المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (21) * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ - تفسير العثيمين: الروم

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (21) * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ

‌الآية (21)

* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].

* * *

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} فَخُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، وَسَائِرُ النَّاسِ مِنْ نُطَفِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} وَتَأْلَفُوهَا {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ} جَمِيعًا {مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ} المَذْكُورِ {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فِي صُنع الله تَعَالَى] اهـ.

بَدأ أوّلًا بخلْقِ النّفْسِ، ثمَّ بخَلْق الزَّوْجِ؛ لأنَّهُ لَا يَتمُّ التّناسُلُ إِلا بالأَزْوَاجِ، ونَقُولُ في قوْلِه تَعالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ} كَما قُلْنَا فِي قوْلِه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ} أنَّ معْنَى قوْلِه سبحانه وتعالى: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أيْ مِنْ ذَوَاتِكُم، فعَلَى رأْيِ المُفَسِّر المُرادُ بالنّفْسِ هُنَا الذّاتُ.

وقوْله تَعالَى: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ} : (اللامُ) للاخْتِصاصِ وليْسَت للِمُلْكِ؛ لأَنَّ الإنْسَانَ لَا يمْلِكُ زوْجَتَه، ويُحْتَملُ أنْ تَكونَ للتَّعْلِيل كَما فِي قوْلِه تَعالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، أيْ خَلَق لأجْلِكُم، لكِنَّ المَعْنى أبْلَغُ فِي الإنْعَامِ، حيْثُ إنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ زوْجَتُه تخْتَصُّ بِه؛ وَلهذا لَا يجوزُ للْمَرْأَةِ أنْ تتَزَوَّجَ أكْثَر مِنْ رَجُلٍ فِي آنٍ واحِدٍ.

ص: 107

قوْله تَعالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} : مشَى المُفَسِّر عَلَى أنَّ المُرادَ بالنّفْسِ الذّاتُ، وأنَّ (مِن) للتَّبْعِيضِ، يعْنِي أنَّ نَفْسَ هَذِهِ الزّوجَةِ مِن نَفْسِ الإنْسَانِ، جُزْءٌ منْهُ؛ وَلهذا فسَّرهُ المُفَسِّر رحمه الله بخَلْق حوَّاءَ مِنْ ضِلْع آدَمَ وسَائِرَ النّساءِ مِن نُطَفِ الرّجال والنّساءِ.

ويُحْتَملُ أنَّ المُرادَ بالنّفْس الجِنسُ، كَما قالَ الله سبحانه وتعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128]، يعْنِي مِن جنْسِكُم ولَيْس المُرادُ مِن أنْفُسكُم، أيْ مِن نَفْسِ الإنْسَانِ إِلّا باعْتِبارِ حوَّاءَ؛ فإِنَّها خُلِقَتْ مِن ضِلْع آدَم عليه السلام، فالمُرادُ بالنّفْسِ الجِنْس، ويُؤَيِّدُ هَذا المَعْنى قوْلُه تَعالَى:{لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ؛ فإِنَّ الإنسانَ يسْكُن إِلَى بَني جنْسِه دُونَ غيْرِهم، فلَو كانَتِ المرأةُ تخالِفُ الرّجلَ وليْسَت مِن جنِسِه لَكانَ في ذَلِك مشْكِلَة ولَا يُمْكِنُه أنْ يسْكُنَ إِلَيْها، ومَا حصَل بَيْنَهُما ائْتِلافٌ ومودَّةٌ لبُعْدِ الفَرْقِ بَيْنَهُما؛ لهذا جعَلَها الله سبحانه وتعالى مِنْ جنْسِه؛ لأجْلِ أنْ يسْكُن إِلَيْها، لكِنَّ المُفَسِّر رحمه الله يُريدُ أنَّ المرادَ بالنّفْس في {مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الذَّات، أيْ مِن ذَواتِكُم، بِدَلِيل أنَّه فسَّرها بآدَم، خُلِقَت منْهُ حوَّاءُ، وبَقِيَّةُ النّاسِ خُلِقوا مِنَ النُّطَفِ التي مِن الإنْسَانِ الذّكر والأُنْثى، ولكِنَّ الَّذي ذكَرْناهُ أوْجَهُ؛ بدَلِيلِ قوْلِه تَعالَى:{لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، إِذ إِنَّ هَذا التّعْلِيلَ يُناسبُ أنْ يكُونَ المُراد بالنَّفس أيْ الجِنْس، عَلَى أنَّه لا يَمْنَعُ أنْ تَكُونَ النّساءُ مخلوقَةٌ مِن ذَواتِ الرِّجالِ؛ لأَنَّ مَا ذَكَرَهُ المُفَسِّر رحمه الله صحِيحٌ، لكِنَّ التّعْلِيلَ يُؤَيِّدُ القَوْلَ الأوَّلَ.

