الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (8)
قَالَ اللهُ عز وجل: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الرّوم: 8].
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ} ليَرْجِعُوا عَنْ غَفْلَتهمْ {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} لِذَلِكَ تَفْنَى عِنْد انْتِهَائِهِ وَبَعْده البعْث {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} أَيْ كُفَّار مَكَّة {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} أَيْ لَا يؤمنون بالبعث بعد الموت] اهـ.
قوْله تَعالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} : مثْلُ هَذا التّركيبِ فِي إعرابِه للنَّحْويِّينَ قولَان:
أحدُهُما: أنَّ الهمزَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مكانِها، وأنَّ أصلَها:(وَأَلم يِتَفَكَّرُوا)، فتكُونُ الجمْلَةُ معطوفَة عَلَى مَا سبق.
والوَجْهُ الثَّاني: أن تكُونَ الهمزَةُ داخِلَة عَلَى محذوفٍ يُقَدَّر بحسب السّيَاقِ، ويكُونُ ما بعْدَها مِن حرْفِ العطْفِ عاطِفًا عَلَى ذَلِك المحذوفِ، وفي هَذِهِ الآيَة يَكُون التّقْدِيرُ:(أَغَفَلوا وَلم يتَفَكَّرُوا)؛ لأنَّهُ لما قال: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} قَالَ: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} ، والاسْتِفْهام للتَّوبيخِ؛ لأَنَّ الإنسان مأْمُورٌ بأَنْ يتفَكَّرَ.
قوْله تَعالَى: {فِي أَنْفُسِهِمْ} هلْ هُو محَلُّ التّفكُّر أو آلَةُ التّفَكُّر، بمعْنَى هَل المقْصودُ مِنَ الآيَة الحثُّ عَلَى تفكُّرِهم في أنْفُسِهم كَما في قوْله عز وجل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، أوِ الحثّ عَلَى التّفكّرِ في خلْقِ السّموَات وَالأرْض في أنْفُسِهم؟
نَقُول: يُراد بِه كِلا الأمْرَينِ، لكنَّ الأقربَ الأخيرُ؛ وَلِهَذا قالَ:{مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ} ، فالمعْنَى:(أَوَلم يَرْجِعُوا إِلَى أنْفُسِهم ويتَفكَّروا تفكيرًا حقيقيًّا في هَذا الكوْنِ ليَعْرِفُوا بذَلِك حكمَةَ الله عز وجل وما يتضَمَّنُه مِن صفَاتِه العظِيمَةِ).
قوْله تَعالَى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : {ومَّا} نَافِيَة، والدّلِيلُ قوْله تَعالَى:{مَا خَلَقَ} ، {خَلَقَ} بمعْنَى أوْجَد وأبْدَع، ولا يَكُون غالبًا إلا بتَقْدِيرٍ وتنظيمٍ؛ لأَنَّ أصلَ الخلْقِ التّقْدِيرُ في النّفْسِ، كما قال الشّاعر:
وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْـ
…
ـضُ النّاس يَخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي
(1)
يَعْني تُمْضِي ما قَدَّرتَ، فالخلْقُ هُو الإبْداعُ بتَقْديرٍ وتنْظِيمٍ.
وقوْله تَعالَى: {السَّمَاوَاتِ} : المرَادُ بِها الطّباقُ، وكانَتْ سبْعًا.
وقوْله تَعالَى: {وَالْأَرْضَ} : مفْرَدٌ، والمرَادُ الجِنْس، فيَشْمَلُ جَميعَ الأرْضينَ وهِي سبْع، وعُطِفت عَلَى السّمَوَاتِ وهِي منصُوبَةٌ؛ وَلِهَذا فُتِحَتْ بخلَافِ {السَّمَاوَاتِ} ؛ لأنَّهَا جَمْعُ مؤنَّثٍ سالِم.
وقوْله تَعالَى: {وَمَا بَيْنَهُمَا} : {مَا} اسْمٌ موصُولٌ معطُوفٌ عَلَى السّمواتِ، والعلَماءُ يقُولونَ أنَّه إذا تعدَّدَتِ المعطُوفَاتُ فالمعطُوفُ علَيْه هُو الأوَّل؛ لأنَّهُ المبَاشِرُ للعامِلِ وما بَعْدَه فرْع علَيْهِ، فيكُونُ العطْفُ إِذَنْ عَلَى {السَّمَاوَاتِ} ، فلَو قُلْتَ: جاءَ زْيدٌ وعمْرٌ ووبَكْر وخالدٌ وسعيدٌ، فسَعِيا معطُوفٌ عَلَى زيدٍ الأوَّلِ؛ لأَنَّهُ المباشِرُ
(1)
ذكر الجوهري في الصّحاح (4/ 1471)، ونسبه إلى الشّاعر زهير بن أبي سلمى.
