المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (40) * * *   * قال اللهُ عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي - تفسير العثيمين: الروم

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (40) * * *   * قال اللهُ عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي

‌الآية (40)

* * *

* قال اللهُ عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} [الروم: 40].

* * *

قال المُفَسّر رحمه الله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} ممن أشركتم بالله {مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} لا؛ {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} به].

قوْله تَعالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} يعني أوجدكم من العدم، لكنَّ الخلقَ لَيْسَ مجرد الإيجاد بل هُوَ الإيجاد بتقدير، بل إن بعضهم قَالَ إن الخلق فِي الأصل هُوَ التّقدير واستدلوا لِذَلِكَ بقول الشّاعر:

وَلأنتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعـ

ضُ النَّاس يَخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي

(1)

معنى: (ما خلقتَ) أي مَا قدرت ولكن الصّحيح أنَّه يطلق عَلَى الإيجاد المسبوق بالتّقدير فمعنى {خَلَقَكُمْ} أوجدكم إيجادًا مسبوقًا بالتّقدير والإحكام والإتقان وَهَذا مُسلَّم حتى عند المُشْرِكِينَ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، ولا يمكن لأحد أبدًا إِلا المجنون أن يدعي أنَّه خلق نفسه، أو يدعي أنَّه خُلق بدون

(1)

ذكره الجوهري في الصّحاح (4/ 1471)، ونسبه إلى الشّاعر زهير بن أبي سلمى.

ص: 242

خالق {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} [الطور: 35]، فأنت مَا خلقك أبوك ولا خلقتك أمك ولا خلقك أحد من البشر ولا من غير البشر سوى الله سبحانه وتعالى فَهَذَا أمر مُسَلَّمٌ، وأما أهل الطّبيعة فيقولون هَذَا شيء وجد فِي الأزل عَلَى هَذَا الصّفة وصار يتفاعل ويتوالدّ وما أشبه ذَلِك لكن يقرون بموجد فلا يقُولونَ إن هَذَا الإنسان مثلًا أو هَذَا الحيوان وجد هكذا صدفة يقرون بموجد وَهِيَ الطّبيعة، فنقول لهم هذه الطّبيعة من الَّذي أوجدها؟ لكن هَؤُلاءِ مكابرون ولا عبرة بقولهم.

قوْله تَعالَى: {ثُمَّ رَزَقَكُمْ} أي أعطاكم. والرّزق فِي اللُّغَة العطاء ومنه قوْله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8]، أعطوهم وهل أحد يدعي أن الرّازق سوى الله؟ قد يدعي أحد. قد يقول: الله قَالَ: {فَارْزُقُوهُمْ} فأنا رزقت هَذَا الإنسان أي أعطيته فيقال لكن مَن الَّذي خلق مَا أعطيت؟ الله، الَّذي رزقك هَذَا هُوَ الله، ومهما كَانَ من عمل بني آدم فإنما هُوَ تحويل لا إيجاد كل أعمال بني آدم حتى الصّنائع والبناء وغير ذَلِك لَيْسَ إِلَّا مجرد تحويل يعني تغيير من شيء إِلَى شيء وإلا فالأصل هُوَ الله عز وجل هُوَ الخالِق وَهُوَ الموجد، هَذَا الرّزق الَّذي أعطيت أو هَذَا الرّجل أعطيته كيسًا من الطّعام صحيح أنَّك رزقته لكن من الَّذي أوجد هَذَا الكيس؟ الله عز وجل فإذًا الرّزق أصله من الله وإن كَانَ قد يوجد عَلَى أيدي بعض النَّاس لقوْلِه تَعالَى:{فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} .

وقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: "وَلهَنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتهُنَّ بِالمَعْرُوفِ"

(1)

، لكن يُقَال من الَّذي خلق هَذَا الرّزق؟ ومن الَّذي جلبه إليك؟ ومن الَّذي قَدَّرَ أن تعطيه؟ والجوابُ على كل هذا: هُوَ الله.

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218).

ص: 243

وقوْله تَعالَى: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} يعني بعد هَذَا الخلق والإمداد، الخلق إعداد، والرّزق إمداد، الله عز وجل أوجدك وأعدك وهيأك ثم أمدك بما بِهِ قوامك بعد ذَلِك. {يُمِيتُكُمْ} يعني بعد الحياة: حياة الدّنيا يَكون الموت وَهُوَ مفارقة الرُّوح البدن مفارقة تامة لأَنَّ النوم فِيهِ مفارقة تفارق الرّوح البدن ولكن ليست مفارقة تامة، أمَّا الموتُ الَّذي هُوَ الموت فهي مفارقة تامة ولكنها تُعاد إِلَيْهِ فِي قبره إعادة بَرْزَخِيَّةً لا كإعادتها فِي الدّنيا.