قوْله تَعالَى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} : اللَّامُ للتَّعْليلِ، أي لأَجْلِ أنْ تسْكُنوا، وهِي مُعلِّلَة لقوْلِه تَعالَى:{مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، والسّكُونُ معْناهُ الاستِقْرارُ، ومنْه السُّكْنى في البَلدِ اسْتِقْرارُه فِيها، فقوْلُه تَعالَى:{لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} مِن السُّكونِ، وهُوَ عدَمُ النُّفورِ

ص: 108

مَنَ الشّيْءِ، لأَنَّ السّاكِنَ هُو المسْتَقِرُّ؛ وَلهذا نقُول لمن في البيْتِ أنَّه ساكِنٌ مِن السُّكْنى، فالمَعْنى: لتستَقِرُوا وتطْمَئِنُّوا لها وتألَفُوها كَما قَال المُفَسِّر رحمه الله.

قوْله تَعالَى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} : ضَمَّن السّكونَ معْنَى المَيْل؛ فعَدَّاه بـ (إلى)، إِذْ لم يقُلْ لتسْكُنوا منْهَا ولَا عنْدَها، ولكِنْ {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، وَلهَذا كَان الرّجُل ميَّالًا بطبْعِه إِلَى المَرْأَةِ وسَاكِنًا إِلَيْها، وَلا سيَّما إِذا وُفِّق لامْرَأةٍ تكُونُ مُلائِمَةً لَهُ، فَإِنَّ هَذا يبْدُو ظاهِرًا جِدًّا مِنَ التَّعلِيل.

قوْلهُ رحمه الله: [{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ} جميعًا]: هل المُراد بيْن الزّوج وزوجَتِه، أوْ بيْنَ النّاس جميعًا؟ كلامُ المُفَسِّر يقْتَضي العُمُومَ، لكِنَّ ظاهِرَ السِّياقِ يخْتَصُّ بالمَرْأَةِ وزَوْجِها، فإنَّ هَذِهِ المرأةَ الأجْنبِيَّةَ التي لا تعْرِفُها ولَا تعْرِفُك مِنْ قَبْلُ إِذا تَمَّ العَقْدُ بيْنكُما ألقَى الله تَعالَى في قُلوبِكُما المودَّةَ والرّحمةَ.

قوْله تَعالَى: {مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} : المَودَّةُ: خالصُ الحبِّ. والرّحمةُ: الرّأفَةُ والحُنُوُّ والعَطْفُ، وهَل هَذا عَلَى سَبيلِ التّوزِيعِ أوْ عَلَى سَبيلِ الجمْع، بِمَعْنى: هَلِ المودَّةُ مِنَ المَرْأَةِ للرَّجُل والرّحمةُ منْهُ لهَا، أوْ أنَّه عَلَى سَبيلِ الجمْعِ أيْ كُلّ واحِدٍ منْهُم يَوَدُّ الآخَرَ وَيرْحَمُه؟ والظّاهِرُ أنَّهُ عَلَى سبيلِ الجمْعِ، فالمودَّةُ في قلْبِ المَرْأَةِ، والرّحْمَةُ في قلْبِ الرّجُل؛ لأنَّهُ هُو الَّذي لَهُ السُّلْطانُ علَيْها، وهِي التي تَميلُ إِلَيْهِ، فتكُونُ المودَّةُ منْهَا والرّحْمَةُ منْهُ، فيَكُون الوَصْفانِ مُوزَّعَيْنِ عَلَى الزّوْجِ والزّوجَةِ.

