الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (9)
* * *
* * *
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِنْ الأمَم وَهِيَ إهْلَاكهمْ بِتكْذِيبِهِمْ رُسُلهمْ {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} كَعَادٍ وَثَمُود {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} حَرَثُوهَا وَقَلَّبُوهَا لِلزَّرْعِ وَالغرْس {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أَيْ كُفَّار مَكَّة {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بِالحجَجِ الظّاهِرَات {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} بِإِهْلَاكِهِمْ بِغَيْر جُرْم {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بِتكْذِيبِهِمْ رُسُلهمْ] اهـ.
قوْله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} معْطُوفٌ عَلَى قوْلِه تَعالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} ، فالتّفَكُّر في خلْقِ السّموَاتِ وَالأرْض، والسّيرُ في الأرْض فقَط، ثمَّ السّيْرُ في الأرْضِ إِمَّا أنْ يكُونَ سيْرًا بالأقْدَامِ أوْ سَيْرًا بالأفْهَامِ، فَإنْ كانَ سيْرًا بالأفْهامِ فَهُو داخِلٌ فِيما سبَقَ، وقَدْ نَقُولُ: إِنَّ هَذا أخَصُّ مما سَبَقَ؛ لأنَّهُ قَال هُنَا: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، فهُوَ نَظَرٌ في حوَادِثَ لَا في خلْقِ الأرْض؛ فتكُونُ هَذِهِ الآيَة منفصَلِةً عَنِ التي قبْلَها مِن حيْثُ المعْنَى، فالأُولى تفْكِيرٌ؛ وَلِهَذا جاءَ متعلِّقُها
عامًّا: (فِي السّمَوَاتِ والأرْض ومَا بَيْنَهُما)، وَهَذا السّيْرُ لأمْرٍ مخصُوصٍ، أي الحوادِثِ، أنْ ينْظُروا كيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِين مِنْ قبْلِهِمْ، فيَشْمَلُ السّيْرَ بالقدَمِ، والسّيْرَ بالفكْرِ والفهْمِ، عَلَى القوْلِ بأنَّه سيْرُ أقْدَامٍ يكُونُ السّيْرُ حسِّيًّا، وعَلى الثّاني يكُونُ معنَوِيًّا، فيَشْمَلُ السّيْرَ الحسِّيَّ والسّيْرَ المعْنَوِيَّ.
إِذَا قَالَ قَائِلٌ: كيْفَ تطْلُبونَ مِنَ الإنسان أنْ يسيِرَ بقَدَمِه إِلَى مَواقِعِ العذابِ وقَدْ نَهى النّبيّ عليه الصلاة والسلام أَنْ ندْخُلَ مواقِعَ العقَابِ إلا ونحْنُ بَاكُونَ؟
قُلْنَا: لا تعارُضَ؛ لأَنَّ هَذا هُو المقْصُودُ، فالسّيْرُ إِلَى موَاقِعِ العذابِ المقْصُودُ بِه الاتِّعاظُ والانْزِجارُ، وَهَذا يتحَقَّقُ بالبكاءِ، وَلِهَذا نَهى النّبيُّ عليه الصلاة والسلام أنْ ندْخُل دِيَارَ ثَمُودَ إلا ونَحْنُ بَاكُونَ، وقَالَ:"إِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوهَا"
(1)
، وبعْضُ النّاسِ يذْهَبُ إِلَى دِيَارِ ثمُودَ عَلَى سبِيلِ النّزْهةِ والطّرَبِ والتّمتُّعِ بالمنَاظِرِ، وَلِهَذا يأْخُذُونَ لها صُوَرًا؛ إعْجابًا بها لا خوفًا، وَهَذا مِنْ قسْوَةِ القلْبِ - والعياذُ باللهِ -، والجهْلِ بِمَا جَاء بِهِ النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّ غالب هَؤُلاءِ الَّذِين يذْهَبُون لِهَذا المقْصَدِ يَكُونُونَ جاهِلِينَ، ولَا نَقُولُ: إِنَّ كلَّهم عنْدَهم قسْوَةُ قلْبٍ تعمَّدوا مخالفةَ الحقِّ، لكنَّنا نقُولُ أنَّ عنْدَهم شيْئًا مِنَ الجهْلِ أوِ الغالب عليْهِمُ الجهْلُ، وإلا لا يُمْكِنُ أنْ يفرَحَ أحدٌ في مكَانٍ نَهى الرّسُولُ عليه الصلاة والسلام عنْ دُخُولِه إلا في حَالِ البكاءِ، وإلا فَإنَّ الإنسان الَّذي لا يعْرِفُ مِن نفْسِه اَنه إِذا ذَهَبَ سيتَأثَرُ حتّى يَبْكي لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يدْخُلَ؛ لأَنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نَهى عَنْ ذَلِك.
(1)
في قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ المعَذَّبينَ إلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ"، أخرجه البَخاري: كتاب الصّلاة، باب الصّلاة في مواضع الخسف والعذاب رقم (433)، ومسلم: كتاب الزّهد والرّقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذّين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، رقم (2980).
