الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القصور والمباني الحضرية
أما القصور والفيلات فقد عرفت منها الجزائر نماذج جيدة تميزت بالطراز العربي الإسلامي الذي انتشر في المغرب العربي والأندلس. ومن ميزات هذه المباني (الدنيوية) هو الراحة النفسية والستر والهدوء وراحة العين وجمع الشمل العائلي والتمتع بجمال الطبيعة. ورغم أن هذا الطراز قديم، كما ذكرنا، فإنه ازدهر خلال العهد العثماني نتيجة الازدهار الاقتصادي وخلود بعض كبار الدولة والأغنياء إلى الراحة. وقد وجدت النماذج المذكورة في المدن والأرياف على حد سواء. فكان أغنياء البلاد يبنون قصورهم أيضا في الريف ويقصدونها في أوقات الفراغ والأعياد والجمعات.
وها هم الفرنسيون الذين لا يكادون يذكرون فضيلة للعهد العثماني يقولون على لسان أحدهم، وهو أوغسطين بيرك، إن أجمل ما بني في هذا العهد هو القصور في المدن والفيلات (الأحواش) في الأرياف. فجمال الجزائر وحلاوتها ورشاقتها وروائح الساحل قد أسرت قلوب الرياس الذين كانوا يتمتعون بين حملة بحرية وأخرى بالراحة ولذة الحياة، فبالنسبة لهؤلاء الرياس كانت كل دقيقة تساوي قطرة من الذهب. وكانت كل رغبتهم هي توفير قصر هانئ حيث يتذوقون الحياة وينعمون بها على أفضل وجه (1).
ولكن تلك القصور والأحواش الريفية الخاصة قد استولى عليها الفرنسيون عند الاحتلال، وتحولت إلى أملاك الدولة، ونصبت فيها الإدارات والمحاكم والمصالح الأخرى كالمتاحف والمكتبات وإقامات رجال الدين ورجال الجيش. وأنت إذا سألت عن قصر الصيف أو قصر الشتاء حيث كانت إقامة حكومة الجزائر (الفرنسية) أو عن مقر المكتبة العمومية (الوطنية فيما بعد) أو عن مستشفى مصطفى، أو قصر أحمد باي، أو فيلا عزيزة أو فيلا عبد اللطيف أو غيرها من المباني والمعالم، فإنك ستجد الجواب دائما أنها آثار (موريسكية) حولت إلى ما آلت إليه بعد هجرة أو نفي أو افتقار
(1) أوغسطين بيرك (كراسات الاحتفال)، ص 100.
أصحابها. وقبل أن تستقر هذه الآثار في أيدي السلطات الفرنسية وتنتصب هيئة الآثار والفنون الجميلة، تعرضت إلى الهدم والنهب. ففي أتون الحملة العسكرية خلعت الأبواب والنوافذ لعدد من هذه المباني الحزينة، بدعوى أن فيها خزائن الذهب والفضة وكنوز أغنياء الجزائر. وتعرضت الفسيفساء والزليج الذي كان يغطي الحيطان إلى التكسير والاقتلاع بحثا عن الثروات المخبوءة. وبذلك فقدت الجزائر الكثير من آثارها وفنونها.
جاء في كتاب صادر سنة 1859 أن مؤلفه شاهد القصور التالية في العاصمة: قصر مصطفى باشا الذي يمثل كما قال رشاقة الفن المعماري الحضري وفخامته. وهو ينتسب إلى الداي مصطفى باشا الذي قتل سنة 1805. وكان هذا القصر قد جعله الفرنسيون فترة من الزمن قصر استقبال وحفلات ومعارض. وتحدث المؤلف أيضا عن قصر حضري آخرغني بعرصاته المرمرية، وعن أبوابه ونوافذه التي كانت تتداخل أيضا ضمن عرصات مرمرية. وكان هذا القصر عندئذ مقرا للحاكم العام (راندون). كما وصف القصر الآخر الذي أصبح سكنى للأسقف، والآخر الذي سكنه اللقيط يوسف، ثم ذلك الذي تحول إلى المحكمة الإمبريالية (1).