والأقْرَبُ أنَّ الوَصْفَيْنِ لكُلٍّ مِن الزّوْجَيْنِ يعْنِي أنَّ المودَّةَ تكُونُ بَيْنَ الزّوجِ وزوْجَتِه، وَكَذلِكَ الرّحمَةُ تكُونُ بيْنَ الزّوْجِ وزوْجَتِه، هَذا هُو الأقْرَبُ وهُوَ الَّذي يُؤَيِّدُه الوَاقِعُ أيْضًا، فإِنَّ المَرْأَةَ إِذا ودَّتْ زوْجَها يكُونُ فِيها رحْمَةٌ لوْلَا أنَّ الأمَّ أرْحَمُ النِّساءِ، لقُلْنا أنَّها مثْلُ رحْمَةِ الأمِّ؛ ولِهَذا تَجِدُها تتْبَعُ زوْجَها وتدَعُ أُمَّها وأبَاها وأهْلَها

ص: 109

ووَطَنَها؛ ولِهَذا تجِدُها تُلاحِظُه إِذا مَرِضَ، وتجِدُ أنَّه يجِدُ مِن عِنايَتِها أكْثَر مِمَّا يَجِدُ مِن عِنَايَة أَبِيهِ وأُمِّهِ بِه، وتَحْزَنُ إِذا حَزِن وتُسَرُّ إِذا سُرَّ، وإِذا كانَتِ الحالُ بَيْنَهُما جيِّدَةً يُمْكِنُ أنْ تَبِيعَ كُلَّ مَا تمْلِكُ مْن أجْلِ راحَتِه وإِسْعَادِهِ، حتَّى إِنَّ بعْضَ النّساءِ تَبِيعُ حُلِيَّها ومَا زَاد عَنْ ضَرورَتِها مِن الثّيابِ مِنْ أجْلِ الرَّحمَةِ بزَوْجِها، هَذا لا شَكَّ أنَّه رحْمَةٌ.

وبالنِّسبة للرَّجُل كَذَلِكَ ظاهِرٌ، فإنَّ مودَّةَ الرَّجلِ لزَوْجَتِه أمْرٌ لا يُنْكَرُ، وَكَذلِكَ رحْمَتُه إيَّاها أمْرٌ لا يُنْكَرُ، وأمَّا المودَّةُ فظَاهِرَةٌ ولَوْلا قُوَّةُ المودَّةِ بيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَا حصَل الاتِّصالُ بَيْنَهُما الَّذي أرادَهُ الله عز وجل لأجْلِ أنْ تكْمُل هَذِهِ الخليقَةُ وتنْمُو، فمِنْ أجْلِ هَذا جعَلَ الله تَعالَى المودَّةَ والرّحْمَةَ.

وَقالَ ابْنُ الجوْزِيِّ فِي (صَيْد الخاطِرِ) قَالَ: لوْلَا أنَّ الله سبحانه وتعالى بحكْمَتِه قَضَى أنْ تَبْقَى هَذِهِ الخلِيقَةُ لكَانَ الاتِّصَالُ بَيْن الزَّوْجِ وزَوْجَتِه مِنْ أقْبَح الأُمورِ، فكُلُّ واحِدٍ منْهُما يكْشِفُ عوْرَتَهُ للآخَرِ، ثمَّ يحْصُل هَذا الشّيءُ الَّذي قدْ يكُونُ مسْتكْرهًا في أذْوَاقِ بعْضِ النّاسِ، لكنْ جَعل الله سبحانه وتعالى هَذِهِ المودَّةَ بَيْنَهُما لأَجْلِ أنْ تَسْتقِيمَ الأُمورُ وتَنْمُوَ الخليقَةُ، وَهَذا صحِيحٌ، وَهَذا حقٌّ فلوْلَا أنَّ الله جعَل هَذا الأمْرَ مودَّةً مَا حصَل الاتِّصالُ بيْنَ الزَّوْجَيْنِ، ولِهَذا كلَّما كانَ الزَّوْجُ أوِ الزّوْجَة بعضُهم لبعْضٍ كارِهًا قَلَّ الاتِّصالُ بَيْنَهُما.

