الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (44)
قَالَ اللهُ عز وجل: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} [الروم: 44].
* * *
* قوْله تَعالَى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} يقول المُفَسِّر رحمه الله: [وَبَالُ كُفْرِهِ وَهُوَ النَّارُ] هَذَا كالتّفسير لقوْلِه تَعالَى: {يَصَّدَّعُونَ} لأَنَّ معنى {يَصَّدَّعُونَ} يتفرقون بحسب أعماْهم.
قوْله تَعالَى: {مَن} شرطية، وفعل الشّرط {كَفَرَ} وجوابه جملة {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} وقوْله تَعالَى:{فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} جملة خبرية مكونة من مبتدأ وخبر، المبتدأ قوْله تَعالَى:{كُفْرُهُ} والخبر قوْله تَعالَى: {فَعَلَيْهِ} مقدم، وفائدة التّقديم الحَصْرُ.
قوْله تَعالَى: (وَمَنْ عَمِلَ صَلِحًا فِلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} مثلها شرطية وجواب الشّرط قوْله تَعالَى: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} وقُدِّم المعمولُ {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} للحَصْرِ وَهِيَ فائدة معنويةٌ ولمراعاة الفواصل وَهِيَ فائدة لفظية؛ لأَنَّهُ لو قَالَ فيمهدون لأنفسهم استقام الكلام لكِنَّهُ قُدِّم لهاتين الفائدتين.
يقول الله عز وجل: {مَن كَفَرَ فَعَلَيهِ كُفْرُهُ} يعني أَيَّ إِنْسَان يكفر فإنَّ وَبَالَ كفره علَيْه لا يضر إِلَّا نفسه، وهل يَكُون عَلَى غيره؛ لا يَكُون عَلَى غيره أِلَّا أنْ يكُونَ ذَلِك الغير سببًا فيه، فإن كَانَ سببًا فِيهِ صَارَ علَيْه مثل وزره قَالَ الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا
أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، وقال سبحانه وتعالى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وثبت عن النَّبيّ عليه الصلاة والسلام أَنَّ "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"
(1)
.
فإذا قِيلَ: هل هَذَا يناقض الآية {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفرُهُ} ؟
فالجوابُ: لا يناقضها لأنهُ إِذَا كَانَ هُوَ السّبب فإن ذَلِك من عمله لكن صورة المَسْأَلة مختلفة أنَّه عمل غيره وعمل نفسه، إنما حقيقة الأمر أن الدّال عَلَى الكفر فاعل لما يؤزر عليه.
قوْله تَعالَى: {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفرُهُ} الكفر فِي اللُّغَة العرَبِيَّة هُوَ السّتر ومنه الكُفُرَّى الَّذي هُوَ غلاف طَلْعِ النّخل، فالكفر فِي الأصل هُوَ هَذَا والمُرَاد بِهِ الخروج عن طاعة الله، لأَنَّ الخارج عن طاعة الله قد ستر مَا أنعم الله بِهِ علَيْه من العقل والعِلْم وما أشبه ذلك.
وقوْله تَعالَى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} قَالَ أهل العلم: العمل الصّالِح هُوَ مَا جمع شرطين أساسيين أحدهما الإِخْلاص والثّاني المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والإِخْلاص ضده الشّرك، والمتابعة ضدها الابتداع فمثلًا إِذَا وجدنا رجلًا يصلي الصّلاة المعتادة لكِنَّهُ يرائي النَّاس بِهَا فعمله لَيْسَ بصالح لأنه فقد الإِخْلاص، وَإِذَا وجدنا رجلًا قد أحدث نوعًا من العبادات لم يُرِدْ بِهِ الشّرع لكِنَّهُ مخلص يريد بِذَلِكَ وجه الله وتجده خاشعًا يبكي ويتأثر بهذه العبادة لكنها عَلَى غير شريعة الله فَهَذَا عبادته باطلة،
(1)
أخرجه مسلم: كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، رقم (1017).
