الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (27)
* * *
قَالَ اللهُ عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ} للنِّاسِ {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بَعْدَ هَلَاكِهِمْ، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} مِنَ البَدْءِ].
قوْله تَعالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ} : أيْ يبْتَدِئُه، وأَتى بكَلِمَةِ {يَبْدَأُ} لأَنَّ الخلْقَ مستَمِرُّ، كلُّ يوْمٍ يكُونُ فِيه ابْتِداءُ خلْقٍ، الأجِنَّةُ فِي بُطونِ الأمَّهاتِ تنْشَأُ كلَّ يوْمٍ، وكَم في الدُّنيا فِي اليَوْم الواحِدِ مِن جَنينٍ يُكَوَّنُ؟ كَثيرًا جِدًّا ولِهَذا أَتى بالفِعْلِ المُضارعِ الدَّالِّ عَلَى الاسْتِمرارِ ولَمْ يقُلْ (بَدَأَ).
وقوْله تَعالَى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} : يَعْني ثمَّ هُو - أيْ الله عز وجل يُعِيدُه، ومَعْنى الإِعادَةِ ردُّه عَلَى مَا كانَ أوَّلًا، كَما فِي قوْلِه تَعالَى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، وأخْبَر النّبيُّ عليه الصلاة والسلام أنَّ النّاس يُحشَرُون يَوْم القِيامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَما بُدِئُوا
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، رقم (3349)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، رقم (2860).
قوْله تَعالَى: {وَهُوَ} : الضَّميرُ يعودُ عَلَى الإِعادَةِ المفُهومَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {يُعِيدُهُ} ، فمَرْجِعُ الضَّميرِ إِذَنْ المَصدَرُ المَفْهومُ مِن الفِعْل، وَمرْجعُ الضَّميرِ قَدْ لا يُذْكَرُ بلفْظِه، ولكِنْ يُذْكَرُ مَا يدُلُّ علَيْه، انظُرْ إِلَى قوْلِه تَعالَى:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، ومرْجِعُ الضَّمير في قوْلِه تَعالَى:{هُوَ} العدْلُ المفْهومُ مِن كلِمَةِ {اعْدِلُوا} .
إِذَنْ: قوْله تَعالَى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، أي الإِعادَةُ، والإِعادَةُ مصْدَرٌ، فَصَحَّ أن يعُودَ الضَّمِيرُ علَيْها مُذَكَّرًا.
قوْله تَعالَى: {أَهْوَنُ} : اسْمُ تفْضيلٍ مِنْ (هَانَ يَهُونُ)، واسْمُ التَّفضيلِ يدُلُّ عَلَى أنَّ الهَوْنَ دَرجاتٌ، هَيِّنٌ وأَهْوَنُ، ودَرجاتُ الهَوْنِ قَد تُوحِي بأنَّ هُناك مشقَّةً لأنَّهُ لَوْلا أنَّ فِي بعْضِها مشَقَّةً مَا صارَ بعضُها أهْوَنَ مِن بعْضٍ؛ ولذَلِكَ اخْتلَف المُفسِّرُون فِي اسْمِ التّفضِيل هُنا، {وَهُوَ أَهْوَنُ} ، فَقِيل أنَّه بِمَعْنى هَيِّن، {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أيْ وهُو هَيِّنٌ علَيْه، وقالَ بعْضُ المُفسِّرينَ مَا ذَهَب إِلَيْهِ المُفَسِّر رحمه الله، وهُو أنَّه أهْوَنُ علَيْه مِن البَدْء بالنّظر إِلَى ما عِنْدَ المُخاطَبِينَ مِن أنَّ إعادَةَ الشّيْءِ أسْهَلُ مِن ابتدَائِه وإلَّا فهُمَا عنْدَ الله تَعالَى سوَاءٌ فِي السُّهولَةِ.
