الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج الحافظ في الجمع بين أقوال الأئمة التي ظاهرها التعارض
تقدم معنا التنبيه أن علم الجرح والتعديل من مسائل الإجتهاد التي ربما اختلفت فيها أنظار الأئمة.
قال الإمام الترمذي رحمه الله: "وقد اختلف الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال كما اختلفوا فيما سوى ذلك من العلم". "العلل الصغير" المطبوع مع "الجامع"(5/ 756).
وقال الإمام المنذري رحمه الله: "واختلاف هؤلاء - يعني أئمة الجرح والتعديل- كاختلاف الفقهاء، أصل ذلك يقتضيه الاجتهاد
…
". "أجوبة المنذري في الجرح والتعديل" (83).
وقال الإمام الصنعاني رحمه الله: "قد يختلف كلام إمامين من أئمة الحديث في الراوي الواحد، وفي الحديث واحد، فيضعف هذا حديثا وهذا يصححه، ويرمي هذا رجلا من الرواة بالجرح وآخر يعدله، وذلك مما يشعر أن التصحيح ونحوه من مسائل الإجتهاد التي اختلفت فيها الآراء". "إرشاد النقاد"(13).
وتقدم معنا التنبيه من كلام الإمام ابن الوزير رحمه الله أنه لا يصار إلى الترجيح إلا عند عدم إمكان الجمع وثبوت حقيقة التعارض.
وقال الإمام ابن عبد الهادي رحمه الله: "لا يطلب بيان السبب في التضعيف إلا إذا عارضه تعديل". "تنقيح التحقيق"(2/ 888).
وقال تاج الدين السبكي رحمه الله: "قولهم: "الجرح مقدم إنما يعنون به حالة تعارض الجرح"". "طبقات الشافعية"(2/ 20).
ولست الآن في صدد بيان مناهج الأئمة عند تعارض الجرح والتعديل الثابت صدورهما من إمامين ثقتين عدلين عارفين بأسباب الجرح والتعديل؛ فإن بيان ذلك وضرب الأمثلة له يطول، وإنما المراد هاهنا أن أضرب بعض الأمثلة العملية من صنيع الحافظ ابن حجر رحمه الله عند تعارض الجرح والتعديل من أكثر من إمام.
فمن ذلك:
1) قوله في ترجمة هشام بن عروة بن الزبير الأسدي: "مجمع على تثبته إلا أنه في كبره تغير حفظه فتغير حديث من سمع منه في قدمته الثالثة إلى العراق، قال يعقوب بن شيبة: "هشام ثبت ثقة لم ينكر عليه شيء إلا بعد ما صار إلى العراق فإنه انبسط في الرواية عن أبيه فأنكره أهل بلده، والذي نراه أنه كان لا يحدث عن أبيه إلا بما سمع منه فكان تساهله أنه أرسل عن أبيه ما كان يسمعه من غير أبيه، قلت (الحافظ): هذا هو التدليس، وأما قول ابن خراش:"كان مالك لا يرضاه" فقد حكي عن مالك فيه شيء أشد من هذا، وهو محمول على ما قال يعقوب". "هدي الساري" (448).
2) ذكر الحافظ في ترجمة محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري أن الذهلي ذكره في الطبقة الثانية من أصحاب الزهري، وقال:"إنه وجد له ثلاثة أحاديث لا أصل لها" ثم قال الحافظ: "الذهلي أعرف بحديث الزهري وقد بين ما أُنكِر عليه، فالظاهر أن تصعيف من ضعفه بسبب تلك الأحاديث التي أخطأ فيها". "هدي الساري"(440).
3) قال الحافظ في ترجمة زياد بن عبد الله البكائي: "صدوق في المغازي مختلف فيه في غيرها، قال ابن معين: "لا بأس به في المغازي، وأما غيرها فلا"، وقال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به" وأطلق جماعة تضعيفه، وهو محمول على ما قال ابن معين". "موافقة
الخُبْر الخبر" (1/ 269).
4) قال الحافظ في ترجمة علي بن زيد بن جدعان: "كان من أهل مكة ثم سكن البصرة، وهو ضعيف عندهم من قبل حفظه، قال معاذ بن معاذ عن شعبة: "حدثنا علي بن زيد قبل أن يختلط" وعن يحيى بن معين قال: "لم يزل مخلطا" ويمكن الجمع بين القولين بأن يكون زاد في التخليط في آخر عمره، وعلى ظاهر قول شعبة، فسماع من أخذ عنه قديما قوي (1)، وحماد بن سلمة من هذا القبيل". "الأمالي المطلقة"(80 - 81).
