الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (30)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الرّوم: 30].
* * *
قوْله تَعالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} : بعْدَ أنْ توعَّد هَؤُلاءِ المُشرِكينَ بما توعَّدهم بِهِ، وبَيَّنَ أن لا أحدَ يهْدِيهم، قَال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} .
قال المُفَسّر رحمه الله: [مَائِلًا إِلَيْه: أَيْ أَخْلِصْ دِينَكَ للهِ أنْتَ وَمَنْ تَبِعَكَ].
قالَ المُفَسّر رحمه الله: [مائلًا إليه]، ونقُولُ: مَائلًا إِلَيْهِ وعمَّا سِواه أيْضًا؛ وَلِهَذا حُذِف المتَعَلِّق ليَكُونَ شَامِلًا للْمَيْل إِلَى الدِّين، والمَيْل عَن الدّين، وأصْلُ الحنَف ميْلُ الرجُل، فالرِّجل المَائِلَةُ تُسمَّى حَنْفَاء، فَالحنِيفُ معْنَاه المَائِل (عَنْ) و (إلى)، عَن الشّركِ إِلَى التَّوحِيد، وعَنِ المَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ.
وقوْلهُ رحمه الله: [أيْ أَخْلِص دِينَك للهِ أنْتَ وَمَنْ تَبِعَك]: هَذا تفسِيرٌ معنَوِيٌّ لقوْلِه تَعالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} ولَو جُعِل أعمَّ مِن ذَلِك لكَان أَوْلى؛ لأَنَّ إقامَةَ الوَجْه تشْمَلُ الإِخْلاص وتمَام الاتِّباعِ؛ لأَنَّ إقامَة الوَجْه نحْوَ الشّيْءِ يسْتَلْزِمُ متابَعَتَه، وعدَمَ المخالَفَةِ، فيكُونُ شامِلًا لإِخْلاصِ النِّيَّةِ وللاتّبَاعِ اللَّذَيْن هُما أسَاسُ العَمَل، كُلُّ عمَلٍ لا ينْبَني عَلَى الإِخْلاص والمُتابَعَةِ فَهُو بَاطِلٌ لأنَّهُ إِذا فُقِد الإِخْلاص صارَ شِرْكًا،
وإِنْ فُقِد الاتِّباعُ صَار بدْعَةً، وقَدْ قَال النّبيُّ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"
(1)
، وَهَذا لِلْإِخلاصِ، وقَال:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُو رَدٌّ"
(2)
، وَهَذا لِلاتّبَاعِ.
وقوْلهُ رحمه الله: [أنتَ وَمَنْ تَبِعَكَ]: أتَى المُفَسّر رحمه الله بقَولِه: [وَمَنْ تَبِعَكَ]؛ لأَنَّهُ سيَأْتِينا وصْفٌ مجْمُوعٌ، وهو قوله تَعالَى:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} ، آخِرَه، ولَا يُمْكِنُ أنْ تكُونَ الحالُ المجْمُوعةُ لمُفْرَدٍ؛ لأَنَّ الحالَ وصْفٌ، فكَما لا يُخْبَر عَن الواحِد بالجمْع لا تُجعَلُ الحالُ الجمْعُ لواحِدٍ، ومَا ذَهب إِلَيْهِ المُفَسّر صحِيحٌ مِنْ وجْهَيْن:
أولًا: مُراعاة اللَّفْظ الآتِي.
ثانيًا: أنَّ الخطابَ للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم خطابٌ لَهُ وللأُمَّةِ؛ لأَنَّ زَعِيمَ القَوْم يُوَجَّه إِلَيْهِ الخطابُ الموجَّهُ للجَمِيعِ، مثَلًا الرّكن في الجيْشِ يقُولُ للقَائِد: اذْهَبْ إِلَى الجبْهَةِ الفُلانِيَّة، فإنَّه يُريدُ القَائِدَ ومَنْ مَعَه لَا يُريدُه وحْدَه، فالخِطابُ لزَعيمِ القَوْمِ خِطابٌ للجَمِيع، فاللهُ عز وجل يُوجِّهُ الخِطابَ للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، والمُرادُ هُو والأُمَّةُ، والدّليلُ عَلَى هَذا قوْله تَعالَى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطّلاق: 1]، فالخِطابُ مُفرَدٌ {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} ، وبَعْدَه {إِذَا طَلَّقْتُمُ} ليْسَ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم وحدَه، بلْ كُلّ الأمَّةِ، ويدُلُّ لِذَلِكَ أيْضًا قوله تَعالَى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21]، فنَحْنُ لَنا فِيه أُسوةٌ، ونحْنُ لَهُ تَبعٌ.