والجمْعُ بيْنَ المودَّةِ والرّحْمَةِ مِنْ أبْلَغ مَا يكُونُ لأنَّهُ إِذا كانَ أحدُهما محُتاجًا إِلَى الرَّحمَةِ حلَّتِ الرّحمَةُ وزادَتْ عَلَى المودَّةِ، والعَكْسُ بالعَكْسِ، وإِذا اجْتَمع مودَّةٌ ورحْمَةٌ فإِنَّهُ يَنْشَأُ مِن هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ صفَة أقْوَى مَمَّا لوِ انْفَردَتْ إحدَاهُما، ولِهَذا تجِدُ الإنْسانَ ينْظُر إِلَى الفقِيرِ نظرَةَ رحْمَةٍ لَا مودَّةٍ، لكِنْ إِذا اجْتمَعَتِ الرَّحمةُ مَع المودَّةِ تولَّدَ مِن هَذا صفَةٌ أعْلَى مِنَ انْفِرَادِ كُلِّ واحِدَةٍ بنَفْسِها.

ص: 110

قوله رحمه الله: [{إِنَّ فِي ذَلِكَ} المَذْكُورِ {لَآيَاتٍ}]: (اللام) للتَّوْكيدِ، والآيَاتُ جمع أيةٍ، وتأمَّل قوْلَه تَعالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} ، ثمَّ قالَ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} .

فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا هَذا التّنَافُر، حيْثُ قالَ فِي أوَّلِ الآيَة {وَمِنْ آيَاتِهِ} ؟

قُلْنَا: لا تنَافُرَ في الواقِعِ، أوّلًا لأنَّ قوْلَه تَعالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ} للتَّبْعيضِ، وبَعْضُ الآياتِ قدْ يَكونُ آيةً واحِدَةً، وقدْ يَكُونُ أكْثَر مِنْ آيَةٍ، ثمَّ إِنَّ قوْلَه تَعالَى:{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} هَذهِ أرْبَعُ آيَاتٍ، فيَكُونُ في أصْلِ الخلْقِ آيَةٌ واحِدَةٌ، لكِن فِي أوْصَافِ هَذا الخلْقِ المتطَوِّر آياتٌ، والمُفَسِّر رحمه الله بيَّن أنَّ اسْم الإِشارةِ وإِنْ كَان مُفْردًا لكِنَّهُ عائِدٌ إِلَى متَعَدِّدٍ. فقولُه:{خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} هَذهِ آيَةٌ، وكوْنُها مِن النَّفْسِ آيَةٌ أخْرَى، و {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} هَاتَان آيتَانِ، فالجمِيعُ أرْبَعُ آياتٍ كَما تقدَّمَ، والتّعبيرُ بكَلِمَةِ (ذلك) بيَّن المُفَسِّر أن السَّببَ فِيه أنَّ اسْمَ الإِشَارةِ يعُودُ إِلَى المذْكُورِ وإِنْ كَان أكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ أي: متعدِّدًا، وَهَذا كَثِيرٌ في اللُّغَةِ العرَبِيَّةِ وَفِي القْرآنِ أيْضًا.

وقوْله تَعالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} : نصبت (آيات) لأنَّهَا اسْمُ (إنَّ) مؤخَّرًا.

واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَاتِ تكُونُ مِن كُلِّ صفَةٍ مِن هَذِهِ المذكورَاتِ الأَرْبَعِ، وتَكُونُ فِي اجتمَاعِها، ولكنَّها تحْتَاجُ إِلَى تأَمُّلٍ وإِلى تفَكُّرٍ، ولِهَذا قال المُفَسِّر رحمه الله [{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فِي صُنع الله تَعالَى]؛ أيْ فِي خَلْقِه، ولكِنَّ المَعْنى أعَمُّ مِن ذَلِك، أيْ: يتَفَكُّرونَ فِي صُنْعِه وهُوَ الخَلقُ وفي حِكْمَتِه وفي رَحْمَتِه وفي غَيْرِ ذَلِك مِمَّا يتعَلَّق بِهَذا المَعْنى.

ص: 111

وهَلِ المودَّةُ في أوَّلِ الحياةِ الزَّوجِيَّةِ والرَّحمَةُ بعْدَ الأوْلادِ؟

هَذَا خِلافُ الظَّاهِر؛ لأَنَّ الظّاهِرَ أنَّ المودَةَّ والرّحمَةَ مُقتَرِنَانِ.

وهَلْ يُتبادَلانِ بَعْد العَقْدِ أوْ بعْدَ الاتِّصالِ أوْ بعْدَ المعامَلَةِ؟

الجوابُ: هَذا يَرْجعُ إِلَى ما يَجْرِي بيْنَ الزَّوْجَيْنِ، أمَّا المودَّةُ فالظَّاهِرُ أنَّها تكُونُ مِنْ قبْلُ، مِنْ حِين أنْ يَخْطُبَ المَرْأَةَ وتُوافِقَ، لا تنْشَأُ هَذِهِ الخطْبَةُ والموافَقَةُ إِلَّا عنْ مودَّةٍ، لكنَّها تنْمُو وتَزِيدُ بحسَبِ الاتِّصالِ.

من فوائد الآية الكريمة:

الفائِدَةُ الأولَى: : الفائِدَةُ الأولَى: رحْمَةُ الله تبارك وتعالى بِنا حيْثُ جعَل أزْوَاجَنا مِنْ أنْفُسِنا، أيْ مِنْ جِنْسِنا، فَفِيها نعْمَةُ الله عز وجل لكَوْنِ الأزْوَاجِ مِنَ الأنفُسِ، أيْ مِنَ الجِنْس ليتَحَقَّق بِذَلِك أغراضُ النكّاحِ ومقاصِدُه.

الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: أنَّ مِن أهَمِّ أغْرَاضِ النِّكاح ومقاصِدِه السُّكُونَ إِلَى الزّوجَةِ، والاطْمِئْنانَ إلَيْها والحياةَ مَعها حيَاةً سَعِيدَة، فالحِكْمَةُ مِن الزَّوجيَّةِ هِي السُّكونُ، أيْ سُكُونُ أحدِ الزَّوْجَيْنِ إِلَى الآخَرِ، ويتفرَّعُ عَلَى ذَلِك أنَّه لَوْ حَصَلَ التَّنافُرُ فإِنَّ مِن الحِكْمَةِ التَّفريقَ بَيْنَهُما؛ لقوْلِه تَعالَى:{لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، فإِذا فاتَتْ هَذهِ الحكْمَةُ فإِنَّهُ لا زَواجَ؛ ولِهَذا لما فاتَتِ الحكْمَةُ بيْنَ ثابِتِ بْن قيْسٍ وزوجَتِه قالَ الرّسولُ صلى الله عليه وسلم:"خُذِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا"

(1)

، وكيْفَ يُمْكِنُ أنْ تسْتَمِرَّ الزَّوجِيَّةُ بينَ زوجَيْنِ يتباغَضَان ويتنَافرانِ وكُلُّ واحدٍ منْهُما يُحبُّ أنْ يَرى المَوْتَ ولَا يَرَى صاحِبَه؟ ! فالإِنْسَانُ إِذا رأَى عدَم السُّكونِ ولَمْ تلْتَئِمِ الحالُ يَنْبَغِي لهُ أنْ يُفارِقَ، ولِهَذا قالَ أهْلُ العِلْمِ إِنَّ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه، رقم (5273).

