الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموقف الصحيح من اختلاف قول الحافظ ابن حجر رحمه الله في الراوي
سيمر بك اختلاف قول الحافظ ابن حجر رحمه الله في كثير من الرواة بما يكون أحد القولين مباين في الظاهر للقول الآخر، كأن يقول في الراوي:"يعتبر به" أو ما شاكلها من العبارات، ثم يحكم عليه بالضعف الشديد في مواضع أخرى من كتبه، أو يحكم على الراوي أنه صدوق ثم يحكم عليه في مواضع أخرى بما يقتضي عدم الإحتجاج بحديثه، وربما بما يقتضي عدم صلاحية حديثه للإعتبار.
والموقف من اختلاف قول الحافظ في الراوي هو الموقف من اختلاف أحد الأئمة الآخرين في الراوي الذي سبق بيانه قبل فصلين.
فقد يكون له قولان في الراوي: أحدهما مطلق، والآخر مقيد، فيحمل قوله المطلق على قوله المقيد.
مثال ذلك: أن الحافظ رحمه الله تكلم عن إسماعيل بن عياش في مواضع شتى من كتبه وذكر أن روايته عن غير الشاميين قوية كما في ترجمة إسماعيل من هذا الكتاب، بينما نجده في بعض المواضع من كتبه يحكم على إسماعيل بن عياش بالضعف مطلقا دون تقييد، كقوله في "التلخيص الحبير" (3/ 299):"ضعيف"، وقوله في "موافقة الخُبر الخبر" (1/ 439):"فيه مقال" فيُحمل تضعيفه المطلق ها هنا لإسماعيل بن عياش على كلامه المقيد في كتبه الأخرى بروايته عن غير الشاميين، يدل على ذلك أن الحافظ نفسه صرح برد القول بتضعيف إسماعيل بن عياش مطلقا، فلما قال البيهقي في إسماعيل بن عياش:"ليس بحجة" رد عليه الحافظ بقوله: "فيه تساهل لا يخفى". "فتح الباري"(9/ 665).
وقد مر معنا أن الحافظ ممن يجمع بين الأقوال التي ظاهرها التعارض في الراوي بهذا
الجمع سواء كان التعارض من إمامين فأكثر أو من إمام واحد.
تنبيه مهم:
وهنا تنبيه مهم يسلم به الحافظ ابن حجر من ظن التناقض في شأن كثير من الرواة، ويُجمع به بين أقواله في الراوي.
والتنبيه هو: أنك ربما تجد الحافظ ابن حجر رحمه الله كما هو شأن غيره من الحفاظ ربما حكم على الراوي الذي هو عنده متروك أو كذاب بقوله: "ضعيف".
ومعلوم أن الأصل في قول الحافظ في الراوي في غير "التقريب": "ضعيف" الجرح الخفيف الذي لا ينزل صاحبه عن درجة الإعتبار.
إلا أن الحافظ في شأن الرواة الذين صرح في مواضع أخرى بتركهم وضعفهم الشديد لم يُرِدْ بقوله: "ضعيف" المعنى الإصطلاحي لدى المحدثين، إنما أراد المعنى اللغوي فكلمة:"ضعيف"، وإن كانت في اصطلاح المحدثين أرفع من متروك، وينبغي التمييز بينها وبين المتروك، إلا أنها في اللغة تصدق على المتروك، بل وعلى الكذاب، فالكذاب ضعيف وزيادة، ولم يصل إلى هذه المنزلة إلا بعد بلوغه مرتبة الضعف.
فالحافظ حين يطلق في المتروك والكذاب: "ضعيف" لم يُرِد بها في هذه الحالة تحديد منزلة الراوي في اصطلاح المحدثين من حيث بيان هل ضعفه خفيف يصلح معه للإعتبار أم لا؟ إنما أراد بها أن الراوي المتروك والكذاب فيه ضعف لغة، ولا يلزم من ذلك أن يكون معنى "ضعيف" عند الحافظ في هذه الحالة صلاحية الراوي للإعتبار والإستشهاد.