إِذَنْ: وجْهُ كوْنِ الخِطابِ الخاصِّ بالرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام للأُمَّةِ لَه وجْهَانِ كَما تقَدَّم:
(1)
أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم (1)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية
…
"، رقم (1907).
(2)
أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم (1718).
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ خِطابَ الزَّعيمِ خِطابٌ لَهُ ولمَنْ تَبِعه؛ بِدلِيلِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطّلاق: 1].
الوَجْهُ الثَّاني: أنَّنا مأمُورُونَ باتِّباعِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام فكُلُّ خِطابٍ لَه يُؤْمَرُ بِه أوْ يُنْهى عنْهُ فإنَّنا تبعٌ لَه في ذَلِك، والفَرْق بيْنَ الوَجْهَيْن ظاهِرٌ؛ لأَنَّهُ عَلَى الوَجْه الأوَّلِ يكُونُ تناولَ الخِطابَ لنا أصْلًا معَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وعَلى الوَجْه الثَّاني يكُونُ تَوْجِيهُ الخِطابِ لَنا عَنْ طَرِيق التَّبعيَّةِ.
قوْله تَعالَى: {فِطْرَتَ} : البحثُ فِيها مِن وَجْهَيْن:
الوَجْهُ الأوَّلُ: مِن حيْثُ الرّسمُ، فالرَّسم غيْرُ جارٍ عَلَى القواعِدِ المعْرُوفَةِ، لَا في الرَّسْم العُثْمانِيِّ، ولَا في الرَّسم الحاضِر، وجْهُ ذَلِك أنَّ التّاء مُطلَقَةٌ {فِطْرَتَ} ، وهِي مربوطَةٌ؛ لأنَّهَا مُفرَدٌ، والمُفْرَدُ تكونُ التّاءُ فِيه مربُوطَةً وليْسَ في القُرآنِ {فِطْرَتَ} مطلقَةٌ إِلَّا هَذه، ولا نقُولُ مفتوحَةٌ؛ لأَنَّ الفَتْح ضِدَّ الكَسْرِ، نحنُ نُسمِّيها مربُوطَةً ومُطلقَةً؛ لأَنَّ ضِد الرّبْط الإِطْلاقِ.
وعَلَى كُلِّ حَالٍ: فخَطُّ القُرآنِ يتْبَعُ فِيه الرَّسم العثمانيَّ.
استِطْرادًا في البحْثِ اختَلف العُلَماءُ رحمهم الله: هَل يجُوزُ لِلإِنْسَانِ أنْ يكْتُب المصْحَفَ عَلَى غيْرِ الرَّسم العُثمَانِيّ أوْ لَا يجُوزُ؟
فمِنْهُم مَن قَال أنَّه جائِزٌ؛ لأَنَّ الرَّسْم العُثمانِيَّ عبارَةٌ عنْ شكلٍ وَصُورةٍ، ولَوْ كَان الرَّسم العُثمانِيُّ في ذَلِك العهْدِ عَلَى غيْرِ هَذا الوَضْع لكُتِب القُرآنَ بِه.
إِذَنْ: فخضُوعه للرَّسم العُثمانِيِّ في ذَلِك الوَقْت ليْس عَلَى سَبِيل أنَّه نزَل عَلَى هَذا الوَجْه، لكِن عَلَى سَبيلِ أنَّ الرَّسْم في ذَلِك الوَقْت كانَ عَلَى هَذِهِ الصّورَةِ، ولا شَكَّ
أنَّه لوْ كَان عَلَى الصُّورةِ المُوجودَةِ حاليًا لا شَكَّ أنَّه سيُكْتَب علَيْها، مثلًا (الصَّلاةَ) الصّورةُ الحاليةُ - يعْنِي القاعِدَةُ الحاضِرة - أن تكتب بعْدَ الصّادِ (لامَ ألف)، لكِن عَلَى الرَّسم العثمَانِي مكتوبٌ (لَام واوٌ)، الزّكاة مثلُها، والرِّبا أيضًا بالواوِ معَ أنَّها عَلَى الرّسمِ الموجُودِ بالألِف.
فالحاصِلُ: أنَّ بعضَ العُلَماءِ يقُول أنَّه يجُوزُ أنْ يُكتَب القُرآنُ عَلَى القَواعِد المعْرُوفةِ حَاليًا، وتعْلِيلُهم أَنَّ هَذا الرَّسْم شكلٌ صادَف أنَّه في ذَلِك الوَقْتِ عَلَى هَذا النّحوِ فكَتبوه، وليْسَ القُرآنُ نَازلًا مكْتُوبًا بِهَذا، ولَو كَان نَازِلًا مكْتُوبًا بِهَذا لقُلْنا: رُبَّما لَا يجُوزُ لكِنَ هَذا اصْطِلاحٌ، وَإِذا كَان اصْطِلاحًا فكُلُّ مَا يتأَدَّى بِه الغَرضُ فإِنَّهُ يجُوزُ.