أما بالنسبة لقصور قسنطينة فقد تحدث شيربونو عن قصر أحمد باي (الذي سنفرده بالحديث بعد قليل) وعن قصر آخر كان لصالح باي الشهير، ثم آل إلى ورثته، وقال شيربونو إن هؤلاء الورثة قد أجروه (؟) إلى البلدية. وهذا يذكرنا بما حدث لقصور وأملاك ورثة مصطفى باشا في العاصمة التي آلت إلى أغنياء اليهود والفرنسيين بالحيلة (2). وكان شيربونو يكتب أيضا في أوائل الخمسينات (في عهد الحاكم العام راندون). وقد قال إن حريم صالح باي قد ظل في القصر، ثم تولاه الورثة الذين أجروه إلى البلدية. ثم منحته
(1) ديتسون G.L. Ditson، (الهلال والصليبيون الفرنسيون)، نيويورك، 1859، ص 40 - 44.
(2)
انظر تحقيقنا لكتاب (حكاية العشاق)، للأمير مصطفى بن إبراهيم، الجزائر 1982، ط 2.
البلدية إلى مؤسسة فرنسية تسمى (مؤسسة الآنسات) وأصبحت تديره أخوات المذهب المسيحي. وكانت مقاسات القصر كبيرة جدا إذ امتدت على طول محطة المسافرين (القافلة - سراي). ومن ممتلكات هذا القصر كيس من الملف الأخضر المطرز بالذهب، كان في ملك إحدى السيدات، والعبارات المطروزة تقرأ: كل يد أمسكت بك أصبحت مصونة، وكل عين نظرت فيك نجت من كل حسد (1).
وهناك قصور قديمة في العاصمة ترجع إلى عهد القسيس الأسباني هايدو (القرن 16). وقد وصف طرازها، وهو على عهد قريب به في الأندلس، فقال بأن الأبنية الإسلامية تتميز بشيئين، الأول العناية الكاملة بالستر، وفسر ذلك بالغيرة الشرقية (الإسلامية) على الحريم والحياة الخاصة، والثاني الذوق السليم في اختيار الهدوء والجو الرائق ونضح الماء حول الزليج للتخفيف من حدة الشمس. وهذا الأسلوب ببعديه، كان شائعا في كل الأبنية الحضرية بالجزائر، وكانت الأحواض الريفية تخضع لنفس الخصائص ما عدا أمرين، وهما قلة النوافذ منعا لاعتداء قطاع الطرق واتساع المساحة خلافا لقصور المدن. وهكذا تحتل الساحة والحديقة والقاعة مجالا واسعا في الريف.
ومما يذكر أن دار مصطفى باشا التي تحولت إلى قصر الصيف ومقر الحاكم العام، كانت تعتبر في منطقة ريفية، وكذلك قصر الباردو، وقصر الأقواس الذي بناه الريس حميدو الشهير في أول القرن التاسع عشر. كما أن إحدى دور مصطفى باشا تحولت إلى المكتبة والمتحف، كما ذكرنا، وهي غير القصر. وأشار بيرك إلى وجود دار (قصر) أخرى تسمى دار الصول التي اتخذها الحاكم العسكري الفرنسي مقرا له (2).
(1) شيربونو، مجلة (روكاي) 1856 - 1857، ص 112، هامش 1، ص 120. نقل شيربونو عبارة (الخلاف) و (أف) في آخر كل سطر. والظاهر أنها بيت من الشعر، لم نهتد إلى أصلها، فتصرفنا في الترجمة كما ترى.
(2)
بيرك، مرجع سابق، ص 100، 103. وعن استيلاء قادة الجيش الفرنسي وأعيان الفرنسيين على القصور والأحواش انظر هنري كلاين (أوراق الجزائر).
وكان قصر مصطفى باشا يضم، حسب ديتسون، سبعة وعشرين شقة، وهو أوسع من قصر الداي بالقصبة. وكانت الأجزاء السفلى من قصر مصطفى منخفضة ومعتمة، وله ساحة. ولم يكن سنة 1858 مستعملا في أغراض معينة عدا استعماله بضع ساعات من قبل بنات المدرسة. وتقوم أجنحة القصر على أربعين عرصة من المرمر. ومدخله طويل ومعتم كما قال، ولكن له عدة أبواب.
