الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (33)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الرّوم: 33].
* * *
قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ} أي كُفَّارَ مكَّةَ {ضُرٌّ} شدةٌ {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ} راجعينَ {إِلَيْهِ} دون غيرِه {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} بالمَطر {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}].
المُفَسِّر رحمه الله خصَّ هَذِهِ الآيَة من وجهيْنِ:
- من جهة المراد بها.
- ومن جهة الضُّر.
فقَالَ: [{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ}: أي كُفَّارَ مكةَ] وَهَذا ليس بصحيحٍ، بل النَّاس عُمُومًا.
وهل المرادُ بالنَّاس عُمُومهم؟
ننظر الحالة الَّتي تحدث الله عنها هل تنطبق عَلَى المؤْمِنينَ أو خاصة بالكفار؟ فإنها خاصةٌ بالكفار.
إِذَن: النَّاس من حيْثُ هم ناس، أو نقول: المراد بالعُمُوم هنا الخصوص، وهم الكفَّار؟ فعندنا الآن وجهان:
الوَجْهُ الأوَّلُ: أنْ نقولَ المراد بالنَّاس النَّاس من حيْثُ هم ناس بقطعِ النَّظر عما يتصفونَ به من الإِيمَان أو الكفرِ.
الوَجْهُ الثَّاني: أنَّ المرادَ بالنَّاس الكفَّارُ فيكون عامًّا أُريدَ به الخاصُّ، مثل قوْله تَعالَى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، {النَّاسَ} الأولى يراد بها واحد وهو نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ أو غيرُه. وقوْله تَعالَى:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا} المرادُ بـ {النَّاسَ} الثَّانية واحد وهو أَبُو سُفْيَانَ أو جنسُ أتباعِه.
المُهِمُّ: أن كلمة {النَّاسَ} في قوْله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ} المرادُ بها أحدُ أمرين:
* إِمَّا أن يراد بها الكافرون عينًا.
* أو المُؤْمِنُونَ والكَافِرُونَ، وهذا لا يصح؛ لأَنَّ الحال الَّتِي ذكر الله لا تنطبق عَلَى المُؤْمِنِينَ.
ثانيًا: يقولُ المُفَسِّر رحمه الله: [{ضُرٌّ} شدة] ثمَّ قَالَ: "إِذَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةٌ؛ بِالمَطَرِ].
إذا قُلْنَا: الرَّحمة مطرٌ صارت الشّدةُ القحطَ، وهو عدمُ المطرِ، والأمر ليس كما قال المُفَسِّر رحمه الله بل هو أعم؛ لأَنَّ كلمةَ {ضُرٌّ} نكرةٌ في سياق الشَّرط، فتكونُ للعُمُومِ، أَيُّ ضر يكون سواء قَحْط أو مرض أو فَقْدُ مالٍ أو غيرُ ذَلِك، فإنهم عندما يُصابونَ بضرٍّ {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ} راجعين إليه، كقوْله تَعالَى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65]، فإذا أُصيبوا بالشِّدة عرفوا الله، خلاف ما أمر به النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام في قوله:"تَعَرَّفْ إِلَى الله في الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّةِ"
(1)
،
(1)
أخرجه أحمد (1/ 307).
فالَّذي لا يعرفُ ربَّه إلا في الشَّدة لم يعبدْ ربَّه رغبةً، وَهَذا الَّذي تحدَّثَ الله عنه أخفُّ حالًا ممن إذا أصيبوا بالشِّدة دَعَوُا المخلوقَ، هَؤُلاءِ أقبحُ ممن تحدثَ الله عنهم.
وقوله: {مُخْلِصِينَ} حالٌ من فاعل {دَعَوُا} .
وعندنا إشكالٌ في {دَعَوُا اللَّهَ} ، لماذا ضمَّ الواوَ مع أن الواو ساكنةٌ؟
والجوابُ: حُرِّكت لالتقاءِ السَّاكنين.
فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: التّحريك لالتقاءِ السَّاكنين يكونُ بالكسرِ مثل {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1].
قُلْنَا: لكن الكسر لا يناسب الواوَ، ويناسبها الضَّم، فعلى هَذا نقول: حُركت بالضَّم لالتقاءِ السَّاكنين، فالواو والياء إذا تحرَّكَا بالفتحة فإنها تظهر عليهما، لكن إن تحرَّكَا بالضَّم والكسرة فإنهما تقدران حيث يمنع من ظهورها الثِّقل.
