المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيتان (31، 32) - تفسير العثيمين: الروم

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌الآيتان (31، 32)

‌الآيتان (31، 32)

* قَالَ اللهُ عز وجل: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الرّوم: 31 - 32].

* * *

قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{مُنِيبِينَ} رَاجِعِينَ]، مِن (أنابَ يُنِيب)، إِذا رَجع، وقوْلُه تَعالَى:{إِلَيْهِ} ، يعْنِي إِلَى الله تَعالَى فِيما أَمَر بِه، ونَهى عنْه يعْنِي الرُّجوعَ مِن معْصِيَةِ الله إِلَى طاعتِهِ، وقبْلَ ذَلِك مِن الشّرْكِ إِلَى التَّوْحيدِ، هَذَا معْنَى الإِنابَةِ.

وقد أثنى الله سبحانه وتعالى عَلَى المُنِيبِينَ علَيْه، كَما في قوْلِه تَعالَى:{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]، فالإِنابَةُ مِن أفْضَل الأَحْوَالِ لِلْعابِدِينَ؛ لأَنَّ المُنِيبَ إِلَى الله سبحانه وتعالى دَائِمًا يذْكُر الله بقلْبِه، لأَنَّهُ يعْلَمُ أنَّه قدِ انْتَقل مِن معصِيَتِه إِلَى طاعَتِه، ومِنَ الإِشْراكِ بِه إِلَى توْحِيدِه؛ حتَّى يعْبُدَ الله كأنَّهُ يَراهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَراهُ فإِنَّ الله يَراهُ.

يقُولُ المُفَسِّر رحمه الله: [حَالٌ مِنْ فَاعِلِ (أَقِمْ)، وَمَا أُرِيدَ بِه: أَيْ أَقِيمُوا]، حالٌ مِن فاعلِ (أَقم) في قولِه تَعالَى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} ، [وَمَا أُرِيدَ بِه] لأَنَّ المُفَسِّر رحمه الله قالَ:[{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أنْتَ ومَنْ تَبِعَك]، فتكُون {مُنِيبِينَ} حالًا مِنَ الفَاعِل ومَا تَبعه، وَهَذا مبْنِيٌّ عَلَى أنَّ الخطابَ في قوْلِه:(أَقِم) لِلرَّسولِ صلى الله عليه وسلم شخصِيًّا، أما إِذا قُلْنا: إِنَّ المُرادَ بِه الأُمَّة خُوطِب بِها زَعِيمُها فَلا حاجَةَ إِلَى هَذا التقْدِير،

ص: 186

فنقُول: {مُنِيبِينَ} حالٌ مِن فَاعِل (أَقِم)، ولَا مَانِعَ أنْ يكُونَ جمْعًا؛ لأَنَّ المُرادَ بالمُفْرَدِ في أوَّل الآيَةِ الجمْعُ.

قوْله تَعالَى: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ؛ قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَاتَّقُوهُ} خَافُوهُ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}].

التَّقْوَى مأخوذَةٌ مِن الوِقايَةِ، وأصْلُها (وَقْوَى)، والمُراد بالتَّقْوى اتِّخاذُ وِقايةٍ مِن عذَابِ الله بفِعْل أوَامِره واجْتِنابِ نَواهِيه، وجَميعُ التَّفاسِير الَّتي فُسِّرت بِها التَّقوى ترْجعُ إِلَى هَذا المَعْنى الجامِع العَامِّ، وهِي اتِّخَاذُ وِقايَةٍ مِن عَذابِ الله سبحانه وتعالى بِفِعْل أوامِرِه واجْتِنابِ نَواهِيه، فمَنْ كَان يعْبُدُ الله بفِعْل الأَوامِر لكِنَّهُ يفْعَلُ النَّواهِيَ فليْسَ بمُتَّقٍ، عنْدَه تقْوَى مِن وجْهٍ دُونَ وجْهٍ.