ويدل على ذلك أمران:
أحدهما: أن الحافظ ابن حجر رحمه الله معروف بإمامته في هذا الشأن وتوسطه واعتداله في نقد الرواة، فإذا قال في الراوي الذي هو متروك - عنده-:"ضعيف"؛ حملنا قوله في هذه الحالة على أنه أراد مطلق الضعف لا تحديد منزلة الراوي حسب اصطلاح المحدثين، وإلا لزمنا على ذلك رمي الحافظ بالتساهل حيث يقول في الراوي الذي حقه أن يقال فيه:"متروك" يقول فيه: "ضعيف"، وهذا ما الحافظ عنه بريء؛ إذ الحافظ نفسه قد حكم على هذا الراوي بالترك والضعف الشديد في مواضع أخرى من كتبه، وإلا لزمنا رمي الحافظ بالتناقض في شأن هؤلاء الرواة، والجمع بين كلام الحافظ رحمه الله وحمله على المحامل الحسنة أولى من حمله على التناقض.
الثاني: أن الحافظ قد نقل الإجماع على ترك بعض الرواة وجرحهم الشديد، ثم تجده في مواضع أخرى من كتبه يحكم عليهم بقوله:"ضعيف".
فهل يستسيغ عاقل أن يقول: إن الحافظ ابن حجر رحمه الله عنى بقوله في كل واحد من هؤلاء الرواة: "ضعيف" المعنى الإصطلاحي الذي لا ينزل صاحبه عن درجة الإستشهاد مع نقله الإجماع على تركهم؟ !
أم الأولى حمل تضعيف الحافظ لهؤلاء الرواة على المعنى اللغوي الذي يسلم به الحافظ من معرة الرمي بمخالفة إجماع المحدثين؟
لا شك أن هذا هو الأولى.
وهؤلاء عدة رواة حكم عليهم الحافظ بالضعف مع نقله الإجماع على تركهم وضعفهم الشديد في مواضع أخرى:
1) الحسن بن عمارة الكوفي، نقل الحافظ إطباقهم على تركه حيث قال في "هدي
الساري" (397): "رماه شعبة بالكذب، وأطبقوا على تركه"، بينما قال فيه في "التلخيص الحبير" (2/ 59): "ضعيف".
2، 3) عبد الرحمن بن معاوية أبو الحويرث، ويحيى بن العلاء البجلي، نقل الحافظ في "النكت"(1/ 440) اتفاق الأئمة على طرح حديثهما، بينما قال في ""موافقة الخُبْر الخبر"" (1/ 373) في عبد الرحمن بن معاوية:"ضعيف"، وقال في "الإصابة" (5/ 189) و"تخريج الكشاف" (2/ 353) في يحيى بن العلاء:"ضعيف".
4) عبد الكريم بن أبي المخارق، قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 292):"مجُمع على تركه" بينما اكتفى بالحكم عليه بقوله: "ضعيف" في عشرة مواضع من كتبه كما في ترجمته من هذا الكتاب.
5) عمرو بن الحصين العقيلي، قال فيه الحافظ:"متروك باتفاقهم، واتهمه بعضهم بالكذب، والله المستعان""نتائج الأفكار"(2/ 411) بينما اكتفى في "المطالب العالية"(1/ 426) بالحكم عليه بقوله: "ضعيف".
بقى معنا: إذا لم نستطع الجمع بين أقوال الحافظ المتعارضة في الراوي، فأي أقواله نقدم؟ وهل أقواله في بعض كتبه أولى بالتقديم من غيرها أم لا؟
هذا ما يجيبنا عنه محدث العصر الإمام الألباني، ومحدث الديار اليمنية الإمام الوادعي -رحمهما الله-.
سئل الإمام الألباني رحمه الله: إذا اختلف كلام الحافظ في "التقريب" وفي "الفتح" وفي "التلخيص" في الحكم على رجل بالتضعيف أو التوثيق، فهل يُرَجَّح كلامه في "التقريب"؛ لأنه في تخصصه وفي بابه، ومستحضر لكلام العلماء فيه؟ وكذلك
"الإصابة" في بابها، وكذلك "طبقات المدلسين" في بابها، أو هناك قرائن؟
فأجاب رحمه الله: "الذي أعتقده - والله أعلم- كقاعدة عامة: أنه إذا اختلف قول عالم في كتاب من كتاب آخر، فإنما يُعتمد الكتاب الذي تخصص في البحث في هذا الشخص الذي يترجمه، ذلك لأنه يكون قد توفر لمعرفة ما قيل في هذا المترجم، ثم اختيار ما هو الأقرب إلى الصواب مما اختلف فيه الناس.
