المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌آراء ومؤلفات في الموسيقى - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٨

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثامن

- ‌الفصل الأولاللغة والنثر الأدبي

- ‌حالة الأدب والثقافة غداة الاحتلال

- ‌التعامل مع اللغة العربية

- ‌الدراسات البربرية

- ‌الدراسات النحوية والمعاجم

- ‌بلقاسم بن سديرة

- ‌عمر بن سعيد بوليفة

- ‌النثر الأدبي

- ‌المقالة الصحفية

- ‌الأسلوب من عاشور الخنقي إلى الإبراهيمي

- ‌الرسائل

- ‌التقاريظ

- ‌الخطابة

- ‌محمد الصالح بن مهنة وكتابه

- ‌خطب أبي يعلى الزواوي

- ‌الروايات والقصص والمسرحيات

- ‌ المقامات

- ‌أدب العرائض والنداءات والنصائح

- ‌مؤلفات وشروح أدبية والتحقيق

- ‌محمد بن أبي شنب

- ‌الأدب باللغة الفرنسية

- ‌الفصل الثانيالشعر

- ‌مدخل في تطور حركة الشعر

- ‌الدواوين والمجاميع

- ‌كتاب شعراء الجزائر في العصر الحاضر

- ‌الشعر الديني

- ‌الشعر السياسي

- ‌الشعر الإسلامي والإصلاحي

- ‌شعر المدح

- ‌شعر الرثاء

- ‌الشعر الإخواني

- ‌الشعر الذاتي

- ‌مبارك جلواح

- ‌الشعر التمثيلي والأناشيد

- ‌شعر الفخر والهجاء وغيرهما

- ‌الشعر الشعبي

- ‌ثورات وشعراء

- ‌في الشكوى وذم الزمان

- ‌أغراض أخرى للشعر الشعبي

- ‌الفصل الثالثالفنون

- ‌الفنون التقليدية - الشعبية

- ‌الجزائر والشرق عند الفنانين الفرنسيين

- ‌فيلا عبد اللطيف

- ‌معارض الفنون الإسلامية

- ‌الآثار الدينية

- ‌القصور والمباني الحضرية

- ‌المتاحف

- ‌الرسام ناصر الدين (إيتيان) ديني

- ‌النقش والرسم والخطاطة

- ‌مؤلفات في الخط

- ‌عمر راسم وأخوه محمد وآخرون

- ‌مؤلفات وآراء حول المسرح ورواد التمثيل

- ‌آراء ومؤلفات في الموسيقى

- ‌تطورات أخرى في مجال الموسيقى والغناء

- ‌ محمد ايقربوشن

- ‌المحتوى

الفصل: ‌آراء ومؤلفات في الموسيقى

المهن التي جعلته يعرف معاناة الشعب، ونشط في مجال المسرح والأغنية الساخرة. وفي أواخر الثلاثينات ألف مع مجموعة من أصدقائه فرقة مسرحية، منهم عبد الرحمن عزيز. وهي الفرقة الثانية بعد (المطربة) لباش تارزي. وظهرت أعمال التوري المسرحية ابتداء من (المدمن) على الخمر الذي سماه (الكيلو). وكان يستوحي موضوعاته من التاريخ العربي والواقع الاجتماعي وبعض القصص الأوروبية، ومن أعماله أيضا مسرحية (البارح واليوم) و (وصية المرحوم) و (المجنونة). وكان التوري مثل، رشيد وباش تارزي، قد استعمل الأسلوب الساخر والأغنية الشعبية لتوعية الشعب وتصوير حالته، ولكنه كان يحتفظ بطابعه الخاص (1).

ومنذ 1946 ظهر جيل آخر من الممثلين وكتاب المسرح، وهم الذين عاصروا الثورة وعاشوا مرحلة الاستقلال. ومنهم مصطفى كاتب وعبد الله نقلي وكاتب ياسين وحسن دردور، وسفير البودالي وغيرهم (2).

‌آراء ومؤلفات في الموسيقى

سبق أن تناولنا موضوع الموسيقى والحفلات العامة في فصل آخر. ورأينا أن الآلات الموسيقية كانت مستعملة ومتنوعة. ومنها الآلات الأوروبية الدخيلة، كما أن حفلات الطرب واللهو، وحفلات الصوفية (الحضرة) كانت شائعة، سواء عند أهل الحضر أو عند أهل الجبال والصحاري.

