الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدخل في تطور حركة الشعر
نعالج في هذا الفصل الشعر الفصيح والزجل (الملحون) خلال أكثر من قرن، أي من 1830 إلى عشية ثورة نوفمبر 1954. والشعر الفصيح ليس كله فصيحا حقا، فسيكون فيه القوي والضعيف والجميل والتافه. ولكن المصطلح سيحترم. فالفصيح هنا هو الذي سار على قواعد اللغة وطبق مبادئ العروض. أما الزجل فهو ذلك الذي خرج عن هذه القواعد والمبادئ وعبر بالدارجة وتوجه عادة إلى العامة. وسيتضمن الزجل أيضا بعض الأشعار البربرية التي عثرنا عليها، وقد كان شعراء البربرية متعلمين أو غير متعلمين، متأثرين بأصول العروض العربية. أما الشعراء الجزائريون بالفرنسية فسنشير إليهم إذا وجدوا، لنعلم فقط إلى مدى وقع التأثير اللغوي والأجنبي عليهم. ولكننا لن نتناول هنا الشعراء الفرنسيين الذين عاشوا في الجزائر أو زاروها.
الأغراض التي تناولها الشعراء كثيرة، وتكاد تكون هي أغراض الشعر العربي المعهودة. فنحن سنلاحظ أن شعر الفخر والهجاء ما يزال يواصل مسيرته. أما الرثاء والمدح والغزل والتوسل فهو ملح الطعام في كل العصور. وسنجد الوصف قد أخذ حظا وافرا في هذا الشعر. وهناك ميدان خب فيه الشعراء، كل على حسب جهده، وهو الشعر الوطني والاستنهاض، والشعر القومي والإسلامي. وقد ارتبط بذلك ظهور الشعر الإصلاحي - الاجتماعي. فبدل الغوثيات والتوسلات ومدح شيوخ الزوايا جاء شعر التحرر من البدع والخرافات والدعوة إلى الإسلام الصحيح والتضامن. وقد كان شعر الغزل من ضحايا هذا الاتجاه، فقد أصبح ينظر إليه على أنه شعر العبث واللهو، وذلك غير مقبول في وقت كانت البلاد في معاناة وشدة. فكان على الشعراء أن
يجدوا ولا يهزلوا وأن يتضامنوا مع الشعب ولا ينفردوا عنه.
أما طريقة المعالجة فإننا سنذكر، بعد المدخل، الدواوين المعروفة سواء المطبوعة أو المخطوطة، وكذلك المجاميع من الشعر. وسنذكر ما نعرف عن كل ديوان أو مجموع. وإذا لم نتمكن من الإطلاع على بعضها فسنشير إلى ذلك. وبعد ذلك نعالج أغراض الشعر غرضا غرضا، مع ذكر النماذج. بقدر ما توفر أو ما تسمح به المساحة. أما القسم الثاني من هذا الفصل فسيخصص للشعر الملحون أو الزجلي، وسنحاول أن نصنفه أيضا إلى أغراض، وكذلك سنفعل مع شعر البربرية.
وفي الوقت الذي كان فيه الشعراء يواصلون رسالتهم كان بعض المتعلمين والأدباء يصنفون لهم ولغيرهم مؤلفات في علم العروض وقواعده. وهي مؤلفات ليست كثيرة إذا قيست بغيرها ولكنها تدل على الترابط بين الشعر وعلم العروض (1). ومن أوائل المصنفين في ذلك هو الشيخ محمد بن يوسف أطفيش إذ وضع كتابا سماه (مختصر الكافي في العروض والقوافي). ويدل العنوان على أن الشيخ لم يضع تا ليفا وإنما اختصر التأليف المعروف بالكافي، وهو ما فعله غيره أيضا. فقد قام المولود بن الموهوب بنظم شرح الكافي وسماه (التبر الصافي). وخدمة لهذا الاتجاه شرح إبراهيم العوامر السوفي هذا النظم وسماه (مواهب الكافي على التبر الصافي)(2). ولكن التأليف الذي تميز عن غيره بالمنهج العلمي والأسلوب الجذاب والشواهد المفيدة هو كتاب (تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب) لمحمد بن أبي شنب. وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، منها واحدة بتصديرنا (3). وآخر من ألف في علم العروض وجمع بينه وبين الشعر هو الشيخ موسى نويوات الأحمدي (4).
(1) عن العلاقة بين الشعر والموسيقى انظر فصل المنشآت الثقافية.
(2)
ط. تونس 1323. وتوجد نسخة من هذا الشرح في المكتبة الوطنية، الجزائر، مخطوط رقم 1680.
