الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (22)
* * *
قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم: 22].
* * *
قال المُفَسِّر رحمه الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} أَيْ لُغَاتكُمْ مِنْ عَرَبِيَّة وَعَجَمِيَّة وَغَيْرهَا {وَأَلْوَانِكُمْ} مِنْ بَيَاض وَسَوَاد وَغَيْرهمَا وَأنتُمْ أَوْلَاد رَجُل وَاحِد وَامْرَأَة وَاحِدَة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} دَلَالَات عَلَى قُدْرَته تَعَالَى {لِلْعَالِمِينَ} بِفَتْحِ اللَّام وَكَسْرهَا أَيْ ذَوِي العُقُول وأولي العلم] اهـ.
اعلَمْ أنني راجَعْتُ الكثير من التَّفاسِير فَمَا وجَدْتُ الحِكمَة في أنَّه سبحانه وتعالى يقُولُ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ} ، يعْنِي ما رأَيْت أحدًا بَيَّن الحِكْمَة فِي كوْنِه يأْتِي مرَّةً بالمَصْدَرِ، ومرَّةً بِـ (أَنْ) الدّاخلَةِ عَلَى الفِعْل، هِي تُؤَوَّلُ بمصْدَرٍ، لكَنْ هَل نقُول إِنَّ هَذا مِنْ بَابِ الاخْتِلاف في التّعْبير المُراعَى بِه جانِبُ اللَّفْظ، أوْ أنَّه مِن بابِ التَّعبيرِ المُراعَى بِه جانِبُ المَعْنى؟ فَإِنْ قُلنا أنَّه مِن بَابِ التَّعبير المُراعَى به جَانِبُ اللَّفْظُ فالأَمْر بَسِيطٌ، ونَقُول إِنَّ الله تَعالَى غايَرَ بَيْن العِباراتِ لأَجْلِ أنْ لَا يَمَلَّ السَّامِعُ إِذا كَان الكَلامُ عَلَى وَتِيرَةٍ واحِدَةٍ؛ لأَنَّ الاخْتِلافَ في التَّعبِيرِ ممَّا يَزِيدُ الإنسانَ نَشاطًا وتجَدُّدًا، أمَّا إِذا قُلْنا إِنَّ هناكَ أمْرًا معنَوِيًّا فأنَا إِلَى الآنَ مَا عرَفْتُه، ولا ذَكرَه الزّمخشَرِيُّ ولَا أَبُو السُّعودِ، ولَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ يتكلَّمُونَ عَلَى مثْلِ هَذِهِ الأُمُورِ.
قوْله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} خبَرٌ مقَدَّمٌ، و {خَلَقَ} مبْتَدأٌ مؤَخَّرٌ، وخلْقُ السَّمواتِ: أيْ إيجادُهَا بتَقْدِيرٍ ونظامٍ بدِيعٍ، وَهَذا يشْمَلُ خلْق هَذهِ السّموات باعْتِبارِ كَوْنِها أجْرَامًا عَظِيمَةً وباعْتِبارِها مصْلَحةً للعْبَادِ، فهَذا مِن آياتِ الله، فمِنْ آيَاتِه العَظِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِه ورَحْمَتِه وحِكْمَتِه خَلْقُ السّموَاتِ وَالأرْضِ، والسَّمواتُ جمْعٌ وجَمْعُها ظَاهِرٌ لأنَّهَا سبْعُ سمَواتٍ، والأرْضُ مُفْرَدٌ، ولكِنَّ المُرادَ بِه الجِنْس؛ لأَنَّهُ لا شَكَّ أنَّ الأرَضِينَ سبْعٌ، والدَّلِيلُ قوْله تَعالَى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، والمِثْلِيَّةُ هُنا لَا يُمْكِنُ أنْ تكُونَ فِي الصِّفَةِ أبَدًا، إذْ لا يُمْكِنُ أنْ تكونَ الأرَضونَ مثْلَ السّموَاتِ فِي الصّفةِ لِظُهورِ الفَرْقِ التَّامِّ بَيْنَهُما، فإِذا تعذَّرَتِ الصِّفَةُ رجَعْنا إِلَى العَدَدِ، أيْ {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فِي العَدَدِ، ثمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةَ ذَلِك صَرِيحًا، مثْلَ قولِه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصَّحِيح المُتَّفَق علَيْهِ:"طَوَّقَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"
(1)
.
