المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (46) * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ - تفسير العثيمين: الروم

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (46) * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ

‌الآية (46)

* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46].

* * *

* قال المُفَسِّر رحمه الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ} : {مِنْ} للتبعيض و {آيَاتِهِ} مجرور بـ (من) و {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} فعل مُؤَوَّلٌ بالمصدر هُوَ المبتدأ، أي من آياته إرسال الرّياح {مُبَشِّرَاتٍ} حال من الرِّياح].

يقول الله عز وجل فِي هَذِهِ الآية: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي بعض آياته لأَنَّ {مِنْ} هُنَا للتبعيض؛ وَذَلِكَ لأَنَّ آيات الله عز وجل لا يمكن إحصاؤها ولا حصرها.

فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ

تَدُلُّ عَلَى أنَّه وَاحِدُ

(1)

لو أراد الإنسان أن يحصي آيات الله عز وجل الَّتِي فِي جسمه هُوَ فقط مَا استطاع إِلَى ذَلِك سبيلًا، فكيف بآيات الله تَعالَى الَّتِي ملأت الكون؛ وَلِهَذا تأتي {مِنْ} الدّالة عَلَى التّبعيض.

وقوْله تَعالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي علاماته واعلم أن كل آية فإنها تدُلّ عَلَى العِلْم وتدل عَلَى القُدْرَة وتدل عَلَى الحكمة، لا بُدَّ من ذَلِك فِي كل آية أنَّها تكون آية وعلامة عَلَى هَذِهِ الأمور الثّلاثة: العِلْم والقُدْرَة والحكمة، ثمَّ تختص بعض الآيات

(1)

البيت لأبي العتاهية، ديوان (ص: 104).

ص: 287

بما تختص به، إمَّا أن تكون الآية الَّتِي بعدها آية رحمة أو بعدها شيء يدل عَلَى السّلطان والعظمة.

والمُهِمُّ: أن لكل آية معنى خاصًّا ومعنى عامَّا، فالمعنى العام هُوَ هَذِهِ الثّلاثة: العِلْم والقُدْرَة والحكمة، فقوْله تَعالَى:{أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} يضاف إِلَى هَذِهِ الثّلاث الرّحمة لأَنَّ هَذِهِ الرّياح تبشر بالمطر وقوْله تَعالَى: {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} الإرسال بمعنى الإطلاق ومنه قول الشّاعر

(1)

:

فَأَرْسَلَهَا العِرَاكُ

....

..

يعني أطلقها، ومنه قول الفرضيين:(دَيْنٌ مُرْسَلٌ) يعني مطلقا لَيْسَ بِهِ رهن فقوْله تَعالَى: {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} أي يطلقها عز وجل، والرّياح جمع ريح وَهِيَ الأهوية، واعلم أن الرّيح تُذْكَرُ مفردةً وتذكر مجموعةً، فإذا ذكرت مجموعة فإنها تكون غالِبًا للرحمة، وإِذَا ذُكرت مفردةً فإنها تكون غالِبًا للعقاب كما فِي قوْله تَعالَى:{فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)} [الحاقة: 6]، قَالَ (ريح)، وقوْله تَعالَى:{أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)} [الذاريات: 41]، وقوْله تَعالَى:{رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]، وما أشبه ذَلِك، ولكنها أعني الرّيح قد تُفرد وتكون فِي مقام النّعمة لا سِيَّما إِذَا وصفت بما يدل عَلَى ذَلِك.

كما فِي قوْله تَعالَى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]، فالرّيح هُنَا عقوبة نعمة، وَإنَّمَا كانت نعمة لأنَّهَا وصفت بقوْله تَعالَى:{طَيِّبَةٍ} ، أما بالنّسبة للسفن فالأَوْلَى اتحاد الرّيح لا اختلافها؛ لأنَّهَا إِذَا اختلفت اختلف سير السّفينة، وفي الماضي

(1)

البيت للبيد، وتمامه:

فأْرسلها العراك وَلم يذدها

وَلم يشفق على نغص الدّخال

ص: 288

لما كانت السّفن شراعية كانت الرّياح فِي مقام النّعمة وَلِهَذا جمعت.

قوْله تَعالَى: {مُبَشِّرَاتٍ} مبشرات حال من الرّياح أي تبشر بالخير وَلِهَذا بعض الرّياح إِذَا هبت استبشر النَّاس لأَنَّ الله سبحانه وتعالى أجرى العادة أن هَذِهِ الرّيح المعينة يتكون منْهَا السّحاب ثمَّ المطر، وأحيانا يستبشرون بالرّيح إِذَا رأوها تجمع السّحاب، تجمعه وتكثفه، استبشروا بها.

