المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (50) قَالَ اللهُ عز وجل: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ - تفسير العثيمين: الروم

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (50) قَالَ اللهُ عز وجل: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ

‌الآية (50)

قَالَ اللهُ عز وجل: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50].

قال المُفَسر رحمه الله: ["فَانْظُر إِلَى أَثَرِ" وفي قراءة {ءَاثر}].

قوْله تَعالَى: {فَانظُر} الخطاب لِلإِنْسَانِ لَيْسَ للرسول أي الخطاب لمن يتأتى خطابه، الرَسول صلى الله عليه وسلم وغيره لأنَّهُ قَالَ فِي الآية التِي قبلها {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ثم قَالَ هُنَا {فَانظُر} أي انظر أيها الإنسان (إلى أثرِ رحمةِ الله) وفي قراءة يقول المُفسر:{آثَار} ، والرّسم العثماني من فوائد التِزامه أنَّه لا يتغير بتغير القراءات {آثَارِ} عَلَى مقتضى قواعد الرّسم العصرية تكتب بألف بَيْنَ الثّاء والرّاء، لكنها عَلَى قواعد المصحف العثماني لا يكتب فِيها ألف (أثر) شاء وراء فتصلح (آثار) وتصلح (أثر).

وقوْله تَعالَى: {إِلَى آثَارِ} و (إلى أثر) لا فرق بَيْنَهُما فِي الجملة من حيث المعنَى لأَنَّ (آثار) مضاف فيفيد العُمُوم و (أثر) مضاف فيفيد العُمُوم أيضًا؛ لأَنَّ المفرد إِذَا أضيف أفاد العُمُوم فأثر وآثار من حيْثُ الجملة لا فرق بَيْنَهُما لأَنَّ قوله: (أثر رحمة الله) بمعنى آثار لكن الفرق بَيْنَهُما من حيْثُ المَعنَى الخاص أن أثر يشمل الجنس باعتباره شَيْئًا واحدًا، وأما آثار فتشمل الجنس باعتباره أنواعًا.

ص: 317

كيف باعتباره أنواعًا؟

مثلاً أثر المطر يخرج بِهِ الزّرع ويخرج بِهِ الشّجر ويخرج بِهِ شيء صغير وشيء كبير وشيء لَهُ أشجار مُفَطَّحَةٌ

(1)

، وشيء لَهُ أشجار دَقِيقَةٌ كالعيدان، فلِهذا تعتبر هذه آثارا باعتبار أنواعها، ثمَّ أيضًا الآثَار تختلف من أرض إِلَى أرض، هذه الأرض تُنْبِتُ كذا وهذه الأرض تنبت كذا هذه ينبت فِيها الكلأ وهذه لا ينبت وهكذا فهي آثار باعتبار الأنواع، أمَّا باعتبار الجنس وأن كله حصل بسبب المطر فَهُوَ شيء واحد وَهذا هُوَ الفرق الخاص بَيْنَ أثر وآثار.

قال المُفَسِّر رحمه الله: {آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} أي نعمته بالمطر].

وقد سبق أن الرّحمة فِي مثل هذَا يصح أن تكون اسمًا للمخلوق ويصح أن تكون من صفات الله، فإن كَانَ المُرَاد الأثر المباشر فالمُرَاد بالرّحمة المطر لأَنَّ هذَا النّبات نبت بالمطر، كان كَانَ المُرَاد السّبب غير المباشر فالمُرَاد بالرّحمة صفة الله يعني لكون الله جَلَّ وَعَلَا رحيمًا، فهذه من آثار الرّحمة أنَّه ينزل المطر وتنبت بِهِ الأرْض ويزول بِهِ القحط، فالآية صالحة لهذا وَبهذا.