واعْلَم أنَّ التَّقوى عنْد الإطْلاقِ تشْمَلُ الدِّينَ كُلَّه كَما يقْتَضِيه هَذا التَّفْسيرُ، فإنْ قُرِنَتْ بالبِرِّ كقوْلِه تَعالَى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، صَار المُرادُ بِها ترْكُ المحْظُوراتِ، وصارَ المُرادُ بالبِرِّ فِعْلُ المأْمُوراتِ، وَهَذا اللَّفْظ لهُ نَظِيرٌ كثِيرٌ في اللُّغَة العرَبِيَّةِ، يكُونُ اللَّفْظ لَهُ معْنَى عنْد الانْفِرادِ ومعْنًى آخَر عنْد الاجْتِماعِ، والَّذي يُعَيِّن ذَلِك هُو سِياقُ الكَلامِ.

وقوْله تَعالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : أي: ائْتُوا بها قويمةً، وليْسَ المُراد بإِقامَتِها لفْظُ (قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ)، بَل أنْ تأْتِي بِها قَويمَةً، وإِقامَتُها عَلَى نوْعَيْن:

- إقامَة واجِبةٌ لا بُدَّ لصحَّةِ الصَّلاةِ منْهَا، وذَلك: الإِتيانُ بِالشُّروطِ والأَرْكانِ والوَاجِبَاتِ.

- وإقامَةٌ مُكمِّلةٌ، وهِي إضافَة المُستحبَّاتِ إِلَى ما ذُكِر، فإنَّ هَذِهِ إقامَةٌ مُكمِّلةٌ،

ص: 187

ومِن إقامَتِها المُكمِّلةِ أنْ يَأْتِي الإِنْسانُ بالنَّوافِل؛ لأَنَّ النَّوافِل - صلاةُ تطوُّعٍ - تُكَمَّلُ بِها الفَرائِضُ يوْمَ القِيامَةِ.

وقوْله تَعالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} : عَطْفُها عَلَى قوْلِه تَعالَى: {وَاتَّقُوهُ} مِن بَاب عطْفِ الخَاصِّ عَلَى العامِّ، وعطْفُ الخاصِّ عَلَى العامِّ يقْتَضِي زيادةَ الاعتناءِ به فهو دليلٌ عَلَى أهمِّيةِ الصلاةِ.

قوْله تَعالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : الخِطابُ هنا يعودُ عَلَى الفاعلِ في {مُنِيبِينَ} ، يعني حالَ كَوْنِكُم مُنِيبينَ غيرَ مُشركينَ أيضًا في إنابَتِكُم.

وقوْله تَعالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} يُشرِكونَ بالله وهو شاملٌ للشركِ الأصغرِ، والشّركِ الأكبرِ، وَهذا يُنهى الإنسانُ أنْ يفعلَ الشّركَ أيًّا كان نوعُهُ، قَالَ شَيْخُ الإسْلَامِ رحمه الله:"إِنَّ الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ الله وَلَوْ كَانَ أَصْغَرَ، وَالكَبَائِرَ تَحْتَ المَشِيئَةِ"

(1)

، وَاستدلَّ لِذَلِكَ بقوْله تَعالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، ووجهُ الدَّلالةِ من الآيَة أنَّ قوْلَه تَعالَى:{أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} مُؤَوَّلٌ بمصدرِ، فيكونُ المَعنى (إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ إِشْرَاكًا بِهِ)، فهو إِذَنْ نكرةٌ في سياقِ النّفي، فيشملُ جميعَ أنواعِ الشّركِ، وَلِهَذا قال ابنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:"لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا"

(2)

، لأَنَّ سيئةَ الشّركِ أعظمُ من سيئةِ الكَذِبِ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل ما ذهبَ إِلَيْهِ شيخُ الإسْلامِ صحيحٌ؟

قُلْنَا: ظاهرُ الآية أنه صحيحٌ.

وعَلَى كلِّ حَالٍ: فالشّركُ الأصغرُ لا يُخَلَّدُ صاحبُه في النَّارِ، بل يُعَذَّبُ به ولا بُدَّ.

(1)

جامع الرسائل لابن تيمية (2/ 254).

(2)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 468، رقم 15929).

ص: 188

قوْله تَعالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} : إذا قِيلَ: إن هَذا خطابٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم والشِّركُ في حقّه ممتنِعٌ.