ومنْهُم مَن يقول أنَّه لا يَجُوزُ مُطلَقًا أنْ يخالَف الرَّسْمُ العثْمانِيُّ، وأنَّهُ يَجِبُ أنْ يَبْقى الرَّسْمُ حتَّى لو رُسِمَتْ لِلصِّبْيانِ عَلَى السّبورةِ يَجِبُ أنْ يكُونَ بالرَّسْم العُثْمانِيِّ احتِرامًا للقُرْآنِ.
ومنْهُم مَن فَصَّل وقَال إِن المُبتدِئَ يجُوزُ أن نرْسُمَه لَهُ بحسَبِ القَواعِد المعْرُوفةِ عنْدَه، وغيْرُه لا يجوزُ، قالُوا: لأَنَّ المبتَدِئَ يحتَاجُ إِلَى تعْلِيمٍ، ولَو أنَّك كتبْتَه بالرَّسْم العُثمَانِيِّ للمُبتَدِئِ، وقلْت {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَوا} [البقرة: 276]، فإنَّه سيقْرَؤُها:(يمحق الله الرِّبَوْ)، وفي (الزّكاة) سيَقُول:(الزّكَوَة)، وفِي الصّلاة سيقولُ:(الصَّلَوَة)، وما أشْبه ذَلِك، بِخِلَافِ الإنْسان العالِم فإِنَّهُ يكتُبه بالرَّسْم العُثْمانِيِّ.
وأيًّا كَان مِن هَذِهِ الأَقْوال صَحِيحًا فإنَّ مَا يفْعَلُه بعْضَ النَّاس اليومَ مِن حيْثُ إنَّهم يكْتُبونَ القُرآنَ عَلَى صورةِ النُّقوشِ ويجْعَلُونها في بَراوِيزَ أيُّهم أحْسَنُ نقْشًا؟ ! فإنَّ هَذا محُرَّمٌ عَلَى كلِّ الأقوالِ؛ لأنَّنا إذا عمِلْنا هَذا العمَل كأنَّنا جعلْنَا القُرآنَ وشْيًا وتطْرِيزًا، فتَضِيع قيمَتُه، وأقْبَحُ مِن ذَلِك أنْ يُجْعَل عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ، فقَدْ شاهدْتُ في منشورٍ
صورةَ إِنْسَانٍ في آيَةٍ مِن القُرآنِ جُعِل الرّأسُ والرِّجْلانُ كأنَّه جالسٌ مفتَرِشٌ، أعوذُ باللهِ، مُضادَّةٌ ظاهِرَةٌ ومُحَادَّةٌ للهِ ورسُولِهِ، الصّورةُ محرَّمَةٌ فكيْفَ تَكتُب بِها القُرآنَ، تجْعَلُها كِتابَةً لِلْقُرآنِ.
والحاصِلُ: أنَّ النّاسَ - نسْأَلُ الله لنَا ولهم الهِدايَةَ - صَارُوا يُبالِغُونَ في أشْياءَ تضرُّهُم، ولَا تنْفَعُهم بِالنِّسبَةِ للْقُرآنِ الكَرِيم.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَوْ كُتِب القُرآنُ الكَرِيمُ بالرَّسْم الحدِيثِ لضَاعتِ القِرَاءاتُ؟
قُلْنَا: صحيحٌ، لكِنَّ الَّذِين يقُولونَ بالجَوازِ يقُولونَ: نحْنُ نكْتُبهُ عَلَى قِرَاءَةٍ واحِدَةٍ، والقِراءَاتُ الآنَ ضُبِطَتْ ليْسَ بِالرَّسْم، بَل ضُبِطَتْ الحرَكاتُ، وما سمعتُ بإجْمَاعٍ في هَذِهِ المسأَلةِ، فالخلافُ في هَذا مشهُورٌ، ولَا يُوجَدُ إجْمَاعٌ.