قوْله تَعالَى: {كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} هذَا مما يرجِّح أن المُرَاد بالرّحمة: رحمة الله: الصّفة {كَيْفَ يُحْيِ} هُوَ أي بالرّحمة سبحانه وتعالى: {يُحْيِ الْأَرْضَ} يجعلها حيَّة {بَعْدَ مَوْتِهَا} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أيْ يُبْسها]، وحياة كل شيء بحسبه فالأرض اليابسة الَّتِي لَيْسَ فِيها خضار تسمى ميتة لَيْسَ فِيها شيء حي، فإذا نزل علَيْه المطر وحيّى النّبات سميت حية {يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} وَهذا دليل عَلَى قدرة الرّب عز وجل وَعَلَى رحمته، لأَنَّ من يقدر عَلَى أن يفلقَ النَّوَى فِي باطن الأرض حتى يخرج مِنْهُ

(1)

مُفَطَّحٌ: عَريض، لسان العرب (2/ 545).

ص: 318

هذَا النّبات النّامي هل أحد يقدر عَلَى هذا؟ لا أحد يقدر؛ وَلهذا قد جاء فِي الحديث الصّحيح القدسي: "فَلْيَخْلُقُوا حَبَّة أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَة"

(1)

، ولا يستطيع أحد منهم ولا من غيرهم أن يخلق هذا، {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)} [الأنعام: 95].

قوْله تَعالَى: {كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يعني انظر إِلَى الكيفية والقُدرَة كَيْفَ هذهِ الأرض الَّتِي كانت غبراء كأنها محترقة أصبحت الآن روضة خضراء.

قوْله تَعالَى: {إِنَّ ذَلِكَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أي يبسها بأن تنبت {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى}].

قوْله تَعالَى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} هذَا الكون العظيم لا يمكن أنْ يكُونَ عبثًا، يخلَقُ بشر عاقل، يعرف، ويعقل ويتصرف ويقتل بعضه بعضًا وينهب بعضه بعضًا ويسالِم بعضه بعضًا والنّتيجة أن يكونوا ترابًا، هذَا لا يمكن أبدًا، يعني لو تصوره الإنسان أدنى تصور لوجد أن العقل يدل دلالة قطعية عَلَى أنَّه لا بُدَّ من بعث ومجازاة وإلا لكانت الدّنيا كلها عَبَثًا، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} [ص: 27].

ألَسْنا نشاهد مَنْ يخالِفُنا فِي العمل، ومن يخالِفنا فِي الأخلاق، ومن يخالِفنا فِي العقيدة ونتألَّم من ذَلِك، لولا أن الله يسلي الرَّسول صلى الله عليه وسلم {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)} [الشعراء: 3]، وما أشبه ذَلِك مما يسليه بِهِ لتقطع قلبه صلى الله عليه وسلم نحن الآن نتألم لمن يخالِفنا فِي العقيدة ومن يخالِفنا فِي الأخلاق ومن يخالِفنا فِي الأعمال، هذَا الألم

(1)

أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، رقم (7559)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا سورة، رقم (2111).

ص: 319

يؤثر علينا ولكن يقول الله عز وجل: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104]، لكن هناك فارق {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104].

فالحاصِلُ: أن هذَا الكونَ العظيم لا يمكن أنْ يكُونَ عَبَثَا هكذا يحيا ثمَّ يَكُون ترابًا، والله عز وجل يحيى الموتى لَيْسَ بني آدم فقط ولكن بنو آدم وغيرهم {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38]، {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5]، وأخبر النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أن البهائم يُقْتَصُّ من القَرنَاء لِلْجَلْحَاء

(1)

، حتى البهائم يقضى بينها وَلهذا نقول قوْله تَعالَى:{الموتى} لا يختص بالإنسان فقط بل بالإنسان وغير الإنسان.

ثم أكد إحياء الموتى بمؤكَّدٍ آخر فِي الجملة الَّتِي بعدها وَهُوَ قوْله تَعالَى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

إِذَنْ: فقد أُكِّد أحياء الموتى بمؤكديْن لفظييْن ومؤكديْن معنوييْن.