ومَا بعْدَه فرْعٌ، والفرْعُ لا يُعْطَفُ عَلَى فرْع، بَل يُعْطَفُ عَلَى أصْلٍ.
وقوْله تَعالَى: {وَمَا بَيْنَهُمَا} البيْنيَّةُ لا تقتضِي التماسَّ، فقَدْ يكونُ الشّيْءُ بيْنَ الشّيئَيْن وهُوَ لا يمسُّ أحدَهما، فهنا الَّذي بيْنَ السّماءِ والأرْض لا يلزمُ أنْ يمَسَّ أحدَهما، لكنَّه يمكِن أن يمسَّ، فعَلى هَذا نقولُ:{وَمَا بَيْنَهُمَا} يشمَلُ السّحابَ والرّياحَ والنّجومَ والشّمسَ والقمرَ وغيرَ ذَلِك مِنَ المخلوقَاتِ العظِيمَةِ التي لا نعلَمُها، وفي التّنْصيصِ عَلَى ذِكْر مَا بيْنَ السّموَاتِ وَالأرْض دليلٌ عَلَى أنَّ ما بَيْنَهُما أمْرٌ عظِيمٌ يُقارَنُ بنَفْسِ السّموَاتِ وَالأرْض، وَهَذا يعلَمُهُ أهْلُ الفلَكِ الَّذِين يَطَّلِعُونَ عَلَى مَا في الأفُقِ مِنَ الآيَات العظِيمَةِ التي تدُلّ عَلَى مَا تدُلّ علَيْه مِنْ كَمالِ الله عز وجل.
وقوْله تَعالَى: {إِلَّا بِالْحَقِّ} : هَذا محَطُّ الفائِدَةِ مِنْ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، فهذَا حصْر، أيْ هَذا الخلْقُ مُقارَن بالحقِّ، فـ (الباءُ) إِذَنْ للمُصاحَبَةِ والملَابَسَةِ، أيْ أنَّ خلْقَهُ سبحانه وتعالى مصْحُوبٌ بالحقِّ؛ لأنَّهُ مُتضمِّنٌ لكَمالِ العدْلِ وكَمالِ الصّدْق، كما قامَتِ السّموَاتُ وَالأرْض إلا بالعدْل، والعدْلُ حقٌّ، وهذَا يشْمَلُ أنْ يكُونَ الغايَةُ منْ خلقِها الحقَّ ابتداء وانتهاء، كمَا قالَ سبحانه وتعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16]، وَلَوْ كانَتْ هَذِهِ السّموَاتُ وَالأرْض خُلِقَتْ لتَحْيا الخليقَةُ عليْها وتَعِيشَ وتمُوتَ بِدُونِ جَزَاءٍ ولا حِسابٍ ولا ثَوابٍ ولا عِقابٍ لكَانَ خلْقُها بَاطِلًا ولَيْس بحَقٍّ.
إِذَنْ: لا بُدَّ لهذهِ المخلُوقاتِ العظِيمَةِ أنْ يكُونَ لها غَايَةٌ، وهَذِه الغايَةُ هِيَ الحقُّ، فعَلى هَذا نَقُولُ: إِنَّ قوْله تَعالَى: {بِالْحَقِّ} يشمْلُ الابْتِداءَ والانْتِهاءَ.
وقوْله تَعالَى: {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} : معطُوفٌ عَلَى قوْلِه تَعالَى: {بِالْحَقِّ} ، يعْنِي ما خلَقَهم أيضًا إلا بأَجَلٍ مُسمًّى، أيْ مُعيَّن، والأجَلُ غايَةُ الشّيْءِ، وهُوَ مُسمًّى مِن
قِبَل الله تَعالَى، فهُو الَّذي عيَّنه، وهذَا التّعْيينُ يشْمَلُ الابتِداءَ والانتِهاءَ، فابتدَاؤُها بأجَل وانتِهاؤُها بأَجَلٍ أيضًا، فإِنَّ الله تَعالَى أَوْجَد هَذِهِ السّموَاتِ وَالأرْض بَعْدَ أنْ كانَتْ معدُومَة، وإيجادُهُ لها كَانَ بِالأجَلِ المعَيَّنِ عنْدَه، وَكَذلِكَ سوْفَ يُنْهِي السّموَاتِ وَالأرْضَ، وإنْهاؤُه إيَّاها بالأجَلِ.