وقوْله تَعالَى: {فِي} معنَاها (عَلى)؛ لأنَّهَا لوْ أُخِذَتْ بِظاهِرِهَا لكَانَ السّيْرُ في سرَادِيبَ تحْتَ الأرْض؛ لأَنَّ {فِي} للظَّرْفِيَّةِ، والظّرْفُ محِيطٌ بِالمظْروفِ مِن جَمِيعِ الجوَانِبِ، ولا يُمْكِنُ أنْ تُحِيطَ بِك الأرْض مِن جَميعِ الجوانِبِ إلا إِذَا كُنْتَ دَاخِلَ الأرْض في سرْدَابٍ، ولَيْس هَذا مُرادًا، فَعلَى هَذا تكُونُ {فِي} بِمَعْنَى (عَلَى).
وقِيلَ إِنَّ {فِي} للظَّرْفِيَّةِ عَلَى بَابِها ولَا حاجَةَ إِلَى تأْوِيلِها، وأنَّ ظَرْفِيَّةَ كُلِّ شيءٍ بحسَبِه، فيَكونَ معنَى قوْلِه سبحانه وتعالى:{فِي الْأَرْضِ} : فِي ظَهْر الأرْض، وكُلُّ أحدٍ يعْرِفُ أنَّه لا يُرادُ أنْ تخْرِقَ الأرْض وتَمْشِيَ في أسْفَلِها، ولَا أحدَ يفْهَمُ هَذا، وأيًّا كَان فَإِنَّ المرَادَ السّيْرُ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إذَا كانَ يسِيرُ عَلَى ظهْرِ الأرْضِ فإِنَّ الأرْضَ تكونُ محيطَةً بِه؟
قُلْنَا: لَا تكونُ محيطَةً بِه مِنْ يمينِه وَيسَارِه، إذْ لَا تُوجَدُ جُدْرانٌ.
وعَلَى كُلِّ حَالٍ: فالمعْنَى واضِحٌ، وحَتّى لَوْ قُلْنا إِنّ {فِي} للظَّرْفِيَّةِ، فإنَّ الظّرْفَ في كُلِّ موْضِعٍ بحسَبِهِ، وليْسَ بِلَازِمٍ أنْ يكُونَ (في) بمعنَى جَوْف.
وقوْله سبحانه وتعالى: {فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} : الأرْضُ مفرَدٌ، والمرادُ بِه الجِنْس، أي الأراضِي التي وَقَع العذَابُ بأَهْلِها، مثْلَ دِيارِ ثَمُودَ والأحْقَافِ ودِيَارِ قَوْمِ لُوطٍ، كَما قَالَ الله تَعالَى:{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر: 76].
قوْله تَعالَى: {فَيَنْظُرُوا} : هَل نظَرَ بَصَرٍ أوْ نظَرَ بَصِيرَةٍ؟
والجوابُ: إِنْ كانَ السّيْرُ بالقدَمِ فالنّظَرُ نظَرُ البصَرِ، وإِنْ كانَ السّيْرُ بالفهْمِ فالنّظَرُ نظَرُ بَصِيرَةٍ، يعْني فينْظُروا بعَيْنِ البصِيرَةِ أوْ بعَيْن البصَر حسَبَ السّيْرِ كَمَا سَبَق.
والمرَادُ بعَيْنِ البصِر الَّذي يُؤدِّي إِلَى عيْنِ البصِيرَةِ، وَليْس المقْصُود أنَّك إِذا
سِرْتَ بقدَمِك وَوصلْتَ المكانَ تُغْمِضُ، بلْ تنْظُر بعَيْنِك.
وهلْ النّظَرُ بالعيْن يُفيدُ أوْ لا يُفيدُ؟
إِن كانَ ليْسَ فِيه بصِيرَةٌ فَلا يفيدُ، فالمرَادُ بالسّيْرِ عَلَى القدَمِ النّظَرُ بالعيْنِ لِيُؤدِّيَ ذَلِك إِلَى النّظَرِ بالبصِيرةِ، وإلّا فالنّظرُ المبَاشِرُ بالسّيرِ عَلَى القدمِ هُو بِالعيْن.
وقوْله تَعالَى: {فَيَنْظُرُوا} : (الفاء) هنَا يَجوز فِيها وجْهَانِ:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنْ تكُونَ عاطِفَةً، والمعْنَى: أفَلَمْ يَسيرُوا فَلَمْ ينْظُروا.
الوَجْهُ الثَّاني: أنْ تكُونَ سبَبِيَّةً، والمعْنَى: أفَلَمْ يَسيرُوا فَيَنْظُروا، فبِسَبب سيْرِهم ينْظُرون كيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِين مِن قبْلِهم.
وقوْله تَعالَى: {يَسِيرُوا} و {فَيَنْظُرُوا} : مجْزومانِ بحذْفِ النّونِ، والوَاوُ فَاعِلٌ؛ لأنَّهما مِنَ الأفْعَالِ الخمْسَةِ.
وقوْله تَعالَى: {كَيْفَ} : اسمُ اسْتِفْهامٍ خبرُ {كَانَ} مقَدَّمًا، و {عَاقِبَةُ} اسْمُها في مكانِها، والعاقِبَةُ مصْدَرٌ بمعْنَى العقْبى، وعاقِبَةُ الشّيْءِ ما يتْلُوه وَيأْتِي بعْدَهُ، فقوْلُه تَعالَى:{عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، أيْ مَا تَلا تكْذِيبَهُمْ لِلرُّسُلِ.