(3)
انظر ط. 2، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1990.
(4)
المتوسط الكافي في علمي العروض والقوافي. ط. عدة طبعات.
ويزدهر الشعر عادة بازدهار التعليم ووسائل النشر والحوافز والنقد. غير أن هذه جميعا كانت منعدمة تقريبا قبل 1920. وإذا استثنينا بعض الصحف التي ظهرت أوائل هذا القرن فإن الشعراء لم يجدوا أين ينشرون قصائدهم ودواوينهم (1). ولم تكن حركة التعليم نشطة حتى تخرج شعراء متمرسين باللغة العربية ومطلعين على التراث ومسايرين لروح العصر. وليس هناك حوافز معنوية أو مادية تجعل الشعراء ينطلقون في تجربتهم ومتنافسين في فنهم. أما النقد فلم تعرفه الحركة الأدبية إلا خلال الثلاثينات عندما أخذت الشهاب تعلق على ما كان ينشر فيها، ثم ظهرت البصائر، وكان النقد عندئذ ما يزال اختراعا جديدا. ولا يعني ذلك أن من قال شعرا لا يتعرض للذم أو الاستحسان ولكننا هنا نشير إلى النقد كقواعد و (علم) بذاته لتقييم الشعر.
وقد يكون من التناقض أن نوقع شعراء يظهرون في بلاد سيطرت عليها الأمية طيلة سبعين سنة تقريبا وتحت احتلال عنصري بغيض. فمنذ وضع الفرنسيون لديهم على الأوقاف الإسلامية وانهمكوا في هدم المدارس والمساجد وتشريد العلماء والطلبة، جفل العلماء وخلت حلقات الدرس وجفت ينابيع المعرفة، بل إن ذلك كان دافعا قويا لهجرة عدد من الأدباء وسكوت الآخرين. وقد رثى بعض الشعراء حالة الوطن بعد الاحتلال، وأنجبت المقاومة شعراء الفصيح والزجل، والأنصار والمعارضين. ولكن هذه الظاهرة انتهت تقريبا مع بداية الخمسينات من القرن الماضي، أي مع الجيل الذي كان شاهدا على وقوع البلاد في براثن الأعداء. وهكذا اختفى أمثال: محمد بن الشاهد، والأمير عبد القادر، وابن التهامي، بحلول سنة 1850.
(1) كانت مصلحة الشؤون الأهلية التابعة للحكومة هي التي تنشر ما ترضى عليه من الإنتاج، وهو عادة ما كان يخدم المخططات الاستعمارية ويدعم المدارس الرسمية ويوفر النصوص للمستشرقين. وكان بعض الجزائريين مثل المجاوي والزريبي، ينشر إنتاجه في تونس، أو يبقى عمله محفوظا شأن الكتاب الذي أعلن عنه عبد الحليم بن سماية سنة 1905.
وعانت حركة الشعر تبعا، لمعاناة تجربة التعليم بين 1851 - 1880. فنحن خلال هذه الفترة لا نكاد نسمع بشاعر فصيح. وربما كانوا موجودين ولكنهم لم ينشروا شعرهم لأنه لا يوجد أين ينشرونه ولا من يتذوقه. ومهما كان الأمر فإن القليل من الشعر الذي بقي لا يدل على ثقافة أصحابه ولا على إخلاصهم لأن فكرة نبيلة. ولا شك أن الذى ملأوا الفراغ هم شعراء الزجل (الملحون). فهم الذين سجلوا الملاحم، ووصفوا الطبيعة والصيد والمرأة والمآسي التي تعرض لها الشعب، وهم الذين مدحوا أبطالهم من المجاهدين وبكوا أبناءهم ورفاقهم من الشهداء. أما القطع الباقية من الشعر الموزون فلا تكاد تخرج عن مدح بعض الفرنسيين، مثل نابليون الثالث أثناء زيارتيه للجزائر - 1860، 1865 - وتهنئة بعضهم بعيد الميلاد، كما فعل محمد الشاذلي مع بواسونيه. وقد احتفظت لنا الوثائق أيضا بنمادج من الشعر الإخواني كالذي تبادله الأمير ومحمد الشاذلي في سجن امبواز (فرنسا). وما دار بين الشاذلي ومصطفى بن التهامي وغيره من حاشية الأمير في نفس المناسبة. ولا بد من القول إنه لم تكن توجد عندئذ أية وسيلة لنشر الشعر. فالجريدة الوحيدة التي كانت تصدر بالعربية (المبشر) هي جريدة رسمية للإعلانات والتوجيهات الحكومية، ولا نعرف أنها نشرت من الشعر غير بعض القصائد في مدح القادة الفرنسيين أو بعض القطع لحسن بن بريهمات وأمثاله، وهي قطع في موضوعات اجتماعية ودينية غالبا تخدم أهداف الجريدة.