كان (الإنشاد) أسلوبا مميزا لدى معظم الطرق الصوفية. وكان لشعراء المديح النبوي وتمجيد الشيوخ دور في الحياة العامة، وهم ينشدون بأنفسهم في المناسبات الصوفية أو يتركون قصائدهم ليغنيها مطربون متميزون

(1) حشلاف، مرجع سابق، ص 273 - 274. انظر كذلك مجلة (ألجي - ريفو) خريف 1959 مقالة بعنوان (التوري رائد كبير للمسرح الإسلامي).

(2)

في كتاب سعاد محمد خضر (الأدب الجزائري المعاصر)، 1967، فصل مفيد عن المسرح الجزائري، ص 54 - 64.

ص: 452

بالأصوات الشجية، وقد شاع ذلك في اللهجات المحلية سواء العربية الدارجة أو البربرية. ومن الطرق التي اشتهرت بالإنشاد وإقامة الحضرة والتواجد: الحنصالية والعيساوية والقادرية. ويذهب (رين) إلى أن الحنصالية كانوا ينشدون قصيدة الدمياطي الشهيرة في حلقاتهم الخاصة، ذلك أن اجتماعهم على الإنشاد غير عمومي. وذكر مالك بن نبي أن القادرية في تبسة كانت تتكفل لأتباعها بالأنشاد في حفلات الزفاف والختان. وقد شاهدنا أنواعا من الموسيقى وضرب الطبول والرقص والإنشاد لدى كل من القادرية والتجانية في وادي سوف وفي تقرت كلما ارتحل أو قدم الشيخ. وقد يكثر في ذلك الضجيج والهرج وضرب البارود وألعاب الفروسية (1).

وقد تحدث الضابط فيليب عن حفلات غنائية وراقصة في تقرت وورقلة خلال السبعينات من القرن الماضي. فقد ذكر حفلة تسمى (النبيطة) في تقرت. وفي ورقلة أقام الآغا محمد بن الحاج بن إدريس، حفلة على شرف المسؤولين الفرنسيين تسمى (النوبة). وقد لعب فيها الزنوج ألعابا متنوعة من الفروسية وسط موسيقى صاخبة بالجواق (الناي) وغيره. وكان ذلك وسط جموع من الجنود والمهارى والخيالة، وخلالها أنشد أحد القياد قصيدة غنائية وهو على ظهر جواده (2).

وبالإضافة إلى النقر على الطبل في رمضان للسحور ونحوه، والضرب على آلات أخرى من النحاس أو الحديد في مناسبات عديدة، هناك التجمعات في الأحياء حيث كانت تجرى حفلات شعبية يتضارب فيها (الفنانون) بعصي في حركات جماعية منسجمة وهم في دوائر راقصة

(1) جاء وصف ذلك حيا عند إيزابيل ايبرهارد عند مشاهدتها عودة الشيخ الهاشمي (القادرية) من فرنسا إلى تقرت. انظر ذلك في كتاب أنيت كاباك (إيزابيل)1986. كذلك انظر فصل التصوف (القادرية).

(2)

فيليب (مراحل صحراوية) ص 40، 68. كلمة (النوبة) كانت معروفة في العهد العثماني وحكم الأمير عبد القادر، وهي عزفة موسيقية جماعية عند تحرك الأمير أو في نهاية العمل اليومي.

ص: 453

منضبطة. ولهم انسجام مهيب مع الموسيقى.

ومن الآلات التي تحدث عنها الملاحظون الربابة (violin). وهي ذات وترين، ويسمونها الفيولين العربية. كما أن الآلات الأوروبية كانت مستعملة عند الجزائريين فقد لاحظت السيدة بروس، منذ منتصف القرن الماضي، أن آلة المندولين الإيطالية كانت متوفرة عندهم، ولكنها قالت إن العزف عليها كان يتم بدون ذوق ولا منهج، ونحن نفهم من ذلك أنها لم تفهم الموسيقى أو اللحن المعزوف بها. كما تحدثت عن آلة الجواق (الناي) ذات الثقب الثمانية، وهي من القصب. وتحدث السيد حشلاف عن ثماني آلات منتشرة، وهي: العود والكويترة (القيثارة) والقانون، والرباب، والناي، والزرنة والطار والدربوكة والفيولين. ولاحظ أن هناك آلات أجنبية أضيفت وهي: البيانو، والبانجو والماندولين، ثم ماندولات أخرى للغناء الشعبي (1).