وهلْ قولُه: {أَهْوَنُ} عَلَى بابها؟
المُفَسِّر رحمه الله مشَى عَلَى أنَّها عَلَى بابِها، لكِنَّها باعْتِبَارِ المُخاطَبِين؛ لأَنَّ المُخاطَب يعْرِف أنَّ إعادَةَ الشّيْءِ أهْوَنُ مِنَ ابْتِدَائِه، وسبَبُ ذَلِك أن إِعادَتَهُ لا تَحْتَاجُ إِلَى تفْكِيرٍ جَديدٍ؛ لأَنَّهُ قَد سبَق فِيها التّفْكِيرُ، ثانيًا: لأَنَّ موادَّ التّكْوينِ موْجُودةٌ، افرِضْ مثَلًا أنَّني صنَعْتُ سيارةً، فعنْدما أُرْيدُ صُنْعها أوَّلًا تحتاجُ إِلَى تفْكِيرٍ وموادَّ، فإذَا أرَدْتُ أنْ أُعِيدَها مرَّةً ثانِيَةً مثْلَ أنْ تكُونَ قدْ تفَكَّكتْ هَذهِ السّيارةُ، وَأرَدْتُ أنْ أُعيدَها فستكونُ الإعادَةُ أهْونَ؛ لأَنَّ التَّفكِيرَ قَدْ فرَغْتُ منِه، والموادُّ موجُودةٌ محُضَّرةٌ فتكُونُ الإِعادَةُ
أهوَنَ باعْتِبارِ المُخاطَبِ، أمَّا بالنِّسبَةِ للهِ عز وجل فَلا نَقُولُ: إِنَّ فِي حقِّه مَا هُو أهْوَنُ، ومَا هُو هيِّنٌ، بَلِ الكلُّ عنْدَ الله تَعالَى هيِّنٌ سهْلٌ.
وقالَ بعْضُ المُفسِّرينَ: إِنَّ (أهْون) بمَعْنى هَيِّن، فَعلى هَذا يكُونُ الهَوْن بالنِّسبَةِ إِلَى الله عز وجل، لَا بالنِّسبَةِ لما عنْدَنا نَحْن، وَفِي الحدِيثِ عَنِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام أنَّ الله تَعالَى قالَ:"كَذَّبَني ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُه: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادتِهِ"
(1)
، فهُو مفُسِّرٌ للآيَة، فهُو يُفَسِّر أنَّ كُلَّ ذَلِك هيَّنٌ علَيْه، ولكِنْ لا شَكَّ أنَّ الإِعادَةَ أهْوَنُ باعْتِبارِ المَفْهومِ عنْدَ المُخاطَبِينَ، فمَا مشَى علَيْه المُفَسِّر رحمه الله هُنا جيِّدٌ.
قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أيْ الصّفَةُ العُلْيَا، وَهِي أنَّه لَا إلَه إِلَّا الله]: (له) خَبَرٌ مقَدَّمٌ، و (المَثَلُ) مُبتَدأ مؤخَّرٌ، والمَثَل والمِثْل معناهُما واحِدٌ، ويُطْلَق عَلَى عدَّةِ معانٍ: فيُطْلَقُ عَلَى الشَّبه؛ كقوْلِه تَعالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17]، يعْنِي شَبَهُهم كشَبَه الَّذي اسْتوْقَد نَارًا.
ويُطْلق المَثَل عَلَى الصّفة؟ كقوْلِه تَعالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15].
ويُطلَقُ المَثَل عَلَى الذّاتِ؛ قالُوا كقوْلِه تَعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، يعْنِي ليْسَ كذَاتِه، وقالُوا مِنْه قولُ الشَّاعِرِ
(2)
:
(1)
أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب يقال: لا ينون (أحد) أي واحد، رقم (4974).
(2)
البيت في البحر المحيط (7/ 488)، والدر المصون (9/ 545) منسوبًا لأوس بن حجر، لكن لم أقف على البيت في ديوانه المطبوع.
لَيْسَ كَمِثْلِ الفَتَى زُهَيْرٍ ..................
والمُرادُ هُنا بالمَثَل فِي قوْلِه تَعالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} الصِّفةُ، أيْ لَهُ الصِّفةُ العُلْيا فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ، كُلُّ صِفَةٍ كَاملَةٍ فلِله سبحانه وتعالى أكمَلُها، وكُلُّ صفَةِ نقْصٍ فإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عنْهَا؛ لأنَّهُ مَا دَام قَد ثَبَت لَهُ الصِّفَةُ الكَامِلَةُ العُلْيا، فإنَّهُ بالضَّرُورةِ العَقْلِيَّةِ ينتفِي عنْهُ النَّقْص؛ لأنَّهُ لَو اتَّصَف بنَقْصٍ ما اسْتَحقَّ أنْ يَكُونَ لَهُ المَثَلُ الأَعْلى.
