الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (7)
قَالَ اللهُ عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].
قال المُفَسِّر رحمه الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أَيْ مَعَايِشهَا مِنْ التّجَارَة وَالزّرَاعَة وَالبنَاء وَالغرْس وَغَيْر ذَلِك {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} إعَادَة هُمْ تأكيد] اهـ.
قوْله تَعالَى: {يَعْلَمُونَ} خَبَرٌ ثانٍ لـ (لكنَّ)، والخبَر الأوَّلُ {لَا يَعْلَمُونَ} ، وقِيل أنَّه بدَلٌ مِنْ قوْلِه تَعالَى:{لَا يَعْلَمُونَ} ، ورُدَّ هَذا القوْلُ لأَنَّهُ لا يُبْدَلُ المثبَتُ مِن المنَفِيِّ للتَّضادِ، فَكيْفَ تُبْدِلُ شيْئَا مثبَتًا مِن شيْءٍ مضَادٍّ لَه، وعَلى هَذا فَإِنَّ {يَعْلَمُونَ} الثّانيَةَ خبَر ثانٍ لـ (لكنَّ)، وتعَدُّد الخبَر جائِزٌ.
قوْله تَعالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} سبحانَ الله العظيمِ! أثْبَت لَهُمُ العلْمَ لكِنَّهُ علْمٌ قاصِرٌ مِن وجْهَيْنِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهم إِنّما يعلَمُونَ ظاهِرًا مِن الحياةِ الدّنْيا، لَا باطِنًا، وكَمْ مِنَ الأمورِ الخفِيَّةِ في هَذِهِ الحيَاةِ لا يعْلَمُها أُولئكَ الكفَّارُ، فالكفَّارُ لا يعْلَمُونَ كُلَّ خفِيٍّ في هَذِهِ الدّنيا، والدّليلُ عَلَى هَذا تطوُّرُ الصّنائعِ والمختَرعاتِ لأَنَّ هَذا التّطوُّرَ بالنّسبَةِ للسَّابِقينَ غيْرُ معلومٍ، ثمَّ سيَأْتِي تطوُّر آخَرُ يكونُ بالنّسبَةِ للمَوْجُودِينَ غيرَ معلومٍ.
إِذَنْ: هُم إنما {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فلَا يعْلَمُون كُلَّ مَا في الدّنيا مِن ظَاهِرٍ وبَاطِنٍ.
الوَجْهُ الثَّاني: أنَّهم يعلَمونَ {ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وليْسَ كلَّ ظاهِرٍ، وفرْقٌ بينَ أنْ يعْلَمُوا كلَّ ظاهِرٍ مِن الحياةِ الدّنيا وأنْ يعْلَمُوا الظّاهِرَ مِن الحيَاةِ الدّنيا وأنْ يعْلَمُوا ظاهِرًا منهَا، فالتّعبِيرُ يكُونُ عَلَى هَذِهِ الوُجُوهِ، والأخِيرُ يعني أنَّهم لَا يَعْلَمُونَ كُلَّ ظاهِرٍ إِنما يعْلَمُون ظاهِرًا منْهَا فقَطْ، وأنَّ هناك ظَواهِرَ أخْرَى لَا يعْلَمُونَها أيضًا، فعُلم بِهَذا قُصُورُ عِلْمِ هَؤُلاءِ، فهُمْ فِيما يتعلَّقُ باللهِ جَلَّ وَعَلَا جُهَّالٌ لا يعلمونَ، وفِيما يتعلَّق بالدّنْيا إنَّما يعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحيَاةِ الدّنيا فقَطْ.
أمَّا فِيما يتعلَّقُ بالآخرةِ فيقولُ تعالَى: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} ، وهذَهِ جمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ أُكِّد فِيها المبتدأُ (هم) بتكرارِه، فـ (هُم) الثّانية توكِيدٌ للأُوْلى، ولَو حُذِفَت وقيلَ:(وَهُم عَن الآخرةِ غَافِلُون) كانَ الكلامُ مستقيمًا، لكنَّه كُرِّر للتَّوكِيد، يَعْني هُم بالنّسْبَة لأُمُورِ الآخرة غافِلُون مُعْرِضُون عنْها لا يُفكِّرونَ فِيها، تَجِد الواحِدَ منْهُم في أُمُور الدّنيا فتَنبَهِرُ مِن علْمِه بِها، ولكن فِي أُمورِ الآخرةِ عنْدَه غفْلَةٌ لا يُفكِّر فِيها، ولَا يُحاوِلُ أن يُعمِلَ فِكْرَهُ، ولا أنْ يَنْظُرَ في هَذا الخلْقِ العظِيم، غَافِل عنْ مَاذا يكونُ مآلُه؟ وكَيْف خُلِق؟ وإِلى أيْنَ ينتهي؟
وقالَ الله تَعالَى في آيةٍ أخْرَى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 63]، يعْني مِنْ أَمْر الإِيمَان باللهِ وبِرَسُولِه صلى الله عليه وسلم، {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أعمَالٌ أخْرَى، {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63]، يُدرِكونَها تمامًا، لكِنْ في أمْرِ الإِيمَان باللهِ واليَوْمِ الآخر قلوبُهم في غمْرَةٍ؛ وَلِهَذا يجِدُ جزاءَ هذهِ الغمرةِ إِذا قِيلَ لَهُ:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]، وَهَذا يكُونُ يوْمَ القيامَةِ.