وقد وصف الدار التي افتتحت فيها المكتبة والمتحف، فقال إنها أجمل وأكثر رشاقة من قصر مصطفى باشا ولكنها غير واسعة مثله. ويدل بناؤها على ذوق رفيع. وقال إن بعضها معتمد على نوع من اللوالب لا يوجد مثلها في العالم بأسره، وهو منظر يشد العيون. وتعتبر القبة الحضرية من الجمال والروعة بحيث تشبه ربما المنطاد (البالون) المعلق. والغرف في هذا المبنى وفي غيره مثل أبنية الصوامع وأضرحة المرابطين، كلها مصقولة ومطلية البلار وقائمة على أربعة أو خمسة بوصات مربعة. وهي عادة من اللون الأزرق المزخرف بالحروف العربية والآيات القرآنية المنسابة الخطوط. ويتألف أثاث بيوت الأغنياء من الحشايا والزرابي الكثيفة والمرايا والمناضد المرصعة بالجواهر (1).
هذا النوع من الأبنية يسميه الكتاب الأبنية المدنية، وهم يضيفون إليها مباني القصبة والمساجد وما يتصل بذلك كالقباب. وقد اختفت مساجد كثيرة، دون مراعاة الخسارة الأثرية ولا الوطنية. كما تهدمت أجزاء عديدة من القصبة في العاصمة، واختفت أو كادت قصبات معظم المدن الأخرى: قسنطينة وعنابة وبجاية ومستغانم ووهران. ولولا أن القصور سكنها أعيان الأوروبيين ومنظماتهم واستخدمت لمصالحهم لكان أمرها كالقصبات والمساجد والأضرحة. والغريب أن أحد الكتاب الفرنسيين يقول إن سكنى الأوروبيين للقصور والأحواش هو الذي أنقذها من التخريب (2). ولكن ممن؟
(1) ديتسون، مرجع سابق، ص 168 - 170.
(2)
قوانار Goinar (الجزائر)، 284.
ويخبرنا هذا الكاتب أن المهندس الإنكليزي، بوكنال Buknal، قد جاء إلى الجزائر وعمل على صيانة الفن المعماري بها، وذلك بالمحافظة على كل قطعة وإعادة الحياة في النماذج الفنية من أجل إقامات شتوية في الحدائق الواقعة في أعلى مدينة الجزائر، كما أنه عمل على تواصل الفن القديم حتى لا ينقطع عن الماضي وطرازه.
وهكذا تحولت الإقامة القديمة لحراس الداي إلى قصر منيف أصبح هو مقر الحاكم العام الفرنسي صيفا. وهذا القصر كان يقع بوسط حديقة غناء واسعة، وحافظ الفنانون على طرازها الأصلي الذي ينسجم مع الساحل الجزائري، حيث الإخضرار الداكن وأشجار النخيل والبرتقال وأنواع الزهور. إنها إقامات بيضاء اتخذها أيضا بعض الفنانين نماذج لفنهم.
وكان جونار الذي جاء لحكم الجزائر بفكرة استرجاع شخصيتها التقليدية، قد بذل جهده في بناء نماذج جديدة مستوحاة من الطراز القديم، وهو ما سماه بعضهم (بالحركة الموريسكية الجديدة). وظهر ذلك في المباني الإدارية التي بنيت في عهد جونار أو التي تمت بعده مثل البريد المركزي، ومقر ولاية الجزائر، والبلدية وبريد الأبيار، وعمارة جريدة (لا ديباش ألجيريان)، ومحطة وهران ومركز سكيكدة، وأخيرا نشير إلى مباني المدارس الرسمية الثلاث في كل من العاصمة (الثعالبية)، وقسنطينة، وتلمسان. وقد وقع تقليد هذه الحركة مع التخفيف من الزخارف، في بعض المدارس والمباني الحكومية الأخرى. وشارك بعض المهرة من الجزائريين في الخط والزخرفة وفي تطوير هذا الفن (1).
وانتشرت فكرة تأصيل الفن خارج المدن أيضا، وانقلت إلى المشاريع
(1) يذكر أنه جيء بأحد النقاشين والخطاطين من وادي سوف، اسمه الشيخ عمر قاقة لزخرفة البريد المركزي بالعاصمة. وهذه العائلة ما تزال موجودة وتواصل فنها إلى اليوم. ويقال إن عمر قاقه قد أخذ فنه عن فنان مغربي ساهم في نقش الزاوية التجانية بقمار، ربما في آخر القرن 18 ولكن علينا أن نقدر المسافة الزمنية بين الرجلين.
