الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (42)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم: 42].
* * *
* قال المُفَسِّر رحمه الله: [{قُلْ} لكفار مكَّة {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ}].
الخطاب فِي قوْله تَعالَى: {قُلْ} للرسول عليه الصلاة والسلام ويحتمل أنْ يكُونَ لَهُ ولكل من دعا إِلَى شريعته ودعا النَّاس إِلَى الاتعاظِ والاعْتِبار.
وقوْله تَعالَى: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} السَّير معناه المشي و {فِى} بمعنى (على) يعني عَلَى الأرْض وليس المُرَاد فِي داخلها وقِيلَ: إن {فِى} للظرفية، وإن الظّرف يختلف بحسب المظروف وبحسب الظّرف أيضًا يعني مثلًا إِذَا قلنا الماء فِي الكوز صَارَ فِي جوف الكوز، هُوَ والكأس أو الطّاسة أو القدر فهنا صَارَ الماء فِي جوفه، وَإِذَا قلنا الكتابة فِي الورق اختلف، وَإِذَا قلنا الوجه فِي المرآة اختلف، فيرى بعض العلَماء أن {فِى} هنَا للظرفية ولكن ظرف كل شيء بحسبه، والسّير المأمور بِهِ هُنَا لا أحد يتصور أن المُرَاد احفروا لكم خندقًا فِي الأرْض وادخلوا فِيهِ لا أحد يتصور هَذَا فهنا وجهان فِي كلمة {فِى}:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أن تُجعل بمعنى (على) سيروا عَلَى الأرْض أي عَلَى ظاهرها.
الوَجْهُ الثَّاني: أن تُجعل {في} للظرفية ويُقَال إن الظّرفية فِي كل مكان بحسبه هَذَا تفسير {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} .
وهل المُرَاد السّير بالأقدام أو السّير بالعقول والتّفكير؟
يشمل السّير بالأبدان بأن يذهب الإنسان إِلَى مساكن القوم ليتعظ ويعتبر أو السّير بالقلوب بأن يقرأ تواريخهم وأحداثهم حتَّى يعتبر بها، وكم من سير بالقلب صَارَ أعظم من السّير بالقدم ولكن السّير بالقدم لأجل التّفرج والنّزهة هَذَا محرم كما يفعله بعض النَّاس الآن، يذهبون إِلَى ديار ثمود من أجل التّفرج والنّزهة والاطِّلاع عَلَى مَا لهم من قوة سابقة مَعَ أن الرَّسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاءِ القَوْمِ إِلا وَأنتُمْ بَاكُونَ، فَإنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلا تَدْخُلُوهَا"
(1)
، أين الَّذِين يذهبون إِلَى ديار ثمود وهم يبكون والرَّسول صلى الله عليه وسلم لما مر بِهَا فِي ذهابه إِلَى تبوكَ مشى مسرعًا وقَنَعَ رأسه: نَزَلها عليه الصلاة والسلام وأسرع وَعَلَى هَذَا فنقول إِذَا سرت فِي أرض هَؤُلاءِ المعاقبين فسر سير متعظ معتبر كما أمر النَّبيّ عليه الصلاة والسلام.
قوْله تَعالَى: {فَانْظُرُواْ} نظر اعتبار وتفكر أو نظر عين؟
عَلَى حسب مَا قلنا فِي السّير إن كَانَ سيرًا بالقدم فَهُوَ نظرٌ بالعين، وإن كَانَ سيرًا بالقلب فَهُوَ نظر بعين البصيرة: التّفكر والتّامل، ويمكن أن نقول أيضًا حتَّى إِذَا فسرنا السّير هُنَا بالسّير الحسي عَلَى الأقدام فإِنَّهُ لا بُدَّ أنْ يكُونَ مقرونًا بالنّظر بعين البصيرة والاعْتِبار إذ النَّظر بالعين المجردة لا يفيد شيئًا.
(1)
في قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ المعَذَّبينَ إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ"، أخرجه البُّخاري: كتاب الصّلاة، بابَ الصّلاة في مواضع الخسف والعذاب رقم (433)، ومسلم: كتاب الزّهد والرّقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذّين ظلموا أنفسهم إلَّا أن تكونوا باكين، رقم (2980).