قولُه رحمه الله: [{الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} مِنَ الأمَم، وهِي إهْلَاكُهُم بتكْذِيبهم رُسُلَهم]: كانَت عاقِبَةُ ثمودَ الإهلاكَ والدّمارَ، وعادٌ الَّذِين استكْبَرُوا في الأرْضِ وقَالُوا:{مَن أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} أيْ: لَا يُوجَدُ أحَدٌ أشَدُّ منَّا قُوَّةً، كانَتْ عاقبَتُهم أنْ أُهْلِكُوا بأَمْرٍ مِن ألْطَف الأشْيَاء وهُو الرّيحُ، وَالرّيحُ جسْمٌ لطِيفٌ لَا يُرَى، لكنَّ هَؤُلاءِ كِبارَ الأجسامِ شدَيدي القوى أُهْلِكُوا بهذِه الرّيحِ اللَّطيفَةِ التي لا تُرى ليتبيَّنَ ضعْفُ الإنسان، وأنه مهْما كانَ فاللهُ عز وجل أقْوَى مِنْهُ، كَما قَال تعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] ، وَكَذلِكَ قُرَى قومِ لوطٍ الَّذِين أُتْرِفُوا فتَلِفُوا - والعياذُ باللهِ -، أُتْرِفُوا ونُعِّمُوا حتَّى كانُوا مِنْ شِدَّةِ التّرفِ - والعياذُ باللهِ - يعْدِلُونَ عمَّا خلقَ الله لهمْ مِنْ أزْوَاجِهِمْ إِلَى إِتْيانِ الذّكُورِ، نسْأَل الله العافِيَةَ.
قوْله تَعالَى: {كَانُوا} : جمَلةٌ استئنَافِيَّةٌ يُراد بِها بَيان حَال هَؤُلاءِ السّابِقِينَ.
قولُه رحمه الله: [{أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} كعاد وثمود]: لا أشُكُّ أنَّهم أشَدُّ مِن قُرَيْشٍ قوَّةً، فعَادٌ معرُوفَةٌ قوَّتُهم {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 6 - 8] وثمودُ أيضًا الَّذِين ينْحِتُون مِن الجبال بُيوتًا فارِهِين، بُيوتًا آمِنَة عاليَةً شامخةً مِنَ الجبَالِ وَالأحْجَار، وَهَذا يدُلُّ عَلَى القوَّةِ، ومنَ السّهولِ يتَّخِذُون قصورًا عظِيمةً فخْمَةً، {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} [الأعراف: 74] ، وهَذا لمْ يحَصُلْ لأهْلِ مكَّةَ، ومَع ذَلِك دمَّرهم الله عز وجل بكُفْرِهم وتكْذِيبِهِمْ.
قوْله تَعالَى: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} : معطُوفٌ عَلَى {كَانَ} ، وليْسَ معطوفًا عَلَى خَبَرِ كانَ، أيْ عاقبةُ الَّذِين مِنْ قبْلِهم أثَارُوا الأرْضَ، وليْسَتْ معطُوفةً عَلَى {أَشَدَّ} ، حتَّى نقُولَ: كانُوا أشَدَّ منْهُم وكانُوا أثَارُوا الأرْضَ وعَمَرُوها، بَلْ معطُوفَةً عَلَى كَانَ.
قوْله رحمه الله: [{وَأَثَارُوا الْأَرْضَ} حرثوها وقلبوها للزرع والغرس]: هَذِهِ إثارَةُ الأرْض، فالإنسان إِذا حرَثَ الأرْضَ لَا شكَّ أنَّه يُثيرُهَا، والحرْثُ معرُوفٌ بالمسحاة
(1)
أوْ بالجرَّاراتِ تُثِيرُ الأرْض يْعْنِي ترفَعُها، وَكَذلِكَ أيضًا الغرْس فإِنَّ الإنسان يُثيرُ الأرْضَ ليَحْفِرَ للشَّجَرةِ حتَّى يثبَتها، فهَؤُلاءِ أشَدُّ منْهُم قوَّةً، وأيضًا قَد أثَارُوا الأرَاضِيَ، أمَّا أهْلُ مكَّةَ فلَمْ يُثيروا الأرْضَ؛ لأنَّهُم في وادٍ غيْرِ ذِي زَرْعٍ.
(1)
المسحاة: كالمجرفة إلا أنها من حديد، الصّحاح للجوهري (7/ 223).
قوْله تَعالَى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} : أي السّابِقُون عمَرُوا الأرْضَ بالتّجارَةِ والبنَاءِ والمصانِع وغيرِها، فسُلَيْمانُ عليه الصلاة والسلام قالَ الله لَهُ:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] والجفانُ الصّحَافُ التي فِيها الطّعامُ، {كَالْجَوَابِ} والجابِيَةُ هِي بِرْكَة الماءِ، فَالصّحْفَةُ مِثْل بِرْكَةِ الماءِ، هَذا عظِيمٌ {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} لا تُحمَلُ مِنْ كِبَرها وكثْرَةِ الطّعامِ فِيها، هَذا كُلُّه ومَا هُو مِثْلُه لمْ يحْصُلْ لِقُرَيْشٍ.
قوُله رحمه الله: [{جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجَجِ الظّاهِرَاتِ]: (الباءُ) للمُصَاحَبةِ أوْ للتَّعْدِية، والمعْنَى أنَّ الرّسَل - علَيْهِمُ الصلاةُ والسّلامُ - جاءَتْهُم مِنْ قِبَل الله تعالى {بِالْبَيِّنَاتِ} ، أي بالحجَج البيِّنات، أوْ قُل: بِالآيَات البيِّنَاتِ التي تشْمَلُ الحجَجَ والأحْكامَ؛ فإِنَّ الحكْمَ إِذا كانَ حُكْمًا عادِلًا نافِعًا للعِبَادِ فإِنَّهُ بَيِّنَةٌ تدُلّ عَلَى صِدْق مَن أتى بِه، فَالرّسُلُ كُلّهم جَاؤُوا بالبيِّناتِ، ومَا مِنْ رسُولي إلا أَتى بِبَيِّنَةٍ، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25].