أما في كتاب له آخر كما ذكرت آنفا "الفتح" أو "الإصابة" أو غير ذلك فهو في الغالب إنما يحكم من حافظته، وليس من تحقيقه الذي دونه في كتابه الخاص في الترجمة عن ذلك الرجل، فإذا اختلف قوله في راو ضعفه مثلا في "التقريب" وقواه في "الفتح" أو مثلا في "الإصابة" خالف ما في "طبقات المدلسين" ونحو ذلك فهو في "طبقات المدلسين أقوى.
فنحن نعتمد على قوله الذي نعلم أنه درسه دراسة علمية دقيقة فيما إذا خالف قولا أو آخر في كتاب آخر، لا نتصور أنه قد أجرى فيه دراسة خاصة طبعا، هذا كما نقول قاعدة، ولكن لا نستطيع أن نطردها بالمائة مائة، قد يكون مثلا من ذكره في "التقريب" مضعفا، أو في "طبقات المدلسين" مدلسا، قد يكون هو قوي الحديث، ليس يعني مخالفة لما جاء في كتابيه المذكورين "التقريب" و"الإصابة"، وإنما لأنه أيضا قام في نفسه بأن هذا الحديث الذي فيه تدليس أو فيه ذلك الضعيف، إنما وجد له في نفسه بعض الشواهد بسبب دراسته الفقهية للموضوع فأورده وقواه وسكت عليه كما هو أصله في كتابه
"الفتح"(1).
المقصود: إذا لم نجد نحن ما نستثني من هذه القاعدة، فالأصل أن نرجع إلى كتابه المتخصص في التجريح أو في التوثيق". "الدرر في مسائل المصطلح والأثر" (115 - 117).
وسئل شيخنا الإمام الوادعي رحمه الله: إذا اختلف قول ابن حجر بأن حكم عليه في "التقريب" بحكم، وحكم عليه في "هدي الساري" بحكم آخر، رجح بعضهم حكمه في "هدي الساري"؛ لأنه درس فيه من تُكُلِّم فيهم من رجال البخاري دراسة دقيقة، ورجح آخرون حكمه في "التقريب" بحجة: أنه ألفه بعد "هدي الساري"، فما الذي يترجح عندكم؟
فأجاب: "أما اختلاف الحافظ ابن حجر رحمه الله فينبغي أن ينظر الباحث ماذا قال العلماء المتقدمون في ذلك الراوي، نعم إن الحافظ ابن حجر رحمه الله في "المقدمة" متقن لهذا أكثر من "التقريب"، وأما "التقريب" فله أخطاء كثيرة فرب شخص يحكم عليه بالثقة وهو مجهول وآخر يحكم عليه بأنه مقبول، وهو ثقة ورُب آخر يحكم عليه بالضعف وهو ثقة، فعلى كل "التقريب" من اجتهادات الحافظ ابن حجر.
وأنت لم تضيق نفسك ما عندك إلا "مقدمة الفتح"؟ ! أبغيك ترجع إذا رأيت كلام الحافظ قد اضطرب ترجع إلى "تأريخ البخاري" و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم و"الضعفاء" للعقيلي، و"الكامل" لابن عدي، وهكذا أيضا بقية كتب الجرح
(1) لكنه لم يوف بذلك بل سكت في "الفتح" عن عدة أحاديث ضعيفة نبه على ذلك شيخنا الوادعي رحمه الله.
والتعديل لتنظر ماذا قال العلماء، وتأخذ الماء من مقره ومن منبعه.
نعم هنا أمر أريد أن أنبه عليه، وهو: مسألة كثرة الرجال فبهم كثرة لا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وتعالى، فربما يشتبه الراوي براو آخر، وربما يكون الشخص مستعجلا في وقت ويكون في وقت آخر عنده أناة وسعة صدر يبحث المسألة فإذا بحثها في كتاب وأتقن البحث في ذلك الكتاب عضضت عليه بالنواجذ، ولا يضرك إذا خالف نفسه، فإذا أتقنوا في موضع لم يتيسر لهم الإتقان والبحث والتدقيق في موضع آخر، سواء أكان عن الحديث أم عن الرجل، أو هكذا في الأحاديث رب شخص يبحث الحديث ويظهر فيه علة وأنه ضعيف، ويأتي مرة أخرى ويغتر بظاهر السند فيحكم عليه بالصحة، يكون مستعجلا ما عنده وقت للإستيعاب، فبعد هذا - بارك الله فيكم- لو رأيت أي حافظ قد أتقن بحثا فعض عليه بالنواجذ، والله المستعان". "الفتاوى الحديثية لعلامة الديار اليمانية" (2/ 53 - 54).