قوْله تَعالَى: {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} : {كَيْفَ} محلها النّصب خبرًا لـ {كَانَ} مقدمًا، و {عَاقِبَةُ} اسم {كَانَ} والجملة مُعَلِّقَة عن العمل مُعَلِّقة لكلمة (انظروا) الجملة المعَلِّقة فِي تأويل الاسم المفرد والتّقدير فانظروا حالهم كَيْفَ كان.
وقوْله تَعالَى: {عَاقِبَةُ} هُنَا مصدر وَلِهَذا ذُكِّرَ الفعل أي بمعنى عقبى.
قوْله تَعالَى: {مِنْ} حرف جر {قَبْلُ} مبنية عَلَى الضّم لقطعها عن الإضافة حُذِف المضاف ونوي معناه فتبنى عَلَى الضّم لأنهم يقُولونَ فِي (قبل) و (بعدُ) إن وجد المضاف لفظا فهي معربة غير منونة، وإن حذف لفظًا ومعنى فهي معربة منونة، هذان حالان متقابلان إِذَا وجد المضاف إِلَيْهِ فهي معربة غير منونة، تقول أتيت من قَبْلِ زيد ومن بَعْدِه، وَإِذَا حُذِفَ الضاف لفظًا ومعنى فهي معربة منونة، وَإِذَا حُذِفَ المضافُ إِلَيْهِ ونوي لفظه فهي معربة غير منونة كما لو وجد لفظه، وَإِذَا حذف المضاف إِلَيْهِ ونوي معناه فهي مبنية عَلَى الضّم ولها أربع حالات.
قوْله تَعالَى: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} كأن الإنسان يتوقع {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ} أهلكوا وأتلفوا وما أشبه ذَلِك ولكن البيان جاء عَلَى غير المتوقع ماذا تتوقع أنْتَ لما قالَ الله تَعالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [فاطر: 44]؟ تتوقع أهلكناهم ودمرناهم وما أشبه ذَلِك؛ لأَنَّ هَذِهِ عاقبتهم لكن جاء الأمر عَلَى خلاف المتوقع {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} جاء مبيِّنًا لسبب هَذِهِ العاقبة لأنَّهَا هِيَ الحال الَّتِي عَلَيْهَا هَؤُلاءِ المكذبون وَهُوَ الشّرك يعني فأنتم الآن مشركون وهم كانوا مُشْرِكِينَ فدمروا، فمعنى ذَلِك أن عاقبتكم أنتم ستكون مثلهم مآلها التّدمير والهلاك، وَهَذا من بلاغة القرآن أن الله تَعالَى ذكر سبب هلاك أولئك القوم.
الَّذي كَانَ علَيْه الآن هَؤُلاءِ المخاطبون، هَؤُلاءِ المخاطبون الآن مشركون كانوا عَلَى الشّرك إِذَنْ إِلَى الآن مَا وجدوا العاقبة، لكن إِذَا علموا أن سبب عاقبة هَؤُلاءِ هُوَ الشّرك فلا شك إِذَا كَانَ لَهُم عقول أن ينتهوا عن الشّرك.
قوْله تَعالَى: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} يقول المُفَسِّر رحمه الله: [فَأُهْلِكُوا بِإشْرَاكِهِمْ، ومَسَاكِنُهُمْ وَمَنَازِلهمْ خَاوَيةٌ].