1 -

إن آراء الجزائريين في الموسيقى ونقدها والتأليف فيها قليلة. ومع ذلك فهي آراء وأعمال جديرة بالتسجيل. وقد لاحظ إسماعيل حامد سنة 1900 أن المغاربة يتذوقون الموسيقى ويستجيبون لها أكثر من الجزائريين، فبينما وجد (كل الناس) في المغرب يحبون الموسيقى، فإن أهل الحضر في الجزائر والزواوة هم فقط الذين يستمتعون بها. وقد قال حامد ذلك رغم أنه كان يعيش قريبا من تلمسان التي اشتهرت بتراثها الموسيقى الغني. ولاحظ حامد أن عرب الجنوب، سيما سكان الخيام منهم، كان لهم القوالون أو المداحون، وكان هؤلاء ينشدون الأشعار دون أن يغنوها ولا يهتمون إلا قليلا بالموسيقى (2). وكان حامد قد عاش وتوظف في الجنوب الغربي من الوطن: معسكر، وعين الصفراء وآفلو، ثم وهران. فهو إذن خبير بما يقول، ونحن نعلم أنه ربما يكون من مدينة الجزائر، ومن ثمة جمع بين معرفة أهل الحضر وأهل البادية - الريف.

(1) أحمد ومحمد الحبيب حشلاف (مجموعة

) مرجع سابق، ص 177.

(2)

إسماعيل حامد (خمسة أشهر في المغرب) في (المجلة الإفريقية). R.A . 1900، ص 119.

ص: 454

وكان حامد نفسه من المولعين بالموسيقى. وقد اغتنم فرصة رحلته إلى المغرب فألف نوطة الموسيقى المغربية في وجدة. وقد جعل عنوان إحداها: مقدمة ومسيرة، وعنوان الثانية: نغمة الرقص العربي، ونشر نوطته على ثلاث صفحات في المصدر المذكور. وكان قد وصف الموسيقى المغربية وقواعدها ونفحاتها (1). ولعل رأيه ونوطته ستكون هامة للباحثين في الموسيقى المغربية. ففي الوقت الذي كان فيه يافيل اليهودي يضع النوطة للموسيقى الجزائرية (والأندلسية)، كان حامد يضع النوطة للموسيقى المغربية.

2 -

وفي أول القرن أيضا ألف القاضي شعيب بن علي تأليفا في الموسيقى سماه (بلوغ الأرب في موسيقى العرب)، كما أطلق عليه عنوانا آخر جميلا هو (زهرة الريحان في علم الألحان). ورغم اشتغال الشيخ بأمور القضاء فإنه ساهم في البحث الموسيقي، وربما وجد نفسه في مرحلة كان الاهتمام فيها بالموسيقى ظاهرة ملفتة للنظر. وقد نرجح أنه ألف كتابه بطلب من السلطات الفرنسية إذ كانت قد طلبت منه أيضا تأليف كتاب عن مصنوعات تلمسان. وسنرى أن عددا من الأوروبيين (في عهد جونار) أخذوا يكتبون البحوث عن الموسيقى العربية ويستعينون فيها بهواتها ومعلميها من الجزائريين، كما فعل رواني مع الشيخ محمد سفنجة. ومهما كان الأمر فإن القاضي شعيب كان متمكنا من علم الموسيقى تاريخيا وربما ممارسة، لأن تلمسان كانت موطن هذا العلم قديما واحتفظت به مع مرور الزمان. ودليلنا على ذلك أن القاضي شعيب سبق له أن ألف كتابا مطولا في الموسيقى سماه (سفينة الأدب الماخرة في بحور ألحان العرب الزاخرة). وهو الذي اختصره في الكتاب الذي ذكرناه في البداية وهو (بلوغ الأرب).

وفي ديباجة هذا الكتاب أبان القاضي شعيب أهمية الموسيقى لدى الشعوب وعلاقتها بالآداب والفنون ومجالات عزفها والمصادر التي اعتمد عليها. وها هو يقول: (الحمد لله مولى النعم، ومؤتى الحكم، ومخصص من

(1) نفس المصدر، ص 133 - 134.

ص: 455

شاء بما شاء من علم التلاحين والنغم، المسمى بالموسيقى والموزيكا في عرف العرب والعجم

وبعد

هذه رسالة صغيرة الحجم غزيرة العلم، اختصرتها من كتابي المسمى (سفينة الأدب

) قلدتها من الجواهر دررا كثيرة، ومن النوادر غررا خطيرة

ووشحتها بفرائد الفوائد

خصوصا تحرير المقام على رقائق الفنون الشعرية التي تدور عليها غالبا رحى المحافل السمرية، بين أهالي الطرب والزهو والرقص واللهو، في منتجع الأندية الزهرية، وهي: القريض والموشح والدوبيت والزجل والمواليا والكان وكان والقومات

على أنه لا مزية لي إلا في الاعتناء بجمعها، واقتحام العناء في اقتناصها من شتيت مواضعها

) ثم ذكر أن من الكتب التي أخذ منها كتاب العبر لابن خلدون، وسفينة الملك لشهاب الدين، كما اعتمد على محفوظه الخاص (1).