قُلْنَا: لا يمتنعُ أنْ نُخَاطِبَ شخصًا بإثْبَاتِ ما هو علَيْه، أو بنفي ما هو مُنتفٍ عنه، ويكون المعنى الثُّبوت عَلَى ما ذُكِرَ، يقول الله عز وجل:{الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النّساء: 136]، هم مؤمنونَ، لكن المعنى: اثبتوا كَذَلِكَ، فأنتَ إذا قُلتَ لشخصٍ:(لَا تُشْرِكْ)، وهو لا يشركُ، صار المعنى: اثبت عَلَى نفي الشّركِ.

قال المُفَسّر رحمه الله: [{مِنَ الَّذِينَ} بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الجارِّ]، بدلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى:{مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وأفادَنا المُفَسّر رحمه الله أنَّ البدلَ عَلَى نوعَيْنِ، تَارَة بإعادةِ العاملِ، وتَارَة يكونُ بعدمِ الإعادةِ، فإذا قلتَ:(مَرَرْتُ بِزَيْدٍ أَخِيكَ) فَهَذَا بعدمِ إعادةِ العاملِ، وإذَا قُلْتَ:(مَرَرْتُ بِزَيْدٍ بِأَخِيكَ) فهَذا بإعادةِ العاملِ، وهنا قَالَ:{مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ} ، بدلٌ بإعادةِ العاملِ الَّذي هو حرفُ الجرِّ.

قال المُفَسّر رحمه الله: [{فَرَّقُوا دِينَهُمْ} بِاخْتِلافِهِمْ فِيمَا يَعْبُدُونَهُ، {وَكَانُوا شِيَعًا} فِرَقَا في ذَلِكَ {كُلُّ حِزْبٍ} مِنْهُمْ {بِمَا لَدَيْهِمْ} عِنْدَهُمْ {فَرِحُونَ} مَسْرُورُونَ].

قوْله تَعالَى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} : هَذَا وَصْفٌ لهَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ، وصفٌ مذمومٌ {فَرَّقُوا دِينَهُمْ} حيْثُ كان لكلّ واحدِ منهم مِلَّةٌ ونِحْلَةٌ، فهَؤُلاءِ يعبدونَ حَجَرًا، وأولئكَ يعبدونَ شمسًا، والآخرونَ يعبدونَ قمرًا، والرّابعُ يعبدُ شجرًا

وهكَذا، ثمَّ إنَّ لهم نِحَلًا مختلفةً فيما يَسْلُكونَهُ في مِنْهَاجِ عِبادتِهم، فَهُمْ فرَّقوا دِينَهُم، وفي قوْله تَعالَى:{مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} أي: شَتَّتُوهُ ووزَّعُوه، دليلٌ عَلَى أنَّه لا ينبَغِي للأمَّةِ الإسْلامِيَّة أنْ تُفَرِّقَ دِينَها؛ فاليهودُ والنّصارى فرَّقوا دِينَهُم، اليَهُودُ

ص: 189

افْتَرَقُوا عَلَى إحْدى وسبعينَ، والنَّصارى افْتَرَقُوا عَلَى اثنتَيْنِ وسبعينَ

(1)

، والمشركونَ الجاهليُّونَ حَدِّثْ ولا حَرَجَ في افتراقِهِم، فهَؤُلاءِ فرَّقوا دِينَهم، ودِينُهم ما يَدِينُونَ به، سواء كانوا يَدِينُونَ لمِخْلُوقٍ أو لخَالقٍ عَلَى زَعْمِهِمْ؛ لأَنَّ المُشْرِكِينَ يقُولونَ في آلهتِهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، أولئكَ أُناسٌ آخرونَ يَعْبُدُونَ ما يَعْبُدُونَ مِن الآلهةِ لا لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى الله، لكنْ لاعتقادِ أنَّها هي الآلهةُ وأنه لا إِلَهَ إلا هَذا المعبودُ عِنْدَهُمْ.

وقوْله تَعالَى: {وَكَانُوا شِيَعًا} : شِيَعًا يعني فِرَقًا، وأَصْلُ التَّشَيُّعِ أو الشِّيعة أصلُها الانتصارُ للشيء، فيمالُ:(شِيعَةُ فُلانٍ) أي أنصارُه فَهُم شِيَعٌ، كلُّ طائفةٍ منهم تَنْصُرُ ما هي علَيْه وتؤيّدهُ، يعني أنهم لم يقتصِرُوا عَلَى أن تَفَرَّقُوا فقط، بلْ كل واحدةٍ تدعو إِلَى ما هي علَيْه، ومعلومٌ أن من يدعو إِلَى ما هو علَيْه لا بُدَّ أن يحذرَ ممَّا يخالِفُه إذْ لا يتِمُّ الانتصارُ إلا بهذا.