وهذا لا يعني أن الشعراء كفوا في هذه الفترة (1851 - 1880) عن قرض الشعر. ولكن نلاحظ أن جلهم قد لجأ إلى شعر التوسلات والغوثيات، وما نسميه بالشعر الديني المتجه إلى التصوف والاستسلام للأمر الواقع، مع الضعف الشعري الذي يلازم ضحالة التعليم وانعدام الحوافز. ولم يكن هناك سوى مصدرين لتعليم متوسط ومحدود جدا خلال هذه الفترة، الأول وجود المدارس الثلاث الرسمية التي كانت تستقبل أعدادا قليلة من تلاميذ الزوايا وغيرها لتخرج منهم قضاة. والثاني الزوايا التي سمح لها بالاستمرار في
تحفيظ القرآن الكريم وبعض المعارف العربية والإسلامية، مثل زوايا الجنوب وزواوة. وتنسب إلى مصطفى بن التهامي غوثية هامة عندئذ، وكذلك منظومات لمحمد الشاذلي، وكان رجال السلك الديني (رجال الإفتاء والخطابة والإمامة) يتعاطون هذا النوع من الشعر الديني أيضا، كما كانت لهم أراجيز وقطع تعليمية تدور حول الفنون التي كانوا يدرسونها. ومن هؤلاء المفتي حميدة العمالي.
وفي المرحلة الثانية (1881 - 1919) برزت الصحف وانتشر التعليم قليلا وسمح بالتعبير المحدود عن خلجات النفس في عهدي كامبون (1891 - 1897)، وجونار (1903 - 1912) في الميادين غير السياسية. وكان ذلك سببا في بروز عدد من شعراء اللغة الفصحى معظمهم من الجنوب. ومن أبرزهم على الإطلاق الشيخ عاشور الخنقي الذي كان يعيش في قسنطينة منذ السبعينات ثم انتقل إلى زاوية الهامل للتعليم. وكان ديوانه (منار الإشراف) الذي نظمه خلال التسعينات أول ديوان في الجزائر (طبع كذلك ديوان الأمير في المشرق حوالي نفس الفترة). ولولا أن شعر الخنقي كان معظمه في غرض واحد، وهو الدفاع عن الأشراف بالحق أو بالباطل، لكان صاحبه أعظم شاعر جزائري في آخر القرن الماضي وبداية هذا القرن. وهناك أيضا محمد بن عبد الرحمن الديسي الذي له ديوان غير مطبوع. لقد جرب الشعراء خلال الفترة المذكورة كل أنواع الشعر تقريبا، الشعر السياسي والاجتماعي والصوفي والغزلي والمدحي. وسنرى ذلك بعد قليل، وقد وجد بعضهم في جريدة (المنتخب) وهي جريدة فرنسية خاصة، وسيلة للتعبير (1882 - 1883) ولكنها سرعان ما اختفت. ولم تظهر الصحف التي نشرت الشعر سوى في العشرية الأولى من هذا القرن، ومنها المغرب، وكوكب أفريقية، والفاروق. ولا بد من الإشارة إلى أن الأولى والثانية جريدتان حكوميتان، أما الفاروق فقد كانت من إنشاء عمر بن قدور، وقد كان ابن قدور نفسه شاعرا وكذلك كان المولود الزريبي المعاصر له. وقبل أن نتحدث عن المرحلة الثالثة، نقول إن بعض الشعراء كانوا قد
نشروا إنتاجهم، رغم قلته، في جرائد عربية خارج الجزائر خلال الفترة الثانية. فقد نشرت (الجوائب) لأحمد فارس الشدياق و (المنار) للشيخ محمد رشيد رضا و (الحاضرة) لعلي بوشوشة، قصائد وقطعا في المدح والتقريظ والرثاء وغيرها لشعراء جزائريين. ومن هؤلاء أحمد المجاهد الغريسي الذي كان قاضيا، وعمر بن قدور الذي كان محررا في جريدة الأخبار قبل الفاروق، ومحمد بن مصطفى خوجة الذي كان صحفيا في المبشر ثم مدرسا في أحد مساجد العاصمة، بالإضافة إلى مشاركة إخوة الأمير عبد القادر وأولاد أخوته في الحركة الشعرية بالمشرق. ومما يذكر أن محيي الدين بن الأمير عبد القادر له ديوان شعر في مستوى راق بمفهوم وقته. فالحركة الشعرية في المشرق كانت أكثر خصوبة منها في الجزائر عندئذ، نظرا لمستوى التعليم وانتشار الصحف وشيوع الترجمة وظهور النقد الأدبي.
