الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (43)
قَالَ اللهُ عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43].
* * *
* قال المُفَسِّر رحمه الله: [{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} دِين الإِسْلامِ].
أقم الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتوجه إِلَيْهِ الخطاب، وقد سبق توجيه القول الأول إِذَا جعلنا الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم فإما أنْ يكُونَ المُرَاد بِهِ الرَّسول نفسه وتكون أمته تبعًا لَهُ، وإما أن يُراد بِهِ الرَّسول والأمة، لكن خوطب بِهِ الرَّسول لأنَّهُ زعيمُهم وإمامهم.
وقوْله تَعالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} هل المُرَاد بالوجه الاتجاه أو المُرَاد الوجه الحسي الَّذي فِي الرّأس؟
الظّاهر أن المُرَاد الاتجاه؛ لأَنَّ الوجه يراد بِهِ الجهة كما قَالَ تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] لأنَّهُ سبق أن فِيهَا قوليْن للمفسرين:
* قولٌ أن المُرَاد بِهِ وجه الله الحقيقي.
* وقول أن المُرَاد بِهِ الجهة.
ولا شك أن الوجه يراد بِهِ الجهة، وَإِذَا قلنا إن المُرَاد بالوجه الجهة، اتجاهك للدين شمل مَا إِذَا كَانَ الوجه الحسي فيما يطلب مِنْهُ الاتِّجاه للقبلة مثلًا.
وقوْله تَعالَى: {لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} المُرَاد بالدّين هُنَا العمل وقد سبق أن الدّين فِي القرآن يراد بِهِ العمل والجزاء فقوْله تَعالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] وقوْله تَعالَى: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)} [الانفطار: 18] المُرَاد بالدّين الجزاء وأما قوْله تَعالَى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقوْله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، فالمُرَاد بِهِ العمل كما فِي هَذِهِ الآية.
وقوْله تَعالَى: {الْقَيِّمِ} القيم ضد المعوج كما قَالَ تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161]، يعني قَيِّمًا، فدينُ الإسْلام دين مستقيم لَيْسَ فِيهِ اعوجاج لا بالنّسبة لمعاملة الله عز وجل وَهِيَ العبادة ولا بالنّسبة لمعاملة المخلوق، وَلِهَذا تجد فِي المعاملات حرم الكذب والغش والخديعة وما أشبه ذَلِك، وحرم الجور والظّلم، وتحريم تفضيل الأولاد وما أشبه ذَلِك؛ لأَنَّ كل هَذَا خلاف الاستقامة، وفي العبادات حرم الشّرك والابْتداع لما فِي ذَلِك من الانحراف عن الصّراط المستقيم.
لَوْ قَالَ قَائِل: قوْله تَعالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] هل يشمل الأَعمال الظّاهرة والباطنة؟
قوْله تَعالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] هَذَا يشمل العقيدة ويشمل الأَعمال الظّاهرة، مثل الإسْلام إِذَا قرن بالإيمان كَانَ الإسْلام للأعمال الظّاهرة والإيمان للأعمال الباطنة، وَإِذَا أفرد أحدهما شمل الآخر.
قال المُفَسّر رحمه الله: [{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} وَهُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}]، قوْله تَعالَى:{مِنْ قَبْلِ} متعلق بـ (أَقِمْ) يعني أقمه من قبل هَذَا اليوم.
وقوْله تَعالَى: {يَوْمٌ} نُكر للتعظيم لأَنَّ هَذَا اليوم كما وصفه الله تَعالَى فِي قوْله تَعالَى: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 5، 6].
وقوْله تَعالَى: {مَرَدَّ} هَذَا مصدر ميمي أي لا رد لَهُ، يعني لا يمكن أن يرد هَذَا اليوم لأَنَّ الله تَعالَى قضى به.
وقوْله تَعالَى: {مِنَ اللهِ} متعلقٌ بصفة لـ (يوم) يعني من قبل أن يأتي يَوْم من الله، يعني هَذَا اليوم من الله لا من غيره، ويحتملُ أنْ يكُونَ متعلقًا بـ {يَأْتِى} أن يأتي من الله يَوْم، والأَول أبلغ أنْ يكُونَ صفة لـ (يوم) لأَنَّ كونه من الله يدل عَلَى عظمته وأنه لا يمكن أن يرد هَذَا اليوم.
وقوْله تَعالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} إِذَا قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ الآيَة خوطب بِهَا النَّاس فِي عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن القِيَامَة لا تكون فِي عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم فكيف قَالَ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} ؟
فالجوابُ: أنَّ الموتَ واقعٌ حتَّى فِي عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم ومن مات قامت قيامته وانقطع عمله ولا فرق بَيْنَ من يموت فِي ذَلِك الوقت وبين من يموت وَهُوَ آخر النَّاس موتًا بالنّسبة لانقطاع العمل كل منهم انقطع عمله، فكأن من يموت فِي عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم كأنه بلغ يَوْم القِيَامَة؛ وَلِهَذَا يقول العلَماء: إن موت الإنسان قيامة بالنّسبة إِلَيْهِ وَهُوَ قيامة صغرى بالنّسبة إِلَى عُمُوم النَّاس لأَنَّ العمل انقطع وانتهى.