3 -

وفي سنة 1934 صدر تأليف لعبد الرحمن السقال ومحمد بخوشة بعنوان طويل هو (نفح الأزهار ووصف الأنوار وأصوات الأطيار ونغم الأوتار)(2). والمؤلفان تلمسانيان كانا فيما يظهر يقيمان في المغرب. ونحن نعلم أن للسيد بخوشة عناية بالشعر إذ نشر ديوان ابن مسايب (1951). أما السقال فلا نعرف مدى علاقته بالشعر والموسيقى. ولعله هو الذي عناه السيد حشلاف حين قال إنه كان من أعلام الموسيقى في تلمسان (3).

4 -

ومن الذين أرخوا ووصفوا الموسيقى الجزائرية، أحمد توفيق المدني في (كتاب الجزائر). وكان المدني قد نفي من تونس التي ولد وتربى فيها. وكانت تونس قد طورت موسيقاها بالمقارنة إلى الجزائر. وحين حل

(1) صورة من الديباجة مخطوطة بثها إلي حفيد المؤلف، وهو الشيخ شعيب أبو بكر، من تلمسان في غشت 1987. ولا ندري إن كان (بلوغ الأرب) قد طبع ولا كذلك (سفينة الأدب).

(2)

ط. تطوان (المغرب)1934. وكانت عائلة السقال قد لعبت دورا هاما أثناء تبادل الأيدي على تلمسان في أول الاحتلال بين الأمير والمغاربة والفرنسيين.

(3)

حشلاف، مرجع سابق، ص 191.

ص: 456

المدني بالجزائر سنة 1925 لاحظ أن الشعب الجزائري حزين لا يميل إلى الضحك والطرائف، ولم تتطور عنده الموسيقى كما تطورت في تونس. ففي الجزائر جفاف في الطبع ومعاناة في الحياة وركود في الموسيقى. ولاحظ أن الموسيقى في البادية ما تزال على عهدها الأول، وهي (تعتمد على المعاني أكثر مما تعتمد على الأنغام). ومن رأيه أن هناك نوعا من الموسيقى الحربية المصحوبة بقرع الطبول، وهي ترافق عادة ألعاب الفروسية. أما اللحن الموسيقي فهو واحد وطويل وبسيط. ونفهم من ذلك أنه ممل ورتيب، ويجري ذلك مع كل مصراع من البيت الشعري بإعانة طبل ومزمار (1).

أما في المدن فقد نشأت في رأيه موسيقى جميلة، وهي خليط من الموسيقى الأصلية وموسيقى أهل الأندلس والأتراك الواردة. ومع الموسيقى. التركية خليط من الإغريقية أيضا. ومن هذه الأنواع جميعا تكون ما سماه المدني (ديوان الموسيقى الجزائرية). وهي متميزة عن الموسيقى الشرقية والغربية، وهي (موسيقى علمية فنية واسعة الغنى إلى درجة مفرطة)(2).

ثم تحدث المدني عن النوبات الجزائرية التي كانت 24 نوبة فلم يبق منها، كما قال، سوى 16 وقد أرجعها إلى موسيقى الأندلس (غرناطة وإشبيلية ومالقة). ومن النوبات الستة عشر هناك سبعة أصلية وتسعة فرعية. أما الأصلية فهي الجاركة والصيكة والموال والعراق والرمل الماية والزيدان والمزموم. وأما الفرعية فهي (من الموال): الذيل ورصد الذيل والماية. ومن فروع (الزيدان): الرمل والمجنبة. ومن فروع (الجاركة): الغريب. ومن فروع (العراق): الحسين والرصد. ومن (رمل الماية): الغريب.

وقد ساعدت المدني ثقافته الموسيقية التي تلقاها في تونس، على وصف ألوان من النوبات الموسيقية الجزائرية، كما لاحظها عند نزوله بالجزائر. فكل نوبة موسيقية تبتدئ بما يسمى التوشية، وهي مقطع موسيقى

(1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر) ص 340.

(2)

نفس المصدر، انظر أيضا فصل المنشآت الثقافية، فقرة الموسيقى.

ص: 457

يشبه قطعة افتتاح الأوبرا عند الأوروبيين. ويذهب المدني إلى أن الكثير من نوبات التوشية قد ضاع، ولكن في منها ستة، وهي: الرمل، ورمل الماية والغريب والزيدان والصيكة والماية.