والمرحلة الثالثة للشعر تبدأ من 1920 وتستمر إلى عشية ثورة نوفمبر 1954. وهي أخصب الفترات إنتاجا. وخلالها برز عدد من الشعراء الذين كانوا غالبا مستقلين، وكان بعضهم من رجال الدين الرسميين أو من المساندين للإصلاح الذي تبنته جمعية العلماء المسلمين. ورغم اختلاف المستوى بين شاعر وآخر، فإن الحركة على العموم كانت تتقدم وتتسع إلى أن وصلت إلى قمتها على يد محمد العيد ومفدي زكريا. لقد انتعشت حركة التعليم العربي منذ شرع ابن باديس في تأسيس المدارس عبر القطر، وأخرجت الدارس الرسمية أيضا عناصر معربة أو مزدوجة اللغة، وانتشر الطلاب الجزائريون ينشدون التعليم العربي في تونس ومصر والمغرب، ثم رجع بعضهم بزاد وفير. وكذلك رجع بعض العلماء المهاجرين من الحجاز (العقبى) وسورية (الإبراهيمي). وزيادة على ذلك ظهرت الصحف العربية المستقلة عن الحكومة، وتنافست في نشر القصائد مما سمح للشعراء أن ينشروا إنتاجهم، فكانت الإقدام والشهاب، وجرائد الشيخ أبي اليقظان العديدة، والنجاح، والبلاغ، والبصائر، والإصلاح، والمنار، ميادين لهؤلاء الشعراء. وكانت تقدم للقصائد بعبارات الاستحسان والمدح أحيانا.
وفي هذا الصدد نشرت أول مجموعة شعرية عشية مرور مائة سنة على الاحتلال. وكانت تضم ترجمات ومختارات لعدد من الشعراء المتمايزين سنا وجودة وفكرا. فقد كان منهم الشيخ والشاب، والمتوسط الشعر وجيده، والمصلح المستقل والموظف الرسمي، ومع ذلك جمعهم محمد الهادي السنوسي، صاحب (شعراء الجزائر في العصر الحاضر) في كتاب واحد بجزئين مع صورهم أحيانا (1). وقد تلا ذلك نشر ديوان الشيخ أبي اليقظان أيضا. وكان أبو اليقظان صحفيا بارعا وشاعرا اجتماعيا مطبوعا. ويمكن اعتبار ديوانه ثالث ديوان يطبع بعد ديواني الأمير وعاشور الخنقي.
أما أنماط الشعر خلال هذه الفترة فقد تنوعت. فأنت تجد الشعر الذاتي عند عدد من الشعراء، منهم رمضان حمود ومبارك جلواح والطاهر البوشوشي وعبد الكريم العقون. وتجد الشعر السياسي الصريح أو المغلف عند البعض مثل ابن باديس ومفدي زكريا، والربيع بوشامة ومحمد العيد، والشعر الاجتماعي عند هذا وعند أحمد سحنون وأبي اليقظان والصادق خبشاش والهادي السنوسي. ومن شعراء الدين والتصوف أحمد المصطفى بن عليوة. وكان بعض الشعراء يجمعون بين عدة أغراض مثل محمد العيد.
وتجدر الإشارة إلى أن شعر التمثيل قد ظهر أيضا خلال هذه الفترة. ذلك أن الحركة الأدبية قد نمت وارتبطت بالتراث العربي والثقافة الإسلامية، وأصبحت تستمد أمثلتها من الشعراء القدماء والمحدثين وتقلد ما ظهر في المغرب والمشرق مما يسمى بالشعر التمثيلي. فكان الشعراء يكتبون لتلاميذهم روايات شعرية قصيرة يمثلونها في المناسبات الدينية والاجتماعية، كالمولد النبوي والأعياد، ومن ذلك مسرحية (بلال) لمحمد العيد.
ومن الممكن أن نلحق بذلك الأناشيد المدرسية التي كان ينظمها الشعراء بروح دينية إصلاحية وطنية لينشدها التلاميذ في المدارس تربية لهم
(1) ظهر الجزء الأول سنة 1926، والثاني سنة 1927. كلاهما طبع في تونس.
وتنشيطا لهممهم. ومن الذين برعوا في ذلك ابن باديس ومحمد العيد ومحمد بن العابد الجلالي.