والبحثُ الثّاني: في قوْلِه تَعالَى: {فِطْرَتَ اللَّهِ} ، مَا الَّذي نصبَها؟
الَّذِي نصَبها فِعْلٌ محذُوفٌ قدَّره المُفَسِّر بقولِه: (الزَموا)، أي: الزَموا فطْرَة الله، ومثْل هَذا يقُولونَ أنَّه منصُوبٌ عَلَى الإغْراءِ، فهُو إِذَنْ أبْلَغُ مِن ذِكْر العامِل الَّذِي هُو (الزَموا)، فحذْفُه أبْلَغُ لأنَّهُ إِذا وُجِد العامِل تقيَّدَتِ الجُملَةُ بِه، لكِن إِذا حُذِف العامِلُ صارَتِ الجمْلَةُ صالِحةً لَهُ ولِسواهُ مِمَّا يُمْكِنُ أن يتسلَّط عَلَى المعْمُولِ:(الزَمُوها)، (اعْتَنُوا بِها)، (تمسَّكُوا بِها)، ومَا أشْبَه ذَلِك؛ فلِهَذا يقُولونَ أنَّه منْصُوبٌ عَلَى الإِغراءِ، وهُو المُبالَغَةُ في الحثِّ.
المبحث الثالث: كلمة {فِطْرَتَ} مشتقَّة مِن (فَطَرَ الشّيء) أي ابْتَدعَهُ عَلَى غيْرِ مِثالٍ سابِقٍ كَما في قوْلِه تَعالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1]، أيْ: مبْدِعهُما عَلَى غْير مِثالٍ سابِقٍ، هَذِهِ الفِطْرةُ أبْدَعها الله عز وجل في الإِنسانِ أوْ في النَّاس كَما في
لفْظِ الآيَةِ عَلَى غيْرِ مثَالٍ سابِقٍ؛ وَهذا قال المُفَسِّر رحمه الله: [{فِطْرَتَ اللَّهِ} خِلْقَتَه {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وَهِي دِينُه، أيْ: الزَمُوهَا]. المُراد بالفِطْرة هُنا توْحِيدُ الله ودِينُ الله، وهذِه الآيَةُ شاهِدٌ للحدِيثِ الصَّحيحِ:"كلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَىِ الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"
(1)
. لو أنَّ المخلُوقَ تُرِكَ وفِطْرَتَه مَا عبَدَ إِلَّا الله؛ ولِهَذا البهائِمُ العجمُ الَّتي ليْسَ لها مَا يُغرِيها أو يُصَرِّفُها: هلْ يُمكِن أنْ تعبُدَ اللاتَ والعُزَّى والشَّمْس والقَمر؟
الجوابُ: لَا؛ لأَنَّ الله تَعالَى يقُولُ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإِسْراء: 44]، فأصْلُ الخلْقِ مفْطُورٌ عَلَى توْحِيدِ الرَّبِّ عز وجل: الخالِق، لكِنْ مَن أُعْطُوا العقولَ هُم الَّذِين رُبَّما ينْحَرِفُونَ لأَنَّ لهم إِرادَاتٍ واتِّجاهاتٍ بخلافِ مَنْ ليْسَ لَهُ إِلا العقْلُ المعِيشيُّ، فإِنَّهُ لا ينْصَرِفُ عَن هَذِهِ الفِطرَةِ، وَلِهَذا البهائِمُ العُجْم - كَما قُلتُ - تعرِفُ خالِقَها وفاطِرَها ولَا تُسبِّحُ إِلا الله.
قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدِينِهِ، أيْ لَا تُبَدِّلُوهُ بِأَنْ تُشْرِكُوا].
وقوْله تَعالَى: {لَا تَبْدِيلَ} نفْيٌ؛ لأَنَّ {لَا} نافِيةٌ للجِنْس، فهَلْ هُو باقٍ عَلَى كونِه نفْيًا، يعْنِي لفْظًا ومعْنًى، أوْ أنَّه نفْيٌ لفظًا، خبَرٌ معْنًى؟ المُفَسِّر رحمه الله مشَى عَلَى الأَخِير، وأَنَّه نفْيٌ بمَعْنى النَّهيِ، أيْ: لَا تُبدِّلُوا هَذِهِ الفطْرَةَ بالإْشراكِ، والنَّفْيُ يأْتِي بمعْنَى النَّهيِ كثِيرًا، مثْلُ قوْلِه تَعالَى:{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ} [البقرة: 1 - 2]، فِيها تفْسِيرانِ كَما تقدَّم أحدُهُما أنَّها بمَعْنى النَّفيِ، أيْ: ليْسَ فِيه ريبٌ ولا شَكٌّ، والثّانِي بمعْنَى النَّهي لا ترتابوا فيه، ومثل قوْله تَعالَى:{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الحج: 7]،
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، رقم (1385).
