المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيتان (14، 15) - تفسير العثيمين: الروم

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌الآيتان (14، 15)

‌الآيتان (14، 15)

* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 13 - 15].

* قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ} تَأْكِيد {يَتَفَرَّقُونَ} المؤْمِنُونَ والكافرون، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ} جَنَّة {يُحْبَرُونَ} يَسُرُّونَ، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} القرْآن {وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ} البعث وغيره {فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}] اهـ.

نقُولُ فِيها كَما قُلْنا فِيما سبَقَ أَنَّ المرَادَ بالسّاعَةِ ساعَةُ البعْثِ المعْهُودَةِ المعْلُومَةِ.

قوْله تَعالَى: {يَتَفَرَّقُونَ} : مُتَعَلَّقُ {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} يعْنَي أنَّ قوْلَه تَعالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} مُتَعَلِّقٌ بـ {يَتَفَرَّقُونَ} ، و {يَوْمَئِذٍ} تأكيدٌ للأُوْلَى، والدّليلُ عَلَى أنَّها تأكِيدٌ أنَّها لَوْ حُذِفَتْ وقِيلَ:(وَيوْم تَقُومُ السّاعَةُ يتفَرَّقُون) اسْتَقامَ الكلامُ لكِنْ يفُوتُ التّوْكِيدُ الَّذي أرادَهُ الله عز وجل، يعْنِي في ذَلِك اليَوْمِ بالتّأكِيدِ.

والتّنوين في {يَوْمَئِذٍ} - وفي كُلِّ موارِدِها - عِوَضٌ عنْ جُمْلَةٍ، أيْ (يوْمَ إِذْ تَقُومُ السّاعَةُ) وَكَذلِكَ يُقَالُ في (حينَئِذٍ) و (وقتِئذٍ)، التّنوينُ فِيها عِوَضٌ عنْ جُمْلَةٍ.

وقوْله تَعالَى: {يَتَفَرَّقُونَ} : الضّميرُ يعُودُ عَلَى الخلْقِ فيشْمَلُ المؤْمِنَ والكافِرَ حَتَّى لَو كانُوا أقَارِبَ لوْ كَان أبٌ مسْلِمٌ وابْنٌ كافِرٌ أوْ بالعكْسِ تفَرَّقُوا لأنَّهَا دارُ

ص: 77

الجزاءِ وكلٌّ يُجْزَى بعمَلِه.

قولُه تعالَى: {فَأَمَّا} : حرْفُ شَرْطٍ وتفْصِيلٍ؛ ولذَلِك يُؤْتَى بِها دَائِمًا في مَواضِعِ التَّفْصيل، كَما في قوْلِه تَعالَى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5]، ثمَّ قالَ في ضِدِّه:{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8] ، وهِي أيْضًا حرْفُ شرْطٍ، ولذَلِك تَحْتاجُ إِلَى جَوابٍ، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ} [الليل: 5 - 7] وهنَا قالَ تعالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ} فتكُونُ إِذَنْ حرْفَ شرْطٍ وتفْصيلٍ، وهِي أيْضًا متضَمِّنَة لمعْنَى التّوكِيدِ، فإِنَّها تُؤكِّدُ لأَنَّ قولَك:(أمَّا مَن فَعلَ كَذا فَلَهُ كذا) أقْوَى مِنْ قَولِكَ: (مَن فعَلَ كذا فلَهُ كَذا)، فهيَ عَلَى هَذا تفِيدُ الشّرْطِيَّةَ وَالتَّفْصيل والتّوكِيدَ، وهُوَ تقْوِيةُ الكلامِ، وأيْضًا تُفيدُ حصْرَ التّفرُّق عَلَى هذَيْنِ الفريقَيْنِ.

قوْله تَعالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا} مبْتَدأ، والخبَرُ {فَهُمْ} مِنْ جُملة {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} .

وقوْله تَعالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يعْنِي جَمَعُوا بيْنَ الإِيمَان وَالعمَلِ، واعْلَمْ أنَّ الإِيمَان إِذا أُفْرِد شَمِلَ العمَل كَما أنَّ عمَلَ الصّالحاتِ إِذا أُفْرِد يشْمَلُ الإِيمَان، فَإِذا قُرِن أحَدُهما بالآخر صَار الإِيمَان يعْني الأعمالَ الباطِنَةَ، وعَملُ الصّالحاتِ للأَعْمالِ الظّاهِرة أيْ عَمل الجوارِحِ، والإِيمَان يَشْمَلُ الإِيمَان باللهِ وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ والَيْومِ الآخر والقدَرِ خيْرِه وشَرِّه، هكَذا فسَّرهُ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم لجبْرِيلَ حينَ سأله مَا الإِيمَان؟ قَال:"أنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلاِئكَتِهِ وَكتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخر وَتُؤْمنَ بِالقدَرِ حَير وَشَرَهِ"

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الإِيمَان، باب بيان الإِيمَان والإِسلام والإحسان" رقم (8).

ص: 78

قوْله تَعالَى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : {عَمِلُوا} تشمَلُ الفعْلَ والقوْلَ، والعمَلُ الصّالح يشْمَل قوْلَ اللَّسانِ وعمَلَ الجوارِحِ، والعمَلُ الصّالح هُو ما جَمعَ بَيْنَ أمْرَينِ: - الإِخْلاص للهِ عز وجل.