قوْله تَعالَى: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} ظاهر الآيَة الكريمة أن البعض الآخر وَهُوَ الأقل لم يكن مشركا، وهاهنا إشكال هل أُهلك الموحدون مَعَ المُشْرِكِينَ مَعَ أن الله تَعالَى ذكر فِي آيات كثيرة فِي الأمم السّابقة، قَالَ تعالى:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الأعراف: 64] وقال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر: 61]، فظاهره أن المؤْمِنينَ لم يهلَكوا أو نقول:{كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} باعتبار القادة والرّؤساء الَّذِين يعرفون أنهم عَلَى شرك، أمَّا العامة الَّذِين لا يدرون فهم تابعون وراضون وإن لم يكن عِنْدَهُم شرك لكن هم يظنون أن هَذَا هُوَ الحق، فأي الاحتمالين أولى، أو احتمال ثالِث أن يُقَال إن الله تَعالَى أمرنا أن ننظر كَيْفَ كانت عاقبة السّابقين، وَإِذَا نظرنا وجدنا أن أكثرهم مشرك فأُهلك، وأن المُؤْمِن نجا فيكون فِي هَذَا تحذيرٌ من الشّرك وترغيب فِي الإيمان والتّوحيد فها هُنَا ثلاثة احتمالات:
الاحْتِمال الأول: أن الجميع أُهلك، وَهَذا يشكل علَيْه آيات كثيرة بأن الله تَعالَى أنجى المُؤْمِنِينَ.
الاحْتِمال الثّاني: أن المُرَادُ بقوْله تَعالَى: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} الَّذِين يعرفون أنهم عَلَى شرك دون الغوغاء والعامة الَّذِين لا يدرون مَا هم علَيْه وَإنَّمَا هم أتباع كل ناعق.
الاحْتِمال الثّالث: أن يُقَال العاقبة حميدة وذميمة، والله سبحانه وتعالى يقول:{كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} ونحن نعلم أن من حكمة الله غَزَّ وَجَلَّ أن يجازي المشركَ عَلَى شركه والمُؤْمِنَ عَلَى إيمانه، وحِينَئِذٍ يَكُون فِي الآية ترغيب فِي الإيمان والتّوحيد وترهيب عن الشّرك والكفر، فأي الاحْتِمالات أولى؛ الظّاهر أن الأخير أولى يعني أن ينظروا كَيْفَ كانت عاقبة السّابقين، وأن من كَانَ مشركًا منهم أُخذ بشركه، ومَنْ كَانَ مؤمئا نُجِّيَ بإيمانه من أجل أن يؤمنوا هم ومن أجل أن يثبت المُؤْمِنُونَ من هَذِهِ الأمة عَلَى إيمانهم.
وقول المُفَسِّر رحمه الله: [فَأُهْلِكُوا بِإِشْرَاكِهِمْ وَمَسَاكِنُهُمْ وَمَنَازِلهمْ خَاوَيةٌ] هَذَا هُوَ الواقعُ فمثلًا قوم صالح، صالح والَّذِين معه نجوا، وقومهم أخذتهم الرَّجْفَةُ والصَّيْحَةُ {فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78}، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]، تجدها الآن خاوية ولم تُسكن فيما نعلم بعدهم، مَا سُكنت إِلَى الآن.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائِدَةُ الأولَى: الأمر بالاعْتِبار بما جرى للسابقين لقوْلِه تَعالَى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} .
الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: أنَّه ينبغي لِلإنْسَانِ أنْ يقرأَ كُتُبَ التّاريخ الماضية للاعتبار، ولكن كما نعلم جميعًا كتب التّاريخ بعضها مزيف لَيْسَ عَلَى حقيقته فمصدر التّاريخ فِي الأمم السّابقة مَا أخبر الله بِهِ ورسوله، قَالَ الله تَعالَى فِي سورة إبراهيم:{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} [التوبة: 70]، {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9] فنفى أنْ يكُونَ لأحدٍ علمٌ بِهِ إِلَّا الله.
إِذَنْ: من أين نأخذ أخبارهم مَا دام أنَّه لا يعلمهم إِلَّا الله؟ نأخذها من الله إمَّا من الكتاب أو من السّنة.
الفائِدَةُ الثَّالثةُ: أن أسباب هلاك الأمم السّابقين كانت إشراك أكثرهم لقوْلِه تَعالَى: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} .
الفائِدَةُ الرابعةُ: أن العقوبة إِذَا حلت قد تصيب الصّالح وغيره لأَنَّهُ قَالَ: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ} يعني والبعض لم يشرك ومن ذَلِك قوْله تَعالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]، وقد ينجي الله المؤْمِنينَ كما أنجى الله تَعالَى الرُّسل ومن آمن معهم.
* * *