فقوْله تَعالَى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أيْ لا تُبدِّلُوا خلْقَ الله بالإشْراكِ، بَلْ أَقِيمُوا وُجوهَكُم حُنَفاءَ، ويَجُوز أنْ يكُونَ نفْيًا عَلَى ظاهِرِه، وأنَّه لا أحَد يُبَدِّلُ خلْقَ الله كَما في قوْلِه تَعالَى:{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، ويكُونُ المَعْنى أنَّ الأَمْر بيَدِ الله عز وجل، فمَن شَاء هُدَاه بَقِي عَلَى فطْرَتِه، ومَنْ شَاء أنْ يُضلَّه أضلَّه، فلا أحَدَ يسْتَطِيعُ أن يبَدِّل خلْقَ الله، وإنَّما الَّذي بيَدِه الأَمْرُ هُو الله، وعَلى هَذا يكُونُ في الآيَةِ وجْهَانِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّها خبرٌ بمَعْنى النَّهْي.
الوَجْهُ الثَّاني: أنَّها خبرٌ عَلَى بابِها.
وعَلى الأوَّلِ الأَمرُ ظاهِرٌ، يعْني: المَعْنى ظاهِرٌ أنَّكُم لا تُبدِّلُوا، فيكُونُ الله نَهانَا عَن الإِشْراكِ، وعَلى الثَّاني يكُونُ وجْهُه أنَّ هَذِهِ الفِطْرَةَ الَّتِي فطَر الله علَيْها الخلْقَ، لا أحَد يسْتَطيعُ أنْ يُبدِّلَها، بَلِ الَّذي يُبدِّلُها هُو الله، فمَنْ أَراد الله هِدايَتَه لَنْ يُضِلَّه أحَدٌ، وَمن أرَادَ الله إضْلالَه لَنْ يهْدِيَه أحَدٌ، لا سِيَّما أنَّه قالَ قبْلَ هَذا، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} ، فما قالَه المُفَسِّر رحمه الله لَه وجْهٌ؛ لوُرُودِ ذَلِك في اللّغَةِ العرَبِيَّة، والوَجْهُ الثّاني هُو الأَصْل؛ لأَنَّ الَّذي عنْدَنا نفْيٌ، فمَنْ صرَفَه عَنْ ظَاهِره يحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَذا التَّفْسيرُ أَلا يُوافِق قولَ الجبرَّيةِ؟
فالجوابُ: لَا، الرّسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ في خُطْبَتِه:"مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ"
(1)
، لا أحَدَ يسْتَطِيعُ هِدايةَ إِنْسَانٍ أبدًا، أو انحرافَ إِنْسَانٍ إلَاّ بإِذْنِ الله، هَذا النّبيُّ صلى الله عليه وسلم حرِصَ غايَةَ الحِرْصِ وَبذَل ما يستَطِيعُ مِن جهْدٍ في هِدايَةِ عمِّه
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (867).
أَبِي طالِبٍ، ولكِن لم يتمَكَنْ، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، وليْسَ معْنَى ذَلِك أنَّنا إِذا قُلْنا: إِنَّ الأَمْر بيَدِ الله عز وجل وَأَنَّه هُو الَّذي يُضِلُّ ويَهْدِي، ليْسَ معْنَى ذَلِك أَلَّا نفْعلَ الأَسْبابَ كَما أنَّ الأَمْر بيَدِ الله في إِيجادِ الأشْيَاء، إِيجادِ الرِّزْقِ وإِيجادِ الوَلَدِ، وَدَفْع الضَّرر، بل نفْعَلُ الأَسْبابَ، ونَقولُ: الهدايَةُ بِيَدِ الله، والإِضلالُ بِيَدِ الله، لكِن لكُلٍّ منْهُما سبَبٌ مِن جُمْلَة أسْبَابِ التَّبْديلِ.
ومِن جُملَةِ أسْبَابِ التَّبدِيل مَا ذَكرَهُ الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام في قولِه: "فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِه أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"
(1)
، وذِكْرُ الأبوَيْن ليْس عَلَى سبيلِ الحصْر، وإِنَّما هُو عَلَى سبيلِ التَّنْظيرِ والتَّمْثيلِ، يعْني أنَّ مَن يتَّصِلُ بِهَذا الإِنْسانِ يجْعَلُه يهودِيًّا أو نصْرَانِيًّا، وكَمْ مِن إِنْسَانٍ تنَصَّر لَا عَنْ طَرِيق الأَبوين، ولكِن عَن طَريقِ الجُلَساءِ والرُّفقاءِ ومن ثمَّ حذر النّبيّ عليه الصلاة والسلام مِن جَلِيسِ السُّوءِ ورَغَّب في الجلِيس الصَّالِح، وقَال:"مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِير، فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبةً، وَنَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً"
(2)
.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما معْنَى النَّفْيِ في قوْلِه تَعالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} ؟ [النساء: 92]، (مَا كَان لمُؤْمِنٍ)، هَذِهِ بمَعْنى أنَّه ممتَنِعٌ غايَةَ الامْتِناع؛ لأَنَّ (مَا كَانَ)(ومَا ينْبَغِي) ومَا أشْبَهَ ذَلِك في القُرآنِ، تأْتِي بمَعْنى امتَنَع غايَةَ الامْتِناعِ، وأيْضًا مثْل قوْلِه تَعالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [التوبة: 115].