المُهِمُّ: أنَّ هَؤُلاءِ الَّذِين غَفَلُوا عن الله سبحانه وتعالى وعَنِ الآخرة عنْدَهم عِلْمٌ مِنَ الحياةِ الدّنيا، راجِعِ الآن الصّنائِع تجِدْ شيْئًا يُبْهِرُك لكِنْ مِنْ قَوْمٍ هُم في أمْرِ الآخرةِ أُمِّيونَ لَا يعْلَمُونَ شيْئًا؛ لأنَّهُم - والعياذُ باللهِ - عنْدَهم غفْلةٌ وَلِهَذا تتعجَّبُ: كيْفَ يَصِلُ هؤُلاءِ إِلَى الأجْواءِ ويصْنَعونَ الطّائراتِ والآلاتِ الغرِيبَةَ، ومَع ذَلِك ليْسَ عنْدَهُم عِلْمٌ بِاللهِ واليَوْمِ الآخر، فلَو سألتَ الطّفل مِن المسْلِمينَ أجابَك، ولو سألت أكبْرَ واحدٍ منْهُم مِن المختَرِعِينَ ما أجَاب، وَذَلِكَ فضْلُ الله يُؤتيهِ مَنْ يشَاءُ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هلِ الضّمِيرُ في قوْله تَعالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعودُ عَلَى الكفَّار أمْ يعُودُ عَلَى غيرِهم مِن المسْلِمينَ الغافِلِينَ؟
قُلْنَا: يَعُود عَلَى الكفَّارِ؛ لأَنَّ المقْصُودَ بِهَذا تأْكِيدُ الذّمِّ في حقِّهم، وإلّا فحَتَّى المؤمِنُون لا يَعْلَمُونَ إلا ظاهرًا مِنَ الحيَاةِ الدّنيا، بِدَليلِ قوْلِه سبحانه وتعالى:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بعْضُ المسْلِمينَ غافِلُون عَنْ أكْثَرِ أُمورِ الدّينِ، ولكنَّهُم عالمونَ بأمُور دُنياهُم؟
قُلْنَا: هذَا صحِيحٌ، وَهَذا فِيه شبَهٌ مِنَ الكفَّارِ حيْثُ حقَّق أمورَ الدّنيا، وأَعْرضَ عَن أُمورِ الآخرةِ.
الحاصِلُ: أنَّ المقْصُودَ مِن هَذا تأكِيدُ الذّمِّ بِالنّسبَةِ لهُم، هَؤُلاءِ الَّذِين جهِلُوا باللهِ وصِدْقِ وعدِه لا لِقُصورٍ فِيهم أَو في أفْهامِهِمْ، لكِنْ لغَفْلَتِهم، وإلَّا فإنَّ المؤمنِين أيضًا يعْلَمُون ظَاهرًا مِن الحيَاةِ الدّنيا ولَا يعْلَمونَ كُلَّ شيْءٍ، لكنَّ المؤمنِين معَهُم عِلْمٌ باللهِ وأسمائِهِ وصِفَاتِهِ وحِينَئِذٍ لا يكُونُ هَذا نقْصًا فِيهم، إِنما مَحَطُّ النّقْصِ هُو أنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْلَمُونَ ما يتعلَّقُ بالإِيمَان باللهِ، ويَعْلَمُون ظاهِرًا مِنَ الحيَاةِ الدّنْيا.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَل الكفَّارُ يُؤمِنُون بوجُودِ الله أمْ يُنْكِرونَ وُجودَه؟
قُلْنَا: يخْتَلِفُون، فمِنْهم مَن يُنْكِرُ وُجودَ الله، ومِنْهُم مَن لَا يُنْكِرُ، لكِنَّ الَّذي لا يُنْكِرُ وُجُودَ الله ويُؤْمِنُ بِوجُود الله ثمَّ يَعْبُد غيرَهُ ويُشْرِكُ فهَذا مُتَناقِضٌ.
من فوائد الآية الكريمة: :
الفائدة الأولى: قُصُور عِلْم المرْءِ؛ لقوْلِه تَعالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، ليْسَ كُلَّ الظّاهِر، وليْسَ الباطِنَ، فالمرْءُ علْمُه قاصِرٌ حتّى في أُمورِ الدّنيَا أيضًا، فَلا يمْكِنُ للمَرْء الإحَاطَةُ بعِلْمِ الدّنْيا.
الفائدة الثانية: ذَمُّ الَّذِين يتكالَبُون عَلَى العلومِ الدّنْيويَّة مَع غفْلَتِهم عَن الآخرةِ؛ لقوْلِه تَعالَى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} .
الفائدة الثالثة: أنَّها تتضمَّنُ مدْحَ مَنْ يُقْبِلونَ عَلَى الآخرةِ، ويَحْرِصُونَ علَيْها وإِنْ فَاتهم شيْءٌ مِنْ أُمورِ الدّنيا؛ لأنَّهُ إذَا ذَمَّ مَن كانَ عَلَى العكْس فذَمُّ الضّدِّ مدْحٌ لضِدِّه، فالَّذِين يُقْبِلُونَ عَلَى الآخرةِ - وإِنْ كانَ ليْسَ عنْدَهُم إلا عُلُومٌ قليلَةٌ مِن الدّنيا - أكمَلُ بكَثِيرٍ مِنَ الَّذِين يُقْبِلُون عَلَى الدّنيا ويَغْفَلُونَ عنِ الآخرةِ، وَهَذا ما تدُلّ علَيْه هَذِهِ الآيَات.