إِذَنْ: كُلُّ شيءٍ عنْدَ الله عز وجل مُقَدَّرٌ، حتَّى الحوادِثُ التي تَحْدُث فِي السّمواتِ وَفي الأرْض بعْدَ خلْقِها، وإيجَادُها كُلُّه بأَجَلٍ لا يتَقَدَّمُ ولا يتَأَخَّرُ، وإِذا تأمَّلْتَ قلِيلاً عرَفْتَ بذَلِك كَمالَ قُدْرَةِ الله سبحانه وتعالى، وكيْفَ أنَّ هَذِهِ الأمُورَ والشّؤُونَ العظِيمَةَ الكثِيرَةَ كُلَّها تُدَبَّرُ بأَجَل لا يتقَدَّمُ ولا يتأَخَّرُ، فنَحْنُ مثَلاً نُقَرِّرُ أنْ نبْدأَ الدّرْسَ في السّاعَةِ الثّامِنَةِ، ولكِنْ أحيانًا نبْدَأُ السّاعَة الثّامِنَةَ والنّصْفَ، وأحْيانًا السّاعَةَ الثّامِنَةَ والثّلُثَ، فنتَأَخَّرُ وَلا يَنتظِمُ أمرُنا مَع أنَّه بَسِيطٌ، وهَكذَا كُلُّ شُؤونِ الخلْقِ لا يُمْكِنُ لأحدٍ أن يَضْبِط جَمِيعَ أعمَاله بأَجَلِها المحَدَّدِ مهْما بلَغَ فِي الحرْصِ؛ لأنَّهُ قد يَعْتَرِيه مَا لا طَاقَةَ لهُ بِه؛ فَلا يستَطِيعُ، لكِنَّ الرّبَّ سبحانه وتعالى حدَّدَ كُلَّ شيْءٍ بأَجَلِه لا يتَقَدَّمُ ولا يتَأَخَّرُ، ولا شَكَّ أنَّ هذَا مِن كَمالِ الحكْمَةِ والصّنعْ، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].
فإذَا تأمَّلْنا هَذا الكوْنَ العظِيمَ عَلَى مَا فِيه مِنَ الحوَادِث الفلَكِيَّةِ والأرْضيَّةِ والعامَّةِ والخاصَّةِ فإِنَّنا فِي الحقِيقَةِ نسْتَدِلُّ بِه دَلالَةً واضِحَةً عَلَى كَمال قُدْرَةِ المدَبِّرِ لهذَا الكوْن الخالِق لَه، وأنَّ كُلَّ شيْءٍ بِأجَلٍ.
وفي آيَةٍ أُخْرَى {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8]، فهُو أيضًا بمِقْدارٍ، فهُوَ بأَجَلِه وبمقْدَارِه، لا يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ، سُبْحانَ الله العظِيمِ.
قولُه رحمه الله: [{وَأَجَلٍ مُسَمًّى} لِذَلِكَ تَفْنَى عِنْدَ انْتِهَائِهِ وبَعْدَهُ البعْثُ]: أي:
تَفْنى السّموَاتُ وَالأرْض وما بَيْنَهُما عنْدَ انتهاءِ هَذا الأجَلِ، ثمَّ يأْتِي البعثُ.
قوُله رحمه الله: [{وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} أي كُفَّار مكَّة]: خصَّه المُفَسِّر بأَهْلِ مكَّةَ، والصّوابُ العُمُوم، فيَشْمَلُ أهْلَ مكَّةَ وغيْرَهم، فَكثِيرٌ مِنَ النّاسِ يُنْكِرُونَ البعْثَ، بلْ يُمْكِنُ أنْ نَجِد في غيرِ أهْلِ مكَّةَ مَنْ هُم أشَدُّ منْهُم إنْكارًا للْبَعْثِ، فتَخْصِيصُ العامِّ في القرآنِ أمْر لا يَنْبَغِي إلا إِذَا قَامَ الدّلِيلُ عَلَى هَذا.