وقوله رحمه الله: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} : أيْ لُغَاتِكُمْ مِنْ عَرَبِيَّةٍ وَعَجَمِيَّةٍ وَغَيْرِهَا]: اختلاف معطُوفَةٌ عَلَى (خلْق) يعْنِي ومنْ آيَاتِه أيْضًا اختِلافُ ألسِنَتِكُم، وصَحِيحٌ أنَّ اختِلافَ الألسِنَةِ مِن آيَاتِ الله بحسَبِ اللُّغاتِ عرَبِيَّةً وعجَمِيَّةً وغيْرَها، إِنْ أرَدْنا بَالعَجَم اسْم القَوْمِ الخاصِّ، فكَلِمَةُ (غيْرَها) صحِيحَةٌ، وإِذا أرَدْنا بِالعَجَمِ مَنْ سِوى العَرَبِ فإنَّ قوْلَه:(وَغَيْرَهَا) ليْسَ بِصَحِيحٍ، وَهَذا هُو الأَفْضَلُ أنَّه يُقَال:(عَرَبٌ وَعَجَمٌ) ويُراد بالعَجَم مَا سِوى العَربِ، فيَشْمَلُ جَمِيعَ لُغاتِ العالَم، ثمَّ إنَّ اختِلافَ الألسِنَة أيْضًا قَدْ نُنْزِلُه عَلَى اختِلَافِ اللُّغَة نفسِها، واخْتِلافِ النُّطقِ نفْسِه، فأَنْتَ تَرى الإنْسَانَ ينْطِقُ بخُروجِ الهَواءِ مِنَ الرِّئَتَيْنِ، ثمَّ مُرورهِ عَلَى
(1)
أخرجه مسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (1610).
مخَارِجِ الحُروفِ، كُلَّما مَرَّ عَلَى مخْرَجٍ تغَيَّر والهَواءُ واحِدٌ، فإذَا مَرَّ عَلَى مخْرَجِ الصَّادِ صَار صَادًا، وإِذَا مرَّ عَلَى مخْرَجِ الجِيمِ صَار جِيمًا، وَإِذا مَرَّ عَلَى مخْرَجِ الدَّالِ صارَ دالًا، مَع أنَّ الهواءَ واحِدٌ، ثمَّ إنَّه أيْضًا لَا يحْتَاجُ إِلَى عمَلِيَّةٍ؟ فهَل نَجِدُ تَعبًا بنَقْلِ البَاء إِلَى النُّونِ إِلَى القَافِ إِلَى اللَّام، فَهُو شَيْءٌ واحِدٌ ومَع ذَلِك تجِدُ الحُروفَ تتَنَوَّعُ بمُرورِها عَلَى هَذهِ المخَارِج، فَهذا أيْضًا مِنْ آيَاتِ الله العظيمَةِ، وهُوَ دَاخِلٌ في قوْلِه تَعالَى:{وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} .
فاخْتِلافُ الألسِنَة أيْضًا مِن آيَاتِ الله ووجْهُ ذَلِك أنَّ هَذِهِ الألسُنَ مِن نوعٍ واحِدٍ، أوْ مِن جنْسٍ واحِدٍ، كلُّنا بشَرٌ، وكلُّنا مِن أَبٍ واحِدٍ، ومَع ذَلِك تخْتَلِفُ الألسُن اختِلَافًا عظِيمًا، كَذَلِكَ أيْضًا هُوَ مِنْ آيَاتِ الله لأَنَّ كلَّ إِنْسَانٍ يعرِفُ جنسَه بلُغَتِه، أنا أعْرِفُ مثَلًا أنَّ هَذا هنْدِيٌّ، وَهَذا تُرْكِيٌّ، وَهَذا إنجْلِيزِيٌّ، وَهَذا ألمانِيٌّ، وَهَذا رُوسِيٌّ، بسَبَب لُغَتِه، وَهَذا أيْضًا مِن آيَاتِ الله أنْ جعَلَها دَلِيلًا عَلَى جِنْسِ الإِنْسَانِ.