إِذَنْ: فمَعَ كُلِّ نَبِي كِتاب، كُلُّ نبِي لَهُ كِتَابٌ، وكُلُّ نَبِي لَه آيات بَيِّنَاتٌ، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
المُهِمُّ: أنَّه مَا مِن رسُولٍ إلا مَعَه بَيِّنة وكِتَابٌ.
قوُله تعالى: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} : (اللَّامُ) في قولِه {لِيَظْلِمَهُمْ} تُسَمَّى لامَ الجحُودِ، أيْ لامَ النّفْي؛ لملازَمَتِها لَهُ، وهِي التي سبقَها (لم يكن)، أو (ما كان)، وهِيَ تنْصِبُ الفعْلَ المضَارعَ.
وقوْله تَعالَى: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} : إِذا قِيلَ: (مَا كانَ الله ليَفْعَل كَذا)
ومَا أشْبَه ذَلِك فاعْلَم أنَّه مُمتنِع غايةَ الامْتِنَاعِ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، أيْ ممتَنِعٌ غايَةَ الامْتِنَاعِ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59] ، مُمتنِع غايَةَ الامتِنَاعِ، وهَكذا كُلَّما جَاء مثْلُ هَذا التّعبيرِ، فالمرَادُ أنَّه ممتَنِع غايَةَ الامْتِنَاعِ.
والظّلمُ في أصْلِ اللُّغَة النّقْصُ، ومنْهُ قولُه تَعالَى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] وهُوَ في الشّرِع كَذَلِكَ نَقْصٌ فِيما يَجِبُ، فيَشْمَلُ الإهْمالَ في الوَاجِبِ والتّعدِّي في المحَرَّم، فالتّعدّي في المحَرَّمِ نقْصٌ؛ لأنك بَخَسْتَ نفْسَك حقَّها؛ حيْثُ لَمْ تجتَنِبِ المحَرَّمَ، وَكَذلِكَ أيضًا التّقْصِيرُ في الوَاجِبِ نقْصٌ، فمَنْ قصَّرَ في واجبٍ فقَدْ ظَلَم نفْسَهُ، ومَنْ تعدَّى في مُحرَمٍ فقَدْ ظلَم نفْسَهُ؛ لأَنهُ نَقَصَ مِمَّا يَجِبُ أنْ يُعامِلَ بِه نفْسَهُ، فيَكُونُ الظّلْمُ إِمَّا تركًا لوَاجِبٍ، وإِمَّا فِعْلًا لمُحَرَّمٍ.
وبِالنّسبَةِ للهِ سبحانه وتعالى فإنَّ نَفْيَ الظّلْمِ صِفَة سلبِيَّةٌ، تتضَمَّنُ كَمالَ العدْل، فهُوَ لَا يظْلِمُهُمْ لا لأَنهُ عاجِز عنْهُم، ولا لأنهُ غَيْرُ قابِلٍ لَهُ، ولكِنَّهُ لِكَمالِ عدْلِه عز وجل لَا يُمْكِنُ أنْ يَظْلِم.
ونَفْيُ الظّلْمِ يكُونُ لِثلاثَةِ أسْبَابٍ: إِمَّا لِكمال العدْلِ، أَو العجْزِ، أوْ عدَمِ القابِلِيَّةِ.
فَإِذا قُلْت: إِنَّ الجدارَ لَا يَظْلِمُ فهُو لِعَدم القابِلِيَّةِ لَا يَقَع منْهُ الظّلْمُ أصْلًا.
وإِذا قُلْتَ: فُلانٌ ضعِيف لَا يظْلِمُ عدُوَّه، فهَذا للْعَجْزِ، قَال الشّاعِرُ
(1)
:
قَبِيلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ
…
وَلَا يَظْلِمُونَ النّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
(1)
هو النّجاشي الحارثي واسمه قيس بن عمرو، انظر الحماسة الشّجرية (452)، والشّعر والشّعراء (1/ 288).
فهُم لا يظْلِمُونَ لِعَجْزِهم.
وإِذَا قُلْتَ: إِنَّ الله لا يَظْلِمُ النّاسَ شيْئًا، فهُوَ لِكَمَالِ عدْلِه، فإنَّه قادِرٌ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يظْلِمَ لكِنَّهُ ممتَنِع علَيْه لكَمَالِ صِفاتِهِ، وقَالت الجبرَّيةُ أنَّه لا يَظْلِمُ لعَدَمِ قابلِيَّته، واللهُ سبحانه وتعالى يمْلِكُ جَمِيعَ الخلْقِ فتصَرُّفُه في مُلْكِه ليْسَ بظُلْمٍ، ولا يُتَصَوَّرُ الظَّلْمُ في حَقِّ الله لَا لِكَمَالِ عدْلِه، ولكِنْ لأنهُ غيْرُ قابِلٍ لهُ؛ وَهذا قَال ابْنُ القيِّم
(1)
:
وَالظّلْمُ عِنْدَهُمُ المحُالُ لِذَاتِهِ
…
...
…
...
…
...