قوْله تَعالَى: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} الحياة الآخرة التِي لَيْسَ بعدها فناء.

قوْله تَعالَى: {شُرَكَائِكُمْ} أي: من شركائكم الَّذِين أشركتموهم، فتكون مضافة إِلَى المفعول، يعني هل من هَؤُلاء الَّذِين أشركتموهم بالله؛ وَلهذا قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[ممن أشركتم بالله]، أي ممن أشركتموهم، والإنسان إِذَا أشرك فالمشْرَك بِهِ مفعول وليس معنى شركائكم هم الذين شاركوكم أو أشركوكم، بل أنتم الذين أشركتموهم مَعَ الله فَهُوَ مضاف إِلَى مفعوله.

قوْله تَعالَى: {مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} إعراب {مَنْ يَفْعَلُ} محلها من الإعراب يحتمل أن تكون نكرة موصوفة والتّقدير {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} أحدٌ يفعل ذَلِك ويحتمل أن تكون موصولة عَلَى أنَّها مبتدأ مؤخر أي هل الذي يفعل ذَلِك من شركائكم، والأول أحسن أن تكون نكرة موصوفة يعني هل من شركائكم أحد يفعل شَيْئًا من ذلك.

وقوْله تَعالَى: {مِنْ شَيْءٍ} من زائدة وصحت زيادتها لأَنَّ الاسْتِفْهام هُنَا بمعنى النّفي و {مِنْ} تزاد فِي النفي كما قَالَ ابن مالِك رحمه الله

(1)

:

(1)

البيت رقم (370) من ألفيته.

ص: 244

وَزِيدَ في نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرّ

نكرَةً كـ (مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرّ)

وقوْله تَعالَى: {مِنْ ذَلِكُمْ} المُشار إِلَيْهِ الخلق والرّزق والإحياء والإماتة، فعلى هَذَا يَكُون الجواب عن كونه مفردًا مذكرًا مَعَ أن السّابق أربعة أشْيَاء: جمع، يُقَال لأنَّهُ أُوّلَ بالمذكور {مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ} أي من ذلكم المذكور، فصح أن يأتي اسم الإِشارة مفردًا مذكرًا لأنّهُ عائد إِلَى مذكور.

وقوْله تَعالَى: {مِنْ شَيْءٍ} يعني لا يمكن أن يفعل هَؤُلاء أي شيء من هَذه الأمور لا الخلق ولا الرّزق والإحياء ولا الإماتة وَهَذا عَلَى سبيل التّحدي، فإذا كانت هذه الآلهةُ الَّتِي أُشْركت بالله لا تفعل شَيْئًا من هَذَا هل يصح أن تكون آلهة؟ لا بل تَاْليهُهَا باطلٌ؛ لقوْلِه تَعالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30].

يبقى النّظر لو ادعى مدع أنه يحيى ويميت كالَّذي حَاجَّ إبراهيمَ فِي ربِّه، إبراهيم صلى الله عليه وسلم قَالَ له:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]. فما هُوَ الجواب لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إن من المعبودين من يستطيع أن يحيى ويميت؟

نَقُول: هذه دعوى باطلة؛ لأَنَّ الإحياء والإماتة من الإنسان ليست إحياء وإماتة ولكنها فعل سبب.

من فوائد الآية الكريمة:

الفائِدَةُ الأولَى: الاسْتِدلال بالأَجْلى والأَوْضح لأَنَّ الله استدل عَلَى بطلان آلهة المُشْرِكِينَ بأمر يقرونه هم، وآلهتهم لا تفعله وَهُوَ الخلق والرّزق والإماتة والإحياء.

الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: تمام قدرة الله عز وجل وَذَلِكَ بالأمور الأربعة الخلق والرّزق إِلَى آخره.

ص: 245

الفائِدَةُ الثَّالثةُ: إثْبَات أن مَا اكتسبه الإنسان فَهُوَ من الله لأَنَّ هذه الأربعة فِيهَا ثلاثة لا أحد يُماري فِيهَا وَهِيَ الخلق والإماتة والإحياء لكن الرّزق قد يماري فِيهِ ممارٍ، فَقَارُونُ قَالَ:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]، فقد فُسِّر:(عَلَى علم مني بوجوه المكاسب)، والمَعْنَى أني أنا ماهر فِي معرفة المكاسب وحصلت هَذَا المال، ولكننا نقول هَذَا التّحصيل الَّذي حصلته بمهارتك إنما جاءك من الله عز وجل؛ لأَنَّ هَذَا الَّذي حَصَل لك بسببٍ وخالِقُ الأسباب هُوَ الله.