ص: 112

الطَّلاقَ يُستَحَبُّ لتَضَرُّر المرأةِ بالبَقاءِ مَع الزَّوجِ، فلَو كانَتْ تتضَرَّرُ ولا تسْتَأْنِسُ معَ الزَّوج لَا ينْبَغِي أنْ يُكْرِهَها عَلَى أنْ تَبْقى مَعَهُ، فإِنَّ بعْضَ النّاسِ - والعياذُ باللهِ - يُكْرِهُونَهنَّ عَلَى البقَاءِ أو يَعْضِلُونَهُنَّ لأجْلِ أنْ يفْتَدِينَ ويُسَلِّمْنَ مبالِغَ مِن المالِ مِنْ أجْلِ أنْ يُطلِّقَها، كُلُّ هَذا حرامٌ، والَّذي ينْبَغي إِذا رَأَيْتَ مِن الزّوْجَةِ أنَّها لا تسْتَطِيعُ أنْ تعِيشَ معَك عِيشَة سَعِيدَةً فيَنْبَغي لكَ أنْ تُطلِّقَها، والنّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:"مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُؤْمنٍ كرْبَةً مِنْ كربِ الدُّنْيَا فَرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كرب يَوْمِ القِيَامَةِ"

(1)

، ويقولُ صلى الله عليه وسلم:"وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ"

(2)

، وَفي القُرْآنِ {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، فأَنْتَ إِذا نَوَيْتَ الخيْرَ بالتّوْسِعَةِ عَلَى هَذِهِ المَرْأَةِ وفارَقْتها فلعَلَّ الله تَعالَى أنْ يُيسّرَ لكَ الأمْرَ بِحُصولِ زوْجة تألفُها وتألفُك.

المُهِمُّ: أنَّ مِن أهَمِّ أغْراضِ النِّكاحِ السّكونَ والطُّمأنِينَةَ إِلَى الزَّوجَةِ والحياةَ حياةً سعِيدةً.

الفائِدَةُ الثَّالثةُ: ما ألقَى الله تَعالَى في قُلوبِ الزَّوجَيْنِ مِن المودَّةِ والرَّحَّمةِ، هَذَا مِنَ الآياتِ العظِيمَةِ، امْرأةٌ لَا تعْرِفُها إلَّا بالذِّكر عنْدَ خِطْبَتِها وليْسَ بيْنَك وبيْنَها قرَابَةٌ ثمَّ يَجْعَلُ الله بيْنَ قُلوبِكُما مِنَ المودَّةِ والرَّحْمةِ مَا يرْبُو أحْيَانًا عَلَى مودَّةِ الأُمِّ والأَبِ، وَهَذا لا شَكَّ أنَّه مِنْ آيَاتِ الله؛ ولِهَذا قَالَ الله تَعالَى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]، جَعَلَ الله في هَذِهِ الآية الصَّهر قَسِيمًا لِلنَّسبِ، يَعْني كأنَّ البشَرِيَّةَ إمَّا مُصاهَرَةٌ وإمَّا قرابَةُ نَسَبٍ.

(1)

أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2580).

(2)

أخرجه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم (2699).

ص: 113

الفائِدَةُ الرّابعةُ: أنَّ المودَّةَ لا تُنالُ بالكَسْبِ، يعْنِي أنَّ الله قَدْ يجْعَلُها فِي قلْبِ الإنسانِ لقوْلِه تَعالَى:{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، يعْني أنْتَ لوْ أرَدْتَ أن تُجْبِر نفسَكَ عَلَى محبَّةِ شَيْءٍ واللهُ عز وجل لم يجْعَلْ في قلبِكَ مودتَه فلَنْ تحبَّه، ولِهَذا مَنَّ الله عَلَى المؤْمِنينَ بقوْلِه تَعالَى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} [الحجرات: 7]، وأنْتَ تقُولُ فِي الدُّعاءِ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أسْألُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ العَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ إِلَى حُبّكَ"

(1)

.