…
فهُو مُحَالٌ لذَاتِه عنْدَهُمْ، لا يُتَصَوَّرُ الظّلْمُ في حقِّ الله، ولكِنَّ قولَهم هَذا لَا يُعَدُّ مدْحًا لله عز وجل ولا ثناءً ولا كمالاً، إِذْ نَفْيُ الظّلمِ لا يكونُ مدْحًا وكمَالًا إلا إِذا كانَ مَع القُدْرَة علَيْه وإمْكَانِه، لكِنْ منَعَه كمالُ عدلِه منْهُ.
وقوْلُه تَعالَى: {أَنْفُسَهُمْ} : منْصوبَة عَلَى أنَّها مفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لـ {يَظْلِمُونَ} ، يعْنِي ولَكِنْ كانُوا يظْلِمُونَ أنْفُسَهُم، والمرادُ أنَّهم يظْلِمُونَ أنْفُسَهم بمعصِيَةِ الله، إمَّا بتَرْك واجِبٍ أوْ فِعْلِ مُحرَمٍ، وسيَأْتِينا إِنْ شَاءَ الله في الفوائِدِ مَا تدُلّ علَيْه هَذِهِ الجمْلَةُ.
المُهِمُّ: أنَّ الله تَعالَى مَا ظَلَم هَؤُلاءِ المكَذِّبِينَ الَّذِين أهْلَكُهم، ولَكِنْ هُمُ الَّذِين ظلَمُوا أنْفُسَهم، فالجنَايَةُ منْهُم عَلَى أنْفُسِهم، واللهُ عز وجل عامَلَهُم بِكَمَالِ العدْلِ.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائِدَتَانِ الأوْلَى والثانِيَةُ: تَوْبِيخُ مَنْ غَفِلوا عَنِ السّيْرِ في الأرْضِ سواء بأبْدَانِهم أوْ بقُلُوبِهم، لأَنَّ الاسْتِفْهام في قوْلِه سبحانه وتعالى:{أَوَلَمْ يَسِيرُوا} للتَّوبيخِ، ويتفَرَّعُ عَلَى ذَلِك الحثُّ عَلَى السّيْرِ في الأرْضِ، ومن السّيْرِ في الأرْضِ بالقلوب مراجَعَةُ كُتُبِ
(1)
الكافية الشّافية في الانتصار للفرقة النّاجية - القصيدة النّونية (ص: 63).
التّارِيخِ والأمَمِ؛ لأَنَّ مَن راجَعَها لا سِيَّما التّوارِيخَ الحرِيصَةَ عَلَى الضّبْطِ والموْثُوقَةِ، مَن راجَعَها يتبيَنُ لَه العجَبُ العجَابُ في خَلْقِ الله عز وجل ومداوَلتِه الأيامَ بَيْنَ النّاسِ، وتغْييره للْأُمورِ، وتَزِيدُ الإنسان إيمانا باللهِ، لكِنْ إِنْ كانَتْ هَذِهِ الحوادِثُ مِنَ السّير النّبويَّةِ وسِيَرِ الخلَفاءِ الرّاشِدِينَ ازْدَادَ بِها مَع الإِيمَان باللهِ أنْ يصْطَبغَ بصِبْغَتِها، ويَحْتَذي حذْوَها في السّيْرِ، وإِنْ كانَتْ مِنَ الأمُورِ العامَّةِ العابِرَةِ فإِنَّهُ يَسْتدِلُّ بِها عَلَى قُدْرَةِ الله عز وجل وكَمَالِ سْلطانِهِ وتغْيِيِر الأمُورِ.
فالمُهِمُّ: أنَّ السّيْرَ في الأرْضِ - بمعْنَى مُراجَعةِ الحوادِثِ والتّوارِيخِ - يفيدُ المرْءَ، وَيعْتَبِر بِها، ولكِنَّها لا تُفِيد كُلَّ أحَدٍ، كَما قَال سبحانه وتعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} [ق: 37].
الفائدة الثالثة: أنَّ عاقِبةَ الكفَّارِ وخِيمَةٌ؛ لقوْلِه تَعالَى: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
الفائدة الرابعة: أنَّ الإنسان مهْمَا قَوِيَ فهُو ضعِيفٌ بالنّسْبَةِ لِقُوَّةِ الله؛ لقوْلِه تَعالَى: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} ، ومَعَ ذَلِك لَمْ يتَحَصَّنُوا بِهَذا مِنْ عَذابِ الله، بَلْ إِنَّ الله تَعالَى بحكْمَتِه أهْلَك أعْتَى أهْلِ الأرْضِ بأَهْوَنِ الأشْيَاءِ وألطَفِها، وهُمْ عَادٌ أُهْلِكُوا بالرّيحِ، ومَنْ كَانَ يفْتَخِرُ بالأنْهَارِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِ أهْلَكَهُ بالماءِ الَّذي كانَ يفْتَخِرُ بِه بالأمْسِ، وَهَذا مما يدُلُّ عَلَى كمَالِ سُلطانِ الله تَعالَى وعظَمَتِهِ، وأَنَّه مهْمَا قوِيَ الإنسان فهُوَ ضَعِيفٌ بالنّسْبَةِ لقُوَّةِ الله سبحانه وتعالى، وأظُنُّ أنَّهُ في حَوَالي عَامِ ألف وأرْبَعِمِئة حصَلتْ هزَّةٌ أرضِيَّةٌ في إِيرانَ دمَّرَتْ في لمْحِ البصِر خمسًا وعِشْرِينَ ألف نَسمَة مِنْ بَني آدَم، فضْلًا عَنِ الحيَواناتِ والمواشِي ومَا إِلَى ذَلِكَ، ودمَّرَتْ مِئَتَيْنِ وثَلاثِينَ قرْيَةً ومَدِينتيْنِ كبِيرَتَيْنِ، والهزَّة ليْسَت
تهُزُّ مثْلَ الأرْجُوحَةِ، إنَّما هِي كلَمْحِ البصرِ مثْلَ ما حكَاهَا إِنْسَان كَتَبَ للشِّيخِ عبْدِ العزيزِ بْنِ بَازٍ في الهزَّةِ التي أصَابَتِ اليَمَنَ، فصوَّرَها تصْوِيرًا عجِيبًا في سُرْعَتِها، وأصواتٍ صَحِبَتْهَا وحالِ النّاسِ والرّعْبِ الَّذي أصَابَهُم حتَّى أنَّها، {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 2].