ويأتي بعد التوشية المصدر، وشبهه المدني بقطعة الأوبرا الأوروبية. وليس من الضروري أن يقع مصدر واحد بعد التوشية. فقد يأتي مصدران. وبعد المصدر يأتي نوع يسمى البطايحي، ثم الدرج، ثم ما يسمونه الاستخبار، وهو إنشاد بيتين من الشعر الأندلسي. وبعد الاستخبار يقع الانصراف. وتختم النوبة بعد ذلك بالخلاص، وهو نغمة راقصة.

هذا هو التقليد الذي سارت عليه النوبات الموسيقية. ولكن دخلها أيضا بعض التأثير من الخارج، من ذلك افتتاحات أعجمية (فارسية - تركية؟) استعملت مكان التوشيات التقليدية، وأطلقوا عليها أسماء جديدة، وهي الباشراف، والتشامبار، وباشراف انقلابات (1).

وفي مجال التأثر ذكر المدني أن موسيقى تلمسان وقسنطينة قد تأثرت بالموسيقى التونسية والشرقية، بينما ظلت موسيقى العاصمة محافظة، ولكنها أدخلت بعض الآلات الموسيقية الجديدة، مثل الربابة (السنيترة) بدل القيثارة، وقد ترتب على ذلك تغير في مخارج النغمات. كما أن موسيقى العاصمة لجأت إلى الاعتماد على الآلة وإهمالها للصوت والأداء، بحجة أن العبرة في الموسيقى بالآلة فقط. ولذلك نجد الموسيقى عذبة والصناعة متقنة، ولكن الأصوات أحيانا منكرة. ويبدو أن المدني قد لاحظ التأثير الأجنبي (الفرنسي) على موسيقى العاصمة، فقال إنها صفحة جميلة من الموسيقى العربية والفن الأندلسي ولكنها (ستضمحل مع الحضارة الغربية). ولا ندري ما يقول أهل هذا الفن اليوم وقد مر على ملاحظة المدني المتشائمة أكثر من نصف قرن (2). وكان بعض الفرنسيين قد توقعوا ذلك أيضا.

(1) المدني، مرجع سابق، ص 340.

(2)

المدني، مرجع سابق، ص 341. ومن الكتب التي أوفت الموضوع حقه ودرست =

ص: 458

وتعتمد النوبات الموسيقية على إنشاد الشعر الأندلسي. فالأبيات أو القطع الشعرية تتغنى بجمال بلاد الأندلس، ويكون منها أنغام (فرحة)، كما أنها قد تكون حزينة تبدي التأسف على العهد السالف. والأشعار قد تكون في موضوع الغزل والغرام. والغريب أن الشعر الجزائري، سواء كان حول الطبيعة أو حول النفس، لا يغني عادة. ونحن نجد هذه الظاهرة في الشعر الصوفي أيضا. أما أشعار القوالين والمداحين فهي من إنشاد المنشدين أنفسهم أو من إنشاد شخصيات معروفة.

وفي عهد المدني كانت هناك جمعيات ومنظمات تهتم بالموسيقى، وذلك يدل على النشاط الذي أخذ يدب في جميع أوصال الشعب، وهو النشاط الذي عبرنا عنه في مكان آخر بالنهضة. ففي العاصمة تكونت الجمعيات الموسيقية التالية: المطربية، والأندلسية، والجزائرية، والزاهية، والجوق المسائي لمحمد سفنجة. وتكون في تلمسان جوق الحاج العربي بن صاري، كما تكونت أجواق أخرى في غير العاصمة وتلمسان للمحافظة على التراث الموسيقي. وتكونت في العاصمة جمعية أخرى تسمى الطليعة (1)، وقد تبنت الموسيقى الحديثة. فهل نفهم من هذا أن الجمعية كانت تهتم فقط بالموسيقى المتأثرة بالنغم الأوروبي والشرقي، مثل موسيقى محمد عبد الوهاب وسيد درويش؟ وقد ذكر المدني محاولة أخرى للموسيقى الحديثة، وهي جمعية محمد بن الموفق في العلمة. فهذه وفرقة الطليعة، في نظر المدني، حاولتا تقليد الجمعيات الموسيقية التونسية، ويبدو أن المحاولة لم تنجح (2). وقد ولد (المزهر البوني) وغيره من الجميعات الفنية خلال

= النوبات والطبوع وصنفتها بأمثلة وتفاصيل كتاب (الموشحات والأزجال) في جزئين، تأليف جلول بن يلس والحفناوي أمقران، ط. الجزائر، ج 1، 1975، ج 2؟ 19. وقد استفدنا منه ولم ندرسه لأنه صدر بعد الثورة.

