اصطاد 26 أسدا فإن الأسطورة الشعبية تذهب إلى أن الحاج المبروك قد اصطاد 99. وكان الحاج المبروك عندئذ في رفقة بعض الجنرالات الفرنسيين. أما حفيده المختار فقد ولد حوالي 1861 وحفظ القرآن الكريم في موطنه وأصبح (طالبا) كثير الفضول والاهتمام، شديد الذكاء. كان نقادا وله روح حية ونادرة بين زملائه في المدرسة. ولا ندري إن كان قد درس في المدرسة الفرنسية الرسمية أيضا، لأن ماسينيون يقول إنه كان يقارن بين النصوص القرآنية والنصوص الموسوية (اليهودية)، وأنه كان يخالط الربيين، وأنه درس على أيديهم اللغة العبرية.
ولكن المجتمع الإسلامي، حسب ماسينيون، لم يتسامح معه، وهجر المختار وانتقده وشك فيه. وكان المختار قد جاء إلى مدينة الجزائر باحثا عن عمل. ولكنه وجد نفسه فيها غريبا، وعانى الكثير من الغربة في نفسه وبدنه. وأصيب بالإحباط، فقال قصيدة عتابية للزمان. وهي تتألف من 50 بيتا. انتقد فيها العادات، وأبدى ذوقا إسلاميا مخلصا (حسب تعبير ماسينيون) وإيمانا بالإسلام. ولكنه في نفس الوقت أظهر ما للفرنسيين (الأروام) من وسائل القوة المادية والمعنوية، وانتقد قومه على تركهم الروم يتصرفون في أمور الجزائريين، فيعاقبون على الجرائم ويتصرفون في العدل - الشريعة - قائلا: إنه لا طالب ولا طبيب يداوي هذا الوضع الذي عليه الجزائر. وقد حكم ماسينيون من ذلك على أن الشاعر كان يائسا من الإصلاح ومن الزمان وأهله. ولذلك توسل الشاعر إلى الله بالأغواث والأقطاب والأبدال الصوفية، لكي