فهَذِه القُدْرَة العظِيمَةُ لَا يُمْكِنُ لأحَدٍ أنْ ينْجُو منْهَا إِذا شاءَها الله عز وجل أبدًا، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65].
الفائدة الخامسة: أنَّ التّأمّلَ في حَال الكفَّارِ للاعْتِبَارِ، يعْني أنْ يعْتَبِر بِه الإنسان أمْرًا مطلوبًا لَوْ جَاء إِنْسَانٌ وَأرَادَ أنْ يدْرُسَ تارِيخَ أمَّةٍ كافِرَةٍ ماذَا حصَل لَها ومَا الَّذي جاءَها، فإنَّنا لا نَنْهاه عنْ ذَلك ما دامَ يُريدُ أنْ ينتفِع بِهَذا، وَيعْرِفَ مَاذا كانَت عاقِبَةُ المجْرِمينَ، فإِنَّهُ مأمُور بِه، أمَّا إِذا كَانَ يُريدُ أن يتَعَجَّبَ مِنْ قُوَّتهم وصنْعَتِهم ومَا إِلَى ذَلِك فإِنَّهُ يُنْهَى عنْهُ، مِثْل مَا قُلْنا في الَّذِين يذْهَبُونَ إِلَى دِيَارِ ثَمُودَ قصْدُهُمُ التّفْرّج والنّزْهَةُ، فهَذا حرَامٌ والذِين قصْدُهُم الاعْتِبار فهَذا جَائِزٌ بالشّرْطِ الَّذي ذَكَرَهُ النّبيُّ عليه الصلاة والسلام، وهُوَ ألَّا يدْخُلوها إلا وهُم بَاكُون
(1)
.
الفائدة السادسة: أنَّ إِثارَةَ الأرْضِ مِنْ أسْبَابِ القوَّةِ، أي الاشْتِغَالُ بِالزّراعَةِ مِنْ أسْبَابِ القوَّةِ بِلا شَكٍّ؛ لأنَّهَا يحْصُل بها الاكْتِفاءُ الذّاتِيُّ عَنِ الغيْرِ، فإِذا كَانَت بِلادُنا - مثَلًا - تُنْتِجُ الثّمارَ والزّروعَ استَغْنينَا بذَلِك عنْ غَيرِنا، وَرُبَّما يكُونُ لدَيْنا فائِضٌ
(1)
في قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ المعَذبينَ إلا أَنْ تَكُونُوا بَاكينَ فَإِنْ لم تَكُونُوا بَاكينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصابَهُمْ"، أخرجه البَخاري: كتاب الصّلاة، باب الصّلاة في مواضع الخسف والعذاب رقم (433)، ومسلم: كتاب الزّهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذّين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، رقم (2980).
نُصدِّرُه لغَيرنا فنكسبُ، فإِثَارَة الأرْضِ مِنْ أسْبَابِ القوَّةِ، وَكَذلِكَ عُمْرَانُ الأرْضِ بِغَيْر الإثَارةِ بالبنَاءِ والتّجَارَةِ وما أشْبَهَ ذَلِك مِنْ أسْبابِ القوَّةِ.
الفائدة السابعة: أنَّ الله سبحانه وتعالى ما تَرك أحدًا بدُونِ رُسُلٍ؛ لقوْلِه تَعالَى: {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} .
الفائِدَةُ الثّامِنهُ: أنَّ كلَّ رسولٍ معَه بيِّنَة تُؤَيِّدُهُ؛ لقوْلِه سبحانه وتعالى: {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} .
الفائِدَتانِ التّاسِعَةُ والعاشِرَةُ: نسْتَفِيدُ مِن إِرْسالِ الرّسُلِ وإيتَائِهِمُ البيِّناتِ فائِدَتَيْن وهُمَا:
أولًا: رحْمَةُ الله عز وجل وحِكْمَتُه، أمَّا الرّحمَةُ فلأنَّ العقُولَ لا يُمْكِنُ أن تهتَدِيَ لما يُريدُهُ الله منْهَا إلا بالوَحْي، فَلا يُمْكِنُ لِلإِنْسَانِ بعقْلِه أنْ يعْرِفَ كيْفَ يتوضَّأُ، وكَيْف يُصلّي، وكَيْفَ يصُومُ، وكَيْفَ يحجُّ.
إِذَنْ: لا بُدَّ مِن أنْ يكُونَ هناكَ رسُولٌ يَأتِيهِ الوَحْيُ مِنَ الله عز وجل ليبين لنا مَا يرْضَاهُ الله ومَا لا يَرْضَاهُ.
