المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (6) قَالَ اللهُ عز وجل: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ - تفسير العثيمين: الروم

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (6) قَالَ اللهُ عز وجل: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ

‌الآية (6)

قَالَ اللهُ عز وجل: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6].

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَعْدَ اللَّهِ}، مَصْدَرٌ بَدَلٌ مِن اللَّفْظِ بِفِعْلِهِ، والأصْلُ وَعَدَهُمُ الله النّصْرَ]؛ نعْلَم أنَّه مصْدَر وليْسَ فعْلًا، مصْدَرٌ مضَافٌ إِلَى الفاعِل، يعْنِي وَعَد الله إِيَّاهُم، فالمُفَسِّر رحمه الله يقولُ:[إنه بدَلٌ مِن فِعْلِه]، أيْ نَائِبٌ منَابَ الفعْلِ، أيْ وعَدَهُمُ الله وقِيلَ: مصْدَرٌ فعلُهُ محذوفٌ وليْسَ نائِبًا عنْهُ، وعَلى هَذا فيكُونُ المقَدَّرُ كالموجُودِ، أيْ وعَدْناهُم وعْدَ الله، وَهَذا أقرَب، والمعْنَى أنَّ الله وعدَهُم وعدًا مُضافًا إِلَيْهِ، والوَعْدُ المضَافُ إِلَيْهِ لا يختَلِفُ؛ وَلِهَذا قَال:{لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، فهذِه الجمْلَةُ كالتّوكِيد لقوْلِه تَعالَى:{وَعْدَ اللَّهِ} ؛ لأَنَّ المضاف إِلَيْهِ في {وَعْدَ اللَّهِ} لا يُمْكِنُ أن يخلِفَ أبَدًا، إِذ إِنَّ إخْلَاف الوَعْدِ ناشِئٌ عَن كذِبٍ أوْ عَجْزٍ، فإِذا وَعدَكَ أحدٌ فأخْلَفَك فَهُو إمَّا كاذِبٌ وإِمَّا عاجِزٌ، والكذِبُ والعجزُ ممتَنِعانِ عِنِ الله عز وجل؛ لكِمالِ صِدْقهِ وقُدرَته، فعَلى هَذا لا يُخْلِف الله وعدَه، ولَا يُمْكِنُ أن يُخْلِفَه.

وإِخْلَافُ الوَعْدِ أنْ يَأْتِي الوَاعِدُ بخلَافِ ما وَعَد بِه، مثلًا رجُلٌ قَال لَك: سأزُورُك غدًا في السّاعَةِ الثّامنَةِ، ثمَّ تأْتِي الثّامِنةُ ولَا يزُورُكَ، فهذا أخْلَف وعْدَه، وسبَبُ إخلَافِه إمَّا أنَّه عاجِزٌ أوْ هُو كاذِبٌ مِنْ أوَّلِ الأمْر أوْ نَسِي، والنّسيانُ أيضًا

ص: 32

عَيْبٌ، فعَلى هَذا نقُولُ: إنَّ الله لا يُخْلِفُ وعدَه؛ لِكَمال صِدْقِه في خَبَرِه، وكَمالِ قُدْرَته في تنْفِيذِ وعْدِه، واللهُ سبحانه وتعالى كامِلُ القُدْرَة، وكَلامُهُ كامِلُ الصّدْقِ؛ وَلِهَذا قَال المُفَسِّر رحمه الله:[{لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} به]، أيْ بالنّصْر، والنّصْرُ الَّذي وُعِدوا، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} .

وِفي الآيَات التي سبَقَتْ وعْدٌ آخَرُ للمُؤْمِنينَ بالفرَح؛ لقوْلِه سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} ، فوَعَدَ الله سبحانه وتعالى بانتصار الرّوم عَلَى الفرْس وبِفَرَح المؤْمِنينَ، ولا شَكَّ أنَّ الفرَحَ فِيه مِن انبِسَاط النّفْس وسُرورِها وانْشِراحِها مَا هُو نعمَةٌ يُنْعِمُ الله بِه عَلَى الفرِحِ.