(1)
تقدم قريبًا.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الذبائح والصيد، باب المسك، رقم (5534)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، رقم (2628).
قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} المُسْتَقِيمُ تَوْحِيدُ الله]، {ذَلِكَ} المُشارُ إِلَيْهِ قوْلُه تَعالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أيْ: إِقامَةُ وجْهِك لِلدِّين حنِيفًا هُو الدِّينُ القَيِّمُ، قالَ المُفَسِّر رحمه الله:[{الْقَيِّمُ} المُسْتَقِيمُ]، لكِنَّ (القَيِّم) أبْلَغُ لأَنَّ القَيِّمَ عَلَى وزْنِ (فَيْعِل)، فهِي صفَةٌ مشبِّهَةٌ يَعْني هُو قَيِّمٌ، أبلَغُ مِن قوْلِنا أنَّه مستَقيمٌ؛ لأَنَّ المستَقِيمَ ضِدَّ المعوَجِّ، لكِنَّ القيِّم الكامِلَ في قِيَامِه فهُوَ أبْلَغُ، يعْنِي أنَّ هَذا الدِّينَ هُو الدِّينُ القَيِّمُ، أي الكامِلُ الَّذِي ليْسَ فِيه اعْوِجاجٌ، وَلَيْس فِيه نقْصٌ ولا شَكَّ أنَّه هُو القَيِّمُ، كَما قَال الله تَعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، فلَا أقُومُ لِلْعبادِ وَلا أنْفَعُ لِلْعِبادِ مِنَ اتِّبَاعِ شَريعَةِ الله تَعالَى.
قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} أيْ كُفَّارُ مَكَّةَ، {لَا يَعْلَمُونَ} تَوْحِيدُ الله]، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} قَال المُفَسِّر رحمه الله:[كُفَّار مكَّةَ]، وَهَذا لا شكَّ أنَّه تخْصِيصٌ بدُونِ دَليلٍ، بَل الدَّليلُ يُخالِفُه؛ لأَنَّ كُفَّار مكَّةَ ليْسُوا أكْثَر النَاسِ، ثمَّ إِنَّ الله يقُولُ:{أَكْثَرَ النَّاسِ} ، مَا قَال: أهْلُ مكَةَ، {لَا يَعْلَمُونَ} وصدَق الله عز وجل؛ لأَنَّ أهْلَ النّارِ مِنْ بَنِي آدَم تسْعُمِئَةٍ وتسعَةٌ وتِسعُونَ مِن الألفِ، فهُم الأَكْثَرُ، أكثَرُ النّاسِ لا يعْلَمُونَ، لَو علِمُوا ما كَانُوا مِنْ أصْحابِ الجحِيم، فهُمْ لا يعْلَمُون.
ومَا معْنَى قوْلِه تَعالَى: {لَا يَعْلَمُونَ} ، أيْ: لَا يعْلَمُونَ أنَّ هَذا هُو الدِّينُ القَيِّمُ، أوْ لا يعْلَمُون مَا ينْبَغِي لهُم أنْ يكُونُوا علَيْه، أمْ مَاذا؟
نقولُ: الآيَةُ مُطلَقَةٌ، فتشْمَل كُلَّ شيْءٍ يُنافِي هَذا الدّينَ، فمَن خَرَج عَنْ هَذا الدِّين فإنَّهُ لا يعْلَمُ أنَّ هَذا الدِّينَ قَيِّمٌ، وإِنْ عَلِم بِه ولم يتْبَعه صَار علْمُه كالمعدُومِ، كَذَلِكَ لا يعْلَم حَقِيقةَ أمْرِه وحالِه، وأنَّه يجِبُ أنْ يكُونَ دائِنًا لله عز وجل بِما دَان بِه خلْقَه،
كَذَلِكَ لا يعْلَمُ مَا يترتَّبُ عَلَى هَذا مِنْ جَزاءٍ بالثَّوابِ الجزِيل لمنْ قَام بِهِ، وبِالعُقوبَةِ والعَذابِ الأَلِيم لمَنْ خالَفه.