إِذَنْ: هَذهِ الآيَةُ الكَريمَةُ تدُلُّ عَلَى صِفَاتِ الكَمال للهِ عز وجل، الكَمالُ المُطْلَقُ؛ لأنَّهُ قَال:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} ، وعَلى انْتِفاء النَّقْص مِن جَمِيع الوُجوهِ إِذْ أنَّه لوِ اتَّصفَ بنَقْصٍ مَا اسْتحَقَّ أنْ يكُونَ لَه المَثلُ الأَعْلى، ونَأْخُذُ مِن هَذا أنَّ كُلَّ مَا وَصَفَ الله بِه نفسَهُ فهُو صفَةُ كَمالٍ، وَلَيْس فِيه نقْصٌ، وكُلُّ كَمالٍ فإِنَّ الله تَعالَى مستَحِقٌّ لَه، فهَذان شيْئَانِ:
الأولُ: أنْ نَعْلم عِلْمَ اليَقِينِ أنَّ كُلَّ مَا وَصَفَ الله بِه نفسَهُ فهُوَ صِفةُ كَمالٍ.
الثَّاني: أنْ نَعْلم أنَّ كُلَّ صِفَةِ كَمالٍ فاللهُ تَعالَى مستَحِقٌّ لَها، فَهُو أهْلٌ لَها، كَما قَالَ الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام:"أهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ"
(1)
، وسيَأْتي - إنْ شاءَ الله - فِي الفوائِد مَا يُسْتَدلُّ بِه عَلَى الرّدِّ عَلَى الَّذِين يُنكِرونَ صِفاتِ الله بحُجَّةِ أنَّها تسْتَلْزِمُ النَّقصَ وهُو التَّشبِيهُ.
وقوْله سبحانه وتعالى: {الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} : معْنى المَثل الأَعْلى فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ يعْنِي عنْدَ أهْلِ السَّمواتِ مَن المَلائِكَةِ، وعِنْدَ أهْلِ الأرْضِ، فكُلُّ الفِطَر السَّليمة تعْتَرِفُ بأنَّ المَثل الأعْلَى والصِّفةَ العُليا للهِ وحْدَه.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، رقم (471).
وأمَّا قولُ المُفَسِّر رحمه الله: [وَهِيَ أنَّه لَا إلَهَ إِلَّا الله]، فهَذا فرْدٌ مِن أفْرَادِ المَثَل الأعْلَى، وليْسَ هُو المَثل الأَعْلى كُلَّه، فإِنَّ لَا إلَه إلَّا الله تدُلُّ عَلَى تفرُّدِه سبحانه وتعالى بالأُلوهِيَّةِ، وَهَذا مِن المَثَلِ الأَعْلى، لكِنَّ المَثلَ الأَعْلى أعَمُّ مِن ذَلِك، فلَهُ مثلًا القُدْرَةُ الكامِلَةُ والعِلْم الكامِلُ والحيَاةُ الكاملَةُ والسَّمْعُ الكامِلُ والبَصر الكامِلُ والحكْمَةُ البالِغةُ، وَهكَذا فَهِي أعَمُّ مِن تفرُّدِه بالأُلوهِيَّةِ.
قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَهُوَ الْعَزِيزُ} فِي مُلْكِهِ، {الْحَكِيمُ} فِي خَلْقِه]: تفْسِيرُه هَذَا فِيه قُصورٌ، فـ {الْعَزِيزُ} يعْنِي: ذُو العِزَّة، وَهِي الغَلبَةُ والقَهْر والقَدْرُ، فلَه عزَّةُ القهْرِ والقَدْرِ سبحانه وتعالى والامتناعِ، فالعزة إِذَنْ ثلاثَةُ معَانٍ:
المَعْنى الأوَّلُ: عزَّةُ القَهْرِ، بمَعْنى أنَّه القاهِرُ لكُلِّ شيْءٍ، فلَا يغْلِبُه أحَدٌ، قالَ الله تَعالَى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
المَعْنى الثَّاني: عِزَّةُ القَدْرِ، ومعْنى عِزَّة القَدْر أنَّ الله سبحانه وتعالى لا نظِير لَه، ولَا شبَه له؛ لكمَال قدْرِه سبحانه وتعالى وعظَمَتِه، ومنْهُ قوْلُهم:(هَذا الشّيْءُ عزِيزٌ)، أيْ نادِرُ الوُجودِ لَا نظِيرَ لَهُ.
المَعْنى الثَّالث: عِزَّةُ الامتِناعِ، بمَعْنى أنَّه يمتَنِع علَيْه النّقْص لِكمَالِ قُوَّتِه، ومنْهُ قوْلُهم: هَذِهِ الأرْضَ عزَازٌ
(1)
، يعْنِى شَديدَةٌ قويَّةٌ لا يُمْكِنُ أنْ ينْفذَ إليها شيْءٌ، والأرْضُ الرَّخوَةُ بالعَكْس، كُلُّ شيْءٍ يؤَثِّرُ فِيها حتَّى الرَّجُل إِذا مشَى علَيْها يُؤثِّرُ، بخلَافِ الأَرْض الصّلْبة التي تُسمَّى العزَاز.