قال المُفَسّر رَحَمَهُ اَلملَّهُ: [{كُلُّ حِزْبٍ} مِنْهُمْ].

حِزْبٌ بمعنى طَائِفَة، وسُمّيَتِ الطَّائِفَة المتَّفِقة عَلَى رَأْيٍ أو هَدَفٍ أو دِينٍ سُمّيَتْ حِزْبًا؛ لأَنَّ كلَّ واحدٍ منْهَا يَحْزِبُ الآخَرَ أي يُقَوِّيهِ.

وقوْله تَعالَى: {بِمَا لَدَيْهِمْ} : أي بالَّذي {لَدَيْهِمْ} ، بمعنى عندَهُم.

وهل {لَدَيْهِمْ} صِلةُ الموصولِ أو متعلقُها صلةُ الموصولِ؟

مُتَعَلقُها هو صِلة الموصولِ؛ لأَنَّ (لَدَى) ظرفٌ، بُنِيَ عَلَى السُّكونِ هنا لإضافَتِه

(1)

أخرجه أبو داود: كتاب السنة، باب شرح السنة، رقم (4596)، والترمذي: أبواب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم (2640).

ص: 190

إِلَى الهاء، وإلَّا فأصلُها مبنيٌ عَلَى فَتْحٍ مُقَدَّرٍ عَلَى آخِرِه، تقولُ:(جَلَسْتُ لَدَى زيدٍ) أي عِنْدَهُ، لكنْ هنا أُضِيفَ إِلَى الهاء، مثل:(إلى) أُضِيفَتْ إِلَى الهاء، يُقال فيها:(إليه)، و (على) يُقال فيها:(عليه)، وتقدَّم أنَّ الصلةَ هي متعلقُ الظَّرف، والجارُّ والمجرورُ يُقَدَّرُ فِعْلًا، بخلافِ خبر المُبتدأ فإِنَّهُ يُقَدَّرُ اسمًا، فإذَا قُلْت:(زَيْدٌ عِنْدَكَ) فالتّقديرُ: (زيدٌ عِنْدَكَ كَائِنٌ، أَوْ مُسْتَقِرٌّ)، وإذَا قُلْت:(أَكْرَمْتُ الَّذِي عِنْدَكَ)، أقولُ:(الَّذِي اسْتَقَرَّ عِنْدَكَ)، والفرقُ بَيْنَهُما أنَّ الأصلَ في خبرِ المبتدأ أنْ يكُونَ مفردًا يعني لا جُمْلة، وأمَّا صلةُ الموصولِ فالأصلُ أنْ تكونَ جملةً، عَلَى أنَّه يجوزُ أنْ تُقَدِّرَ (مُسْتَقِر) في صلةِ الموصولِ، لكنْ إذا قَدَّرْتَ المُسْتَقِرَّ في صلةِ الموصولِ فإِنَّهُ يجبُ أنْ تُقَدِّرَ مبتدأً لتكونَ جملةً، ومنْ أجلِ هَذا قلنَا: إنَّ الأَوْلى أنْ يقدِّرَ مِنَ الأصلِ فِعْلًا حتى لا يحتاجَ إِلَى تقديرِ مُبْتَدأ.