- والمتَابَعَة لرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

فقولُه تَعالَى: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مِن هَذيْن الأمْرَيْنِ إيمانٌ وعمَلٌ، ومجردُ الإِيمَان لا ينْفَعُ بدُونِ عمَلٍ، وَالعمَلُ بدُونِ إيمانٍ أيْضًا لا ينْفَعُ، بلْ لا بُدَّ مِن إِيمانٍ وعمَلٍ، وَبِهذَا نعْرِفُ أنَّ بعْضَ النّصوصِ المطْلَقَةِ التي فيها الوَعْدُ بالجنَّةِ لمنْ كَانَ في قلْبِهِ أدْنَى حَبَّةِ خرْدَلٍ مِنْ إِيمانٍ ومَا أشْبَهَ ذَلِك أنَّ المرادَ الإِيمَان المتضمِّنُ للعَملِ تحقِيقًا أو تقْديرًا، تحقِيقًا بأنْ يكُونَ عامِلًا فعْلاً، وتقْدِيرًا بأنْ يكُونَ لم يتمَكَّنْ مِن العمَلِ، ولكِن مَعه الإيمَان، كَما لَوْ آمَن عنْدَ قُرب وفَاتِهِ مثْل الأصَيْرِم مِن بَنِي عبْدِ الأشْهَل قصَّتُه معروفَةٌ في أُحُدٍ

(1)

.

وقوْله تَعالَى: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} : جمْلَة اسْميَّةٌ، للدّلالَةِ عَلَى الثّبوتِ

(1)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنهُ كَانَ يَقُولُ: حَدِّثُوني عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الجنّةَ لَمْ يُصَلّ قَط؟ ، فَلَمّا لَمْ يَعْرِفْهُ النّاسُ سَألوهُ مَنْ هو؟ فَقَالَ: أُصَيْرِمُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ، قَالَ الحصَيْنُ: فَقُلْتُ لمِحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: كَيْفَ كَانَ شَأْنُ الأصَيْرِمِ؟ ، قَالَ: كَانَ يَأبي الإسْلَامَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلما كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَخَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أُحُدٍ، بَدَا لَهُ الإسْلَامُ فَأَسْلَمَ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ فَغَدَا حَتَّى أَتَى القوْمَ، فَدَخَلَ في عُرْضِ النّاسِ فَقَاتَلَ حَتَّى أثبَتَتْهُ الجرَاحَةُ، فَبَيْنَمَا رِجَالُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَل يَلْتَمِسُونَ قَتْلَاهُمْ في المعْرَكَةِ إِذَا هُمْ بِهِ، فَقَالُوا: وَالله إِنَّ هَذَا لَلْأُصَيرمُ وَمَا جَاءَ، لَقَدْ ترَكْنَاهُ وَإِنَّهُ لمنكر هَذَا الحدِيثَ، فَسَألوهُ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا عَمْرُو؟ ، أَحَرْبًا عَلَى قَوْمِكَ أَوْ رَغْبةً في الإسْلَامِ؟ ، فَقَالَ: بَلْ رَغْبةً في الإسْلَامِ، آمَنْتُ بِالله وَرَسُولِهِ وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ أخَذْتُ سَيفي فَغَدَوْتُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَاتَلْتُ حَتَّى أَصَابَنِي مَا أصَابَنِي، ثُمَّ لم يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ في أَيْدِيهِمْ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنَّهُ لمِنْ أَهْلِ الجنَّةِ"، أخرجه أحمد (39/ 41، رقم 23634) طبعة الرّسالة.

ص: 79

والاسْتِمرارِ {فِي رَوْضَةٍ} يقول المُفَسّر رحمه الله: [جنَّة] وهِي كذَلِك، فالرّوْضَةُ عبَارَة عَنِ البساتِينِ المشْتَمِلَةِ عَلَى الأزْهارِ وَالأشْجارِ وَالرّوائِح الطّيَبةِ وَالمنَاظِرِ البهِيجَةِ؛ وَلهذا قَالَ رحمه الله:{يُحْبَرُونَ} : أيْ يُسَرُّون] ، وقِيلَ:{يُحْبَرُونَ} يُنَعَّمُون، وهُمَا متَلازِمَانِ؛ لأَنَّ النّعِيمَ يحْصُلُ بِه السّرورُ، هَؤُلاءِ الَّذِين آمَنُوا وعَمِلُوا الصالحاتِ في رَوْضَةٍ يحبَرُون.

قوْله سبحانه وتعالى: {يُحْبَرُونَ} : الماضِي منْهُ (حُبِرَ)، وهُوَ فِعْلٌ مضَارعٌ مبْنِيٌّ للمَجْهُولِ والماضِي منْهُ إِذا كَان فِيه الفاعِلُ الظّاهِرُ بالكسْرِ (حَبِرَ)، فتكُونُ مثْلَ (فَرِح يَفْرَح، حَبِرَ يَحْبَرُ).

* * *

ص: 80