السياسية الصحراوية. فظهرت المباني الآن محملة بالتأثر البربري - الإفريقي والإسلامي. وكانت الفنادق التي شيدت باسم (عابرة الأطلنطي) وكذلك بعض المباني الإدارية. وكانت تدل على التأثر بالنموذج السوداني القديم، كما في تميمون. ومن جهة أخرى استمرت فكرة الأحواش التي ليس لها طوابق، فلا يطل ساكن على آخر، مهما كان. وكانت الإدارة الفرنسية قد أسست قبل الثورة مصالح معمارية ملحقة بالبلديات للإشراف على عمليات البناء وخضوعها لمتطلبات البناء الحضري، كما تأسس معهد حضري ملحق بكلية الآداب منذ 1946 (1).
أما دار عزيزة فتنسب إلى عزيزة بنت رمضان، وهي زوجة رجب باي، أحد بايات قسنطينة. وكانت تسمى دار عزيزة باي، وأحيانا دار العزيزة أي المحبوبة عند زوجها، حسب الروايات الشعبية. ويذهب لويس رين إلى أن عزيزة هذه كانت ابنة أخ لعلي بتشين، ذلك البحار الشهير والثري الكبير في القرن 17 والذي بنى المسجد المعروف باسمه جهة باب الواد عندئذ. ويبدو أن شهرة عزيزة هذه لم تقم على دور سياسي أو مغامرة من المغامرات، اللهم إلا الحب الجارف الذي كان يكنه لها زوجها، وهو الحب الذي انتهى بقتلها على يد زوجها نفسه، غيرة عليها ربما، لأن القصة بقيت غامضة. وقد ماتت كما قيل بضربة سيف.
كان رجب باي قد بنى لها دارا (قصرا) نموذجية في الجزائر. وبعد ذلك صادر الباشا هذه الدار، ثم جعلها إقامة ثابتة لبايات قسنطينة ينزلون فيها حيثما حلوا بالعاصمة لأداء عادة الدنوش، وكذلك كان ينزل بها خلفاء البايات الذين ينوبون عنهم في أداء الزيارة، وبعد الاحتلال حولها الفرنسيون إلى مقر للأسقفية (2).
وقد حظى قصر أحمد باي بدراسات وملاحظات ربما لم يحظ بها قصر
(1) قوانار، مرجع سابق، ص 284.
(2)
لويس رين، (المرأة البربرية) في المجلة الجزائرية SGAAN، 1905، ص 485.
آخر. وكان القصر حديث العهد إذ بني قبل الاحتلال بسنوات قليلة (1826 - 1835). وقد بنته أيادي جزائرية صرفة مراعية فيه الذوق والجمال وانسجام الطبيعة، وجلبت بعض مواده من إيطاليا وتونس. ولكن الحاج أحمد لم يتمتع به، فبعد سنة واحدة من إكماله ضرب الفرنسيون قسنطينة، وفي السنة الموالية تمكنوا من احتلالها واحتلال القصر أيضا. وقد أصبح القصر منذ الاحتلال مقرا للإدارة الفرنسية الإقليمية، فعاثوا فيه فسادا، وجردوه من تحفه، وأهملوه فترة، ثم تبادلت عليه الأيدي، وشيئا فشيئا فقد القصر رونقه وجماله، وأصبح فقط موضعا للدراسة والزيارة.
يقول أوغسطين بيرك إن بناء القصر قد تم على يد الحاج الجابري القسنطيني والسيد الخطابي، وكلاهما معروف بتجربته ومواهبه. وللقصر أهمية فنية كبيرة. فقاعاته مستطيلة وله باحات داخلية وحديقتان. ويقع جناح الباي بين الحديقتين. وقاعاته واسعة، وهو مضاء إضاءة طبيعية جيدة عن طريق نوافذ مدروسة للتهوية والإضاءة. ويقوم القصر على عرصات مرمرية تربطها أقواس منحنية، وتغطي جدرانه طبقة من الزليج الملون (1). وقبل بيرك، وصف ديتسون قصر الحاج أحمد باي بإعجاب كبير واعتبره تحفة من الفن المعماري الجميل. ووصفه وصفاء داخليا دقيقا، بعد أن زاره شخصيا وتمتع به، وتحدث عما فيه وعمن فيه. وتذكر ديتسون بالمناسبة الباي المستبد والحوريات الحسان والموسيقى وخرير المياه والليالي الهادئة والزرابي المبثوثة. وقد تخيل ديتسون أنه في إحدى عجائب ألف ليلة وليلة، ثم أفاق من غيبوبته.