وقوْله تَعالَى: {لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} يفيد بأن هَذَا أمر لا بُدَّ أن يقع وَهُوَ كَذَلِكَ فإن يَوْم القِيَامَة هُوَ الَّذي من أجله خُلق النَّاس، خلق النَّاس لعبادة الله، وجزاؤها يَكُون يَوْم القِيَامَة.
قوْله تَعالَى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [فيه إدغام التّاء فِي الأَصل فِي الصّاد ومعناه يتفرقون بعد الحساب إِلَى الجنَّةَ والنّار].
قوْله تَعالَى: {يَوْمَئِذٍ} : (إذ) منونة والتّنوين هُنَا عِوَضٌ عن جملة يعني يَوْم إذ يأتي يَصَّدَّعُونَ، ويقول المُفَسِّر رحمه الله:[فيه إدغام التّاء فِي الأَصل فِي الصّاد] أي أن أصلها يتصدعون، فقوله:[إدغام التّاء فِي الأصل] أي باعتبار الأصل يعني أن الصّاد الَّتِي أدغمت فِي أختها أصلها تاء فأدغمت فِيهَا بعد قلبها صادًا ومعنى يَصَّدَّعُونَ يتفرقون، فالتَّصَدُّعُ التّفرق ومنه تَصَدُّعُ الأرْضِ لأَنَّ تَصَدُّعَهَا تَفَرُّق.
من فوائد الْآيَةَ الكريمة:
الفائِدَةُ الأولَى: وجوب الاتِّجاه إِلَى الدّين؛ لقوْلِه تَعالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} ويلزم من وجوب الاتِّجاه إِلَيْهِ وجوبُ الإعراضِ عما سواه؛ لأَنَّ الوجهة واحدة، إمَّا إِلَى هُنَا وإما إِلَى هُنَا، فإذا لزم أن تتجه إِلَى الدّين لزم أن تنحرف عن غيره.
الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: تحريم الحكم بِغَيْر مَا أنزل الله لأَنَّهُ مخالَف للاتجاه للدين القيم والحكم بِغَيْر مَا أنزل الله مِنْهُ مَا يَكُون كفرًا ومنه مَا يَكُون فسقًا ومنه مَا يَكُون ظلمًا كما ذكر الله تَعالَى ذَلِك فِي سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وفي الآية الثّانية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، وفي الآية الثَّالثة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وهذه الأوصاف تتنزل عَلَى حال الحاكم فقد يَكُون كافرًا أو ظالمًا أو فاسقًا.
الفائِدَةُ الثَّالثةُ: أن هَذَا الدِّينَ قيَم، ومعنى قيم: معتدل لا اعوجاج فِيهِ فِي جانب العبادة ولا فِي جانب المعاملة.
الفائِدَةُ الرابعةُ: أنَّك إِذَا ظننت أن فِي الدِّين مَا يخالِف الاستقامة فاعلم أنَّك قاصر إمَّا فِي علمك وإما فِي فهمك وجه ذَلِك أن الله وصف هَذَا الدّين بِأنَّهُ قيم، كل شيء تستعرضه فِي دين الله فيبدو لك أنَّه لَيْسَ عَلَى الاستقامة فاعلم أنَّك مخطئ لقصور علمك أو لقصور فهمك، والإنسان يؤتى من هاتين النّاحيتين إمَّا لقصور علمه يعني لَيْسَ عنده علم، وإما لقصور فهمه عنده علم لكن لا يفهم.
الفائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّه ينبغي لمن أَمَرَ بشيء أن يذكر مَا يُغْرِي بِهِ وُيرَغِّبُ فِيهِ، يؤخذ مِنْ قوْلِه تَعالَى:{الْقَيِّمِ} فالإنسان إِذَا عرف أن الدِّين قيم لا شك أنَّهُ يتجه إِلَيْهِ، فأنت إِذَا أردت أن تأمر بشيء فاذكر الأسباب الَّتِي توجب للناس الإقبال علَيْه بأوصافه المحبوبة وثمراته الحميدة.
الفائِدَةُ السّادِسَةُ: الجمع بَيْنَ التّرغيب والتّرهيب: التّرغيب فِي قوْله تَعالَى: {الْقَيِّمِ} والتَّرهيب فِي قوْله تَعالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} .
الفائِدَةُ السّابِعَةُ: إثْبَات يَوْم القِيَامَة وأنه آتٍ لا محالة لقوْلِه تَعالَى: {لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} .
الفائِدَةُ الثَّامِنةُ: أن يَوْم القِيَامَة يَوْم عظيم يؤخذ من تنكير {يَوْمٌ} فِي قوْله تَعالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ} والتّنكير يفيد التّعظيم، ويدل لعظم هَذَا اليوم قوْله تَعالَى:{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6].
الفائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أن الحكم لله سبحانه وتعالى لقوْلِه تَعالَى: {لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} فلا أحد يستطيع أن يمنع مَا أراد الله ولا أن يجلب مَا لم يُرِدِ الله أبدًا "اللهم لا مانِعَ
لما أعطيتَ ولا مُعْطيَ لما مَنَعْتَ ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"
(1)
.
الفائِدَةُ العَاشِرَةُ: أن النَّاس يَوْم القِيَامَة ينقسمون ويتفرقون، لقوْلِه تَعالَى:{يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} .
* * *
(1)
أخرجه البخاري: كتاب القدر، باب لا مانع لما أعطى الله، رقم (6615)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، رقم (593).