وقوْله تَعالَى: {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} : اللِّقَاءُ بمعْنَى المواجَهَةِ والمقابَلَةِ، وكُلُّ إِنْسَانٍ سواءٌ مؤمنًا أو كافِرًا سوْفَ يَلْقى الله عز وجل؛ {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]؛ لأنَّهُ قالَ: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ} وَهَذا عَامٌّ، ثمَّ قالَ بعدَ قوْله تَعالَى:{فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانْشِقاق: 6 - 7]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانْشِقاق: 10]، فدَلَّ هَذا عَلَى أنَّه عامٌّ، فكُلُّ أحدٍ ملاقٍ الله عز وجل، وسوْفَ يحاسِبُه، ولكِنَّ حِسابَ الله للنَّاسِ يخْتَلِفُ، فالمؤْمِنُ يُقرِّرُه الله بذُنُوبِه، فَإِذا أقَرَّ بِها غَفَر لهُ، وأمَّا الكافِرُ - والعياذُ باللهِ - فإِنَّهُ يُخْزَى بِها ويُعاقَبُ علَيْها، وَيكُونُ هوانًا لَهُ.
والكفْرُ في اللُّغَة السّتْرُ، ومنْه سُمِّي الكفُرَّى الَّذي هُو كافُورُ النّخْل - غُلاف الطّلْع -؛ لأنَّهُ يسْتُرهُ والمرَادُ بالكفْر سَتْرُ نعمةِ الله عز وجل عَلَى المرْءِ بحَيْثُ يَعْصِيهِ إِذا أمَرَه ويجْحَدُه إِذا طلَبَ مِنْه الإِيمَان، وأنْوَاءُ الكفْر كثِيرَةٌ:
منْهَا: الكفْر المخْرِجُ عَن الملَّةِ.
ومنْها: الكفر أَي: خِصالُ كَفْرٍ، وليْس الكفْر المطْلَقِ.
وَهَذا يَرْجعُ إِلَى حَسَبِ النّصُوصِ الشّرْعِيَّةِ.
فَائِدَةٌ: الَّذي لَا يَعْمَلُ بمقْتَضَى إيمانِه فَوُجودُ إِيمَانِهِ كالعدَمِ؛ لأَنَّ الكفْرَ نَوْعَانِ:
- كُفْرُ جَحْدٍ.
- وكُفْرُ اسْتِكْبارٍ.
وقوْله تَعالَى: {لَكَافِرُونَ} : (اللام) للتوكيد، و (كافِرُون) خبَرُ إنَّ، و {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} متعلِّق بِه، وقُدِّم علَيْه لمرَاعَاةِ الفواصِلِ، ومُراعَاةُ الفواصِلِ في القرآنِ الكرِيم ظاهِر؛ لأَنَّ القرآنَ - أوْ لأَنَّ الكلامَ عامَّةً - إِذا كانَتْ لَهُ فواصِلُ متَّفِقَة يَكُونُ هَذا أنْشَطَ للنَّفْسِ وأرْغَبَ فِي استِماعِهِ وتلَاوَتهِ.
من فوائد الآية الكريمة:
الفوائِدُ الأوْلى والثَّانِيَةُ والثالِثةُ: تَوبِيخُ مَن أعْرَض عَنِ التّفكُّرِ؛ لقوْلِه تَعالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} ؛ لأَنَّ الاسْتِفْهام هُنا للتَّوبِيخِ، ويتفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الفائِدَةِ فائِدَةٌ ثانيَةُ: وهِي الحثُّ عَلَى التّفَكُّرِ، ويتفرَّع علَيْه الفائِدَةُ الثالِثةُ وهِي أهميَّةُ التّفكُّرِ؛ لأَنَّ الله لا يَحُثُّ عَلَى شَيْءٍ ويُوبِّخُ عَلَى ترْكِه إلا لما فِيهِ مِنَ الفائِدَةِ والمصْلَحِة.
الفائِدَتانِ الرّابِعَةُ والخامِسَةُ: أنَّ محَلَّ التّفْكِيرِ هُو العقْلُ؛ لقوْلِه تَعالَى: {فِي أَنْفُسِهِمْ} ، هَذا إِذا قُلْنا: إِنَّ المرَاد كَوْنُ النّفْسِ آلةَ التّفَكُّر وطرِيقَ التّفَكُّرِ.