وقوْله تَعالَى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كل شيء الله قادر علَيْه بدون استثناء كل مَا تتعلق بِهِ القدرَة ويمكن أنْ يكُونَ قادرًا علَيْه، فإن الله تَعالَى قادر، عَلَى كل شيء قدير، لَيْسَ عَلَى مَا يشاء فقط بل عَلَى مَا يشاء وما لا يشاء، فهداية الكافر الَّذي مات عَلَى كفره الله قادر عَلَيْها، مَا شاءها وَهُوَ قادر عَلَيْها، فلا تختص قدرته بما شاءه، وَبِهذَا نعرف أن تعبير بعض النَّاس:(أنَّه عَلَى مَا يشاء قدير) أنَه لا ينبغي، بل قل كما قَالَ الله عن نفسه:{إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]، وأما حديث الرّجل الَّذي يبعثه الله يَوْم القِيَامَة، ذكر القصة وفيها أن الله قَالَ لَهُ:"إنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِر"

(2)

،

(1)

أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2582).

(2)

أخرجه مسلم: كتاب الإِيمَان، باب آخر أهل النار خروجا، رقم (187).

ص: 320

فهذه لَيْسَ المُرَاد بِها وصف الله بالقُدرَة مطلقًا بل وصف الله بالقدرَة عَلَى هذَا الشّيء المعين الَّذي استبعده المخاطَب، فالله يقول قد شئته فأنا قادر علَيْه وَكَذلِكَ قوْله تَعالَى:{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} فالقيد بالمشيئة هُنَا لَيْسَ عائدًا عَلَى القُدرَة لكِنَّهُ عائد عَلَى الجمع، الشّيء المعين يمكن أن تقيده بالقُدرَة، أمَّا إِذَا أردتَ وصف الله بالقُدرَة فلا تقيدها بالمشيئة، ففرق بَيْنَ أن تُعَلَّق القُدرَة بشيء معين خاص وبين أن تُذْكَرَ عَلَى سبيل الوصف العام لله، إِذَا كانت وصفًا عامًّا لله، فالله تَعالَى مَا ذكر قَيْدَ المشيئة أبدًا {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27]، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، وما أشبه ذلك.

والقُدرَة ضد العجز انظر إِلَى قوْله تَعالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} [فاطر: 44]، وأتى بالعِلْم هُنَا لأَنَّ العاجز قد يعجز لعدم علمه بالشّيء، مهندس لكن فِيهِ روماتيزم لا يقدر أن يتحرك، قلنا لَهُ اصنع هذه السّيارة لا يقدر لأنَّهُ لَيْسَ عنده القُدرَة؛ لأنَّهُ عاجز لا يقدر أن يتحرك، وآخرُ نشيط يحمل الحجر الَّذي أكبر مِنْهُ لكِنَّهُ لا يعرف الصّناعة أبدًا قلنا لَهُ اصنع سيارة قَالَ لا أقدر؛ لعدم العلم، فانتفاء القُدرَة قد يَكُون لعدم العِلْم وقد يَكُون لعدم القُدرَة الحسية لَيْسَ عنده علم لَيْسَ عنده شيء يعني عاجزًا.

ذكر صاحب هذَا التّفسير هذَا فِي قوْله تَعالَى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120]، آخر سورة المائدة، ذكر عبارة منكرة - والله أعلم - مَا أراد بِها سوءًا فقَالَ:[وخص العقلُ ذاتَه فليس عَلَيْها بقادرٍ]، يعني أن العقل يقتضي تخصيص ذات الله فالله لا يقدر عَلَيْهَا هذَا لَيْسَ بصحيح بل الله عَلَى كل شيء قدير وَبهذا الله تَعالَى استوى عَلَى العرش بفعله وقدرته، ينزل إِلَى السّماء الدّنيا، يأتي

ص: 321

للفصل بَيْنَ عباده، يتكلم بما أراد، كل هذَا مما يتعلق بذاته وَهُوَ قادر علَيْه.