فصارَتِ العزَّةُ الآن عزَّة القدْرِ وعِزَّةَ القهْرِ وعِزَّةَ الامتَناع.
(1)
تاج العروس من جواهر القاموس (15/ 222)، ولسان العرب (5/ 374).
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: قوْلُه سبحانه وتعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20]، مِن أَيِّ المَعاني؟
قُلْنَا: {بِعَزِيزٍ} أيْ بمُمْتنِعٍ، فهُو مِن عِزَّةِ الامْتِنَاعِ.
وأمَّا قولُه {الْحَكِيمُ} فالمُفَسِّر رحمه الله يقولُ: هو [الحكِيمُ فِي خَلْقِهِ] وأحيانًا يقُول: (في صُنْعِه)، ومعْنَاهُما واحِدٌ، لكِنَّ هَذا قاصِرٌ أيْضًا؛ لأَنَّ الحكِيمَ مشْتَقٌّ مِن الحُكْم والحِكْمة، فعَلى قولِنا أنَّه مُشتَقٌّ مِن الحُكم يَكُون (حَكِيمٌ) بمَعْنى حَاكِم، مثْلُ رَحِيمٍ بمَعْنى رَاحِم، وَعَلَى قوْلِنا أنَّه مِن الحكْمَة يكُونُ (حَكِيمٌ) بمَعْنى مُتْقِن، فَهُو مِن أَحْكَمَ يُحْكِمُ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: وهل يَأْتي (فَعيل) بمعنى (مُفْعِل) في اللُّغَة العربية؟
فالجوابُ: نَعم، وَمنْه قوْلُه تَعالَى:{عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، بمعْنى (مُؤْلِم)، ومنْه قولُ الشّاعر
(1)
:
أَمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعِي السَّمِيعُ
…
يُؤَرِّقُني وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
السَّميعُ أي: المُسْمِع؛ لأَنَّ الدّاعِي يُسْمِعُ غيرَه، ولَيْس هُو نفسُه سَمِيعًا.
إِذَنْ: نقُولُ: (حِكيم) مأخُوذَةٌ مِن الحُكم والحِكْمة، فعَلى أنَّه مأخُوذٌ مِن الحُكْم يكُونُ بمَعْنى (حَاكِم) مثْلُ (رَحيم) بمَعْنى (رَاحم)، و (سَمِيع) بمَعْنى (سَامِع)، وإِذا قُلنا أنَّها مِن الحكْمَة فَهُو مِن أحْكَمَ فَهُو حَكِيمٌ، بمَعنى محُكم، أيْ اسمُ فاعِلٍ مِنَ الرُّباعِيِّ.
(1)
البيت لعمرِو بنِ معدِ يكربَ الزبيديِّ في مطلعِ عَيْنِيَّتِهِ المشهورةِ، في الأصمعيات (ص: 172)، الشعر والشعراء لابن قتيبة (ص: 240)، شرح الكافية الشافية لابن مالك (2/ 1034).
وحُكْمُ الله عز وجل ينْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: كَوْنيٍّ وشرْعِيٍّ، فالكوْنيُّ نافِذٌ في جَمِيعِ الخلْق شاؤُوا أمْ أَبوْا، والشَّرعِيُّ نافِذٌ فِيمَن أطَاعَ الله عز وجل، أمَّا مَنْ لَم يُطِعْه فإِنَّهُ لا يُنْفِذُ حُكْمُه.