قوْله تَعالَى: {فَرِحُونَ} : خَبَرُ {كُلُّ} . وقالَ رحمه الله: [مَسْرُورُونَ]، لكن هَذا الفَرَحُ إنما وصفهم الله عز وجل به لأَنَّ مَنْ فَرِحَ بشيء لازَمَهُ، ولكنَّهُ فَرَحٌ مذمومٌ لأَنَّهُ فرحٌ بِباطلٍ، والفَرَحُ بالباطلِ لا شَكَّ أنَّه باطلٌ، لكنْ لو فَرِحُوا بما عندهُم من الحقِّ لَكَان فرحًا مسرورًا؛ لقوْلِه تَعالَى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، فالفرحُ لا يُذَمّ من حيْثُ هو فرح، ولكنه يُذَمُّ من حيْثُ مُتَعَلِّقه فإن كان فرحًا بباطلٍ فهو مذمومٌ، وإن كان فرحًا بحقٍّ فهو محمودٌ، أمَّا الأَشَرُ والبَطر الَّذي يَنتجُ عن الفرح فَهَذَا مذمومٌ بكلِّ حَالٍ، حتى لو كان فرحُ الإنسانِ بحقٍّ وأدَّاهُ ذَلِك الفرحُ إِلَى الأَشَرِ والبَطَرِ، مثل أنْ يفرحَ بما أعطاهُ الله من المالِ والبنينَ لكِنَّهُ - وَالعياذُ بِاللهِ - يتخذُ من هَذا وسيلةً إِلَى العُلُوِّ والاسْتِكْبَارِ، فإنَّ ذَلِك فَرَحٌ مذمومٌ لِنَتيجَتِه لا لِذَاتِه.

ص: 191

وقوْله تَعالَى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} إذا طَبَّقْناهُ الآن عَلَى الأحزابِ الموجودةَ وأنَّ كلَّ حزبٍ فَرِحٌ بما هو علَيْه مُسْتَمْسِكٌ به مُدَافِعٌ عنه مُوهِنٌ لِغَيرهِ وَجَدْنَا أنَّ الآيَةَ تَنْطَبِقُ تمامًا عَلَى ما يوجدُ الآن مِنَ الأحزابِ وَلا سِيَّما في الأمةِ العربيةِ، الأمةُ العرَبِيَّةُ الآنَ مُتَحَزِّبَةٌ، كلّ حزبٍ فَرِحٌ بما عندهُ، لكنَّ الأمةَ الإسْلامِيَّةَ لا تَتَحَزَّبُ لأنَّهَا حزبٌ واحدٌ هو الإسْلامُ حتى لو اختلفَتْ آراؤهُم، هَذا شافعيٌّ وَهَذا مالكيٌّ وَهَذا حنفيٌّ وَهَذا حنبليٌّ وَهَذا ظاهريٌّ وما أَشْبَهَ ذَلِكَ، فإنها في الحقيقةِ مُتَّفِقَة؛ لأَنَّ كل واحدٍ من هَذِهِ الأحزابِ لا يُضَلِّلُ الآخرَ، بل إنَّه يمدحُه إذا خالَفه بمقتضَى الدَّليلِ عنده، الإنسانُ العاقلُ المؤمنُ حَقًّا هو الَّذي إذا خالَفه غيرُه بمقتضى الدّليلِ عنده لا يَكْرَهُه بل يَحْمَدُه عَلَى هَذِهِ المخالفةِ؛ لأنَّهُ ما خالَفني لأني فُلان، خالَفني لأَنَّهُ يعتقدُ أنَّ الحقَّ معه، وَهَذا هو الواجبُ عليه، وواجبٌ عَلَى كلِّ مؤمنٍ أنْ يتبعَ الحقَّ إذا تبَيَّنَ له ولو خَالَفَ غيره.

إِذَنْ: فالطَّريقُ واحدٌ ولو اختلفَ المِنْهَاجُ؛ لأننا كلنا نُحَكِّمُ الكتابَ والسُّنةَ، وكلنا نعتقدُ أنَّ هَذا هو الحَق، فلماذا أَكْرَهُه لأنَّهُ خالَفني؟ والله تَعالَى يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، نَعَمْ مَنْ تبَيَّن لهُ الحَقُّ وأصَرَّ وعاندَ وعَلِمْنَا أنَّه مجُادِلٌ بالباطلِ فَهَذَا يَنزِلُ مَنزِلتَه، وَهَذا هو الميزانُ في قولهم:(لا إِنْكَارَ في مَسَائِلِ الاجْتِهَادِ)، فإن هَذِهِ العبارةَ اشتهرَتْ عَلَى الألسُنِ لكنها ليستْ عَلَى إطلاقِها؛ لأَنَّ مسائلَ الاجتهادِ نوعانِ:

أحدهُما: ما يَحْتَمِلُه الاجتهادُ، فَهَذَا لا إنكارَ فيه لأَنَّ كلَّ إِنْسَانٍ إذا اجتهدَ؛ إِنْ أصابَ فلهُ أجْرانِ، وإِنْ أخطأَ فلهُ أَجْرٌ، ولا يمكِنُ أنْ نَزِنَ النَّاسَ بميزانٍ واحدٍ؛ لأَنَّ العِلْمَ بالأحكامِ الشّرعيةِ يَتَفَاوَتُ بحسبِ الإِيمَان وحسب العلمِ وحسب الفَهْمِ،

ص: 192

فالعلمُ بالأحكامِ الشَّرعيةِ يَتَفَاوَتُ بهذه الثَّلاثةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يكونُ معه إيمانٌ صافٍ حتى يرى الحقَّ عَلَى ما هو علَيْه ويُفتح له بابُ الهِدايةِ، ومِنَ النَّاسِ مَنْ يكونُ في إيمانِه ضَعْفٌ فيُحْجَبُ عنه مِنَ الهِدايةِ بقَدْرِ ما نقص من إيمانه، فالإِيمَان له أثرٌ كبيرٌ حتى في العِلم، كما قال الشَّافعي رحمه الله

(1)

:

شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي

فَأَرْشَدَنِي إِلَى تَرْكِ المَعَاصِي

وَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ العِلْمَ نُورٌ

وَنُورُ الله لَا يُؤْتَاهُ عَاصِ

واللهُ عز وجل يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، ولا فُرقانَ إلا بعلمٍ، فالنّاسُ يختلفونَ في هَذا اختلافًا عظيمًا بحسبِ ما معهم من الإِيمَان والتَّقوى.

كذلك أيضًا يختلفُ النَّاس في العلمِ، مثلًا رجلانِ أحدُهما يعرفُ كُتُبَ السُّنة - البُخاري ومُسلم وغيرها من كُتب السُّنة - والثاني لا يعرفُ شيئًا، فلا شك أن الأولَّ أَعْلَمُ.

والثَّالثُ الفَهْم، فإنَّ النَّاسَ يختلفونَ فيه اختلافًا عظيمًا؛ وَهذا قِيلَ لِعَليِّ بنِ أبي طَالِب رضي الله عنه: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: "مَا عَهِدَ إِلَيْنَا بِشَيْءٍ إِلَّا مَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، أَوْ فَهْمًا يُؤْتِيهِ الله تَعالَى في القُرْآنِ"

(2)

، ولا شك أن النّاسَ يختلفونَ في الفهمِ، حتى إنَّ النَّصَّ الواحدَ تجدُ بعضَ النَّاسِ يَسْتَنْبِطُ منهُ عَشْرَ مَسَائِلَ، وآخَر لا يستنبطُ إلا مسألتينِ أو ثلاثة، وثالث يقول: أنَا أقرأُ لكم الحديثَ وعليكم الاسْتِنباط.

(1)

ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (4/ 86).

(2)

أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم (111).

ص: 193

فالحاصِلُ: أنَّ النّاسَ يَخْتَلِفُونَ لِذَلِكَ، أهل السُّنةِ والجماعةِ، والمسلمونَ عُمُومًا يقُولونَ: إنَّ اختلافَنا في الآراءِ ليس اختلافًا في الدِّينِ؛ لأننا كلنا عَلَى هَدَفٍ واحد ولا يُضَلِّلُ بعضُنا بعضًا إلا مَنْ عَلِمَ الحَقَّ وتَبَيَّنَ لهُ وعَلِمْنَا أنَّه مُعَانِدٌ.

قوْله تَعالَى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [وَفي قِرَاءَةٍ: "فَارَقُوا" أي: تركوا دينَهُم الَّذي أُمِروا به].

قوْلهُ رحمه الله: [في قراءة]، أي: قراءة سَبْعِيَّة؛ لأَنَّ اصطلاحَ المُفَسِّر إذا قَالَ: (في قراءة) فهي سبعيَّة، وإذا قَالَ:(قُرِئَ) فهي شاذَّةٌ، هذا اصطلاحُ صاحبُ الجلالينِ، أمَّا غيرُه إذا قَالَ:(قُرِئَ) فقد تكونُ سبعيَّة أحيانًا.

من فوائد الآية الكريمة:

الفائِدَةُ الأولَى:: أنَّ الخِطابَ للرسولِ صلى الله عليه وسلم خطابٌ له ولأمتهِ؛ تُؤخَذ مِنْ قوْلِه تَعالَى: {مُنِيبِينَ} .

الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: وُجوبُ التَّقوى؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَاتَّقُوهُ} .

الفائِدَةُ الثَّالثةُ: وُجوبُ إقامةِ الصَّلاةِ؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} .

الفائِدَةُ الرابعةُ: شَرَفُ الصَّلاة وفضلُها؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} خَصَّهَا.

الفائِدَةُ الخامسةُ: النَّهْيُ عن الشِّرك صَغِره وكبيرِه؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

الفائِدَةُ السادسةُ: شدةُ التَّنفيرِ من الشِّركِ؛ نأخُذها مِنْ قوْلِه تَعالَى: {وَلَا تَكُونُوا

ص: 194

مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، بعدَ قوْلهِ تَعالَى:{وَاتَّقُوهُ} فإِنَّهُ لا شك أنَّ تَرْكَ الشِّرْكِ من التَّقوى، لكن هَذا يكون عطفَ خَاصٍّ عَلَى عامٍّ.

الفائِدَةُ السابعةُ: أنَّ أهلَ الشَّركِ من شأنِهم ودَأْبِهم وعادتِهم التَّفَرُّقُ في الدِّين؛ لقوْلِه تَعالَى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} .

الفائِدَةُ الثَّامِنهُ: التَّنبيهُ عَلَى أنَّه لا ينبغِي للمؤمنينَ أنْ يَتَفَرُّقوا في دينِهم؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} ، والرَّسولُ عليه الصلاة والسلام أخبرَ أنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَتَّبعُ سَنَنَ مَنْ كان قبْلها، ومع ذَلِكَ فاتباعُ سَنَنِ مَنْ قبلها مُحرَّمٌ فَهَذَا أيضًا مثلُه، هَذا التَّفرق وإن كان موجودًا قَدَرًا لكِنَّهُ غيرُ محبوبٍ إِلَى الله شرعًا، وكانت هَذِهِ الأمةُ أكثرَ تفرقًا وإن كانت ليست أكثرَ تفرقًا في الواقعِ، لكن لما كانت ستتبعُ سَنَنَ مَنْ كان قبلها صارَ لا بُدَّ أنْ يكُونَ لها اثنتانِ وسبعونَ فِرقةً، يبقى من لم يتَّبع الفِرَقَ السَّابقةَ وهي واحدةٌ وهي الثَّالثة والسَّبعونَ، هَذا السَّبب في أن هَذِهِ الأمة ستفترقُ عَلَى ثلاثةٍ وسبعينَ فرقةً لأَنَّ اليَهُودَ واحدٌ وسَبْعُونَ، والنّصارى اثنتانِ وسبعونَ فرقةً، والرَّسول صلى الله عليه وسلم لما قالوا: اليَهُود والنّصارى؟ قَالَ: "فَمَنْ"

(1)

، فَهَذَا يدلُّ عَلَى أنهم هَؤُلاءِ.

ويحتملُ أنْ يكُونَ معنى (فَمَنْ) باعتبارِ الجِنْس، يعني: هَؤُلاءِ وغيرهم، لكن حديث: "افْتَرَقَتِ اليَهُودُ

وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى"

(2)

، يدلُّ عَلَى أنهم يُشْبِهُونَ هَؤُلاءِ.

والحاصلُ: أنَّ هَذِهِ الأمةَ ثلاثةٌ وسبعونَ فرقةً، منْهَا اثنتان وسبعون مُتَّبِعَةٌ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم"، رقم (7320)، ومسلم: كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، رقم (2669).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 195

لليهودِ والنَّصَارَى، ومنها واحدةٌ سالمةٌ ناجيةٌ.

وعَلَى كُلِّ حَالٍ: فقد حاولَ بعضُ العُلَماء أن يَعُدَّ الفِرَقَ، حاولوا أن يَعُدُّوها فقسموا بحسبِ أصولِ البِدَعِ إِلَى خمسةِ أقسامٍ، ثمَّ فرَّقوا هَذِهِ الأقسامَ حتى أوصلوها إِلَى اثنتينِ وسبعينَ فرقةً، ولكن المسألةَ فيها نظرٌ؛ لأننا لا ندري هَذِهِ الفِرَقَ. فإِلَى الآن لم تَقُم القيامةُ، وقد توجد فِرَقٌ لم توجد الآن تنتسبُ إِلَى الإسْلام وهي بعيدةٌ منه.