وقوْله تَعالَى: {مُبَشِّرَاتٍ} البشارة هِيَ الإخبار بما يسر غالبًا، وسميت بشارة لأنَّهَا تؤثر عَلَى البشرة، فالإنسان إِذَا استبشر ينيرُ وجهُه ويُسْفرُ وتجدُ علَيْه علامة البشرى، وقد تطلق البشارة بما يسوء كقوْله تَعالَى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{مُبَشِّرَاتٍ} معنى لِتبشِّرَكُمْ بِالمَطَرِ].

فسر المُفَسِّر رحمه الله اسم الفاعل بالفعل المعلل، وقَالَ:[بمعنى لِتبشِّرَكُمْ] لأجل أن يسهل العطف فِي قوْله تَعالَى: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} لأَنَّ {مُبَشِّرَاتٍ} {وَلِيُذِيقَكُمْ} يجد الإنسان بَيْنَهُما فجوة، هَذِهِ الفجوة أراد المُفَسِّر أن يقربها بقوله:[بمعنى ليُبَشّرَكُمْ بها]، ولكن الصّحيح عندي أن المبشرات عَلَى حالها تعتبر اسمًا ولكننا نقدر فعلًا يناسب مَا بعده لأجل أن يصح عطف الفعل علَيْه، والَّذي أرى أن يقدر: [{مُبَشِّرَاتٍ} لتستبشروا بِهَا {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} ، أو نجعل لتبشركم كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله لا نجعلها بمعنى مبشرات بل نجعلها فعلًا مستقلًّا قدرناه ليصح العطف فِي قوْله تَعالَى:{وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} .

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلِيُذِيقَكُمْ} بِهَا {مِنْ رَحْمَتِهِ} المَطَر والخِصْب].

ص: 289

تقدم أن الله تَعالَى يعبر عن الإصَابَة بالإِذَاقَة لأنَّهَا أعلى أنواع الإصَابَة وأبلغها {وَلِيُذِيقَكُمْ} بِهَا {مِنْ رَحْمَتِهِ} .

يقول المُفَسِّر رحمه الله: [المطر والخصب] ففسر الرّحمة بأثرها، وَعَلَى هَذَا فلا تكون الرّحمة مخلوقة وليست صفة من صفات الله، وَهَذا الَّذي فسرها بِهِ محتمل لأَنَّ الله سبحانه وتعالى قد يطلق الرّحمة عَلَى الشّيء المخلوق الَّذي يَكُون من آثار رحمته كما ثبت فِي الحديث الصّحيح أن الله قَالَ للجنة:"أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ"

(1)

، ومن المعلوم أنَّه سبحانه وتعالى لم يُرِدْ أنَّها رحمته الَّتِي هِيَ صفته؛ لأَنَّ الجنَّةَ مخلوق بائن دائم ولكن أراد أنَّها من أثر رحمته أو مقتضى رحمته، فهنا يصح أن نقول:{وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي من هَذَا المطر والخصب وتكون الرّحمة هُنَا مخلوقة من المخلوقات.

وإن جعلناها الصّفة فهي للابتداء يعني ليذيقكم نعمة صادرة من هَذِهِ الرّحمة.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} السُّفُنُ بِهَا {بِأَمْرِهِ} بإرادته ({وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} تطلبوا {مِنْ فَضْلِهِ} الرِّزق بالتِّجارة فِي البحر {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}].

قوْله تَعالَى: {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} يقول رحمه الله: [السُّفُنُ بها] الضّمير يعود عَلَى الرّياح، فالله تَعالَى يرسل الرّياح لتسير بِهَا المياه فِي أجواء السّماء وَهُوَ السّحاب ويرسل الرّياح لتسير بِهَا السّفن فِي البحار، وكُلٌّ من السّحاب ومن السّفن يحمل نعمًا كثيرة، السّفن تحمل الأرزاقَ والأَنَاسِيَّ والحيوانَ وغيرَها، والسُّحب تحمل الماء الَّذي هُوَ مادة الحياة، {الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 68، 69] [الواقعة: 68 - 69] ففي الرّياح إِذَنْ فائدتان:

(1)

أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، رقم (4850)، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، رقم (2846).

ص: 290

- تسيير السُّحب فِي أجواء السّماء.

- وتسيير السُّفن فِي أجواء البحار.