وهَل هُناك أمْثِلَةٌ مِن القُرآنِ تدُلُّ عَلَى هَذا التّقسيمِ مِن أنَّ الحُكْم كوْنِيٌّ وشَرْعِيٌّ؟
الجوابُ: نعم، قالَ أحَدُ إخْوَةِ يُوسُفَ:{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80]، المُراد بالحُكم هُنا الحكمُ الكَوْنيُّ القَدَرِيُّ، يَعْني: أوْ يُقَدِّرُ الله ذَلِك، أمَّا الحُكْم الشّرعِيُّ فإنَّ الله لما ذَكر مَا يَجِبُ فِي النِّساءِ المُهاجِراتِ فِي سُورةِ المُمْتَحِنة قَال:{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10]، والمُراد بالحُكْم هُنا الحُكْمُ الشّرْعِيُّ، لأَنَّ مَا ذُكِرَ مِن الأُمُورِ كُلُّه أمُورٌ شرْعِيَّةٌ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما تقُولونَ فِي قوْلِه سبحانه وتعالى: {وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70]، أيُّ الحُكْمَين؟
قُلْنَا: هذَا شَامِلٌ، وَكَذلِكَ قوْلُه تَعالَى:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، الظَّاهِر أنَّه شامِلٌ، وإِنْ كَان فِي الشَّرع فِي هَذهِ الآيَةِ أظْهَرَ؛ لأَنَّ الله قال:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
إِذَن: الحكِيمُ مِن الحُكْم تنْقِسمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: حُكْمٌ شرْعِيٌّ، وحُكْمٌ كوْنيٌّ، والحُكمُ الكونيُّ هُو قَضاؤُه وقدَرُه، وكُلُّ أحَدٍ خاضِعٌ لَهُ، والحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مَا حَكَمَ بِه شرْعًا، ولا يَخْضَعُ لَهُ كلُّ أحدٍ.
أمَّا إذا قُلنا أنَّه مِن (أحْكَمَ) فحَكِيمٌ مِن الحكْمَة بمَعْنى مْحُكم، فإِنَّ الحِكْمة تنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْن: حكْمَةٌ غائِيَّةٌ، وحِكْمةٌ صُورِّيةٌّ، يعْنِي صورَةُ الشّيْء كَذا وكَذا،
فكَوْن الشَّيْء عَلَى صُورَةٍ معيَّنَةٍ نَجِد أنَّ جَمِيعَ مَا خلَقَه الله فِي صِفَاتِه كُلُّه عَلَى صِفَةٍ مُوافِقَةٍ للحْكِمة، تدَبَّرِ المخْلوقاتِ تجِدْ أنَّ المخْلوقاتِ في ذَواتِها وحَركاتِها وهَيْئاتِها وصِفاتِها كُلُّها مُوافِقَة للحِكْمة، الحكْمَةُ الغائِيَّةُ هِي الغايَاتُ المحمُودَةُ فِي أفْعَالِه وأحْكامِه الشّرْعِيَّةِ كُل مَا خَلق الله تَعالَى، فإِنَّهُ لغايَةٍ محمُودَةٍ ليْسَ عبَثًا ولا سُدىً {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 38 - 39]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]، حتَّى مَا يُقدِّرُه الله مِن الأُمورِ المُؤلمَةِ فإِنَّهُ حكْمَةٌ، فهَزِيمَةُ المُؤْمِنينَ يومَ أُحُدٍ حكْمَةٌ لَا شكَّ، {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166 - 167]، وقَال:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141].
إِذَنْ: كُلُّ أفعالِه سبحانه وتعالى حكْمَةٌ، ولَها غايَةٌ محمُودَةٌ، كَذَلِكَ أيضًا أحْكَامُه الشّرْعِيَّةُ مثْلُ الأحْكَام الكوْنِيَّةِ، هِي عَلَى وضْعِها عَلَى صِفَةٍ معيَّنَةٍ موافِقَةٍ للحِكْمَةِ، ثمَّ غايَاتُها الحمِيدَةُ التي بِها صَلاحُ القُلوبِ والبِلادِ والعِبَادِ أيْضًا حِكْمَةٌ.
فصَارتِ الحكمَةُ نوْعَين: حكْمَةٌ فِي الشّيْءِ عَلَى صِفَته المعيّنةِ، وحكْمَة فِي غَايَتِه الحمِيدَةِ، ثمَّ إنَّ هَذِهِ الحكْمَةَ تَكونُ فِي الشَّرع، وتَكُونُ في القَدَر أي: فِي الكَوْن، إنَّنا إذا عَلِمْنا أنَّ الله تَعالَى حكِيم فإنَّنا نطْمَئِن غايَةَ الاطْمِئْنان لما قَضاه وقدَّرَهُ ولما شَرَعَه وحَكَم بِه، نطْمَئِنُّ أَنَّه موافِق للحِكْمَةِ، وحِينَئِذٍ لا يُمْكِنُ أنْ نوُرِد ولَا أنْ يَرِد عَلَى قُلوبِنا: لماذَا جَاء كَذا؟ ومن أَيْن شَرَع كَذا؟ إلا عَلَى سبيل الاسْتِرشَادِ، فالإنسانُ الَّذِي يسْأل عَن الحِكْمَةِ مُسترْشِدًا فَلا بَأْس، أمَّا الَّذِي يسْأل عَن الحِكْمَةِ مُعتَرِضًا فإِنَّهُ قَاصرٌ، ولَم يُقدّرِ الله حقَّ قدْرِه.
