المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (37) * * *   * قال اللهُ عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا - تفسير العثيمين: الروم

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (37) * * *   * قال اللهُ عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا

‌الآية (37)

* * *

* قال اللهُ عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37].

* * *

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{أَوَلَمْ يَرَوْا} يعلموا]؛ وَعَلَى هَذَا فالرُّؤية علمية ويؤيد تفسيرَ المُفَسِّر أنَّها جاءت فِي آياتِ أخرى {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا} ، وَهِيَ فِي سورة الزُّمَر:{أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر: 52].

إِذَنْ: فأحسنُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ القرآن هُوَ القرآن، وَهُوَ أعلى أنواع التّفسير، ويمكن أن يقال إنَّ لكل آية معنى فنفسر الرُّوْيةَ هُنَا برؤية البصرِ لا برؤية البصيرة التِي هِيَ العِلْم، ونفسرها هناك بالعِلْم كما هُوَ لفظُ الآية ويكونُ البسطُ والتّضييق معلومًا بالقلب مرئيًّا بالعين، فإنَّ الإنسانَ أيضًا يرى توسيع الرِّزقِ بعينه كما يعلمه أيضًا بقلبه.

وأيهما أعم، يعلمون أو يرون إِذَا لم يفسر {يَرَوْا} بـ {يَعْلَمُوا} ؟

الجواب: العِلْم أعمُّ؛ لأَنَّ العِلْم قد يَكُون بالرُّؤية وقد يَكُون بالسَّماع، قد لا أرى أن الله بسَط الرِّزقَ لعباده وقدَّرَه لكنني أسمعُ أَنه فِي البلاد الفلانية فَقرٌ وفي البلاد الغنية غنى، وما أشبه ذَلِك، فالعِلْمُ أعم وَذَلِكَ لأَنَّ وسائلَ العِلْم متعددة بخلاف الرُّؤية فإن طريقها البصر، العِلْمُ كل الحواسِّ الخمسةِ المعروفة كلها توصل

ص: 219

إِلَيْهِ، فاللمسُ والشَّمُّ والذوقُ والرُّؤية والسَّماع كلها تفيد العِلْم، فَهُوَ أعم لأنهُ إِذَا رأى عَلِمَ، لكن العِلْمَ أعم لأَنَّ وسائلَه أكثرُ.

وقوْله تَعالَى: {أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ} البسطُ بمعنى التوسيعُ، كما قَالَ الله تعالى:{فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [الروم: 48]، يعني يوسعه، وقوْله تَعالَى:{لِمَنْ يَشَاءُ} سَبَقَ أنَّ كُل شيء قيده الله بالمشيئة فإنَّهُ مقرون بالحكمة وليست مشيئة الله تَعالَى مشيئةً مجردةُ لأننا نعلم أن الله عز وجل حكيمٌ لا يفعلُ شيئًا ولا يُشَرّعُ شَيْئًا إِلَّا لحكمةٍ، فكلما مَرَّ عليك شيءٌ مُقَيدٌ بالمشيئةِ فاعلمْ أنه مُقَيَّدٌ بالحكمةِ.

قوْله تَعالى: {لِمَنْ يَشَاءُ} ؛ قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [امتحانًا {وَيَقْدِرُ} يُضَيّقٌ لمِنْ يَشَاءُ ابْتِلَاءً]، ففرَّق المُفَسِّر رحمه الله بَيْنَ تضييقِ الرّزق وبين بَسْطِه وجعل البسطَ امتحانًا والتضييق ابتلاءً، والصّواب أنهما سواءٌ كما قَالَ تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، فكلها ابتلاءٌ، وقال سُليمانُ عليه الصلاة والسلام:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]، فالصَّوابُ أنَّ كلَّها ابتلاءٌ، والامتحانُ قريبٌ من معنى الابتلاءِ، لكنَّ الإصَابَةَ ببسطِ الرّزقِ لبسطِ الرّزقِ تقتضي شكرًا، وبتضييقِه تقتضي صبرًا، هَذَا الفرق بَيْنَهُما، والمُؤْمِن يقوم بالوظيفتيْنِ إن أصابَتْهُ سراءَ شكرَ فكانَ خيرًا له، وإن أصابته ضراءَ صَبَرَ فكان خيرًا له، وَهَذا لَيْسَ إِلَّا للمؤمنِ فقط.

وقوْله تَعالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} الاسْتِفْهامُ هُنَا المُرَادُ بِهِ التَّقرير، يعني أنهم يَرَوْنَ أنَّ الأمورَ بيدِ الله عز وجل وأنه يبسط الرّزق لمن يشاءُ وَيقْدِرُ، فكيف يقنَطُونَ إِذَا أصابتهم السَّيئّةَ وكيف يفرحونَ ويبطرونَ إِذَا أصابتهم الرَّحمةُ؟ بل الواجبُ عَلَيْهِم أن يعلموا أن ذَلِك بحكمةٍ من الله سبحانه وتعالى.