أمَّا إِذا قُلْنَا أنَّها محَلُّ التّفَكُّر فيُستَفاد منِه فائِدَةٌ وهِي عظِيمُ صُنْعِ الله عز وجل في نَفْسِ الإنسان، ومَا أوْدَعهُ فِيه مَنَ العجائِبِ، وإِذا أرَدْتَ أنْ تعْرِفَ ذَلِك فاذْهَبْ إِلَى أهْلِ العلومِ والطّبِّ تجدْ في جِسْمِك العجَبَ العجابَ، فهَذا الطّعامُ الَّذي تأْكُلُه يتحَوَّلُ إِلَى دَمٍ، ويتَوزَّعُ عَلَى الجسْمِ بحسَبِ أنْسِجَتِه، فتُعطَى الأعْصابُ كمِّيَّةً تلِيقُ بِها، ويُعطَى اللَّحْمُ كمِّيَّةً تلِيقُ بِه، وتُعطَى العظَامُ كميَّةً تلِيقُ بِها، فهَذِه الأنَابِيبُ الدّقِيقَةُ مثْلَ الشّعْرِ توزِّعُ عَلَى هَذا الجسْمِ بقَدْرِ ما يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وقَدْ ذَكر ابْنُ القيِّم رحمه الله في كتابِ (مِفْتَاحُ دَارِ السّعادَةِ) مِنْ هَذا شيئًا كثيرًا، وهَذا قَبْلَ أنْ يَرْتَقِي الطّبُّ إِلَى ما ارْتَقى إِلَيْهِ اليَوْمَ.
الفائدة السّادِسة: أنَّ خالق السّموَاتِ وَالأرْض هُو الله؛ لقوْلِه تَعالَى: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ، فلَمْ يخْلُقْهُما أحَدٌ، وَلِهَذا قَال فِي سُور الطّورِ {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 36].
الفائدة السابعة: إثْبَات تعدُّدِ السّموَاتِ وهِي سَبع، وأمَّا الأرْض فَهِي دَائِما تُفْرَدُ فِي القرآنِ، ومَا ذُكِرَتْ في القرآنِ مجمْوعَةً، لكِنْ أُشِير إِلَى أنَّها جَمْعٌ فِي قوْله تَعالَى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12].
الفائِدَةُ الثّامِنهُ: أنَّ بَيْن السّموَاتِ وَالأرْض مِن المخْلُوقاتِ العظِيمَةِ مَا استَحَقَّ أنْ يُجْعَل قَسِيمًا لخَلْقِ السّموَات وَالأرْض، لقولِه تعالَى:{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} ، وهَذِه ثلاثَةُ أشْيَاءِ:(السّموَاتُ، وَالأرْض، ومَا بَيْنَهُما)، وكُلُّنا يعْلَم عِظَم الأرْض وعِظَمَ السّماءِ، إِذَنْ: فعِظَمُ مَا بَيْنَهُما مُوازٍ لهُما.
الفائِدَتَانِ التّاسِعَةُ والعاشِرَةُ: عِظَم قُدْرَةِ الله عز وجل وبَالغ حكْمَتِه، أمَّا الحكْمَةُ فنَأْخُذُها مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى:{إِلَّا بِالْحَقِّ} ، فهِي ليْسَتْ عبَثًا بِل بالحقِّ، أمَّا القُدْرَة فنأْخُذُها مِن عِظَم المقْدُورِ، فعِظَمُ المقْدُورِ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الخلْقِ، وَهَذا مِنَ الدّلالَةِ بِاللَّازِم، وَإِنَّ الله إِذا فتَحَ عَلَى العبْدِ مَعْرِفَةُ لوَازِمِ النّصوصِ اسْتَفادَ بِذَلِكَ فوَائِدَ عظِيمَة، حتَّى أنَّه يأْخُذُ مِنَ النّصِّ الوَاحِدِ مِنَ المسَائِلِ مَا لا يَأْخُذُ غيرُه نِصْفَها أوْ أقَلَّ.
الفائدة الحادية عشرة: أنَّه ينْبَغِي لِلإِنْسَانِ أنْ لا يُضيِّعَ وقتَهُ سبَهْلَلاً
(1)
وسُدًى؛
(1)
قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط (ص: 1309): "يَمْشِي سَبَهْلَلاً: إذا جاء وذهَبَ في غيرِ شيءٍ".