ولنَنتبه إِلَى كلِمة {الْحَكِيمُ} ، وَبِهذَا التَّفسر الَّذي فسَّرناهَا بِه يتبيَّنُ أنَّ المُفَسِّر رحمه الله قدْ قصَّر في تفسِيرِه.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائِدَتانِ الأُولَى والثّانيةُ: أنَّ الخَلْق حادِثٌ بعْدَ أنْ لم يَكُن يُؤْخَذُ مِنْ قوْلِه تَعالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ} ، فيَكُون في الآيَةِ ردٌّ لقولِ الفَلاسِفَةِ القَائِلينَ بقِدَمِ العالَم، والصَّوابُ أنَّ العالَم حادِثٌ بعْدَ أنْ لَم يكُنْ؛ لقوْلِه تَعالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ} .
الفائِدَةُ الثَّالثةُ: إثْبَاتُ إعادَةِ الخلْقِ؛ لقوْلِه تَعالَى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ} .
الفائِدَةُ الرابعةُ: استِعْمالُ قياسِ الأَوْلى، وقِياسَ الأَوْلى معرُوفٌ في أُصولِ الفِقْه، فالاسْتِدلال بالنَّظر عَلَى نظيرِه يُسمَّى قِياس مساوَاةٍ، والاسْتِدلال عَلَى الشّيْءِ بِما هُو أَوْلى - يَعْني نسْتَدِلُّ عَلَى الشّيء الّذِي يكُونُ أوْلى مِن المَقِيس علَيْه - هَذا يُسمّونَه قِياس الأَوْلى، فهُنَا في الآيَةِ استِعْمالُ قياسِ الأَوْلى؛ يُؤْخذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى:{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} ، أيْ إعادَتُه، فإِنَّهُ إِذا كَان قادِرًا عَلَى الابْتِداءِ فَهُو عَلَى الإعادَةِ مِن بَابِ أَوْلى عَلَى ما مَشَى علَيْه المُفَسِّر.
الفائِدَةُ الخامسةُ: إثْبَاتُ كمالِ الصّفات لله؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
الفائِدَةُ السادسةُ: الرّدُّ عَلَى أهْلِ التّعطيلِ الَّذِين يُنكِرُون صِفاتِ الله عز وجل؛ فإِنَّ الَّذِين يُنْكِرونَ صِفاتِ الله مَا جعَلُوا لَهُ المَثَل الأَعْلى، بَلْ جَعلُوه موْصُوفًا بالنّقائِص - والعياذُ بالله -، سواء كَان هَذا التّعْطِيلُ كُليًّا أو جُزئيًّا؛ لأَنَّهُ إِنْ كانَ كُليًّا كَما فَعل
الجهْمِيَّةُ وسلَبُوه جَمِيعَ الصِّفاتِ، وَكَذلِكَ المعتزلِةُ قَالُوا: لَه أسْمَاءٌ بِدونِ صِفاتٍ، فظَاهِرٌ أنَّهم سلَبُوا الكَمال عَنِ الله، أمَّا إِذا كانَ جُزئِيًّا كَما فعَل الأشَاعِرةُ والماتُرِيديَّةُ ونحْوُهم فَإنَّ هَذا فِيه سلْبُ الكَمالِ عَنِ الله فِيما وَصفَ بِه نفْسَهُ، فقوْلُه تَعالَى:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، الاسْتِواءُ صِفةُ كَمال وهُمْ يقُولونَ:(اسْتوى بمَعْنى اسْتَوْلَى)، فلَم يجْعَلُوا للْعَرش خَصِيصةً بالاسْتِواءِ علَيْه؛ لأَنَّ الله تَعالَى مستولٍ عَلَى كُلِّ شيْءٍ، وَكَذلِكَ أيْضًا إِذا قالُوا إِنَّ المُرادَ بالآيَاتِ خِلافُ الظَّاهِر، فإِنَّهم وصَفُوا الله تَعالَى بالنّقْص؛ لأَنَّ إرادَة المتَكَلِّم بكَلامِه خِلافَ الظَّاهِر بدُونِ بَيانٍ يُعتبر تدْلِيسًا وتَمْويهًا، واللهُ عز وجل مَا أَنزْل القرآن إِلَّا لِلْبَيانِ، قَال تَعالَى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النّساء: 26]، وقَال تَعالَى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، وقَال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النّحل: 44]، والآيَاتُ في هَذا كثِيرَةٌ.