الفائِدَةُ الرابعةُ والخامسة: أنه ينبغي لنا استجلاب الرّزق من ربنا وحده لقوْلِه تَعالَى: {ثُمَّ رَزَقَكُمْ} ، وَإِذَا كَانَ الأمر كَذَلِكَ فإِنَّهُ يترتب عَلَى هَذَا فائدة أُخْرَى وَهِيَ أن لا نطلب رزقه بمعاصيه، وجهه: إِذَا كنت تطلب الرّزق من الله هل من اللائق عقلًا أنْ تُقَدِّمَ لَهُ معصيةً ليرزقك، الَّذي يستدر الرّزق من غيره يُقَدِّمُ طاعته والخضوع لَهُ، وَلهذا قَالَ الله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].

إِذَنْ: مَنِ استجلبَ رزق الله بمعاصيه فقد خالَف الحكمة والصّواب. فهَؤُلاءِ الَّذِين يطلبون الرّزق بالرّبا ويطلبون الرّزق بالغش ويطلبونه بالكذب وغير ذَلِك من الوسائل المحرمة هم فِي الحقيقة أشبه مَا يَكُونُونَ بالمستهزئين بالله عز وجل السّاخرين بِهِ كأنهم يقُولونَ يا ربنا إننا نعصيك لترزقنا! وَهَذا من أعظم مَا يَكُون؛ وَلهذا جعل الله الَّذِين يطلبون زيادة المال بالرّبا جعلهم محاربين لَهُ، كما فِي قَوْلِهِ تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279]، والرّبا كما قَالَ شيخ الإسْلام رحمه الله:"ما ورد فِي ذنب من الذّنوب دون الشّرك أعظم مما ورد فِي الرّبا"، الَّذي أصبح عند

ص: 246

النَّاس الآن من أسهل الأشْيَاء وأبسطها حتى كانوا يتعاطونه بالصّراحة، ويتعاطونه بالتّحيل، وتعاطيه بالتّحيل أخبث من تعاطيه بالصّراحة، مثلما أنَّ تعاطيَ الكفر بالنّفاق أخبثُ من تعاطيه بالكفر الصّريح؛ لأَنَّ هَذَا المتحيل مخادع لله عز وجل جَمَعَ - والعياذُ باللهِ - بَيْنَ مَفْسَدَةِ الرِّبا ومفسدة الخداع والتّحيل، فالرّب عز وجل إِذَا حرم شَيْئًا لَيْسَ كغيره تخفى علَيْه الأشْيَاء فَهُوَ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19]، ونبيه صلى الله عليه وسلم وضَّح أنَّ:"الأَعْمَال بِالنياتِ"

(1)

، فما دُمْتَ نويتَ الرّبا الآن لكن تحايلت علَيْه بإدخال سلعة غير مقصودة هَذَا تلاعب واستهزاء بآيات الله عز وجل يأتي إِلَيْهِ يقول أنا أريد منك مئة ألف عَلَى أن تكون بمئة وعشرين ألفًا إِلَى سنة كَيْفَ الوصول إِلَى هذا، يقول والله نحن مسلمون لا أستطيع أن أعطيك مئة ألف نقدًا وأكتبها عليك بمئة وعشرين لأننا نخشى الله ولكن نلوذ من جهة أُخْرَى ونجعل حاجزًا بيننا وبين الله بأي سلعة تتَّفق، فيذْهَبون ينظرون الَّذي عند النَّاس، فإن وجدوا سكرًا قَالُوا: نشتري سكرًا، وإن وجدوا هيلًا قَالُوا: نشتري هيلًا، وإن وجدوا سيارات اشتروا سيارات، حتى لو وجدوا أكياسًا لا يدرون مَا فِيهَا لعله أنْ يكُونَ رملًا قَالُوا نشتري هذه الأكياس، وهَذا هُوَ الواقع؛ وَلهذا لا ينظرون إِلَى هذه الأكياس ولا يدرون مَا فيها، وأكثر مَا يَكُون فِي القبض أنَّه يمرر يده عَلَيْهَا أو يعدها، ويقولون إن هَذَا هُوَ القبض، وليس هَذَا هُوَ القبض لغةً أو عرفًا أو شرعًا، ولا يعد هَذَا قبضًا؛ لأَنَّ القبض معناه أنْ يكُونَ الشّيء فِي قبضتك وَهَذا الشّيء مركون فِي مكانه ترد علَيْه عدة مبايعات فِي خلال ساعة أو ساعتين، وهذه البَلِيَّةُ الَّتِي ابْتُليَ بِهَا

(1)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (1)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنية"، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، رقم (1907).