وقوْله تَعالَى: {الفُلْكُ} تصلح للجمع وللمفرد، وَهَذا فِي القرآن موجود، مثالهُا للجماعة قوْله تَعالَى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]، هَذَا جمع؛ لأَنَّهُ قَالَ:{فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ} لم يقل فِي الفلك وجرى، وقوْله تَعالَى:{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] أيضًا جمع، ومثالها للمفرد قوْله تَعالَى:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164]، قَالَ:{الَّتِي} ولم يقل اللاتي، وقد ذكر الفقهاء أن الأحدب ينوي الرّكوع بقلبه، فالأحدب لَيْسَ بقائمٍ حتَّى يركع، بل ينويه بقلبه، قَالَ بعض الفقهاء: فَهُوَ شبيه للفُلْكِ فِي اللُّغَة العرَبِيَّة يعني انحناء هَذَا الأحدب شبيه بالفلك فِي اللُّغَة العرَبِيَّة، مَا يُعرف إِلَّا بالنِّية، فالفلك صالِح للمفرد وللجماعة ولا يعرف إِلَّا بالنّية أو القرينة، وكَذَلِكَ الأحدب فِي حال الرّكوع، فما الَّذي يُعلمنا أنَّه راكع أو غير راكع فركوعه وقيامه سواء.

ويمكن أن يستدل بمَسْأَلة الأحدب عَلَى مَا ذُكر عن الكسائي أنَّه قَالَ: إن الإنسان إِذَا أتقن شَيْئًا من العِلْم أمكنه أن يفهم غيرَه من العلوم

(1)

، وذكروا قصة أنَّه كَانَ هُوَ وأَبو يوسفَ عند الرَّشِيدِ - أحد خلفاء بني العباس - وأنهم تناظروا فِي مَسْألة فقال أَبو يوسف للكِسَائِيِّ: مَا رأيك لو سها الإنسان فِي سجود السَّهْوِ، هل نَحْوُكَ يعلمك بحكم هَذِهِ المسألة؟ قَالَ: نعم إِذَا سها فِي سجود السّهو فإِنَّهُ لا يسجد، قَالَ: أين تجد هذا فِي نحوك؟ قَالَ: عندنا قاعدة فِي النّحو أن المصغر لا يصغر، فاستدل بأن سجود السّهو صلاة مصغرة فإذا سها فِيهِ فإِنَّهُ لا يصغر مرة ثانية، وهل هَذَا

(1)

الوافي بالوفيات (21/ 48).

ص: 291

واقع أو غير واقع؟ الله أعلم لكنهم ذكروه.

قوْله تَعالَى: {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: أبإرادته، والصّحيح {بِأَمْرِهِ} من الأمر الَّذي هُوَ بالقول وليس المُرَاد بالإرادة فقط لأَنَ الفلك مَا تَعْلَمُ عما يريد الله عز وجل لكنها إنما تأتمر بأمره القولي وقد قَالَ الله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82] فكلُّ مرادِ الله إن لم يقترن بالقول فإِنَّهُ لا يقع، وكيف تحدث الكائنات بمجرد إرادةُ لا يعلم بِهَا إِلَّا الله؟ فلا بد من قول، فالصّواب أن المُرَاد بأمره: أمره القولي لقوْلِه تَعالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82] ولا يمنعُ ذَلِك أنْ يكُونَ هَذَا الجريانُ بأمره بأسباب محسوسة معلومة لنا؛ لأَنَّ المُقَدِّرَ للأسباب هُوَ الله عز وجل فَهُوَ سبحانه وتعالى يخلق ويُسَخِّرُ ولكن بأسباب.

قوْله تَعالَى: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} كل هَذَا مما خلقه الله سبحانه وتعالى لهذه الحِكَمِ العظيمة.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلِتَبْتَغُوا} تطلبوا {مِن فَضْلِهِ} الرِّزق بالتِّجارة فِي البحر، وَهُوَ كَذَلِكَ، وكم من أناس كانت تجارتهم فِي البحار ينقلون الأرزاق من جهة إِلَى جهة بواسطة هَذِهِ السّفن، لولا هَذِهِ السّفن لكان من المتعذر أن تنتقل الأرزاق من الجهة الَّتِي خلف البحر إِلَى الجهة الأُخْرَى، ولكن الله عز وجل جعل هَذِهِ السّفن لأجل أن تنقل هَذِهِ الأرزاق والنّعم.

قوْله تَعالَى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : (لعل) هَذِهِ معناها التّعليل، تشكرون؛ الشّكر هُوَ القيام بطاعة المنعم ويكون باللسان وبالقلب وبالجوارح، فأما الشّكر بالقلب فإن يؤمن الإنسان بأن هَذِهِ النّعمة من الله عز وجل هُوَ الَّذي أمده بِهَا وَهُوَ الَّذي يسرها

ص: 292

لَهُ وَهُوَ الَّذي جلبها إِلَيْهِ هَذَا بالقلب، والشّكر باللسان أن يحمد الله عَلَيْهَا فإن هَذَا من شكر النعمة وأن يتحدث بِهَا اعترافا لله بالفضل لا افتخارًا بِهَا عَلَى غيره، وأما الشكر بالجوارح فأن يقوم لله تَعالَى بالعمل البدني من صلاة وزكاة وحج وغيره، وَلِهَذا يقول الشّاعر

(1)

:

أفادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً

يَدِي وَلسَانِي وَالضَّمِير المُحَجَّبَا

فيدي الجوارح، واللسان القول، والضّمير المحجب القلب.