لكن لا ثقل في قوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ} ، بل تُنطق بسهولة، والسَّبب أن هَذِهِ الضَّمة عارضة للتخلص من التقاءِ السَّاكنين، أما قوله تعالى:{دَعَوْا رَبَّهُمْ} فليس فيها إشكالٌ.
وقوْله تَعالَى: {دَعَوْا رَبَّهُمْ} : كلمةُ (رَب) بمعنى الخالِق المالِك المدبِّر، والرُّبُوبِيَّة تقتضي خَلْقًا، فالَّذي أوجد النَّاس هو الله، والمالكُ هو الله {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المائدة: 120]، وهو مدبِّرٌ {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس: 3]، هَذا هو الرَّب قَالَ:{دَعَوْا رَبَّهُمْ} لما وقعوا في الشِّدة عَرَفوا أنَّ الأمورَ بيدِه فَدَعَوْهُ.
وقوْله تَعالَى: {مُخْلِصِينَ} : حالٌ من الواو.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{مُنِيبِينَ} راجعين {إِلَيْهِ} دونَ غيره {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} بالمَطَرِ {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}].
{أَذَاقَهُمْ} يعني أصابتهم الرَّحمة حتى يتحقَّقوها كما يتحققُ الإنسانُ الطَّعامَ في فمِه، وَهذا عبَّر بالإِذَاقَةِ، وإن كان هَذا لا يُذاق لأَنَّهُ لا يدخل في الفم لكن لِتَحَقُّقِ إصابتِه صار كالشَّيء الَّذي يُؤكلُ فَيُذاقُ.
وقوْله تَعالَى: {مِنْهُ رَحْمَةً} : المراد بالرَّحمة ما يقابل الضُّر، {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} فمثلًا إذا كان الجدبُ فالمرادُ بالرَّحمة المطرُ والخِصْبُ، وإذا كان مرضًا فالمرادُ بها الشِّفاءُ، وإذا كان فقرًا فالمرادُ بها الغِنى، فالمُهِمُّ: أنَّه يُقابل بالضُّرَّ.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: {أَذَاقَهُمْ} أَلا يدل اللفظ عَلَى عدمِ الاستمرار، يعني مجرد وقت قليل، أذاقهم الرَّحمة فنكَصُوا؟ وهذا مفهومٌ مِنْ قوْلِه تَعالَى:{إِذَا فَرِيقٌ} ، لأَنَّ {إِذَا} فُجَائية.
وقوْله تَعالَى: {إِذَا} : فُجَائية، وهي حرف مع أنَّ {إِذَا} الشَّرطية اسم؛ لأَنَّ {إِذَا} الشّرطية نابَت مَنابَ اسمِ الشَّرط، وأما {إِذَا} الفجائية فنابت مَناب الفاء، والفاءُ حرفٌ.
وقوْله تَعالَى: {فَرِيقٌ} مبتدأ، وقوْله تَعالَى:{يُشْرِكُونَ} خبر جملة.
وهنا نسأل: لماذا جاء المبتدأ نكرةً وابن مالِكٍ يقول
(1)
:
وَلَا يَجُوزُ الِابْتِدَا بِالنَكِرَة
…
مَا لَمْ تُفِدْ
…
.. .. .. .. .. .. .. .. ..
(1)
ألفية ابن مالك (ص: 17)، ط. دار التعاون.
الجوابُ؛ لأنَّهَا أفادتْ، وبالخصوص نقولُ؛ لأنَّهَا وقعتْ بعد {إِذَا} الفجائية، فإذا جاءَ المبتدأُ بعد {إِذَا} الفجائية فلا بأسَ أنْ يكُونَ نكرةً.
وقوْله تَعالَى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} ، وقال هنا:{إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ} يعني وفريقٌ آخَرُ لا يشركُ، مع أنه في آيةٍ أخرى يقول:{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، وفي آية ثالثة {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} [لقمان: 32]، فهل نقول: إن الآيات الَّتِي يقول الله فيها: {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} تُحمل عَلَى المُشْرِكِينَ، والآيات الَّتِي فيها {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} أو {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} تنزل عَلَى العُمُوم؟
والجواب: هَذا الإِشكالُ ما وَرَدَ عِنْدي إلَّا الآن لمَّا وصلنا آخرَ الآية وإِلَّا ففي الأول قرَّرنا أنَّها للمُشْرِكِينَ أو النَّاس من حيْثُ هم ناسٌ ولكن لما قَالَ: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} صَارَ عندي ترَدُّدٌ، هل الآيةُ عامة فنقول: إن المؤْمِنينَ إذا أُصيبوا بالضَّراء لا شك أنهم يلجؤونَ إِلَى الله أكثرَ كما هو مُشاهد؛ وَلهذا قال الرَّسول صلى الله عليه وسلم: "تَعَرَّفْ إِلَى الله فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"
(1)
، فَهَذَا دليلٌ عَلَى أنَّ الإنسانَ في حال الرَّجاء قد يحصُل منه غفلةٌ عن الله عَز جلَّ وعَدَمُ تَعَرُّفٍ، لكن في حال الشِّدة يلجؤونَ إِلَى الله عَز جلَّ، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الخسوف:"إِنَّ الله يُخَوِّفُ بِهِما عِبادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِ الله"
(2)
، فالآية تحتاج إِلَى تأمُّلٍ.