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: الله يقدر عَلَى إماتة فلان هل يقدر عَلَى أن يميت نفسه، هذَا لا يمكن لا لانتفاء القُدرَة لكن لأَنَّ هذَا أمر لا يليق بِهِ وَهُوَ أشد من العجز.

فنَقُول: امتناع هذَا لأَنَّهُ مستحيل عَلَى الله عز وجل وَبهذا السّفاريني رحمه الله فِي العقيدة لما ذكر صفة القُدرَة قال

(1)

:

بِقُدْرَةٍ تَعَلَّقَتْ بِمُمْكِن ..................

أما المستحيل فَهُوَ مستحيل، لا يمكن، المستحيل أصله مستحيل لا تتعلق بِهِ القدرة.

يُقَال إن الشَّيطان يفرح إِذَا مات العالِم، يفرح فرحًا عظيمًا وَإِذَا مات العابد لا يهمه، قَالَ جنوده لَهُ كَيْفَ تفرح لموت العالم هذَا الفرح ولا تفرح لموت العابد الَّذي طول نهاره فِي المحراب؟ قَالَ نعم لأَنَّ العالم أشد علينا من العابد وَإِذَا شئتم أن أضرب لكم مثلًا الآن، فذهب إِلَى العابد وقال لَهُ هل يقدر الله سبحانه وتعالى أن يجعل السّموَات وَالأرض فِي جوف بيضة؟ قَالَ العابد لا يقدر، قَالَ هل يقدر الله أن يخلق مثله؟ قَالَ:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، يمكن أن يقدر أن يخلق مثله هذَا غير صحيح وغير ممكن فذهب إِلَى العالم فقال لَهُ مثل هذَا القول، قَالَ أمَّا خلق مثله فَهذَا شيء مستحيل ولا يمكن للمخلوق أنْ يكُونَ مثل الخالِق أبدًا مهما كان، وأما كونه يجعل السّموَات وَالأرض فِي جوف بيضة فَهُوَ عَلَى كل شيء قدير، قَالَ الشّيطان: انظروا المِسْكِين العابد كفَرَ من وجهين أثبت مَا لا يمكن

(1)

العقيدة السفارينية (ص: 52)، ط. مكتبة أضواء السلف.

ص: 322

ونفى مَا يمكن، وهذا حقيقة يعني: أن العباد مثل مَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: "مَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا فَفِيهِ شَبهٌ مِنَ اليَهُودِ، واليَهُودُ أَخْبَثُ مِنَ النَّصَارَى"

(1)

، لا شك لأَنَّ العالمَ فساده - والعياذُ باللهِ - عن عِلم، والعابدَ فسادُه عن جهلٍ، وما كَانَ عن جهل فَهُوَ أَهْوَنُ مما كَانَ عن علم.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بالنّسبة لقول من قَالَ إنَّه عَلَى مَا يشاء قدير، يمكن نستخلص قاعدة وَهِيَ أن الصّفات الذّاتية لا تناقض المشيئة والصّفات الفعلية تناقض المشيئة؟

قُلْنَا: صحيح، هذه القاعدة، فالقاعدة عِنْدَهُم أن الصّفات الذّاتية هِيَ اللازمة للذات والفعلية مَا تتعلق بالمشيئة هذه قاعدتهم.

وَلَوْ قَالَ قَائِل: كَيْفَ تعبير القرآن مرة بالإنزال، ومرة بالتَّنزيل؟

قُلْنَا: إِذَا وَرَدَ أنَه منزل مثل {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)} [القدر: 1]، يَكُون المُرَاد كإنزالنا يعني أنزلنا جملةً مِنْهُ لَيْسَ كله، فأما التَّنزيل فإِنَّهُ يَكُون نازلًا شَيْئًا فشيئًا كما فِي قوْله تَعالَى:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)} [الإسراء: 106]، مَعَ أنَّه قد يأتي التّنزيل لشيء وقع جملةً واحدة مثل قوْله تَعالَى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء: 140]، فعلى هذَا تكون القاعدة الَّتِي ذكرها أهل العِلْم فِي هذه المَسْأَلة قاعدة أغلبية ليست لازمة.