وفي مواجهة القوانين الجائرة والاستبداد الاستعماري، كانت القضايا التي يطرقها الشعراء في الداخل أقل تسيسا من القضايا التي يتناولونها في الخارج. وكانوا أحيانا يعكسون وضع الجزائر بطريق غير مباشر عندما يتناولون قضية عربية أو دولية. فإذا مدح الشعراء أو وصفوا أو رثوا شخصا أو حادثا خارج البلاد فإنهم سرعان ما يمثلون لذلك بحالة بلادهم وأشخاصهم ومواطنيهم. من ذلك رثاء عمر المختار وغازي ملك العراق والشاعرين حافظ وشوقي والأمير خالد. ثم قيام الجامعة العربية ونفي السلطان محمد الخامس واستقلال ليبيا ثم السودان، وثورة مصر، وقنبلة هيروشيما، وتهنئة الحجاج بأداء الفريضة وسلامة العودة.
والقصيدة العمودية هي التي ظلت تميز الشعر خلال مراحله الثلاث، فالوزن والقافية، والمحافظة على مصراعي البيت وحتى البداية بالغزل أحيانا وتعدد الأفكار في القصيدة الواحدة، كل ذلك مما كان يميز شعر هذه المراحل. لقد كان التجديد في الأسلوب الشعري والأغراض غير وارد. ولكن هل يعني ذلك أن قصيدة الثلاثينات من هذا القرن هي نفسها قصيدة الأمير عبد القادر، مثلا؟ الجواب هو أن الروح ظلت واحدة والموسيقى الشعرية أيضا بقيت واحدة تقريبا. أما الذي تجدد فهو الأغراض واستعمال الرمز والإيحاء والمصطلحات والألفاظ. ولا شك أن محمد العيد يعتبر مجددا إلى حد كبير في خطابه الشعري: شاعر المجتمع والجمهور الحاضر، وشاعر القلب الدافق بالحب للدين والوطن والإنسان. وأن مفدي زكريا قد أدخل في الخطاب الشعري، سيما بعد 1956، جلجلات الثورة وقعقعات السلاح والتمرد العاطفي لكي يعبر عن إيمان صادق بمستقبل الجزائر الحرة. ولقد عبرت أشعار رمضان حمود وجلواح والعقون عن رعشة القلب في صلواته أمام براءة الطبيعة وذنوب الحاضر الاستعماري.
ولكن هذا لا يعني أن الشعراء لم يستعملوا قوالب شعرية أخرى غير القصيدة. فقد كتب رمضان حمود نوعا من الشعر الحر أو المتحرر. واستعمل بعضهم القطع القصيرة، والتفعيلات المتعددة في القصيدة الواحدة، وكذلك تنوع القوافي. وقد ظل الموشح مستعملا عند عدد من الشعراء،. ومنهم القديم مثل مصطفى بن التهامي، ومنهم الجديد مثل محمد العيد، مرورا بعمر بن قدور. ولكن الموشح الجديد يلاحظ عليه القصر وحداثة اللغة. كما نجد عند شعرائنا حتى في المرحلة الثالثة من كان يخمس الشعر ومن كان يعارضه، ومن يشطره، ومن يلغزه، ومن يرجزه، الخ. وهكذا فإن (ملاعب) الشعراء القديمة على عهد الآرام والأطلال كانت مزدحمة في عهد السيارات وناطحات السحاب والتقنيات الجديدة وعصر الفضاء والأقمار الصناعية.
لقد ظهرت عدة دراسات تناولت الحركة الشعرية في الجزائر منذ 1919 - أي المرحلة الثالثة، أما المرحلة الأولى والثانية فغير مدروستين حسب علمنا. وليس من مهمة دراستنا هذه تسليط الضوء على كل ما كتب حول الشعر منذ 1919 ولا نقده. وإنما نذكر هنا أن عددا من الباحثين قد ركزوا جهودهم في عهد الاستقلال على كتابة أطروحاتهم الجامعية حول هذا الشعر. وقد تسابقوا في الميدان حتى لم يبق فيه ربما مكان لمتسابق. فتناولوا أفرادا من الشعراء، وأغراضا من الشعر، وربطوا بين ذلك والحالة السياسية والاجتماعية والعلاقة مع الحركة الأدبية في البلاد العربية. ومعظم الدراسات وجدت نفسها تعالج الشعر باعتباره نتاج الحركة الإصلاحية التي بعثت اللغة العربية وحررت العقول، وأسالت الأقلام، وأنشأت الجرائد والنوادي والمدارس. والشعر الديني نفسه قد تأثر بهذا الجو، فأصبح الشعراء يتنافسون في الدفاع عن بعض التيارات الدينية، ورغم ظهور الإصلاح فإن التيار الديني أو الصوفي بقي قويا، وله شعراؤه أيضا. وأحيانا كانت الخلافات بينهم تصل إلى حد المهاترات والسباب. ولكن هذا لا يمنع من القول إن الحركة الشعرية كانت من نتاج تطور اللغة العربية في المدارس ولا سيما بعد ظهور معاهد ابن باديس والكتانى والحياة.