وقوْله سبحانه وتعالى: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} يشْمَلُ أصْلَ اللُّغَة، وَيشْمَلُ اللَّهَجاتِ، ويشْمَلُ السَّلامةَ مِن العُيوبِ، ويشْمَلُ العُيوبَ أيْضًا، ويشْمَلُ الفصاحَةَ، ويشْمَلُ العِيَّ؛ لأَنَّ بعضَ النَّاس يُعَبِّر عنِ المَعْنى تعْبِيرًا يسْتَطِيعُ الإقْنَاع إِذا أرَاد أنْ يُقْنِع، ويسْتَطِيعُ التّنْفِيرَ إِذا أرَادَ أنْ يُنَفِّرَ، وبعْضُ النَّاس عنْدَه عِيٌّ بحيْثُ أنَّه لا يسْتَطِيعُ أنْ يُعَبِّرَ حتَّى عنِ المَعْنى الصَّحيحِ حتَّى أنَّه إذَا عبَّر عن المعَانِي الَّتي يُريدُها، رُبما لا تُقبَلُ منْهُ لضعف تعْبيرِه، يعْنِي لا تَظُنَّ أنَّ اخْتِلافَ الألسِنَة فقَط في جِنْس اللُّغَةِ، لا بَلْ بِكُلِّ هذَا، فأجْنَاسُ اللُّغاتِ مِن آيَاتِ الله عز وجل، وكوْنُ هَذا الإنسانِ ينْطِقُ بالحُروفِ نُطْقًا تَامًّا، هَذا مِنْ آيَاتِ الله، والثَّاني بالعَكْس ينْطِقُ بِها عَلَى وجْهِ اللَّثْغَةِ أوْ يتثَاقَلُ أوْ مَا أشْبَه ذَلِك، كَذَلِكَ أيْضًا قدْ نَقُولُ: إنَّ مِن اخْتِلافِ اللِّسانِ اختلافَ
الأصْوَاتِ، فهَذا صوْتُه جَيِّدٌ، وَهَذا حسَنٌ، والآخَرُ بالعَكْسِ، كَذَلِكَ مِن اخْتِلافِ الألسُن الفصاحَةَ وعدَمَها، فإِنَّ مِن النَّاسِ مَن يُعطِيهُ الله تَعالَى بلَاغَةً فِي الكَلامِ وحُسْنَ أدَاءٍ حتَّى أنَّه يؤدِّي إلَيْك المَعْنَى بعِبارةٍ واضحَةٍ تفْهَمُها مِن أوَّلِ مرَّةٍ ومنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ بالعَكْسِ فجَمِيعُ مَا يمْكِنُ أنْ يَرد عَلَى اخْتِلَافِ اللِّسانِ فإِنَّهُ داخِلٌ في كوْنِه مِنْ آيَاتِ الله عز وجل.
وقوْلُه رحمه الله: [{وَأَلْوَانِكُمْ} مِنْ بَيَاضٍ وَسوَادٍ وغَيْرِهِمَا]: هَذا صحِيحٌ، اخْتِلافُ الألوانِ مِن بَياضٍ وسَوَادٍ وغَيْرهما، أيْ مَا بيْنَ السَّوادِ والبَياضِ يعْنِي أسْودُ خالصٌ، وأَبْيضُ خالصٌ، ومَا بَيْنَهُما هُو غيْرُهما، وَهَذا أيْضًا مِن آيَاتِ الله؛ وَلِهَذا لا تَكَادُ تَجِدُ اثْنَيْنِ متَّفِقَيْنِ فِي اللَّوْنِ أبَدًا حتَّى لَوْ كَانا توْأَمَيْنِ لا بُدَّ أنْ يكُونَ هناكَ اختْلافٌ، لكِنْ منْهُ ما يكُونُ ظاهِرًا، ومنْهُ مَا يكُونُ غَيْرَ ظاهِرٍ، إمَّا بمَيْلِه إِلَى الحُمْرَةِ أو إِلَى السَّوادِ أوْ إِلَى البَياضِ، أوْ يكُونُ الجلْدُ ليْسَ عَلَى وتِيرَةٍ واحَدَةٍ، وَهَذا شيْءٌ مُشاهَدٌ، فالرَّجُل الأبْيَضُ الأُوربِّي بيْنَه وبَيْن الرَّجُل الأسْوَد الَّذي عَلَى خطِّ الاسْتِواءِ فرْقٌ شاسِعٌ، ومَا بَيْن ذَلِك درَجَاتٌ متفاوِتَةٌ، لكِنْ لَا تكَادُ تَجِدُ اثْنَيْن عَلَى لوْنٍ واحِدٍ، هَذا مِنَ الحكْمَةِ؛ لأنَّهُ لوْلَا هَذا لَكَانَ النَّاسُ يختَلِفُ بعْضُهم عَلَى بعْضٍ، وربَّما طَالبُوا بحقُوقِهم مَنْ ليْسَ لهُمْ عنْدَه حقٌّ لمجرَّدِ الشَّبَهِ.