نأْخُذُه مِنْ قَوْلِهِ: {إِلَّا بِالْحَقِّ} ؛ لأَنَّ ضِدَّهُ الباطِلُ، والباطِلُ إِمَّا ضارٌّ وإِمَّا غيرُ ضارٍّ ولَا نافِعٍ، وكُلُّ لهوٍ يلْهُو بِه ابْنُ آدَم فهُوَ بَاطِلٌ إلا كَذا وكَذا
(1)
.
والمُهِمُّ: أنَّه ما دَامَتِ السّموَاتُ وَالأرْض كُلُّها خُلِقَتْ بالحقِّ والجدِّ والصّدْقِ والثّباتِ فيَنْبغِي لكَ أنْ تكُونَ موافِقًا لهذِه الحكْمَةِ التي مِنْ أجْلِها خُلِقَتِ السّموَاتُ وَالأرْض.
الفائِدَتانِ الثّانِيَةَ عشْرَةَ والثالِثةَ عشْرَةَ: أنَّ هَذا الخلْقَ عَلَى عِظَمِه لَه أَجَلٌ محدُودٌ؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَأَجَلٍ مُسَمًّى} أي مُعَيّنٍ، وكلُّ شيءٍ في السّموَاتِ وَالأرْض كُلِّيًّا كَان أمْ جُزْئِيًّا فإِنَّهُ مُحَدَّدٌ إِلَى أجَلٍ مُسَمًّى، وسوَاءٌ كانَ ذَلِك عيْنًا أَوْ صِفَةً فإِنَّها محدَّدَة إِلَى أجَلٍ مُسَمًّى؛ وَمن الحكَم المشْهُور (دَوَامُ الحالِ مِنَ المحَالِ)، وَهَذا يتفَرَّعُ علَيْه فائِدَةٌ أُخْرَى وَهِي أنَّ الخلْقَ ناقِصٌ، حيْثُ لم يُقَدَّر لَهُ الأبَدِيَّةُ، فَهُوَ نَاقِصٌ، وَلِهَذا تأْتِي الحيَاةُ الآخرةُ كامِلَةً؛ لأنَّهَا مؤَبَّدَةٌ.
الفائدة الرابعة عشرة: كَمالُ الحكْمَةِ؛ حيْثُ كانَ كُلُّ شيْءٍ لَهُ أجَلٌ مقَدَّرٌ منَظَّمٌ، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8]، والمقْدَارُ يشْمَلُ مِقْدَارَ الكمِّيَّةِ ومِقْدَارَ الكيفيَّةِ ومِقْدَارَ الزّمنِيَّةِ ومِقْدَارَ المكَانِيَّةِ، فكُلُّ هذِه الأنواعِ الأرْبَعَةِ يشْمُلُها قوْلُه تَعالَى:{وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8].
الفائدة الخامسة عشرة: أنَّه مَع هَذِهِ الآيَات العظْمَى - خَلَقِ السّموَاتِ وَالأرْض وما بَيْنَهُما، وتأَجِيلِ ذَلِك بأجَلٍ مُسَمًّى، وتقْدِيرِه بتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ - كَثِيرٌ مِن النّاسِ يُنْكِرُون لِقاءَ الله.
(1)
كما ورد في الحديث: "كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرّجُلُ المسْلِمُ بَاطِلٌ إلا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ الحقّ"، أخرجه التّرمذي: كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل الرّمي في سبيل الله، رقم (1673).
والحقِيقَةُ أنَّ العاقِلَ يَسْتَدِلُّ بِهَذا التّأجِيلِ عَلَى وُجوبِ لِقَاءِ الله إِذَا رَأَى أصْحابَهُ وقُرنَاءَه الَّذِين كانُوا بالأمْسِ معَهُ يذْهَبُون واحِدًا فَواحِدًا، فَلا شكَّ أنَّ هذَا يحْمِلُه عَلَى الإِيمَان؛ لأنَّهُ يعْلَمُ أنَّه لَو دامَتِ الدّنيا لأَحَدٍ مَا وصَلَتْ إِلَيْهِ، فإنَّها مَا وصلَتْ إِلَيْك إلا بعْدَ أنْ خلَّفَتْ غيرَكَ.