وقوْله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} الواو هُنَا حرفُ عطفٍ وَليَتْ أداةَ الاسْتِفْهام،

ص: 220

وأداةُ الاسْتِفْهامِ لها الصّدارة، فإذا لم تسبق الواو بشيء يعطف علَيه فما هُوَ الجواب؟

نَقُول: إنَّ لعُلَمَاء النّحو فِي مثل هَذَا التّركيب قوليْن:

القولُ الأول: أن الواو عاطفة عَلَى مُقَدَّرٍ بعد الهمزةِ.

القولُ الثاني: أنَّ الواو عاطفة عَلَى مَا سبق، وَعَلَى هَذَا فتكون الهمزةُ مقدمة قبل العاطف وذكرنا أن هَذَا الرّأي أولى لأَنَ الأول وإن كَانَ جيدًا من حيْثُ الأسلوبُ لكِنَّهُ فِي بعض الأحيان يصعُبُ عَلَى الإنسان أن يقدِّرَ شَيْئًا يرى أنه مناسبٌ للسياقِ.

وعليه فيكونُ القولُ بأن الهمزةَ للاسْتِفْهام وأن الواو مُقَدَّرَةٌ قبلها يعني وَألم يَرَوْا أَسْهَل.

قوْله تَعالَى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} لا شك أن بَسْطَ الرِّزقِ وتضييقهِ ابتلاءٌ من الله سبحانه وتعالى وَذَلِكَ لأَنَّ العبدَ أحيانًا يناسبُه أنْ يُبْسَطَ له الرِّزقُ وأحيانًا بالعكس حسب مَا تقتضيه الحكمةُ.

قوْله تَعالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : {إِنَّ فِي ذَلِكَ} ، أي فِي بسطِ الرّزقِ وتضييقِه {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {لَآيَاتٍ} الَّذي نصَبَها {إِنَّ} فهي اسمُها مُؤَخَّرًا و {فِي ذَلِكَ} خبرُها مُقَدَّمًا.

وقوْله تَعالَى: {لَآيَاتٍ} أي لَعَلَامَاتٍ دالةٍ عَلَى أن الله سبحانه وتعالى له التّصرفُ المطلقُ فِي عباده، وأظنُّنا نرى أحيانًا مِن بعض النَّاس أنَّه يسعى بقدر مَا يستطيع فِي أسبابِ الرّزق ومع ذَلِك لا ينتجُ، تجدُه يبيع ويشتري ويسافر يضرب فِي الأرْض يبتغي من فضلِ الله ومع هَذَا لَيْسَ كثيرَ المالِ، مُضَيَّقٌ علَيْه، وتجد بعض النَّاس يسعى سعيًا بسيطًا ولكن الله تَعالَى يبارك له فِي سعيه حتى يَكُون عنده رزق كثير مما يدل

ص: 221

عَلَى أن الأمور لا تُنال بالكسب، فالكَسْبُ سَبَبٌ لكن فوق ذَلِك إرادةُ الله عز وجل.

وقوْله تَعالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} لأنهم هم الَّذِين ينتفعون بهذه الرّؤية وَهَذا التّفكر، أمَّا غير المُؤْمِن فإِنَّهُ لا ينتفع بِهَذا؛ ولذلك تجد هَؤُلاءِ الّذِين لا يؤمنون إِذَا حصلت مثل هَذِهِ الأمور يَنْسُبُونَهَا إِلَى الطّبيعةِ، إِذَا كثر المطر قالوا: هَذَا بسببِ كذا، وَإِذَا قَلَّ قالوا هَذَا بسبب كذا، ونحن لا ننكر أن الأمورَ لها أسبابٌ، ولكننا ننكر أن تكون الأسباب هِيَ الفاعلة، فإن الفاعلَ هُوَ الله عز وجل وما الأسبابُ إِلَّا وسائلُ يُستدلُّ بِهَا عَلَى حكمةِ الله سبحانه وتعالى وأنه حكيمٌ حيْثُ ربط المسببات بأسبابها.

من فوائد الآية الكريمة:

الفائِدَةُ الأولَى: تقريرُ مَا يحدث فِي الكون من بَسْطِ الرّزقِ وتضييقِه؛ لقوْلِه تَعالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} لأَنَّ الاسْتِفْهامَ للتقريرِ كما سبق.

الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: أنَّ سَعَةَ الرّزقِ وتضييق الرّزقِ كله بيد الله عز وجل.

الفائِدَةُ الثَّالثةُ: إثْبَات المشيئةِ؛ لقوْلِه تَعالَى: {لِمَنْ يَشَاءُ} .

الفائِدَةُ الرابعةُ: أنَّه لا ينتفعُ بالآيات إِلَّا المُؤْمِنُونَ؛ لقوْلِه تَعالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .

* * *

ص: 222