المُهِمُّ: أنَّ حذْف المفعُولِ يقْتَضي العُمُومَ، وهذِه قاعِدَةٌ معروفَةٌ عنْد أهْل العِلْم، أنَّ حذْف المعْمُول يفيدُ العُمُومَ، ولَهُ أمْثِلةٌ كثِيرَةٌ في القُرآنِ، وفِي كَلامِ العَربِ، ومنْه - بَلْ مِن أوْضَحِه - قوْلُه تَعالَى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6 - 8]، قولُه تعالى:{فَآوَى} الإيواءُ للرَّسولِ صلى الله عليه وسلم ولمِنْ تَبِعَه، وقولُه:{ضَالًّا فَهَدَى} الهدايَةُ له ولمِنِ اهْتَدى بسُنَّتِه، وقولُه:{فَأَغْنَى} الغِنَى لهُ ولأُمَّتِه، قَال صلى الله عليه وسلم:"وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلي"
(1)
.
المُهِمُّ: أنَّ تخصِيصَ المُفَسِّر رحمه الله بقولِه: [كُفَّار مكَّةَ] لَا وجْهَ لَهُ، والصَّوابُ أنَّ أكْثَر النَّاس مِن بَني آدَم - مِن كُفَّارِ مكَّةَ وغيرِهم - لَا يعْلَمُون.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كونُ السّورة مكيَّةً ألا يدُلُّ عَلَى أنَّ الخِطابَ خاصٌّ بأهْلِ مكَّةَ، كَما قَال المُفَسِّر رحمه الله؟
إذَا قُلنا بالعُمُومِ شَمِل كُفَّارَ مكَّةَ، فكَان فِيه التَّسلِيَةُ للرَّسولِ عليه الصلاة والسلام، وأمَّا كوْنُ السُّور مكيَّةً فَلا يدُلُّ عَلَى أنَّ جَمِيعَ الخِطاباتِ الَّتي فيها تُشِيرُ إِلَى أهْل مكَّةَ، بلْ هِي عامَّةٌ.
مسْألةٌ: هلْ يأْجُوجُ ومأْجُوجُ مِن بَني آدَم؟
نعَم، هُم مِن بَني آدَم؛ وَلِهَذا الصّحابَةُ رضي الله عنهم لما حدَّثَهم بأنَّ بعْثَ النَّارِ تِسعُمئَةٍ وتِسعةٌ وتِسعُونَ مِن الألف فَزِعوا، قَالُوا: يا رَسُولَ الله أيُّا ذَلِك الواحِدُ؟
(1)
أخرجه البخاري: كتاب التيمم، باب قول الله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، رقم (335)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (521).
فقَال لَهم عليه الصلاة والسلام: "أَبْشِرُوا فإنَّكُم لمَع خَلِيقَتين مَا كَانَتَا في شَيْءٍ إِلَّا كثَّرَتَاهُ، يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ"
(1)
.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائِدَةُ الأولَى: : وُجوبُ الإِخْلاص للهِ سبحانه وتعالى؛ لقوْلِه تَعالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} .
الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: أن الإِخْلاص لا يتِمُّ إلا بسلْبٍ وإيجابٍ، وهُو مضْمونُ قولِ الإِنسانِ:(لَا إلَه إِلَّا الله)، فإِنَّ هَذِهِ الجملَة العَظِيمةَ مشْتَمِلةٌ عَلَى النَّفْي والإِثْبَات، ولا إخْلاصَ إلا بنَفْيٍ وإثْبَاتٍ، فهَذِه الآيَةُ فِيها نفْيٌ وإثْبَاتٌ، فقوْلُه تَعالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} إثْبَاتٌ، وقوْلُه تَعالَى:{حَنِيفًا} نفْيٌ يعْنِي مَائِلًا.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قوْلُه تَعالَى: {حَنِيفًا} هَل يُؤخَذُ منْه سلبٌ وإِيجابٌ؟
فالجوابُ: يُمْكِنُ أنْ يُؤخَذ بطَرِيق اللُّزومِ، ولكِن ليْس لَهُ داعٍ، وعنْدَنا قوْلُه تَعالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} .
الفائِدَةُ الثَّالثةُ: أنَّ الإِخْلاص هُو الفِطْرة، نأْخُذه مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، فتكونُ الآيَةُ هَذِهِ شاهدِةً لقَوْلِ الرّسولِ صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ"
(2)
.
الفائِدَةُ الرابعةُ: إثْبَاتُ الخَلقِ للهِ، وأنَّه الخالِقُ وحْدَه؛ لقوْلِه تَعالَى:{فِطْرَتَ اللَّهِ} .
(1)
أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، رقم (3169).
(2)
تقدم قريبًا.