(1)

لم يشر المدني إلى جمعية (الزاهية) ولا إلى جوق سفنجة. وقد صدر (كتاب الجزائر) سنة 1931.

(2)

المدني، مرجع سابق، ص 341 - 342.

ص: 459

الثلاثينات، كما عرفنا، ونشطت الحركة الموسيقية في قسنطينة مع إنشاء النوادي والمدارس وظهور التمثيليات.

وارتبط الغناء والموسيقى بالتمثيل والتأثر بالأساليب الغربية. وهكذا ظهر نمط (المونولوج) الذي استمده بعض الجزائريين من الموسيقى المصرية أيضا. وممن عالجوا ذلك محيي الدين باش تارزي ورشيد القسنطيني. فكلاهما استعمل هذا الفن للترفيه والتوعية والإصلاح الاجتماعي، وقد أقبل عليه الجمهور أكثر من إقباله على الموسيقى (الكلاسيكية) لبقائها غير متطورة أو ابتعاد الذوق العام عن نغماتها. ويقول المدني في معرض النقد إنه لم تنشأ مدرسة موسيقية شعبية تعبر عن مشاعر الجمهور إلى جانب الموسيقى الأندلسية. كما أن الساحة ظلت فارغة من الفرق الموسيقية العصرية التي تستعمل الآلات الجديدة بدل الآلات الوترية القديمة. والمحاولات التي جاءت بها الطليعة، وجمعية ابن الموفق، لم يكتب لها النجاح (1).

5 -

وفي سنة 1932 ألقى السيد طالبي محاضرة عن الموسيقى العربية في مدينة تيزي وزو. ولا نعرف عن طالبي سوى أنه كان محاميا. ولكن اسم (طالبي صالح) وجدناه سنة 1910 عضوا في الجمعية الرشيدية بالعاصمة، وكان معلما متربصا. ولا ندري الآن إن كان الاسم لشخص واحد. ومهما كان الأمر، فإن عددا من الشخصيات حضرت المحاضرة، ومنهم شخصيات فرنسية سامية. ومن رأى السيد طالبي أن الموسيقى العربية (الأندلسية؟) قد جمعت بين رومانتيكية (روحانية؟) الشرق والتفكير الإسباني (الأندلسي)، وأنها من نتاج الحضارة الأندلسية الإسلامية.

ومن الملاحظات التي أبداها السيد طالبي أن الموسيقي العربي لا يميل

(1) المدني، مرجع سابق، ص 341 - 342. ذكرنا في فصل المنشآت الثقافية أن الذي وضع النوطة للموسيقى الجزائرية هو اليهودي أدمون يافيل، فقد سجل الكثير من القطع وضبطها بالنوطة وأعانه على ذلك فنانون جزائريون، منهم ربما محمد سفنجة. لكن إيفيل لم يسجل كل الأنواط الجزائرية، وقيل إنه وقع في أخطاء كثيرة وفي خلل أيضا. انظر المدني، مرجع سابق، ص 341. وقد طبع كتاب يافيل سنة 1904.

ص: 460

إلى المناظر الصارخة أو الطارئة، بل يحب السهول حيث تتكسر حدة الضوء. أما عن الموسيقى ذاتها فقد قال إنها متساوية التوزيعات في الإيقاع ونعومة الأصوات، واعتبر القطعة الموسيقية عبارة عن (حلم قد مضى). وجاء طالبي بعدة حكايات تساعد على فهم هذه الموسيقى. وأثناء شرحها قامت (جوقة ساسي) للموسيقى الشرقية بعزف يبين معاني تلك الحكايات، وقد أدت ذلك بمهارة وعاطفة خاصة. ودامت المحاضرة ساعتين، ولا شك أنها كانت باللغة الفرنسية. ونحن لم نعرف عن (جوقة ساسي) هذه سوى من هذا النص (1).

6 -

كتب السيد محمد زروقي سنة 1936 مقالة في مجلة (الرسالة) المصرية تعرض فيها إلى الموسيقى الجزائرية أثناء نقده لموسيقى محمد عبد الوهاب. كما أن السيد زروقي تعرض إلى أصول الموسيقى العربية والغربية وقواعدها وميزاتها. ويبدو أنه كان من مدينة تلمسان ومن المعجبين بالتراث الأندلسي وأصالته. وانتقد (اقتباسات) عبد الوهاب وغناءه باللهجة المصرية. واعتز بالموسيقى الشرقية - العربية قائلا إن أوروبا تلميذة الشرق في الموسيقى والآلات والإيقاعات، وإن الموسيقى الغربية فقيرة في النغمات (ولا أدل على ضعف السلم في الموسيقى الغربية من اقتصاره على استعمال النغمين فقط). وأضاف أن النغمة المنخفضة ترجع إلى عرب الأندلس. ثم إن أحزان الموسيقى الغربية لا تفوق أحزان الأغاني العربية (2).