لفقد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن ذَلِك مَا إِذَا أخرج العبادات المشروعة عما شرعت عليه، وَهِيَ عبادة مشروعة فِي الأصل لكن أخرجها عما كانت علَيْه، فإِنَّهُ لا يُقبل عمله كما لو صلى الصّلاة بعد خروج وقتها متعمدًا بدون عذر فَهَذَا لا يقبل مِنْهُ لأَنهُ لا توجد متابعة هُوَ مخلص لكِنَّهُ غير متابع، وَكَذلِكَ لو صلى صلاة لا يطمئن فِيهَا إِذَا قَالَ:(سمع الله لمن حمده) سجد بسرعة إِذَا قَامَ من السّجود سجد الثّانية بسرعة فصلاته باطلة، لو صلى إِلَى يَوْم الدّين مَا قَبِلَ الله مِنْهُ لعدم المتابعة، وَلهذا لما صلى رجل صلاة لا يطمئن فِيهَا قَالَ لَهُ الرَّسول صلى الله عليه وسلم:"ارْجعْ فَصَلّ فَإِنَّكِ لَمْ تُصَلّ"
(1)
، فنفى عنه الفعل لانتفاع صحته وإلَّا فإِنَّهُ قد صلى لكنها ليست صلاةً، ولو سألتَهُ لماذا صليتَ؟ قَالَ: مَا صليتُ إِلَّا لله، لكِنَّهُ خَالَفَ أمْرَ الله.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل هَذَا يُنافي الإِخْلاص؟
قُلْنَا: لا ينافي الإِخْلاصَ، فالإِخْلاصُ فِي القلب، وَهُوَ مَا قَامَ يصلي من أجل النَّاس، ولا همُّه النَّاس، فَهُوَ صلى لله، لَكِنَّهُ خالَف أمر الله.
لَوْ قَالَ قَائِل: هل يلزم المصلي أن يفقَه مَا يقولُ؟
قُلْنَا: لَيْسَ بلازم لكِنَّهُ أفضل إِذَا فقه مَا يقول، فإذا كَانَ قلبه حاضرًا يعني خاشعًا فِي صلاته وحاضر القلب فَهُوَ أفضل.
وهل المصلي يَكُون خشوعه فِي أمور داخلَ الصَّلاة أم خارجَها؟
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، رقم (793)، ومسلم: "كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإنه إذا لم يحسن الفاتحة، ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، رقم (397).
الجوابُ: يخشع فِي أمور داخل الصَّلاة يعني يستحضر مَا يقول فِي صلاته وما يفعل فِي صلاته، فمثلًا لا يذهب يتذكر جلسة كَانَ خاشعًا فِيهَا فيما سبق.
لو قِيلَ: المصلي قد يتذكر القبور والجنة والنار، فهل يصح؟
الجواب: لا يصح إِلا إِذَا مرَّتْ بِهِ أثناء قراءته.
قوْله تَعالَى: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} المهد والتَّمهيد بمعنى التوطئة، ومنه قولهم هَذَا طريق مُمَهَّدٌ يعني موطأ مُحَسَّن لأجل أن تطأه الأقدام فمعنى {يَمْهَدُونَ} أي يحسنون الشيْءَ حتَّى يَكُون موطئًا لَهُم، وَذَلِكَ لأَنَّ الذِّين يعملون صالحًا يتوصلون بعملهم الصَّالِح إِلَى دخول الجنَّةَ فيسهل لَهُم الطَّرِيقِ الَّذي يوصلهم إليها.
وقوْله تَعالَى: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} تقديم المعمول يفيد الحَصْرَ.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: هل هَذَا ينافي مَا ثبت فِيهِ الحديث من أن "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فِي الإسْلامِ فلَهُ أَجْرُها وأجْرُ مَنِ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْم القِيَامَةِ"
(1)
؟
قُلْنَا: لا ينافيه؛ لأَنَّ الَّذِين يسنونَ الحسناتِ عملوا فتُوبِعُوا عَلَى ذَلِك، فالأجر الّذي حصل لَهُم من أجل اتباع غيرهم لَهُم هُوَ فِي الحقيقة من فعلهم.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائِدَةُ الأولَى: الجمعُ بَيْنَ التَّرغيب والتَّرهيب، فالتّرهيب في قوْله تَعالَى:{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} والتَّرغيب فِي قوْله تَعالَى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} .
الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: أن شؤم الكافر لا يتعداه إِلَى غيره؛ لقوْلِه تَعالَى: {مَن كَفَرَ
(1)
أخرجه مسلم: كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، رقم (1017).
فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} وتقديم الخبر يدل عَلَى الحصْرِ.
الفائِدَةُ الثَّالثةُ: أنَّه لا يتم الثّواب إِلَّا بالعمل الصّالِح المبني عَلَى أمرين وهما الإِخْلاص لله تَعالَى والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم لقوْلِه تَعالَى: {وَمَن عَمِلَ صَلِحًا} .
الفائِدَةُ الرابعةُ: أن الحزْمَ والكِيَاسَةَ فِي العمل الصّالح لقوْلِه تَعالَى: {فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} ؛ لأنهم إِذَا فعلوا ذَلِك استراحوا فِي المستقبلِ إذ إنهم وطئوا لأنفسهم منزلًا هُوَ خير المنازل، وقد ذكرنا الجمع بَيْنَ قوْله تَعالَى:{مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ فِي الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"، وقوْله تَعالَى:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، وقوْله تَعالَى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] وذكرنا فِي الجمع أنهم هم السَّبَبُ.
* * *