إِذَنْ: فالمودَّةُ يُلقِيها الله عز وجل فِي القَلْب، فأنْتَ ينْبَغِي لَك أن تَسْأَل الله دَائِمًا أنْ تَكُونَ محبّتك للهِ وِفي الله لِتكُونَ المحبَّةُ بِاللهِ.

الفائِدَةُ الخامسةُ: أنَّ مَا ذُكِر ليْسَ آيَةً واحِدَةً؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} ، ثمَّ قَالَ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} : أولًا: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، ثانِيًا:{لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فتكونُ آياتٍ متعدِّدَةً.

الفائِدَةُ السادسةُ: وُجوبُ التّراحُمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَرَحْمَةً} .

وهَلْ يُؤخَذُ منْهَا وُجوبُ معالجَةِ الزَّوجَةِ إِذا مَرِضَتْ لأنَّهَا مِنَ الرَّحمَةِ؟

الفقهاءُ يقُولونَ: لَا يَجِبُ أنْ تُعالِجَها، ولَا يَجِبُ أنْ تُعطِيها قِيمَةَ الدَّواءِ؛ لأَنَّ هَذا ليْسَ مِن النّفَقَةِ، وكَوْنُ الله يجْعَلُ بيْنكم رحمَةً ليْسَ معْنَاهُ أنْ يُلْزِمَك بِشَيْءٍ لَا يلْزَمُكَ، إِنَّما هَذا بَيَانٌ للوَاقِع وَهَذا صَحِيحٌ، فالرَّحمَةُ تُوجَدُ لكِنْ هَل تلْزَمُه؟ هَذا محَلُّ نظَرٍ؛ ولِهَذا قالَ الفُقهاءُ أنَّه لا يَلْزَمُ الدَّواءُ وأُجْرَةُ الطَّبيبِ، وبعْضُ العُلَماءِ يقُولُ: يَلْزَمُ إِلَّا إِذا كانَ الشّيْءُ كثِيرًا يجْحَفُ بِمَالِه فإِنَّهُ لَا يلْزَمُه.

(1)

أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة {ص} ، رقم (3235).

ص: 114

الفائِدَةُ السابعةُ: إثْبَاتُ حِكْمَةِ الله وقدُرَته ورحْمَتِه أيْضًا، حيْثُ جعَل بَيْنَ الزَّوجَيْن مودَّةً ورحْمَةً.

الفائِدَةُ الثَّامنة: الرَّدُّ عَلَى الجهْمِيَّةِ وَكَذلِكَ الأشَاعِرَةِ الَّذِين ينْفُونَ حكْمَةَ الله عز وجل، وأمَّا المُعتَزِلَةُ فإنَّهم يغْلُونَ فِي إثْبَاتِ الحكْمَةِ؛ ولِهَذا يرَوْن أنَّه يجِبُ عَلَى الله فِعْلُ الأصْلَحِ أوِ الصَّلاحِ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: المُبتَدِعَةُ في ردِّهم للصِّفاتِ هَلْ هُمْ يبْنُونَ عَلَى مقدِّماتٍ عقْلِيَّةٍ متَّفَقٍ عليْهَا بيْنَهُم، أمْ أنَّ كُلَّ واحِدٍ منْهُم يُعَلِّلُ بعَقْلِه؟

قُلْنَا: بِعَقْلِه، كُلُّ واحدٍ منْهُم يُعَلِّلُ فيخْتَلِفُونَ في تعْلِيلِ هَذا الرَّدِّ، أحْيَانًا يقُولُونَ أنَّه يستَلْزِمُ الجسْمِيَّةَ، ولكنَّ غالِبَ ما يدُورُونَ أنَّها مستَلْزِمَةٌ للتَّمْثِيلِ، فيَخْتَلِفُونَ فِي الطُّرُقِ الموَصِّلة إلَيْه.