ومن رأي ديتسون أن القصر كان يتألف من عدة حدائق، وهي مليئة بأنواع النباتات الاستوائية التي كانت أوراقها تلمع بنثير المياه عليها من العيون العذبة. وحول الحدائق صفوف من العرصات المرمرية وهي التي تقودك إلى الأبهاء والقاعات المزخرفة بالأرابسك. كما وصف ديتسون شقق وأجنحة
(1) بيرك، مرجع سابق، ص 100. وقد زرناه خلال السبعينات.
القصر والأضواء الطبيعية النافذة إليه، والهدوء التام الذي يسوده رغم وقوع القصر قرب شوارع المدينة المزدحمة وضجيج الأسواق. ويرجع ذلك إلى أن القصر ليس له نوافذ تطل على المدينة. وقد اعتبره هذا الكاتب رمز الحياة الإسلامية في قسنطينة (1).
وحين تحدث شيربونو عن هذا القصر قال في شيء من التشفي إن صاحبه قد سكنه بضعة أشهر فقط، مرة باشا ومرة سجينا. وقد نقل لنا البيتين اللذين وجدهما منقوشين بخط مشرقي (ديواني؟) على هذا القصر وبطريقة فنية تجلب النظر، وهما:
لمالكه السعادة والسلامة
…
وطول العمر ما سجعت حمامة
وعز لا يخالطه هوان
…
وأفراح إلى يوم القيامة (2)
ومن الذين دخلوا القصر (1837) واعتبروه تحفة من بقايا ألف ليلة وليلة، الفنان الفرنسي هوراس فيرنيه الذي سبقت إليه الإشارة والذي رسم معركة احتلال قسنطينة بعد أن دفعت له الحكومة نفقات السفر والإقامة. وقد عده حلما من الأحلام الشرقية، ربما لأن فيرنيه نفسه كان يبحث عن الشرق في الجزائر. وقد أعجب بالزخارف العذبة والمنسجمة، وأعجب أيضا بالمرمر الأبيض والرسومات الملونة بالألوان الأكثر حيوية وحياة، وهي تدل على ذوق راق. وكان فيه على عهده الفوارات والمياه الجارية من عيون تظللها أشجار البرتقال وغيرها (3).
والواقع أن فيرو هو الذي خص قصر الحاج أحمد بدراسة مفصلة بعد منتصف القرن الماضي. وكان ذلك بعد أن حدثت القصر أمور منها الإطاحة بعشرات المنازل القريبة منه لتوسيع المدينة ومذ الطريق الوطني. ومنها إقامة نابليون الثالث فيه أربعة أيام أثناء زيارته لقسنطينة سنة 1865. والجديد الذي
(1) ديتسون، مرجع سابق، ص 265 - 267.
(2)
شيربونو، مرجع سابق، ص 134.
(3)
شارل فيرو (مونوغراف قصر الحاج أحمد) في مجلة (روكاي)، 1867، ص 5 - 6.
جاء به فيرو هو: أن أحمد باي تأثر بفكرة القصر بعد زيارته لمصر أثناء أدائه فريضة الحج، وأن الذين بنوه وتفننوا فيه هم من الجزائريين وليس من الأجانب، كما ادعى البعض. وأخيرا ألح فيرو على كون الحاج أحمد استولى على دور كثيرة لبناء القصر واستبد بالحكم والرأي حتى أن بعض العائلات التي لم تستجب لطلبه في المساعدة فرت إلى الفرنسيين. هذه هي الأفكار الجديدة حول القصر، كما نلمحها في كتابات فيرو (1). وهو لم يكتب عنه معجبا بل منتقدا خلافا لمن سبقوه إلى وصفه.