وهناك على الأقل ثلاث دراسات تناولت تطور الحركة الشعرية بالرصد والنقد: الشعر الحديث لصالح خرفي، والشعر الديني لعبد الله ركيبي، ثم الشعر الحديث لمحمد ناصر. ولعل ركيبي هو الوحيد الذي رجع إلى ما قبل سنة 1919 في بحثه عن الشعر الديني. أما الباحثان الآخران فقد ركزا على الفترة الثالثة المشار إليها. وكان خرفي قد عالج في بحث آخر الشعر في عهد الأمير. إن هؤلاء الباحثين قد درسوا النماذج والظروف وسير الشعراء والأساليب والمؤثرات. وها هي أعمالهم الآن مراجع هامة لتلاميذهم وغيرهم من الباحثين. وهناك دراسات قام بها باحثون آخرون، مثل الشعر عند فلان، ومثل أثر جمعية العلماء في الشعر، والشعر السياسي، والتجديد في الشعر، وغير ذلك من الجوانب. وقد قلنا إن الزحام قد بلغ أشده على هذا النبع حتى كاد يغيض.
وفي هذا الصدد يأتي الحديث عن التأثير الفرنسي في الشعر. ورغم أننا ندرس الشعر العربي فصيحه وشعبيه وما يتصل به من لهجات، فإن السؤال عن التأثير المذكور يظل قائما. فهل أثر الشعراء الفرنسيون في شعراء الجزائر سواء منهم شعراء العربية أو الفرنسية؟ إن بعض المصادر الفرنسية تذكر أنه قد مر بالجزائر أكثر من مائة شاعر فرنسي. ومنهم من تولى مسؤوليات إدارية. ولكن ما مدى صلتهم وتأثيرهم على شعراء الجزائر؟ فالشاعر شانسيل أصبح نائبا لوالي مدينة الجزائر. وقارن في شعره بين روما والجزائر، وتغنى بفتاة موريسكية، وله شعر عنوانه (الجزائرية الأولى) وآخر سماه (مليانة). وتغنى الشاعر الطبيب أوباسي بمدينة البليدة في مجموعته (المغربيات). وتحدث الشاعران الأخوان قونكور عن الفتى البسكري أو الزنجي الصغير سنة 1849، وزعما أنه شعر بالحزن عندما رحل عنه الفرنسيون! وعلى هذا النحو طلب الشاعر شارل ماري لوفيفر من فرنسا أن تأتي لترى الجزائر (ابنتها الكبرى)(1). فهل هذه هي الأفكار التي سيؤثر بها الشعراء الفرنسيون على
(1) جاكلين بيلي (عندما أصبحت الجزائر فرنسية)، ص 264.
الجزائريين؟ إن المدرسة الفرنسية كانت مرتبطة بالإدارة الاستعمارية وبفكرة الهيمنة والتعالي، بل إن الشعراء كانوا أصواتا لهذه الإدارة المهيمنة. ونحن لا نجد عند هؤلاء الشعراء روح التسامي والإنسانية والعلاقات الروحية بين الشعوب، أو الإعجاب بالبربر والعرب وأخلاقهم العالية وشجاعتهم النادرة وإيثارهم الفذ. وإنما كان إعجابهم بالطبيعة وتسخير فرنسا. (الأهالي) لخدمتها.