إِذَنْ: يُستْدَلُّ بهذِه الآجالِ المقَدَّر عَلَى أنَّه لا بُدَّ أنْ يكُونَ هُناكَ شيْءٌ ورَاء هَذا كلِّهِ، ومنَ المؤَكَّد أنَّه ليْسَ مِن الحكْمَةِ أنْ تُنْشَأَ هَذِهِ الخلِيقَةُ العظِيمَةُ، وَبِهذَا النّظَامِ البدِيعِ، ثمَّ تكُونُ النّهايَةُ أنْ يَمُوتَ الإنسان كَجِيفَةِ حِمَارٍ؛ وَلِهَذا قالَ الله تَعالَى:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، فهَذِه الشّرائِعُ التي نزَلتْ لا بُدَّ أنْ يكُونَ وراءَها شيْءٌ وهُوَ البعْثُ الَّذي بِه لِقَاءُ الله عز وجل، لكِنْ مَع هَذا {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} .
الفائدة السادسة عشرة: إثْبَات البعْثِ المفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى: {بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} .
الفائدة السابعة عشرة: أنَّ كُلَّ أحَدٍ سيُلاقِي الله عز وجل؛ نأْخُذُه مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى: {بِلِقَاءِ رَبِّهِم} ، وقَال تَعالَى فِي سُورَةِ الانْشِقاق:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6].
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: هَل هَذا اللِّقاءُ شامِلٌ للمُؤْمِنِ والكافِر؟
قُلْنَا: نَعَمْ، لكِنْ هُناكَ فَرْق بيْنَ اللِّقائَيْنِ، كَما أنَّ الرّجُلَ يُلاقِي زْيدًا ويُلاقِي عَمْرًا وَيكُونُ بَيْن اللِّقائَيْنِ فَرْقٌ عظِيمٌ، فَيُلاقِي هَذا بِوَجْهِ غَضَبٍ، ويُلاقِي هَذا بوَجْهِ رِضًا، وَهَذا بِوَجْهِ انْقبَاضٍ وَهَذا بِوَجْهِ انْبِسَاطٍ، ومَا أشْبَهَ ذَلِكَ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَلِ المرادُ باللِّقاءِ هُنا اللِّقاءُ المجَرَّدُ أَم المرادُ بِه الرّؤيةُ؟
قُلْنَا: المرْادُ باللِّقاءِ الموَاجَهَةُ، لكِنَّها بَعْد البعْثِ، فمِنْ لازَمِها البعْثُ، أمَّا مسأَلةُ الرّؤْيَةِ فاللهُ أعْلَمُ؛ لأَنَّ الله سبحانه وتعالى ذَكر فِي الكفَّارِ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
الفائدة الثامنة عشرة: إثْبَات الرّبُوبِيَّة العامَّةِ، لقوْلِه تَعالَى:{بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ} ، معَ أنَّه يتكَلَّمُ عَن الكافِرِينَ، فَهِي الرّبُوبِيَّة العامَّةُ.
والرّبُوبِيَّةُ تنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: عامَّةِ وخَاصَّةٍ، وقَدِ اجْتَمعَا فِي قوْلِه تَعالَى:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121 - 122]، فالأُولى عامَّةٌ والثّانِيَةُ خاصَّةٌ، والفرْقُ بَيْنَهُما أنَّ الرُّبوبِيَّةَ العامَّةَ تَسْتَلْزمُ التّصرُّفَ المطْلَقَ فِي المرْبُوبِ، والخاصَّةُ تسْتَلْزِم مَع التّصرُّفِ المطْلَقِ العنَايَةَ بِهِ ونصْرَه وتأْيِيدَهُ ومَا أشْبَه ذَلِك، ومِثْلُ هذَا نقُوُله فِي المعِيَّةِ العامَّةِ والخاصَّةِ، ومَسائِلَ كثِيرةٍ مِن هَذا النّوْعِ.
الفائدة التاسعة عشرة؛ ذَمُّ مَن كَفَرُوا بِلِقاءِ الله عز وجل مَع آيَاتِهِ العظِيمَةِ الدّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وحِكْمَتِه؛ لقوْلِه عز وجل: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} ، وهَذِه الجمْلَةُ بِلا ريبِ تدُلّ عَلَى الذّمِّ.