والَّذي يبدو لي الآن أن الآيَاتِ الَّتِي يقولُ الله فيها: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} تكون خاصَّة بالمُشْرِكِينَ، أمَّا الآياتُ الَّتِي يقولُ الله فيها:{فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري: أبواب الكسوف، باب الذكر في الكسوف، رقم (1059)، ومسلم: كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة، رقم (912).
و {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ} فإنها تصلحُ للعُمُوم؛ لأَنَّ الناس - حتى المؤْمنينَ - إذا أصابهم الضُّرُّ صار عندهم من الرُّجوع إِلَى الله عز وجل واللجوء إِلَيْهِ أكثر. فصلاةُ الاستقساءُ رجوع إِلَى الله وإنابةٌ أكثر، ومثلها صلاة الكُسوف، وحتى أنْتَ بنفسك إذا وقعتَ في شدةٍ تجد عندك من اللجوء إِلَى الله عز وجل والافتقار أكثرَ مما إذا كنت في رخاء.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدتانِ الأولى والثَّانية: أنَّ طبيعةَ الإنسان عند الضَّراء اللجوءُ إِلَى ربِّه لقوْلِه تَعالَى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} ، ويتفرعُ عَلَى هَذا أنَّ أولئك الَّذِين إذا مسَّهم الضُّر لجؤوا إِلَى غير الله أنهم خالَفوا جميع فِطَرِ البشر لأنهُ يوجد ناس الآن إذا وقع في ضر ما دعا الله، بل يدعو الولي الَّذي يتبعه، أو الَّذي يراه وليًّا، وإذا وقع في الأمر الهين دعا الله فيجعلون الشَّدائد لمن لا يستطيع أن يدفع عنهم شيئًا أبدًا، بل ولا يستجيب له، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5]، بخلافِ النَّاس - حتى غير المسلمين - إذا وقعوا في شِدَّة لا يلجَؤُون إلا إِلَى الله عز وجل.
الفائِدَةُ الثَّالثةُ: أنَّ أولئك الَّذِين يلجؤون إِلَى ربهم في الشَّدائد إذا زالت عنهم الشَّدائد وأصيبوا بالرَّحمة انقسموا إِلَى قِسْمَيْنِ:
* منهم مَنْ يشركُ ويبقى عَلَى شركه.
* ومنهم مَنْ يبقى عَلَى إيمانه إذا كان من المُؤْمِنِينَ.
الفائِدَةُ الرابعةُ: أنَّ أولئك المُشْرِكِينَ لا يتأنَّون في شركهم بعد أنْ ينجوا من الشِّدة، بل يستمرون علَيْه فورًا؛ لقوْلِه تَعالَى:{إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ؛ لأَنَّ {إذَا} فجائية.
الفائِدَةُ الخَامِسَةُ: الرَّد عَلَى أولئك الَّذِين يقدمون أولياءهم أو أولئك الَّذِين لا يلجؤون إِلَى أحد.
الفائِدَةُ السّادِسَةُ: إثْبَات الرّحمة لله؛ لقوْلِه تَعالَى: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} .
الفائِدَةُ السّابِعَةُ: التَّنديد بإشراكِ هَؤُلاءِ؛ لأَنهُ قَالَ: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ} فكيف يليقُ بهم أن يشركوا بربهم الَّذي خلقهم؟ لأَنَّ الخالِق سبحانه وتعالى يجب أن تكون العبادةُ له وحده.
الفائِدَةُ الثَّامِنةُ: أن الشَّرَّ لا يُضاف إِلَى الله، ولكن يرد عَلَى هَذا بالنِّسبة للضرر والنَّفع؛ لقوْلِه تَعالَى:{قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} ، إنما الشَّرُّ مطلقًا لا يضاف إِلَى الله، وإنما يضاف إِلَى المخلوقات المفعولات.
* * *