من ملاحظات زروقي أن عبد الوهاب أخذ ألحان فيلم (الوردة البيضاء) من بحارة الفولغا، وهي أغنية روسية واقعية، وهذا لا يتلاءم مع الفيلم الشعري الخالص. كما أن أغنية (يا شراعا) في مدح الملك فيصل (العراق) تحتوي على عاطفة ولكن ليس فيها حمية وحماس. ولاحظ أن التجديد ليس هو في تقليد الغرب فقط، فهناك جزائري حاول أن يقلد الموسيقى الغربية، ولكنه سرعان ما انطفأ بعد نجاح قصير. ولا ندري إلى من كان يشير زروقي.

(1) انظر عن المحاضرة المجلة الجزائرية SGAAN، 1932، ص LXVI.

(2)

محمد زروقي (إلى الأستاذ محمد عبد الوهاب) في مجلة (الرسالة) عدد 177 بتاريخ 23 نوفمبر 1936، ص 1921.

ص: 461

ثم ذكر شخصا آخر قال إن اسمه هو (كاروزو شمال افريقية) حاول أن يرجع إلى التراث القديم، وهو يحترم الموسيقى العربية القديمة. ولم نعرف من كلام زروقي من هو هذا الرجل أيضا. وقد انتقد زروقي أيضا ما قدم من الموسيقى الأندلسية في مؤتمر القاهرة للموسيقى (انعقد سنة 1932)، ومن رأيه أن المساس بالموسيقى الأندلسية كان (خيانة حقيقية).

واعترف محمد زروقي أن طرق التلحين الأندلسية الاثنى عشر والتي ما تزال مستعملة في المدن الرئيسية بالمغرب العربي، ليست في الحقيقة إلا مخلفات بالية من الأندلس. ولكنه اعترف أيضا أن للغرب سحره وتأثيره على المغنى الجزائري. فهذا المغني قد خضع لتأثير الأوبرا الغربية، واستمع إلى الألحان القصيرة بسرور في الأوبريت والصالونات، فأثرت تلك الألحان على مقطوعاته بالتدرج. ولكن (ها نحن نرى فيها أكبر فشل فني). ونوه محمد زروقي بالفنانة أنيسة الجزائرية التي لم تتأثر، في نظره، بالموسيقى الغربية، وظلت امرأة موسيقية موهوبة معتمدة على طريقة الغناء القديمة ومستعملة مشاعرها النسوية القوية، وهي تعتبر ذات خبرة طويلة في فن الموسيقى. وذكر زروقي أن أنيسة كانت تذهب إلى أوساط الفقراء وتعيش بينهم وإلى البدو الرحل، ثم ترجع منهم برصيد موسيقي غني ومتنوع. وقال إنها تفعل ذلك لكي تستوحي صوت أجدادها وتتسمع نفسها ثم تنطلق في ألحان تخلب الألباب. وزروقي هو الوحيد الذي رأيناه، فيما نعلم، يذكر هذه السيدة وينوه بها.

والخلاصة أن محمد زروقي انتقد الذين يقلدون الموسيقى الغربية ويتخلون عن الموسيقى الشرقية والأندلسية الأصيلة، سواء كانوا من الجزائريين أو من المصريين مثل محمد عبد الوهاب. واعتبر زروقي الموسيقى من أبرز سمات كل حضارة، إذ أن العرب يبتسمون كلما سمعوا موسيقى غربية، والأوروبيين يبتسمون كلما سمعوا موسيقى عربية. ثم إن الأوروبيين هم الذين أخذوا قديما وحديثا من الموسيقى الشرقية. ومن آخر الأمثلة أن المؤلف الموسيقي (سان سانس) الذي عاش حقبة طويلة في الجزائر قد اقتبس

ص: 462

لمؤلفه المشهور (شمشون ودليلة) من الألحان الأندلسية المعروفة بالزيدان. ولذلك دعا (زروقي) عبد الوهاب ألا يحقق أمنية من يذهب إلى أن الموسيقى العربية والشرقية ستموت أمام الموسيقى الغربية الزاحفة. كما دعاه إلى المزج بين الموسيقى العربية والإفرنجية بدل إخراج ثمرة غير ناضجة لا يهضمها الذوق العربي (1).

