الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج الحافظ في التعامل مع اختلاف قولي أحد الحفاظ في بعض الرواة
من المعلوم أن كثيرا من مسائل الجرح والتعديل اجتهادية، مما يؤدي بذلك إلى اختلاف أقوال أئمة الجرح في شأن بعض الرواة.
وتارة يكون الخلاف بين قولي الإمام نفسه.
وتارة يكون الخلاف بين أكثر من إمام.
إلا أنه ينبغي أن يُعلم أن الأصل في أقوال أئمة الجرح والتعديل التعاضد لا التعارض، والتوافق لا التباين، والإتفاق لا الإفتراق؛ لأنهم ينطلقون غالبا من قواعد علمية ثابتة.
فعلى هذا فلا ينبغي لطالب العلم إذا وجد أقوال أئمة الجرح والتعديل مختلفة في راو من الرواة أن يحكم عليها بالتعارض، ثم يعمد إلى الترجيح، بل لا بد قبل ذلك من الجمع بين أقوالهم، ففي الجمع بين أقوالهم إعمال الأقوال، وفي الترجيح إهمال بعض الأقوال، والإعمال أولى من الإهمال.
فإن لم يتيسر له الجمع بدون كلفة وتعنت فحينئذ يعمد إلى الترجيح.
قال الإمام ابن الوزير الصنعاني رحمه الله: "واعلم أن التعارض بين التعديل والتجريح إنما يكون تعارضا عند الوقوع في حقيقة التعارض، أما إذا أمكن معرفة ما يرفع ذلك فلا تعارض البتة.
مثال ذلك: أن يُجرَح هذا بفسق قد علم وقوعه منه، ولكن علمت توبته أيضا، والجارح جرح قبلها، أو يُجرَح بسوء حفظ مختص بشيخ أو بطائفة، والتوثيق يختص بغيرهم، أو سوء حفظ مختص بآخر عمره لقلة حفظ أو زوال عقل، وقد تختلف أحوال
الناس فكم من عدل في بعض عمره دون بعض، ولهذا كان السعيد من كان خير عمله خواتمه.
فإذا اطُّلع على التأريخ أي تأريخ روايته وتأريخ اختلاطه؛ فهو مَخْلَصٌ حسن، وقد اطُّلع عليه في كثير من رجال "الصحيحين" جُرحوا بسوء الحفظ بعد الكبر، والصحيح من أحاديثهم رُوِيَ عنهم قبل ذلك فلا تعارض". "التنقيح" مع "التوضيح" (2/ 167).
ومن أئمة الجرح والتعديل وحفاظ الحديث الذين ربما اختلفت أقوالهم في كثير من الرواة الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله، وما ذاك إلا لسعة حفظه وكثرة تصانيفه وكثرة الرواة الذين تكلم فيهم بجرح أو تعديل، فربما صار له في الراوي عدة أقوال كما هو شأن غيره من الحفاظ كالإمام ابن معين رحمه الله وغيره.
قال الإمام الذهبي رحمه الله في ابن معين: "وقد سأله عن الرجال عباس الدوري وعثمان الدارمي وأبو حاتم وطائفة، فأجاب كل واحد منهم بحسب اجتهاده، ومن ثم اختلفت آراؤه وعباراته في بعض الرجال، كما اختلفت اجتهادات الفقهاء المجتهدين، وصارت لهم في المسألة أقوال". "ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل"(72).
فالشأن في الجمع بين أقوال الحافظ ابن حجر رحمه الله التي ظاهرها التعارض في بعض الرواة هو الشأن في الجمع بين أقوال من سبقه من أئمة الجرح والتعديل التي ظاهرها التعارض، ولنا في ذلك عدة طرق:
الأولى: التأكد من صحة نسبة هذه الأقوال إلى الحافظ ابن حجر أو إلى غيره من الحفاظ فلا عبرة بقول لم تصح نسبته إلى الإمام المنسوب إليه.
الثانية: إذا تأكدنا من صحة نسبة هذه الأقوال إلى قائلها فإن تمكنا من معرفة المتقدم من المتأخر من قوليه، فالمعتمد عنه حينئذ الأخير من قوليه.
انظر مثالا على ذلك في "تأريخ عباس الدوري عن ابن معين"(4/ 272).