الفائِدَتانِ الخَامسَةُ والسَّادِسَةُ: أن ما يقدره الله عز وجل لا يمكن أن يُغير لقوْلِه تَعالَى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} عَلَى أحَدِ المَعْنيَيْن، أمَّا عَلَى مَا ذَهَب إِلَيْهِ المُفَسِّر رحمه الله فيُسْتفَادُ منْه النَّهْيُ عَن الشِّرْكِ.
هل يمْكِنُ أن نقولَ: إنَّ الآيَة تدُلّ عَلَى المعْنيَيْن جمِيعًا، وأنَّها صالِحَةٌ للمَعْنيَيْن جَمِيعًا، يعْنِي صالِحةٌ كَي تكونَ للنَّفْي، وأنْ تكُونَ خبِرَّيةً أوْ أنْ تكُونَ للطَّلبِ فتكونَ إنشَائِيَّةً؟
في الحقيقةِ: أن الإِنشاءَ والخَبر مُتعارِضَانِ، لكِن إِذا جعَلْنا كُلَّ واحِدٍ عَلَى انْفِرادٍ بمعْنَى أنَّنا لَا ندْرِي هَلْ أرادَ الله هَذا أوْ هَذا، ومَا دامَتِ الآيَةُ صالِحَةً لهَذَا وَلِهَذا، فإنَّنا نقولُ: هِي لِلْمعْنيَيْنِ جمِيعًا، يعني أنَّه لا أحَدَ يسْتَطِيعُ أن يُغيِّر مَا خلَق الله، ولَا يجُوزُ لَنا نحْنُ أنْ نغيِّرَ هَذِهِ الفِطْرَةَ الَّتي خُلِقْنا علَيْها مِن الإِخْلاص إِلَى الشَّرك.
الفائِدَةُ السابعةُ: أنَّ أقوَم الأَدْيانِ مَا بُنِي عَلَى الإِخْلاص؛ لقَوْلِه: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ، المشارُ إِلَيْهِ هُو ما سَبق مِن الفِطْرة الّتي فُطِر النّاسُ عليْها، والتّي أمَر الله بِها في قوْلِه تَعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} فالدِّينُ القيِّمُ هُو الَّذي أقَامَ الإنسانُ فِيه وجْهَه للهِ حَنِيفًا، وهِي الفِطْرةُ الَّتي فُطِر النّاسُ علَيْها.
الفائِدَةُ الثّامِنةُ: أنَّ هَذا الدِّين المَبْنِيَّ عَلَى الإِخْلاص اجْتَمع فِيه الشَّرْعُ والفِطْرَةُ، أمَّا الشَّرعُ فلأنَّهُ أُمِر بِه، وأمَّا الفِطرة فلأَنَّ النَّاس خُلِقوا علَيْها وجُبِلوا علَيْها، ولوْلا ما يحْصُل مِن المَوانِع والعوارِضِ لِبَنِي آدَم لكَانَ النَّاسُ كلُّهم مُؤْمِنِينَ عَلَى الفِطْرَةِ كَما جَاء في الحدِيثِ:"أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"
(1)
.
(1)
تقدم قريبًا.
الفائِدَةُ التاسعةُ: أنَّ أكْثَر النَّاسِ في هَذا البَابِ عَلَى جهْلٍ وضَلالٍ؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} ، فهُمْ بَيْن أمْرَيْن، إمَّا عالِمٌ استكْبَر فعِلْمُه لَمْ ينْفَعْه، وإِمَّا جَاهِلٌ، فالعامَّةُ المتَّبِعونَ لرُؤَساءِ الكُفْر والضَّلالِ نَصِفُهم بالجهل وعدَم العِلم، والزُّعماءُ منْهُم العارِفُون نَصِفُهم بالجهْل لِعدَمِ انْتِفاعِهم بِما عَلِمُوا، لكنَّهم في الحقيقَةِ يستَحقُّونَ وصْفًا أعظَمَ، فهُم جَاهِلُونَ مُستكْبِرونَ، والمُخالَفَةُ عَن عِلْمٍ تُسمَّى (الجَهْل المُركَّب)، فهؤُلاءِ الزُّعماءُ - والعِياذُ باللهِ - يعْلَمُون أنَّهم عَلَى ضَلالٍ، قَال الله تَعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النّمل: 14]، وقَال مُوسَى لفِرْعَوْنَ:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الإِسْراء: 102]، ولم يقُل فرْعَوْنُ: إِنَّني مَا علِمْتُ، فسكُوتُه إقْرَارٌ، لكِنْ عنْدَهُم - والعياذُ باللهِ - العِنَادُ.
* * *