وأقصى ما قاله العقيد قادشو، وهو يلقي محاضرة عن مجموعة (انطولوجيا) شعرية سنة 1920، أنه يحب العرب ويحب البربر ويحترم الروح الإسلامية، ولكنه يعتقد أن السلالة التي ستعيش في الجزائر سوف لا تكون بربرية ولا حتى فرنكو - بربرية، وإنما ستكون سلالة فرنسية، وستنتج أعمالا تنسجم مع وسطها (الفرنسي؟). ان عنوان المجموعة هو (13 شاعرا جزائريا) - كذا جزائريا - ولكنها مع ذلك لا تضم إلا الشعراء الفرنسيين، لأن كلمة (الجزائري) هنا تعنيهم هم فقط. وقد قدم لها الأديب الذي ذاع صيته بين الحربين وهو روبير لاندو. ونوه المحاضر، العقيد (؟) قادشو، بالشاعر لاندو وبالشعراء الذين تغنوا بالجزائر، وهم طبعا من الفرنسيين. وجاء برأي شارل ماري لوفيفر الذي سبق ذكره (وكان مستشارا لوالي العاصمة) حين قال يجب تشجيع المحاولات الجزائرية (يعني الفرنسية) الآن على ضحالتها وضعفها لأنها ستصبح ذات يوم مزدهرة، وستمثل فنا بذاته ومتميزا في افريقية (1). اننا إذن في الزمن الذي عرف بعهد (مدرسة الجزائر) وهي التي اختفى فيها الأدب العربي والإسلامي كما اندمج فيها الإنسان الجزائري، في
(1) انظر المجلة الجغرافية للجزائر وشمال أفريقية SGAAN، 1920، ص 04 2 - 233، مع نص المحاضرة التي ألقيت في 30 ديسمبر 1920. ومن الشعراء الذين ورد ذكرهم في المجموعة شارل كورتان المولود في البليدة سنة 1885، وديلبيازو، الذي ولد في العاصمة، وراؤول جنيلا المولود أيضا في العاصمة، والسيدة أنيت قودان التي قيل انها تغنت بوهران، وادمون كوجون المولود أيضا في العاصمة وكذلك هيجل.
نظرهم، في المجتمع الفرنسي، تماما مثلما اختفت نظم القضاء والمعالم الإسلامية والتراث.
رغم انتشار التعليم الفرنسي المحدود منذ أواخر القرن الماضي، ورغم وجود عدد من الجزائريين الذين درسوا الطب والأدب والقانون، فإننا لا نعلم أنهم أنتجوا شعرا بالفرنسية قبل الأربعينات إلا نادرا. إن هناك من بدأ قبل ذلك يكتب القصة والمقالة بها، ولكن الشعر كان آخر المحاولات. ولعل ذلك راجع إلى سيطرة التفكير العربي على العقل الجزائري، ذلك آن الشعر في أية لغة هو علامة على سيطرة تلك اللغة على عقل المتكلمين بها واندماجهم فيها. ونعتقد أن بعض المحاولات قد بدأت بين الحربين، بل في آخر القرن الماضي (1)، ولكنها لم تصل إلى درجة الإبداع بالفرنسية كما حدث بالنسبة للقصة والرواية. وكان هناك جزائريون معجبين ببعض الشعراء الفرنسيين، الأحياء والأموات، يقرأون لهم ويقلدونهم.
أما شعراء العربية فمن الممكن أن ننفي تأثير الشعر الفرنسي عليهم، رغم أن هناك إشارات تفيد أن بعضهم ربما قد تأثر بعض التأثر. لقد ترجم أحمد رضا حوحو، وهو في الحجاز، بعض أشعار فيكتور هيغو، وحوحو لم يكن شاعرا، ولا نعلم أنه نظم حتى شعرا تقليديا. وكان قد تخرج من مدرسة فرنسية في سكيكدة (الجزائر) قبل هجرته إلى الحجاز سنة 1935 (2). وكان الطاهر البوشوشي شاعرا بالعربية ويحذق الفرنسية، ولا ندري إن كان قد ترجم من هذه اللغة إلى العربية، أو نظم بالفرنسية أيضا، ولكن شعره العربي على قلته، عليه مسحة التأثر بالشعر الفرنسي. وقد قام إسماعيل العربي بترجمة بعض القصائد الفرنسية إلى العربية في الأربعينات، ولكنه لم يكن شاعرا أيضا. كما أننا لا نعلم مدى تأثر شعراء الوقت بهذه القطع المترجمة. والمعروف أن كبار شعراء العربية مثل عاشور الخنقي والديسي ومحمد العيد
(1) كما فعل محمد بن علي الجباري الذي قلنا انه نشر شعرا مترجما بالفرنسية في وهران سنة 1883.
(2)
انظر عنه دراسة صالح خرفي (أحمد رضا حوحو في الحجاز)، بيروت 1992.