الثالثة: فإن لم يتيسر لنا معرفة القول المتقدم من المتأخر من قوليه فنعمد حينئذ إلى الجمع بين قوليه ما أمكن، كما سبقت الإشارة إليه من كلام ابن الوزير رحمه الله فقد يكون الجرح أو التعديل نسبيا، وهذا كثير بل قال الحافظ السخاوي رحمه الله:"وعلى هذا يحمل أكثر ما ورد من اختلاف كلام أئمة الجرح والتعديل ممن وثق رجلا في وقت وجرحه في آخر". "فتح المغيث"(2/ 127 - 128).
وقد توسع الحافظ الباجي في كتابه "التعديل والتجريح"(1/ 283 - 288) في ذكر ذلك، وضرب الأمثلة له، فليراجعه من شاء مزيد الفائدة.
ومن أمثلة جمع الحافظ ابن حجر رحمه الله بين قولي أحد الحفاظ التي ظاهرها التعارض ما يلي:
1) قوله في ترجمة عبد العزيز بن المختار البصري بعد أن نقل عن الدوري عن ابن معين أنه وثقه، ونقل عنه ابن أبي خيثمة أنه قال فيه:"ليس بشيء": "قلت: احتج به الجماعة، وذكر ابن القطان الفاسي أن مراد ابن معين بقوله في بعض الروايات: "ليس بشيء" يعني أن أحاديثه قليلة". "هدي الساري"(421).
2) نقل في ترجمة عمرو بن يحيى المازني عن ابن معين أنه قال فيه: "صويلح، وليس بالقوي" ثم قال: "قد بين معاوية بن صالح عن يحيى بن معين سبب تضعيفه له فإنه قال: قال ابن معين: "ثقة إلا أنه اختلف عليه في حديثين". "هدي الساري" (432).
3) قوله في ترجمة موسى بن عقبة الأسدي: "وثقه الجمهور، وقال ابن معين: "كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح الكتب"، وقال مرة: "في روايته عن نافع شيء ليس هو فيه كمالك وعبيد الله بن عمر" قلت (الحافظ): فظهر أن تليين ابن معين له، إنما هو بالنسبة إلى رواية مالك وغيره لا فيما تفرد به، وقد اعتمده الأئمة كلهم، وقد وثقه مطلقا في رواية عباس الدوري، وغير واحد عنه، والله أعلم". "هدي الساري"(446).
4) قوله في ترجمة أبي بلج يحيى بن سليم بعد أن نقل توثيقه عن ابن معين في جماعة آخرين: "ونقل ابن الجوزي عن ابن معين أنه ضعفه، فإن ثبت ذلك فقد يكون سئل عنه وعن من هو فوقه فضعفه بالنسبة إليه، وهذه قاعدة جليلة فيمن اختلف النقل عن ابن معين فيه، نبه عليها أبو الوليد الباجي في كتابه "رجال البخاري" (1)، ويحتمل أن يكون ابن معين ضعفه من قبل رأيه فإنه منسوب إلى التشيع". "الماعون"(117 - 118).
5) قوله في ترجمة عبد العزيز بن عبد الله الأويسي بعد أن نقل توثيقه عن بعض الحفاظ: "لكن وقع في "سؤالات أبي عبيد الآجري عن أبي داود" قال: عبد العزيز الأويسي ضعيف، فإن كان عنى هذا ففيه نظر؛ لأنه قد وثقه في موضع آخر، وروى عن هارون الحمال عنه، ولعله ضعف رواية معينة له وهم فيها، أو ضعف آخر اتفق معه في اسمه، وفي الجملة فهو جرح مردود". "هدي الساري"(420).
6) قوله في ترجمة محمد بن عبيد الطنافسي: "من شيوخ أحمد بن حنبل قال: "إنه كان
(1)(1/ 283 - 288).
صدوقا، ولكن يعلى أخوه أثبت منه"، وقال في رواية أخرى: "كان يخطئ ويصيب" وهذا على ما يختار أحمد يكون ساقط الحديث (1) لكن وثقه في رواية الأثرم، وكذا وثقه ابن معين والعجلي والنسائي وابن، سعد وابن عمار، وزاد: "كان أبصر إخوته بالحديث وكان يعلى أحفظهم" قلت (الحافظ): احتج بمحمد الأئمة كلهم، ولعل ما أشار إليه أحمد كان في حديث واحد". "هدي الساري "(441).