5) وقال في ترجمة عباد بن صهيب البصري: "قال أبو داود: "إنه صدوق قدري" وقال أحمد: "ما كان بصاحب كذب" قلت (الحافظ): لو لم يرد فيه إلا هذا لمشي الحال، ولكن بقية ترجمته عند ابن حبان: "كان يروي المناكير عن المشاهير حتى يشهد المبتدئ في هذه الصنعة أنها موضوعة" ولا تنافي بين قوله وقول أحمد وأبي داود؛ لأنه يُجمع بأنه كان لا يتعمد بل يقع ذلك في روايته من غلطه وغفلته، ولذلك تركه البخاري والنسائي وأبو حاتم الرازي وغيرهم، وأطلق عليه ابن معين الكذب، وقال زكريا الساجي: "كانت كتبه ملأى بالكذب". "النتائج" (1/ 257).
6) وقال في ترجمة محمد بن مسلم بن عائذ المدني: "قال أبو حاتم الرازي: "إنه مجهول"، وما وجدت عنه راويا سوى سهيل بن أبي صالح وهو من أقرانه، نعم وثقه العجلي فأقوى رُتَب حديثه أن يكون حسنا". "النتائج"(1/ 380).
7) وقال في ترجمة عفان بن مسلم الصفار: "اتفقوا على توثيقه
…
وذكره ابن عدي
(1) أي بالنسبة لمن أخذ عنه مؤخرا وإلا فعلي لم يزل مخلطا كما قاله الإمام ابن معين رحمه الله.
في "الكامل" لقول سليمان بن حرب: "ما كان عفان يضبط عن شعبة" وقد قال أبو عمر الحوضي: "رأيت شعبة أقام عفان من مجلسه مرارا من كثرة ما يكرر عليه" قلت (الحافظ): فهذا يدل على تثبته في تحمله، وكأن قول سليمان:"إنه كان لا يضبط عن شعبة" بالنسبة إلى أقرانه الذين يحفظون بسرعة". "الهدي" (425) بتصرف.
فتلخص لنا من خلال هذه الأمثلة ما يلي:
1) إذا وثق جماعة من الحفاظ راو من الرواة، وضعفه آخرون في شيء معين ثم وجد من حفاظ آخرين تضعيف هذا الراوي مطلقا فلا تعارض، بل يحمل تضعيف من أطلق فيه الضعف على الشيء المعين الذي ضعفه فيه من فصل في أمره، كما هي أمثلة ذلك واضحة في الأمثلة الأولى من هذا الفصل.
2) إذا أطلق بعض الحفاظ ضعف راو معين، وقيد آخر ضعفه بما كان في آخر عمره، فيُحمل قول من قيد ضعف الراوي بآخر عمره على أن ضعف الراوي اشتد في آخر عمره، ولا يمنع ذلك أن يكون ضعيفا من قبل، ويدل على هذا المثال الرابع من هذا الفصل.
3) إذا كذب بعض الحفاظ راو معين وأقام الدليل والبرهان على ذلك، ونفى عنه آخرون من الحفاظ الكذب، فلا تعارض بين القولين، بل يُحمل قول من نفى عنه الكذب: على أن هذا الراوي لا يتعمد الكذب، بل يقع ذلك منه من قبيل الغلط والغفلة، ويدل على هذا المثال الخامس من هذا الفصل.
4) إذا تعارض تجهيل من متشدد، وتوثيق من إمام آخر في راو لم يرو عنه سوى واحد، فيجمع بينهما أن الراوي حسن الحديث، كما في المثال السادس.
مع أن هذا ليس ضابطا مطردا في تعارض التوثيق والتجهيل؛ لأن الأصل: أن التوثيق إذا كان من معتبر فهو مقبول مطلقا، ولو عارضه تجهيل؛ لأن من علم حجة على من لم يعلم، وكأن الحافظ لم يعتمد توثيق العجلي كاملا، كما في المثال السادس؛ لقوة من عارضه مع ما عرف به العجلي من شيء من التساهل، والله أعلم.
5) إذا أطلق بعض الحفاظ توثيق راو من الرواة، وضعفه آخر في شيخ معين، وقد وُجِد ما يدل على تثبت هذا الراوي في هذا الشيخ الذي ضعف فيه، فيُحمل قول من ضعفه في هذا الشيخ أنه تضعيف بالنسبة إلى من هو أثبت منه في هذا الشيخ، ويدل على هذا المثال الأخير.