ثانيًا: كونُ هَؤُلاءِ الرّسُل يأتونَ بالبيَّناتِ مِن الرّحمَةِ لَوْ أَرْسَل الله الرّسُلَ بدُونِ بينات وألزَم العبَادَ أنْ يَخْضَعُوا لهمْ بِدُون أنْ يكُونَ هُناكَ بيِّنَةٌ يطْمَئنُّونَ إلَيْها يكُون في هَذا مِن العنَتِ والمشَقَّةِ مَا لا يعْلَمُه إلا الله، ولكِنْ مِن رَحْمَةِ الله جَلَّ وَعَلَا أنْ جعَلَ مَعَ كُلِّ نَبي بيِّنَةَ، ولَاحِظ أنَّ الأنبِياءَ الَّذِين تُقَيَّدُ نُبوَّتُهم ورسالَتُهم بزَمَنِ أوْ مكَانٍ وهُمْ جَمِيعُ الأنبِياءِ مَا عَدا محَمَّدَا عليه الصلاة والسلام تَجِدْ آياتهمْ غالبًا آيات حِسيَّةً تنتهي بانْتِهائِهِمْ، وتكُونُ بعْدَ موتهم خبَرًا يُنْقَلُ ويُؤثَر، أمَّا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فآياتُه اشتَمَلَتْ عَلَى
الأمْرَيْنِ: عَلَى أُمورٍ حِسِّيَّةٍ نُقِلَتْ بعْدَه وأُثِرَتْ، وعَلى أُمورٍ معْنَوِيَّةٍ بقِيَتْ بعْدَه مثْلَ القرآنِ العظِيمِ، ومثْلَ إخْبَارِه ببَعْض الأمُورِ الغيْبِيَّةِ التي وقعَتْ كَما أخْبَر؛ لأَنَّ رسالَةَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دائِمَةٌ ومستَمِرَّةٌ وثابِتَةٌ، فلا بُدَّ أن تكُونَ الآيات المؤيِّدةُ للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم باقية حتَّى تقُومَ بها الحجة عَلَى الباقينَ مِنَ النّاس لأَنَّ الباقِينَ مِنَ النّاسِ لم يشْهَدُوا الشّيْءَ بأيْدِيهم، وإنما هِي أخْبَارٌ تُؤْثَرُ، فإِنَّهُ كَما جاءَ في الحدِيث:"لَيْسَ الخبَرُ كالمعَاينة"
(1)
.
الفائدة الحادية عشرة: انتِفَاءُ الظّلْمِ عنِ الله؛ لكَمَالِ عدْلِهِ؛ لقوْلِه سبحانه وتعالى: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} .
فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: انتْفَاءُ الظّلْمِ عنِ الله نُوافِقُكُمْ علَيْه؛ لأَنَّ الله نفَاهُ عَنْ نفْسِه {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} ، لكنْ مِن أيْنَ لكُم قولَكُمْ:(لكَمَالِ عدْلِه)؟
فالجوابُ؛ لأنَّ النّفيَ يدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ المنْفَي، والانْتِفاءُ يُساوِي العدَمَ، والعدَمُ نفْسُه ليْسَ بشَيْءٍ، العدَمُ عدَمٌ عَلَى اسْمِهِ، فإِذا كَانَ ليْسَ بشَيْءٍ فلَا يكُونُ صفَةَ كَمالٍ يُثْنِي الله بِها عَلَى نفْسِه لانهُ ليْسَ بشَيْءٍ.
إِذَنْ: لاُ بدَّ مِن أنْ يكُونَ متضَمِّنًا لشَيْءٍ وهُو الإثْبَات، هَذا الإثْبَات إمَّا أنْ يكُونَ للعَجْزِ، وإِمَّا أنْ يكُونَ لعدَمِ القابليَّةِ، وإمَّا أنْ يكُونَ لكَمَالِ العدْلِ، والاحْتِمال اللائِقُ بالله عز وجل هوَ كمالُ العدْلِ، وَبِهذَا عرَفْنَا أنَّ التِزام نفْيِ الظّلْمِ لكمالِ العدْلِ لازِمٌ عقلي لا بُدَّ منْهُ بالنّسْبَةِ للهِ عز وجل ليْسَ بالنّسْبةِ لكُلِّ مَن يُنْفَى عنْه الظّلْمُ، وحِينَئِذٍ يُسْتَفَادُ منْهَا انتِفَاءُ الظّلْمِ لِكَمَالِ عدْلِ الله عز وجل.
(1)
أخرجه أحمد (1/ 215، رقم 1842).
الفائِدَةُ الثّانِيةَ عَشْرَةَ: أنَّ نفسَ الإنسان عنْدَه أمانَةٌ؛ تُؤخَذُ مِنْ قَوْلِهِ عز وجل: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، فأثْبَتَ الله تَعالَى ظُلْمَ الإنسان نفسَه، ولو كانَتْ غيْرَ أمانَةٍ لكَان غيرَ ظالم؛ لأنَهُ يتصرَّفُ ويتحَكَّمُ، لكنَّها أمانَة عنْدَهُ يَجِبُ علَيْه أن يَرْعاهَا حقَّ رعايَتها، وَهذا قَالَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِنْفَسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"
(1)
، وَهَذا كَما يشْمَلُ إعْطَاءَ النّفْسِ راحَتَها يشْمَلُ إِعْطَاءَ النّفْسِ حقَّها مِنَ العبادَةِ فَلا تُهْمِلْها، والإنسان فِيه ثلاثَةُ أنْفُسٍ: أمَّارَةٌ، ومطمَئِنّةٌ، ولوَّامَةٌ.