ومن الأسف أننا لا نعرف الآن ما إذا كان لمحمد زروقي مقالات أخرى أو مؤلف في هذا المجال. ويبدو أنه كان على اطلاع واسع بتاريخ الموسيقى وآلاتها وأنواعها. وسنرى أن تلمسان قد تركت لنا بعض المؤلفات الموسيقية.

7 -

الجنى المستطاب، رسالة في السماع والموسيقى، ألفها أحمد بن محيي الدين المتوفى سنة 1902، وهو أحد إخوة الأمير عبد القادر. وبيان هذه الرسالة أنها ألفت في الرد على من زعم أن سماع الموسيقى والألحان يحرك القلوب نحو الله (2). وهذا معنى غامض، ولا بد من الرجوع إلى الرسالة نفسها لنعرف هل المؤلف يوافق أو يعارض سماع الموسيقى. فقد كان بعض الصوفية يوافقون على الموسيقى بالنسبة لهم فقط لكي تعاونهم على الوجد والاندماج الروحاني، وكان التصوف شائعا في أسرة الأمير.

8 -

كشف القناع عن آلات السماع، ألفه أبو علي بن محمد الغوثي (3). وكان المؤلف من الشبان الذين تخرجوا من مدرسة تلمسان العربية - الفرنسية الرسمية، ولكنه ظل محافظا على التراث، فكان يقرض

(1) زروقي، مرجع سابق، ص 1924. وقد ظهر اسم محمد زروقي في مجلات معاصرة تصدر بالفرنسية، مثل المجلة الجزائرية SGAAN. وكذلك مجلة البحر الأبيض. ولكننا غير متأكدين من أنه هو نفس الكاتب. ويظهر أن مقالته التي صدرت في مجلة الرسالة، كانت مترجمة عن الفرنسية.

(2)

تعريف الخلف، 2/ 92، والأعلام 1/ 229. عن أحمد بن محيي الدين انظر فصل: الجزائر في المشارق والمغارب.

(3)

أبو علي الغوثي (كشف القناع)، الجزائر 1904، 143 صفحة (1322 هـ).

ص: 463

الشعر ويطالع كتب التراث، ويخالط شيوخ الناحية مثل القاضي شعيب الجليلي. كما أنه مارس التدريس في سيدي بلعباس بأحد المساجد. ثم جاء به المستشرق ألفريد بيل إلى مدرسة تلمسان بالذات التي كان مديرا لها، وكان بيل من المعجبين بالغوثي، وربما كان في حاجة إليه لمساعدته في تحقيق بعض المخطوطات وتحضير كتابه عن الفرق الإسلامية (1).

ألف الغوثي الكتاب لكي يعرف بالموسيقى العربية في الجزائر في أوائل هذا القرن، وكان ذلك يستجيب للانطلاقة التي جاء بها شارل جونار سنة 1903. ولذلك تبنت حكومته نشر هذا الكتاب وغيره من الأعمال التراثية، مثل تعريف الخلف ومؤلفات المجاوي وابن الخوجة. وبعد أن تحدث الغوثي عن قواعد النحو في العامية الجزائرية - سيما عامية تلمسان - وهي قواعد وضعها المستشرقون لكي يدرسوا بها العربية الدارجة للأوروبيين، حدث عن آراء علماء المسلمين في الموسيقى، وعن الشعر والأوزان في الجاهلية وبعدها. كما تحدث عن أنواع الشعر قديما وحديثا. والبحور الشعرية المعروفة والجديدة، مثل المواليا والقوما والدوبيت والكان وكان، والسلسلات والعروبي. وأورد فصلا مطولا عن الموشحات، وجاء بموشح إبراهيم بن سهل الإشبيلي الشهير. وفي حديثه عن الزجل أورد نص قصيدة (العقيقة) لأبي سعيد عثمان المنداسي التلمساني، وذكر أشعار شعراء تلمسان الملحونة، أمثال ابن مسايب وأحمد بن التريكي وأبي مدين بن سعيد، وأبي فارس عبد العزيز المغراوي، وهم من أهل القرنين الحادي عشر والثاني عشر (17 - 18 م).

وابتداء من صفحة 93 أخذ الغوثي يدخل في الموضوع الرئيسي، وهو الموسيقى. فتحدث عن مؤهلات الفنان، والأصوات والطرب والنفخات والآلات الوترية وكذلك القيثارة والرباب والناي والمزمار والهرمونيكا، وذكر

(1) انظر فصل التعليم، فقرة تفتيش بيل على معلمي الجهة الغربية ورأيه في الغوثي عندئذ.

ص: 464