ويُقالُ أنَّ الله جعَل لكُلِّ إِنْسَانٍ أرْبَعِينَ شَبِيهًا، ولَكِنْ لَا أظُنُّ أنَّ هَذا يَصِحُّ، بَلْ إِنَّهُم يقُولونَ إنَّ البَصماتِ الَّتي في الأنَامِل تخْتَلِفُ، كُلُّ واحِدٍ لَهُ بصَمَاتٌ عَلَى شكْلٍ لَا يُوافِقُ الآخَرَ وَهَذا هُوَ الظَّاهِرُ، ولِهَذا تُعْتبَرُ البَصماتُ فِي التَّحْقِيقاتِ الجنَائِيَّةِ، ممَّا يدُلُّ عَلَى أنَّها تخْتَلِفُ قطْعًا، وَهَذا ممَّا يدُلُّ عَلَى قدْرةِ الله سبحانه وتعالى هَذا الاخْتِلافَ العظيمَ، ملَايِينُ المَلَايينِ مِنَ البَشَرِ، ومَع ذَلِك كُلُّ إِنْسَانٍ لَا يُمْكِنُ أنْ يُطابِقَ الآخَر
مِنْ كُلِّ وجْهٍ، لَا بُدَّ أنْ تَكُونَ هُناكَ علامَةٌ فارِقَةٌ.
قولُه رحمه الله: [وَأنْتُمْ أَوْلَادُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ]: صحِيحٌ، نحْنُ أوَّل مَا نشَأْنا مِن آدَم وحواء، ومَع ذَلِك نخْتَلِفُ هَذا الاخْتِلافَ العظِيمَ في الألوانِ، ولَمْ يذْكُرِ الله عز وجل الاخْتِلافَ في الأَجْسامِ مَا بَيْنَ صَغيرٍ وكَبيرٍ ومتَوسِّطٍ؛ لأَنَّ القُدْرَة عَلَى خَلْقِهم باخْتِلافِ ألوَانِهم أبْلَغَ مِنَ القُدْرَة باخْتلَافِ خلْقِهم عَلَى كِبَرِ أجْسَامِهِم وصِغَرِها؛ ولِهَذا ذَكر الألسِنَةَ والألوانَ.
قولُه رحمه الله: [{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} دَلَالَاتٍ عَلَى قُدْرَتِه تَعالَى {لِلْعَالِمِينَ} بِفَتْحِ اللَّامِ وكَسْرِها، أَيْ ذَوِي العُقُولِ وأُولِي العِلْمِ]: بفَتْح اللَّام وكسْرِها، يعْنِي يجوزُ أنْ تَكونَ (لِلْعَالِمِينَ) و (لِلْعَالمينَ)، والقِراءتَانِ سبْعِيَّتانِ
(1)
، لأَنَّ قاعِدةَ المُفَسِّر رحمه الله إِذا ذَكَر الوَجْهَيْن فهُما قِراءَتانِ سبْعِيَّتَانِ، أمَّا إِذا قَال:(وقُرِئ) فالقِراءَةُ شاذَّةٌ.
وقوْله تَعالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} أو "للعالَمين"، العالمِون ذووُ العِلْم، والعالَمون جمعُ عَالَمٍ، يعْنِي الخلْقَ، وهَلْ نأخُذُ مِنَ اخْتِلافِ القرَاءَتَيْن أنَّ المرادَ بالعالمَين ذوي العلْم؛ لأَنَّ العالمَين أعمُّ مِن العالمِين؛ لأَنَّ العالمِين تختَصُّ بذَوي العِلْم، والعالَمِين عامَّةٌ لَهُم ولغَيْرِهم، فهَل نقُولُ: إنَّ الآيَة تدُلُّ عَلَى أنَّ هَذا فِيه آيَاتٌ للعالمِين، أوْ نقُولُ إِنَّ الآيَاتِ للعالَمِين كلِّهم العالِم وغَيْرِ العالِم، ولكنَّ العالم لَهُ مزيَّةٌ، فتكُونُ دالَّةً عَلَى أنَّ اخْتِلافَ الألسُنِ والألوانِ أمْرٌ معْلُومٌ لكُلِّ أحَدٍ، لكنَّ مَا ورَاء ذَلِك الظَّاهرِ أمرٌ لا يعْلَمُه إِلَّا أهْلُ العِلْمِ، ويكُونُ فِي الآيةِ إشَارَةٌ إِلَى أنَّه ينْبَغي لنَا أن نتَعَمَّقَ فِي هَذا الأمرِ حتَّى يتبَيَّنَ لنا بعلْمِنا ما ليْسَ بائِنًا لغيْرِنا، وَهَذا هُو الأحْسَنُ.
(1)
إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر (ص: 619).