أمَّا المطْمَئِنَّةُ: فهِيَ التي تأمُرُه بِرِضَى الله.
وأمَّا الأمَّارَةُ بالسّوءِ: فهِيَ التي تأمُرُه بمعْصِيَةِ الله.
وأمَّا اللَّوَّامَةُ: فَهِي التي تلُومُه، سواءٌ لامَتْه عَلَى ترْكِ الشّرِّ فهذِه مِنَ النّفْسِ الأمَّارة التي تقولُ لَهُ: لماذا لَمْ تذْهَبْ مَع هَؤُلاءِ تشْرَبُ الخمْرَ وتَزْني وتُقامِرُ إِلَى آخرِه، فتَلُومُه عَلَى ما تَركَ من فِعْل السّوءِ، فهذِه تكونُ مِن الأمَّارة بالسّوءِ، وكذَلِك تُوجدُ نفْس لوَّامَة تلُومُهُ عَلَى فِعْل الشّرِّ وتَرْكِ الخيْرِ، وهَذِه هِي النّفْسُ المطْمَئِنّة.
فَفِي الإنسان ثَلاثُ أنْفُسٍ، كَما ذكرَ الله تَعالَى، وكُلُّ إِنْسَانٍ لابدَّ أنْ يكُونَ لَدَيْهِ هَذِهِ الأنفُسُ، وهِي فَي الحقِيقَةِ أوْصَافٌ وإلَّا فنَفْس العقْل أوِ التّفكِيرُ واحِد، الإنسان يُوجَدُ فِيه الجميعُ، يحسُّ مِن نفسِه أحْيانًا بما يأْمُرُه بالمعْصِيَةِ، ويحسُّ أحْيانًا بما يَعْمَلُ مِنَ الخْير، ويحسُّ أحيَانًا بما يَلُومُهُ.
ويُنْظَرُ أيُّهما التي تغْلِبُ، فَمِن النّاس مَن تغْلِبُه نفْسُهُ الأمَّارَةُ، وَمِنَ النّاسِ مَنْ تغْلِبُه المطْمَئِنّة، لكِنِ ابْتداءً خَلَق الله فِيه هَذِهِ القوى، فهَذِه القوَى النّفسِيَّةُ مخْلُوقَة في الإنسان.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب صنع الطّعام والتّكلف له، رقم (6139).
الفائدة الثالثة عشرة: أنَّ الإنسان بمعصِيَته لا يضُرُّ إلا نفسَهُ، ويدُلُّ لهذَا قوْلُ الله عز وجل في الحدِيثِ القدسِيِّ:"يَا عِبَادِيَ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِك في مُلْكِي شَيْئًا"
(1)
، يعْنِي لا يضُرُّه، فحتَّى لوْ خَرَجْتُم عنْ عِبَادِتي والتّعبُّدِ لي فإِنَّ ذَلِك لا يَضُرُّني.
الفائدة الرابعة عشرة: أنَّ العبْدَ فاعِل مختار؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، فأثْبَتَ الظّلْمَ منْهُم لأنفُسِهِمْ، ومنْ وجْهٍ آخَر يُؤْخَذُ أيضًا مِن نفْسِ الآية {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} ؛ لانهُ لَو كانَ يُجْبِرُهم عَلَى ذَلِك لكانَتْ عُقوبَتُهم ظُلْما، لو اعْتَقَدَ الإنسان أنَّ الله يُجْبِرُ الإنسان عَلَى فِعْلِ المعْصِيةِ ثمَّ يُعاقِبُهُ علَيْها فإنَّ هَذا ظلم، فَفِيها دَلِيل عَلَى الأفْعَالِ الاخْتِيارَّيةِ مِن جِهَتَيْنِ:
• مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
• ومنْ قوْلِه تَعالَى: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} .
الفائدة الخامسة عشرة: أنَّ الظّلْمَ في حَقِّ الله مِنْ حيْثُ هُو مُمكنٌ يعْني مِن حيْثُ القُدْرَةُ علَيْه فهُو ممكنٌ؛ وَهذا أثْنَى الله عَلَى نفْسِه بانْتِفَاءِ الظّلمِ عنْهُ، أوْ أثنَى عَلَى نفْسِه بنَفْيِهِ ظُلْمَه للعِبادِ، وَهَذا أحْسَنُ، ولَوْ كَان هَذا مِنَ الأمورِ المستَحِيلَةِ مَا كانَ هُناكَ محَلٌّ للثَّناءِ، فهُوَ قَادِرٌ عز وجل عَلَى أَنْ يظْلِمَ لَوْ شَاء، لكِنَّهُ لا يَشَاءُ ذَلِك لكَمَالِ عدْلِه.
إِذَنْ: فالظّلْمُ ممتَنِع عَنِ الله لكَمَالِ عدْلِهِ خِلافًا للجَهْمِيَّةِ الَّذِين يقُولونَ إِنَّ الظّلْمَ ممتَنِع لاستحالته بذَاتِهِ عَلَى الله، قَالُوا هَذا شيْءٌ مستَحِيلٌ فجَعلُوا محَلَّ الثّناءِ أمْرًا مستَحِيلًا عقْلًا.
* * *
(1)
أخرجه مسلم: كتاب البر والصّلة والآداب، باب تحريم الظّلم، رقم (2577).