قوْله تَعالَى: {وَعْدَ اللَّهِ} عُطِف علَيْه قولُه: {وَلَكِنَّ} ، أو يحتَمِلُ أنَّه معطُوفٌ عَلَى قوْلِه تَعالَى:{لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} ، و (لكنَّ) تنصِبُ الاسْم وترْفَغُ الخبَر، واسْمُها {أَكْثَرَ} وخَبَرُها جُمْلَةُ {لَا يَعْلَمُونَ} .

وقوْله رحمه الله: [{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} أي كُفَّار مكة]: تخصِيصُ ذَلِك بكُفَّارِ مكَّةَ فِيه نَظَرٌ، والصّوابُ أنَّه يشْمَلُ كُفَّار مكَّةَ وغيرَهم، وكلُّ مَن ليْسَ عنْدَه إِيمانٌ فإِنَّهُ لَا يعْلَمُ ما للهِ تَعالَى مِن تنفيذِ الوَعْدِ؛ لأنَّهُ بيْنَ مكذِّب وشَاكٍّ متردِّدٍ فلَا يعْلَمُه.

قوله رحمه الله: [{لَا يَعْلَمُونَ} وعدَه تَعالَى بنصرهم]: والظّاهرُ أنَّهُم لا يعلمُونَ وعدَه تعالَى بنصرِهم، ولا يعلمونَ أنَّ الله تَعالَى لا يُخْلِف الوَعْدَ، أيْ لا يعْلَمُون الأمْرَيْنِ جميعًا، فَلا يعْلَمُون أنَّ الله تَعالَى سيُحَقِّق النّصْرَ لهمْ إِمَّا لجهلهم بمَا أخْبَر الله به، وإِمَّا لشَكِّهِم في صدْقِه أو قُدَرِة الله علَيْهِ، ولَا يَعْلَمُونَ أيضًا أنَّ الله لا يُخْلِفُ الَوَعْدَ فِي هَذا وفِي غيْرِهِ لشَكِّهم في صِدْقِ الله وفي قُدْرَته تبارك وتعالى عَلَى إِنْفاذِ موْعُودِهِ.

ص: 33

وقوْله تَعالَى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} : مقْتَضاهُ أنَّ أقلَّ النّاس يعْلَمُونَ؛ لأنَّهم مُؤمِنُون باللهِ سبحانه وتعالى، وبما لَهُ مِن القُدْرَة والصّدْقِ والقوْلِ.

من فوائد الآية الكريمة: :

أنَّ غلبَةَ الرّومِ للْفُرسِ وفرَحَ المؤْمِنينَ بذَلِك خبَرٌ متَضَمِّنٌ للوَعْدِ.

الفائدة الثانية: امتِنَاع إخْلَافِ الله تَعالَى وعْدَه؛ لقوْلِه تَعالَى: {لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .

الفائدة الثالثة: ثُبوتُ القُدْرَة والصّدْقِ للهِ عز وجل؛ مأخُوذَةً مِنْ قَوْلِهِ تَعالَى: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ؛ لأنَّهُ متضَمنٌ لكمالِ الصّدْقِ والقُدْرَة.

الفائدة الرابعة: أنَّ أكْثَر النّاسِ غَيْرُ عَالمينَ بما يسْتَحِقُّه الله تَعالَى مِن صِفاتِ الكمالِ؛ لقوْلِه تَعالَى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .

الفائدة الخامِسَةُ: أنَّ العلْمَ الحقيقِيَّ هُو العلْمُ باللهِ تَعالَى وأسمائِهِ وصِفاتِهِ؛ لا العلْمُ بالدّنيا؛ لقوْلِه عز وجل: {لَا يَعْلَمُونَ} ، ثمَّ قالَ في الآية التي بعدَهَا {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا} ، فنَفَى العلْمَ عنْهُم لأَنَّ علْمَ الدّنيا في الحقيقةِ ليْسَ بعِلْمٍ، فيُستفَاد منْهَا أنَّ العلْم الحقيقِيَّ الَّذي يُمْدَح علَيْه المرْءُ هُو العلْمُ باللهِ وأسمَائِه وصفَاتِه وأحْكَامِه.

ص: 34