الفائِدَةُ التاسعةُ: الثَّناءُ عَلَى التَّفْكِير؛ لقوْلِه تَعالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، فإِنَّ هَذا واضِحٌ أنَّه محَلُّ ثنَاءٍ لَهُم.

الفائِدَةُ العاشرة: الحثُّ عَلَى التّفكُّر، تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ؛ لأَنَّ التّفَكُّرَ مِفْتَاحُ العِلْمِ، ولَا يُمْكِنُ عِلْمٌ بلا تفَكُّرٍ أبدًا، تفَكَّرْ أولًا، لتَعْلَمَ، فالتّفْكِيرُ ينْفتِحُ بِه أبوابٌ كثِيرةٌ يعْرِفُ الإنسانُ بِها مْن أحكَامِ الله وحِكَمَهِ ما لا يَحْصُل لَهُ لَوْ لم يُفَكِّرْ؛ لأنَّهُ خصَّ الآياتِ بالقَوْم الَّذِين يتفكَّرُون، فدَلَّ هَذا عَلَى أنَّه يحْصُل بالتّفكُّرِ مِن الاطِّلاع عَلَى أحكَامِ الله وحِكَمِه ما لا يحْصُل بالغفْلَةِ.

التّفكُّر يكُونُ في آيَاتِ الله، أيْ مخلُوقاتِه ومشْرُوعاتِه؛ لأَنَّ الآيَاتِ كَما سبَق إمَّا كَونيَّةٌ، وإِمَّا شرعِيَّةٌ، يحْصُل التّفكُّر فِي صفاتِ الله مِن وَجْه المَعْنى، أمَّا مِن حيْثُ

ص: 115

الكيفيَّةُ فَلا يَجُوزُ التّفكُّرُ في الصِّفاتِ؛ لأَنَّ ذَلِك محاوَلَةٌ لما لَا يُمْكِنُ الحصولُ علَيْهِ؛ ولِهَذا قَال الإِمَامُ مالِكٌ رحمه الله: "السُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ"، فَلا يجُوزُ أنْ نتفَكَّر في كيْفِيَّةِ صفَةٍ مِن صفاتِ الله، بلْ نتفَكَّرُ في المَعْنى دُونَ الصِّفَة.

ومثْلُه التّفَكُّر في ذَاتِ الله عز وجل، فلا يَجُوزُ؛ لأَنَّهُ محُاوَلةٌ لما لَا يُمْكِنُ الوُصولُ إِلَيْهِ، ثمَّ التّفْكيرُ في هَذهِ الأمُورِ يجُرُّ إِلَى بَلايَا ومهَالِكَ، والَّذي ضَرَّ مَنْ ضُرَّ مِن أهْلِ التّعْطِيل وأهْلِ التَّشبيهِ هُو محاوَلَتُهم الوصولَ إِلَى الكَيفيَّة؛ فلِهَذا آلَ بِهِمُ الأمْرُ إِلَى التَّعْطِيلِ أو التَّمْثيلِ.

والمُهِمُّ: أنَّ التّفَكُّرَ يكُونُ في مخلُوقاتِ الله وفِي مشْرُوعاتِهِ وفِي معَانِي أسمَائِه وصِفَاتِهِ، أمَّا في ذَاتِه وكيفيَّةِ صفَاتِه فإِنَّهُ لا تفَكُّر، وَذَلِكَ لأنَّه مهْما بلَغ الإنسانُ فإنَّ الفِكْر سيَرْجعُ خاسِئًا وهُو حَسيرٌ، والإعْراضُ عنْ هَذا هُو الوَاجِبُ، كَما قَال الإِمَامُ مالِكٌ رحمه الله.

* * *

ص: 116