من فوائد الآية الكريمة:
الفائِدَةُ الأولَى: أنَّ خلْقَ السَّموَاتِ وَالأرْضِ مِن آيَاتِ الله، ووَجْهُ كَوْنِه مِن آيَاتِ الله عِظَمُهما واتِّساعُهما ومَا فِيهما مِنَ الكَواكِبِ والنُّجومِ والأَشْجارِ والبِحارِ والأَنْهارِ وغَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّه مِنْ آيَاتِ الله سبحانه وتعالى الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِه وقُدْرَته.
الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: أنَّ السَّمواتِ جمْعٌ والأرْضَ كَذَلِكَ، لكِنْ ليْسَ فِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا، إِنَّما يُسْتَفادُ كَوْنُ الأرْضِ جَمْعًا مِن أدِلَّةٍ أُخْرَى.
الفائِدَةُ الثَّالثةُ: أنَّ اختِلافَ الألسُنِ والأَلوانِ مِن آيَاتِ الله أيْضًا، وهلِ اختِلافُ الألسُنِ والألوانِ هُو بِطُولِ اللِّسَانِ وقِصَرِه، أوِ المُرادُ اختلافُ اللُّغَة؟ المُرادُ اختِلافُ اللُّغاتِ واخْتِلافُ الفَصاحَةِ والبَيانِ؛ فإِنَّ النَّاسَ يخْتَلِفُون فِي هَذا اختِلافًا عظِيمًا، تَجِدُ المَعْنى الوَاحِدَ يتكَلَّمُ بِه إِنْسَانٌ فتَقْتَنِعُ الحاضِرونَ لقُوَّةِ بَيانِهِ وفَصاحَتِهِ، ويتَكلَّمُ فِيه آخَرُ لَا يلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ ولا يُقْنِعُهم، وتَجِدُ رَجُلَيْنِ يتكَلَّمَانِ، أحَدُهُما يشُدُّ النَّاسَ إِلَى نفْسِه، والآخَرُ يتكلَّمُ ولَا يُسْتَمَعُ إِلَيْهِ، مَع أنَّ الكَلامَ واحِدٌ والمَوْضوعَ واحِدٌ، لكِنَّ اخْتِلافَ الإلقاءِ والفصَاحَةِ هُو الَّذي جعَل النَّاسَ يتأثَّرُونَ.
الفائِدَةُ الرَّابعةُ: أنَّ الألوانَ لا تتَّفِقُ، نأْخُذه مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى:{وَأَلْوَانِكُمْ} ، ولِهَذا يقُولُ العُلَماءُ أنَّه لَا يُمْكِنُ أن يُوجد شخصَانِ متَّفِقانِ مِنْ كُلِّ وجْهٍ أبَدًا عَلَى كثْرَة النَّاسِ، حتَّى التَّوْأمانِ لا يتَّفقانِ مِنْ كُلِّ وجْهٍ، صحيحٌ أنَّ بعْضَ النَّاسِ يتقَارَبُونَ وَلا تعْرِفُ بعْضَهُم مِن بعْضٍ، لا سِيَّما إذَا كُنْتَ لَا ترَاهُما إِلَّا نادِرًا، لكِنْ عنْدَ التَّأمُّل لَا بُدَّ أنْ يكُونَ هُناكَ علَامَةٌ فارِقَةٌ، ولا تأْخُذْ بالمَلامِحِ الظّاهِرَةِ، وَهَذا مِنْ آيَاتِ الله سبحانه وتعالى حتَّى الأَعْضاء الآنَ لَا تظُنَّ أنَّ أعضَاءكَ متَّفِقَةٌ، فأعْضَاؤُك تخْتَلِفُ، فَكِّرْ في العُروقِ: عُروقُ اليَدَيْنِ تجِدُها مختَلِفَةً، عروقُ الرِّجْليْنِ تجِدُها مخْتَلِفَةً، البَنانُ الَّتي
يُسمُّونَها بصَماتٍ تجِدُها مختَلِفَةً عَلَى كثْرَة النَّاسِ، لا يُمْكِنُ أنْ يتَّفِقُوا أبدا وَهَذا دليل واضح عَلَى عظِيمِ قُدْرَةِ الله سبحانه وتعالى وبَالِغْ حِكْمتَه.
الفائِدَةُ الخامسةُ: مدْحُ أُولِي العِلْم؛ تُؤخَذُ مِن قَوْلِه: (العالِمين) بِكَسْر اللَامِ، فإِنَّهُ يدُلُّ عَلَى فضِيلَةِ أهْلِ العِلْمِ، ولَا شَكَّ أنَّ أهْلَ العِلْمِ لَهُمْ فَضْلٌ. فالعالِمُون باللهِ وآيَاتِه سبحانه وتعالى لَهُم مِن الفَضائِلِ بِحَسَبِ عِلْمِهِمْ.
* * *