ومفدي زكري وأحمد سحنون لم يكونوا يعرفون الفرنسية، وكذلك شعراء البربرية أمثال إسماعيل أزيكيو ومحمد بن محمد (محند أو محند). فهل بعد ذلك يمكن الحديث عن تأثر الشعر الجزائري بالشعراء الفرنسيين؟ ولا حديث بعد ذلك عن شعراء الزجل في البوادي والمناطق النائية.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المدخل أن بعض الشعراء لا نعرف من إنتاجهم شيئا الآن، وإنما أخبر الرواة عنهم أن لهم شعرا جيدا (1)، وأحيانا قالوا إن لهم دواوين في أيدي الناس، أو نحو ذلك من التعابير. وقد وقع للشعر ما وقع للنثر والمخطوطات، بعضه ضيعه أهله بالإهمال واليأس والتشرد، وبعضه ضاع منهم بالتلف والسرقة وعدم اهتمام الورثة، وكان الافتقار إلى الطبع والعجز المالي وعدم. المعرفة بأهمية الطباعة، كل ذلك ساهم في ضياع هذا الشعر. ولعل بعضهم كان يعتقد أن شعره لا يستحق الخلود بالتدوين والنشر. وكثيرا ما (تاب) الشعراء في آخر أعمارهم ورأوا أن أول علامات التوبة هو حرق شعرهم غير الديني. فكان الشعر ضحية كل هذه العوامل. ولذلك فإننا نستغرب من بقاء ما بقي منه أمام هذه الظروف، كما أننا سنجد صعوبة في الحكم على الشاعر من قصيدة أو مجموعة من بعض القطع. فنحن هنا لا ندرس دوادين ولكن قصائد ومقطوعات قاومت عوامل الفناء بنقل بعضهم أبياتا منها في مخطوطة له، أو نشر قصيدة للشاعر في إحدى الجرائد أو الكتب، وهكذا.
ولنضرب على ذلك مثالا، يقول محمد بيرم بعد زيارته لضريح الشيخ الثعالبي في العاصمة ولقائه مع خادم هذا الضريح، وهو علي بن الحاج موسى: وله (أشعار جيدة)(2). أولا ما هي هذه الأشعار؟ وثانيا أين هي؟ ومن المتواتر، ثم من مصادر أخرى نعلم أن ابن الحاج موسى. كان من
(1) لا نستطيع الآن أن نحكم على تأثر شعر رمضان حمود وعبد الكريم العقون ومبارك جلواح والربيع بوشاشة بالشعر الفرنسي. كما أن الفرقد (سليمان بوجناح) كان يعرف الفرنسية، ولكنه غير معروف كشاعر.
(2)
محمد بيرم (صفوة الاعتبار) 4/ 16.
الشعراء خلال القرن الماضي، وأنه بعد خدمة القضاء مال إلى الزهد والعبادة والتأليف. ولكن هذا لا يجعل منه شاعرا مجيدا إلا إذا اطلعنا على شعره وموضوعاته لنعرف مكانته وقيمته. وهذا غير ممكن في الوقت الحاضر. والأمثلة على ذلك عديدة. فعندما يقول لك أحد المؤلفين ان لفلان ديوانا، تميل إلى تصديقه، ولكنك تحتاج إلى دليل.
وإضافة إلى ذلك فإننا سنتحدث عن الشعر وليس عن الشعراء إلا قليلا. وللتوضيح نقول ان كثيرا من المتأدبين والمتعلمين لهم أشعار وقطع في موضوع أو أكثر، وليسوا بالضرورة شعراء بالمعنى الخاص للكلمة. ولو قصرنا حديثنا على الشعراء المحترفين لما وجدناهم بسهولة ولكان عددهم ربما على الأصابع فقط. بينما هناك شعر وفير أنتجه فقهاء وقضاة وأيمة وأبطال وزهاد ومربون وصحفيون. وهذا الشعر هو موضوعنا هنا. وإذا وجدنا الدواوين والمجموعات فسنتناولها بالطبع ولكننا لن نتوقف عندها. وإذا وجدنا شعراء محترفين، فسنترجم لهم أو لبعضهم مبتهجين.
ولقد هاجر الشعر مع المهاجرين أيضا. ففي المغرب والمشرق حط الشعر رحاله مع قوافل العلماء والزهاد الذين فضلوا العيش بعيدا عن الاحتلال الأجنبي لبلادهم، أو نفاهم هذا الاحتلال نفسه من بلادهم. فقد انتقل شعر الأمير عبد القادر معه إلى سجون فرنسا ثم إلى قصور بروسة ودمشق، ولولا ما جمعه له ابنه محمد، وما ترجمه له الضابط دوماس، لضاع شعره كما ضاع شعر غيره. وأنتج أبناء الأمير وإخوته وأبناء عمومته أشعارا لم نسمع إلا ببعضها. ولأبي حامد المشرفي ديوان مخطوط في المغرب يضم أمداحه ومشاعره، ولمحفوظ الدلسي (تونس) وصالح السمعوني (سورية) والكبابطي (مصر)، أشعار تختلف في الجودة ولكنها غائبة في الهجرة. ولأبناء وأحفاد وإخوان هؤلاء دواوينهم وقصائدهم. فهذا سليم الجزائري له شعر وقد نظم النشيد القومي العربي ضد الأتراك. وكان من فتيان العرب الذين قتلهم جمال باشا سنة 1916 بدعوى التآمر ضد تركيا.