ما الواسطة بَيْنَ الحمد والشّكر، أو النّسبة بَيْنَ الحمد والشّكر؟

الحمد أعم من حيْثُ السَّببُ، والشّكر أعم من حيْثُ التَّعَلُّقُ؛ لأَنَّ الحمد يَكُون باللسان ويكون عَلَى النّعم وَعَلَى كمال صفات المحمود، يعني أنَّه يحمد المحمود عَلَى نعمه وإحسانه عَلَى الحامد وَعَلَى كمال صفاته، وأما فِي المتعَلَّق فإِنَّهُ يتعلقُ باللسان خاصة الحمد يَكُون باللسان فَقَطْ، وربما يَكُون بالقلب أيضًا بأن يعتقد الإنسان كمال هَذَا المحمود لكِنَّهُ لا يُسَمَّى حمدًا لغة إِلَّا باللسان، وأما الشُّكرُ فَهُوَ أخص من الحمد باعتبار سببه وأعم باعتبار متعلِّقه، أخص باعتبار سببه لأَنَّ سببه الإنعام عَلَى الشّاكر، ولو كَانَ الإنسان المحمود من أكمل النَّاس ولم يعطِك شَيْئًا لا تشكره، فالشّكر يَكُون عَلَى النّعم فَهُوَ أخص من حيْثُ السّبب ويكون بالقلب واللسان والجوارح فَهُوَ من حيْثُ المتُعَلَّق أعم.

إِذَن: النّسبة بَيْنَهُما العُمُوم والخصوص الوجهي.

قوْله تَعالَى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الشّكر هُوَ القيام بطاعة المنعم هَذَا بالمَعْنَى العام،

(1)

نهاية الأرب في فنون العرب للنويري (3/ 248).

ص: 293

لكن شكر النّعمة الخاصة يَكُون بالقيام بوظيفتها من الطّاعة، يَكُون بالقيام بوظيفتها الخاصة، مثلًا شكر الإنسان ربه عَلَى العِلْم يَكُون بالعمل بِهِ وتعليمه، هَذَا شكر خاص لنعمة خاصة، شكرُ الإنسانِ ربَّه عَلَى المسكن مثلًا يَكُون بطاعته فِي هَذَا المسكن بأن لا يَكُون فِيهِ مثلًا إسراف ولا تبذير وما أشبه ذَلِك فالشّكر هُنَا لَهُ معنيان:

- المَعْنَى العام هُوَ القيام بطاعة المنعم.

- والشّكر الخاص هُوَ القيام بطاعة الله تَعالَى لما يتعلق بهذه النّعمة الخاصة، وكل نعمة لها شكر خاص.

من فوائد الآية الكريمة:

الفائِدَةُ الأولَى: أن هناك علاماتٍ ودلالاتٍ عَلَى وجود الخالِق وَعَلَى علمه وقدرته وحكمته هَذِهِ الآيَات. هَذِهِ الآيَات الَّتِي تَعَرَّضَ الله بِهَا لعباده من نعمة الله عَلَيْهِم أن الله تَعالَى يريهم آياتِه ليقوموا بشكره ويعترفوا بفضله.

الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: من آياته أيضًا - زيادة عَلَى الآيَات الثّلاثة الَّتِي ذكرنا - ثبوتُ الرَّحمة لقوْلِه تَعالَى: {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} هَذِهِ الرّياح لو اجتمع الخلق كلهم عَلَى أن ينفخوا بجميع وسائل النّفخ فإنهم لا يستطيعون أن يغطوا بِهَذا النّفخ بلدًا واحدًا، والرّب جلت قدرته يغمر مَا شاء أن يغمر بهذه الرّيح الَّتِي قد تقلع الأشجار وتهدم الدّيار، أليس هَذَا دليلًا عَلَى قدرة الله العظيمة؛ وكونها مبشرات فِيهِ إثْبَات الرّحمة.

الفائِدَةُ الثَّالثةُ: نعمة الله تَعالَى بالفلك الَّتِي تجري بأمره لولا أن الله سبحانه وتعالى يسر من الأسباب مَا يَكُون بِهِ ذَلِك مَا عرف النَّاس كَيْفَ يتعدون من بر إِلَى بر بواسطة البحر.

ص: 294

الفائِدَةُ الرابعةُ: أن ظهورَ الآيَاتِ لِلإِنْسَانِ سببٌ لشكر نعمة الله علَيْه، نأخذُه مِنْ قوْلِه تَعالَى:{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

الفائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثْبَاتُ العِلَلِ والحِكَمِ فِي أفعال الله تَعالَى؛ لقوله: {وَلَعَلَّكُمْ} لأنَّهَا للتعليل.

* * *

ص: 295