الفائِدَةُ التاسعةُ: أنَّ التَّفرق في الدِّين مُشابَهةٌ للمُشْرِكِينَ، فأولئك الَّذِينَ يتفرقونَ في دِينِهم من أجْل مسائلَ بسيطةٍ من فروعِ الدِّين القليلة أيضًا، هَؤُلاءِ فيهم شَبَهٌ من المُشْرِكِينَ تجد بعض النّاس يعادي صاحبَه أو أخاهُ من أجل أنَّه لا يطبِّق سُنّةً يراها، وَهَذا التّارك لها لا يراها، هَذا خطأ؛ لأنَّهُ تقدَّمَ أنَّه يجب عَلَى الإنسانِ أَلا يجعلَ الخلافَ المبنيَّ عَلَى الاجتهادِ سببًا للنزاعِ والبغضاءِ والتَّفَرُّقِ، بل العاقلُ يرى أن مَنْ خالَفه من أجلِ قيام الدَّليل عنده فهو في الحقيقةِ موافقٌ له؛ لأَنَّ السَّبيل والمِنْهاجَ واحدٌ، كلنا نمشي عَلَى الدَّليل.

إِذَنْ: فأنْتَ مُوافِقٌ لي والمنتهى واحدٌ، وإنِ اختلفَت الطُّرُقُ.

الفائِدَةُ العاشرة: أنَّ أحزابَ المُشْرِكِينَ مستمسِكونَ بما هم علَيْه؛ لقوْلِه تَعالَى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .

الفائِدَةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ أولئك الَّذِين أُوتوا شيئًا من العلومِ العصرية وفَرِحوا ورَفَعوا رؤوسَهم فِيهِم شَبَهٌ من المُشْرِكِينَ؛ لأَنَّ هنا أناسًا - والعياذُ باللهِ - أُوتوا شيئًا من العلوم العصريةِ فاحتقروا الدِّين واحتقروا العلوم الشَّرعية، وصاروا فرحين بما أوتوا فضلُّوا، قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]، تجدُ الواحدَ منهم إذا أدركَ مسألةً من

ص: 196

مسائلِ الكونِ البسيطةِ رأى كأنه أدركَ تفاسيرَ القرآنِ وأمهاتِ السُّنة، وأنه هو العالم الحبْرُ الَّذي لا يوجد له نَظِيرٌ واحتقرَ مَنْ سِوَاهُ، وهذه مشكلةٌ وقَع فيها بعضُ النَاس اليوم.

الفائِدَةُ الثَّانيَةُ عشرة: أنَّه لا يجوز التَّحَزُّبُ في الدِّين والتَّشيع فَيَكون في هَذا ذَمٌّ لأولئك المتعصبينَ لمذاهبهم لأنهم يُشَيِّعُون النّاسَ في الواقعِ، حتى إنَّ بعض المُفْتينَ إذا استُفتي قال عَلَى أي مذهب تُريدُ أنْ أفتيَكَ، المذهب الشَّافعي، أم المالِكي، أم الحنبلي إِلَى آخره؟ وَهَذا لا شك تفريقٌ للأمةِ؛ وَهذا ذكروا فيما سبق في التّاريخ أنَّه يحصلُ إِلَى حَدِّ القتالِ بين أصحابِ المذاهبِ المتبوعةِ، وأئمَّةُ هَذِهِ المذاهبِ لا يَرْضون هَذا أبدًا، ولا يرضون لأحدٍ أن يُقَدِّمَ أقوالَهم عَلَى قولِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام، أو أنْ يجعلَ أقوالَهم مَسارًا للنزاعِ والجدَلِ والعداوةِ والبَغْضَاءِ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الَّذِينَ يُقَلّدُونَ الكُفَّارَ أَلا يَدْخُلُونُ في هَذِهِ الفِرَقِ؟

الجوابُ: لا، لا يَدخُلونَ؛ لأَنَّ هَذا خلافٌ في فرع من الفروعِ لا بُدَّ أنْ يكُونَ هناك أصلٌ يشتركونَ فيه.

ص: 197