فإِذَا قُلْنَا: إنَّ الله أرادَ بِهَذا خِلافَ الظَّاهِر، فهَذا وصْفٌ لَه بالتَّعْميَةِ سبحانه وتعالى، وأنَّه لا يُرِيدُ البيانَ، وهَذا لا شَكَّ أنَّه نقْصٌ، وَلهَذا نقُولُ: إِنَّ جَمِيعَ مَنْ أنْكَرُوا صِفَاتِ الله عز وجل كُلِّيَّةً أوْ جُزْئيَّةً فإِنَّهم قدْ وَصَفُوا الله سبحانه وتعالى بالنَّقْص.
الفائِدَةُ السابعةُ: أنَّ كُلَّ صِفَةٍ وُصَف الله بِها نفْسَهُ فَهِي صِفَةُ كَمالٍ؛ تُؤخَذ مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ} ، فإِذا أثْبَتَ لنفْسِه صِفةً علِمْنا أنَّها صِفة كَمالٍ، الرّحمَةُ أثْبَتها الله لنَفْسِه صفَةَ كَمالٍ لا نقْصٍ، لكنَّها عنْد أهْل التَّعطِيل المُحَرِّفِينَ هِي صِفةُ نقْصٍ، يقُولونَ: إِنَّ الرّحمةَ تدُلُّ عَلَى الخَوَرِ والضَّعْفِ؛ فلِهَذا قالوا أنَّ رَحمةَ الله لَا يُرادُ بِها الرَّحمةُ، وإِنَّما يُرادُ بِها الإحسَان، أَوْ إرادَةُ الإحسَان، يُفسِّرونها إمَّا بالجزاءِ المفْعُولِ المخْلُوقِ وإِمَّا بِإرَادَتِه.
وهَلْ يُستَفادُ مِن هَذهِ الآيةِ الكَريمَةِ اسْتِعْمالُ قِياسِ الأَوْلى في حَقِّ الله، فنَقولُ: كُلُّ صَفَةِ كَمالٍ في المخْلُوقِ فالخالِقُ أَوْلى بِهَا؟
نَعم، شيْخُ الإسْلام رحمه الله يُقرِّرُ هَذا، بأنَّ استِعْمالَ قِيَاسِ الأَوْلى في حَقِّ الله جَائِزٌ، أمَّا قِياسُ التَّمْثيلِ وقياسُ الشُّمولِ فهذَا مُمتنِعٌ؛ لأَنَّهُ هُو التَّشْبيهُ، فإِذا قُلْنا: كُلُّ صفَةِ كَمالٍ في المخْلُوق فالخالِقُ أَوْلى بِها صَحَّ، لكِنْ يَجِبُ أنْ نعلَمَ أنَّ صِفَاتِ المخْلُوقِ الكامِلَةَ التي تُكَمِّلُ نقْصَهُ فَهِي كامِلَةٌ في حقِّه، لكِنْ لتكْمِيلِ نقْصِه، فَهَذهِ لا يُوصَفُ الله بِها، يَعْني هِي كامِلَةٌ في حقِّ المَخْلوقِ، لكِنْ لتكْمِيلِ نقْصِه؛ فإِنَّ الخالِق لا يُوصَفُ بِها؛ لأنَّهَا وإِنْ كَانت كامِلَةً فَهِي في الوَاقِع نقْصٌ، مِثْلُ الأَكْل والنَّوم والنكِّاحِ، ومَا أشْبَه ذَلِك، فهَذِهِ الصِّفاتُ في حقِّ المخلُوقِ صفَةُ كَمالٍ؛ لأَنَّ الَّذِي لا يأْكُل معْنَاه أنَّه مرِيضٌ، والَّذِي لا ينَامُ معْنَاه أنَّه مرِيضٌ، والَّذي لا يتزَوَّجُ معْنَاه أنَّه مرِيضٌ، ففَواتُ هَذِهِ الصِّفاتِ نقْصٌ في المخْلُوقِ، لكِنَّها لما كانَتْ تَكْمِيلًا لنقْصِه صارَتْ لا يُوصَفُ بِها الخالِقُ لحاجَةِ الإِنْسانِ إِلَى الأكل صَار يأْكُل، والَّذِي لَا يشْتَهِي ولَا يأْكُل آخِرُه المَوْت، وَكَذلِكَ لمَّا كانَ الإنْسانُ يتْعَبُ ويحْتَاجُ إِلَى صِفَةٍ تقْطَعُ هَذا التّعبَ {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النّبأ: 9]، صَار النَّوْم في حقِّه كَمالًا، وَكَذلِكَ لمَّا كانَ الإِنْسانُ محُتَاجًا إِلَى بقَاءِ النَّسْل والنَّوْع صارَ النِّكَاحُ في حقِّه كَمالًا، فَهُو في الحقِيقَةِ تكْمِيلٌ لنَقْصٍ، لكِنْ لَا يُوصَفُ الله بِه عز وجل؛ لأَنَّ الله كامِلٌ مِن جَمِيع الصِّفاتِ.