من فوائد الآية الكريمة:

الفائِدَةُ الأُولَى: الأمرُ بالنَّظر ويكون بالعين الباصرة وبعين البصيرة أيضًا فالأمر هُنَا بالنّظر للوجهين جَمِيعًا الإنسان ينظر بعينه الباصرة وبعين البصيرة.

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 79).

ص: 323

الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: أن النّظر كما يَكُون نافعًا لِلإِنْسَانِ فَهُوَ مأمور بِهِ شرعًا أي بمعنى ثواب الإنسان أو إثابة الإنسان عَلَى النَّظر فِي آيات الله لأنَّهُ مأمور به.

الفائِدَةُ الثَّالثةُ: أن الآثَار الَّتِي تنتج عن المطر كلها من رحمة الله إحياء الأرض بالنّبات وكثرة المياه فِيها كله من رحمة الله عز وجل.

الفائِدَةُ الرّابِعَةُ: إثْبَات قدرة الله تَعالَى عَلَى إحياء الموتى لقوْلِه تَعالَى: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} .

الفائِدَةُ الخامِسَةُ: الاسْتِدلالُ بالمحسوس المنظور عَلَى المحسوسِ المنتظر، المحسوسُ المنظور مَا يحصل من حياة الأرْض، والمحسوس المنتظر مَا يحصل من إحياء الموتى.

الفائِدَةُ السّادِسَةُ: أنَّه لا بُدَّ أنْ يكُونَ الدّليل أجلى وأظهر من المدلول علَيْه بمعنى أنَّه لا يمكن أن نستدل بالأخفى عَلَى الأظهر والأوضح؛ لأَنَّ الدَّليلَ مُعَرِّفٌ للمدلولِ ومُبَيِّنٌ لَهُ فكيف يمكن أن تستدلَّ بشيء خفي عَلَى شيء واضح؟

الفائِدَةُ السّابِعَةُ: رحمة الله تَعالَى بعباده حيْثُ يضرب لهم الأمثالَ ويبيِّن لهم الأدلةَ ليتوصلوا إِلَى اليقين فيما يجب الإِيمَان بِهِ؛ لأنَّهُ يكفي أن يقول الله عز وجل آمنوا بأني أحيي الموتى، يكفي فِي إقامة الحجة عَلَيْهِم، لكن من رحمته أنَّه يُبَيِّن لنا ويضربُ لنَا الأمثالَ لنصل إِلَى درجة اليقين فيما أخبرنا بهِ، نأخذه مِنْ قوْلِه تَعالَى:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} .

الفائِدَةُ الثّامِنةُ: نعمةُ الله عَلَى العباد بإحياءِ الأرض لقوْلِه تَعالَى {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} .

ص: 324

الفائِدَةُ التّاسِعَةُ: أنَّ الجمادَ يوصف بالحياةِ والموتِ، ففيه رَدٌّ عَلَى الفلاسفة الَّذِين يقُولونَ إن الجماد لا يمكن أن يوصف بالحياة والموت؛ لأنَّهُ غير قابل لها؛ فنقول إن الله تَعالَى وصف الجماد بِأنَّهُ حي وميت كما فِي هذه الآية وكما فِي قوْله تَعالَى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)} [النحل: 20]، مَعَ أنَّها أصنامٌ من الأحجار والأشجار وما أشبهها.

الفائِدَةُ العاشِرَةُ: ثبوتُ صفة القُدرَة وعُمُومِها لقوْلِه تَعالَى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} لا يعجِزُهُ شيء فِي السّماوات ولا فِي الأرض.

* * *

ص: 325