بعد أداء فريضة الحج ومشاهدة قصور مصر وكذلك المعالم التي تركها صالح باي في قسنطينة، عزم الحاج أحمد على بناء قصره الذي بدأه، كما ذكرنا سنة 1826 وهو يومئذ باي، وانتهى منه سنة 1835 وهو عندئذ باشا إذ بعث إليه السلطان محمود الثاني فرمان الباشوية. ولقد كانت الأسرة الباي بعض الدور حيث القصر. فأضاف إليها هو بالشراء والمصادرة دورا أخرى. وكلف أحد الإيطاليين من جنوة (من اليهود؟)، وكان يتاجر بالجملة في الحبوب بعنابة، أن يجلب إليه الرخام الأبيض من إيطاليا، وكل ما هو ضروري لزخرفة قصر منيف. وقد فعل هذا الإيطالي، واسمه (شييافينو) وحملت ألواح المرمر على ظهور البغال والإبل من عنابة إلى قسنطينة. وتسلم الإيطالي أجره حبوبا فحملها إلى ليفورنا، ثم أخذ البناؤون والفنانون في عملهم تحت إشراف قائد الدار، ابن البجاوي. وقد جيء بالمعماريين من كل أنحاء الإقليم، وعلى رأسهم الحاج الجابري والسيد الخطابي اللذان ذكرناهما من قبل. ويذهب فيرو إلى أن كليهما قد مارس البناء سابقا في الإسكندرية وفي تونس. وكذلك جاء الرسامون والنجارون من الأهالي. وجيء ببعض اليهود من تونس لوضع المربعات والنوافذ الزجاجية. وما عدا المرمر والزليج الملون فإن كل المواد الأخرى للبناء إنما جيء بها من المدينة أو مما حولها.
(1) كان فيرو مترجما رئيسيا في الإدارة بقسظينة عند كتابة كتابه عن القصر. ونتوقع أن معلوماته الشفوية قد حصل عليها من الشيوخ المسنين في وقته، إضافة إلى وثائق إدارة الحاج أحمد.
ويذهب فيرو إلى أن الباشا (الداي) حسين قد تلقى شكاوى من الناس على أن الباي أحمد أخذ ديارهم غصبا، فوبخه، على ذلك، ولكن الباي أخبره أنه عوض المتضررين منهم. ثم إن الباي تبين أن القصر يحتاج إلى مواد أخرى أكثر مما اشترى إلى ذلك الحين، فلجأ إلى كبار المدينة والإقليم لينجدوه بما عندهم من المرمر والأبواب والنوافذ. وحسب فيرو الذي ربما استقى معلوماته من الموتورين من حكم أحمد باي بعد جيل أو أكثر، فإن الخائفين والطامعين جاؤوه بما عندهم، بينما بعض العائلات لجأت إلى الفرنسيين خوفا من بطش الباي، وقد ذكر منها فيرو أولاد قارة علي، وأولاد إبراهيم باي، وهم الذين صادر الباي أملاكهم طبعا. وكان ذلك على إثر حملة 1836 الفاشلة على قسنطينة.
أما تكاليف ومساحة القصر فقد أوجزها فيرو فيما يلي: رواية عن الحاج محمد الزموري الذي كان خزناجيا (وزير مالية) الباي. فكانت التكلفة مليونا ونصفا من عملة البياستر. وكان رؤساء البناء والنجارة يحصلون على خمسة بياستر كل يوم، بينما العامل العادي يحصل على بياستر واحد يوميا. وكان الدفع أسبوعيا على يد الخزناجي. وأما المساحة التي احتلها القصر فهي 5، 609 متر، وهو يتألف من ثلاثة أجنحة سكنية ورئيسية، في طابق واحد. وكانت هذه الأجنحة منفصلة عن بعضها بحديقتين، يقع بينها حريم الباي نفسه، وكانت للقصر حيطان عالية.
كان الحاج أحمد متزوجا من أرسى نساء بعضهن من عائلات عريقة ومتنفذة مثل أولاد مقران وعائلة عثمان خوجة (والد حمدان خوجة صاحب كتاب المرآة). وقدر الفرنسيون عدد النساء اللائي وجدوهن في القصر بعد الاحتلال (1837) بحوالي 350. وهو ما يطلقون عليه (الحريم). والمعروف أن الحاج أحمد قد أخذ عائلته معه إلى الأوراس عندما لجأ إليه، وقد وضع نساءه في الزاوية القادرية في بلدة بوزينة. ولا ندري الآن أي نسائه أخذ معه عندئذ، وقد كان أخواله هم أولاد ابن قانه الذين تخلوا عنه في وقت