7) قوله في ترجمة عبيد الله بن أبي جعفر المصري: "وثقه أحمد في رواية عبد الله بن أحمد عنه وأبو حاتم والنسائي وابن سعد، وقال ابن يونس: "كان عالما عابدا" ونقل صاحب "الميزان" عن أحمد أنه قال: "ليس بالقوي" قلت (الحافظ): إن صح ذلك فلعله في شيء مخصوص، وقد احتج به الجماعة". "هدي الساري"(423).
8) قوله في ترجمة أسد بن عمرو البجلي بعد أن نقل عن ابن عمار أنه قال: "لا بأس به": "وقد جاء عن ابن عمار أيضا أنه قال: "أسد بن عمرو صاحب رأي، ضعيف الحديث" فيمكن الجمع بين كلاميه بأنه أراد بقوله:"لا بأس به" أنه لا يعتمد، وأنه تغير لما ضعف بصره، فضعف حفظه". "اللسان" (1/ 589) ترجمة أسد بن عمرو البجلي.
9) وقال في ترجمة عطاء بن السائب: "قال الحاكم: تغير بأخرة، وقال في "السؤالات": "تركوه" كذا قال، ولعله أراد بالترك ما يتعلق بحديثه في الإختلاط". "التهذيب"(3/ 105).
(1) عن درجة الإحتجاج إلى درجة الإعتبار.
فهذه أمثلة تبين موقف الحافظ ابن حجر رحمه الله من صدور الجرح والتعديل اللذين ظاهرهما التعارض من إمام واحد.
ففي المثال الأول: أنه إذا وجد عن أحد الحفاظ قولان ظاهرهما التعارض، وكان لهذا الإمام اصطلاح خاص في أحد القولين لا ينافي قوله الآخر حمل عليه.
وفي المثال الثاني والثالث والسابع والتاسع: أنه إذا وجد عن أحد الحفاظ قولان ظاهرهما التعارض، وكانت هناك قرينة في أحد القولين تدل على أنه في شيء خاص؛ حمل عليه.
وفي المثال الرابع والخامس والسادس: أنه إذا لم يظهر لنا شيء من ذلك أننا نلتمس لقول الإمام المعارض لما عليه الحفاظ المحامل والمخارج التي تليق بمقام هذا الإمام إحسانا للظن به، والله أعلم.
الرابعة: إذا لم نستطع الجمع بين قولي الإمام اللذين ظاهرهما التعارض؛ نعمد إلى الترجيح بين تلاميذه الناقلين عنه، فيقدم رواية تلميذه الملازم له العارف بأقواله على غيره من أقرانه.
فيقدم عباس الدوري عن كل من روى عن ابن معين، ويقدم عبد الله بن أحمد بن حنبل عن كل من روى عن أبيه.
الخامسة: إذا تعذر معنا الترجيح بين تلاميذ هذا الإمام بأن كانوا في منزلة واحدة أو نحو ذلك فحينئذ نأخذ من قولي الإمام ما هو أقرب إلى أقوال الحفاظ الآخرين.
قال ابن أبي حاتم: "اختلفت الرواية عن يحيى بن معين في مبارك بن فضالة، والربيع بن صبيح، وأولاهما أن يكون مقبولا منهما محفوظا عن يحيى ما وافق أحمد وسائر
نظرائه". "الجرح والتعديل" (8/ 339).
السادسة: فإن تعذرت معنا الحالة الخامسة كأن لم يكن في ترجمة الراوي إلا قولي هذا الإمام المتعارضين، فإن كان جرحه المعارِض للتعديل مبهما جُمع بين قوليه وتُوُسِّط في حال الراوي، نص عليه شيخنا العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله، كما في كتابي "الفتاوى الحديثية لعلامة الديار اليمانية"(2/ 52).
وإن كان جرحه المعارض لتعديله مفسرا فحينئذ نقدم جرحه المفسر على تعديله المبهم، نص عليه العلامة الألباني والعلامة الوادعي - رحمهما الله-.
قال الإمام الألباني رحمه الله: "التعامل مع قولي الإمام كما نتعامل مع اختلاف الأئمة فيما بينهم يعني أننا نقدم الجرح المفسر".
وقرره شيخنا العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله ثم قال: "إلا أَنْ يُعلم أن التوثيق بعد الجرح". "النكت الحسان على مقدمة لسان الميزان" المطبوع ضمن كتابي "الفتاوى الحديثية لعلامة الديار اليمانية"(2/ 52).