لَوْ قالَ قَائِلٌ: إنَّ الصِّفاتِ توْقِيفيَّةٌ، ولوْ فتَحْنا هَذا البابَ - كَما قَالَ شيخُ الإسْلام رحمه الله باسْتِعمال قِيَاسِ الأَوْلى في حَقِّ الله لكَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَقِيسُ بعَقْلِه ويُخْطِئُ؛ لأنَّهُ قدْ يظُنُّ أنَّ هَذا كَمالٌ، وهُو ليْسَ بِكَمَالٍ؟
قُلْنَا: يَرِد عليْنا هَذَا، لكِنْ نقُولُ: كُلُّ صفَةِ كَمالٍ مِن حيْثُ العُمُومُ والجِنْس
إِمَّا أنْ نقُولَ: كلُّ صفَةٍ تَثْبُت للمَخْلوقِ نُثْبِتُها للخالِق، وهَذا لا يُمْكِنُ ولَا يسْتَقِيمُ، إنَّما مِن حيْثُ الجِنْس كُلُّ صفَةِ كمَالٍ في المَخْلُوقِ فاللهُ أَوْلى بِها، والسَّمع مُؤَيّدٌ، قَالَ تعالَى:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} .
فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} فِيما ورَد مِنَ الصِّفاتِ؟
قُلْنَا: لَا، بَلْ مُطْلَقًا، حتَّى الأشْيَاءُ الَّتي قَدْ لَا تكون موْجُودةً في النّصِّ وهِيَ مِن صِفَاتِ الله، قصْدِي أنَّها مِنَ الكَمالِ، فاللهُ تَعالَى مُتَّصِفٌ بِها، لكِنْ في الصِّفاتِ الخبَرَّيةِ قدْ نَقُولُ أنَّه يَمْتَنِعُ أنْ يُقاسَ الله بِالخلْقِ حتَّى قِياسَ الأَوْلى كَالعَيْن وَاليَدِ ومَا أشْبَهَها، فهَذِه قَدْ نقُولُ: لَا يُمْكِنُ أنْ نَقِيسَ فِيها قِيَاسَ الأَوْلى، فالأُذُن في المَخْلُوقِ كَمالٌ لكِنَّها في الخالِق لا تثْبُتُ لَهُ؛ لأنَّهَا لمْ يَرِدْ بِها الشّرعُ.
الفوَائِدُ الثّامِنهُ والتّاسِعةُ والعَاشِرَةُ: إثْبَاتُ العِزَّةِ؛ لقوْلِه سبحانه وتعالى: {الْعَزِيزُ} وإثْبَاتُ الحِكْمةِ؛ لقوْلِه تَعالَى: {الْحَكِيمُ} ، وإثْبَاتُ الحُكْمِ أيْضًا مِنْ قوْلِه تَعالَى:{الْحَكِيمُ} .
الفائِدَةُ الحادِيَةَ عشْرَةَ: يتفرَّع عَلَى إثْبَاتِ الحِكْمَةِ قطْعُ الاعْتِراضِ عَلَى الخَلْق والشّرع، بمَعْنى أنَّك لا تعْتَرِضُ عَلَى خَلْقِ الله أوْ عَلَى شرْعِه، وإنَّما تُسَلّم؛ لأَنَّك إِذا آمَنْت بالحِكْمَةِ وأنَّ الله تَعالَى حَكِيمٌ فحِينَئِذٍ ينْقَطِعُ الاعْتِراضُ نِهائِيًّا، فلا تَقُلْ لمَ؟ ولَا مِن أيْنَ؟ إِلا عَلَى سَبِيل الاسْتِرْشادِ.
الفائِدَةُ الثَّانيَةُ عشرة: اطْمِئنانُ الإنْسانِ التَّامِّ بما قَدَّرَ الله تَعالَى وشَرَعَهُ، حيْثُ أنَّه صادِرٌ عَنِ الحِكْمَةِ.