ص: 247

النَّاس الآن نسأل الله أن ينقذهم منْهَا بلية عظيمة، ويقبحها أنهم يعتقدون أنَّها حلال وأن عمل البنوك حرام، حتى إن بعضهم يأتي يتغيظ ويتضجر، أعوذ بالله انظروا الحرام الرّبا يعلن صريحًا فِي البنوك وَهُوَ ممن يتعاملون بهذه المعاملة يبكي غيره ولا يبكي نفسه، وَهُوَ أحق بأن يبكي نفسه.

فالمُهِمُّ: أن الرّزق إِذَا كَانَ من الله عز وجل فإِنَّهُ يجب عليك شرعًا وعقلًا أن تستمد هَذَا الرّزق بطاعة الله لا بمعصيته.

لَوْ قَالَ قَائِل: هل التَّوَرُّقُ داخل فِي هذا؟

التَّوَرُّق يقول شيخ الإسْلام إِنَّه داخل فِي هَذَا، ويقول عنه تلميذه ابن القَيِّمِ رحمه الله:"إن شيخنا يُسأل عن هَذَا مرارًا فيصر عَلَى أنه حرام". وقد كَانَ التَّورّق غير التَّورُّق المتعامل بِهِ بَيْنَ الناس اليوم، قَالَ العلَماء وعبارتهم:"ومَنِ احْتَاجَ إِلَى نَقْدٍ فَاشْتَرَى مَا يُسَاوِي مِئةً بِمِئَةٍ وعِشْرِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَهِيَ مَسْأَلةُ التَّوَرُّقِ"

(1)

، هذه عبارة (الرّوض المربع) شرح الزّاد.

أولًا: قَالَ: "ومن احتاج" فعلمنا أنَّها لا تكون إِلَّا للحاجة.

ثانيًا: قَالَ: "فاشترَى مَا يساوى مئة بمئة وعشرين"، وقع العقد عَلَى عين المبيع ولم يقولوا العشر أحد عشر ولا اثنا عشر.

وكلمة: "اشترى" تحمل عَلَى الشّراء الشّرعي الَّذي يجمع الشّروط ومن جملتها، العِلْم بالمبيع ونوعه وجنسه إِلَى آخره، وهَذا غير موجود فِي عمل النَّاس الآن.

(1)

الروض المربع شرح زاد المستقنع (ص: 318)، ط. دار المؤيد - مؤسسة الرسالة، ونصها:"ومن احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر ليتوسع بثمنه فلا بأس، وتسمى: مسألة التورق".

ص: 248

كَذَلِكَ قوله: "اشترى بما يساوي مئة بمئة وعشرين إِلَى أجل" ينطبق لأنهم يقُولونَ لكل عشرة اثنا عشر وثلاثة عشر وأحد عشر حسب الاتفاق، ثمَّ نفس الفقهاء الَّذِين أباحوا ذَلِك قَالُوا يُكره أن يقول فِي المرابحة أي فِي بيع المرابحة المعروف أن يقول العشر أحد عشر وذكروا عن الإِمَام أحمد نصًّا بِأنهُ يحرم أن يقول العشر أحد عشر حتى فِي غير مَسْأَلة التّورُّق، ففي بيع المرابحة المعروف يحرم فِيهِ عَلَى إحدى الرّوايات عن أحمد أن يقول العشرة أحد عشر وَهُوَ يريد السّلعة نفسها لا يريد النّقد.

والمذهب: أنه يكره والرّواية الثّانية عن أحمد أنه يحرم، مثلًا لو اشتريت هَذَا الكتاب وأنت تريد هَذَا الكتاب نفسه لا تريد دراهمه فقلتَ لي سأشتريه منك مرابحة، قلت لا بأس أنا شاريه بمئة وسأبيعه عليك عَلَى أن أربح بكل عشرة دراهم درهمًا، أي تكون المئةُ مئة وعشرة، هَذَا جائز لكن لو قلتَ سأشتريه منك العشرة أحد عشر، قَالُوا إِنَّه يكره عَلَى المذهب ويحرم عَلَى الرّواية الثّانية مَعَ أنَّها ليست هِيَ مَسْأَلة التَّورُّق فهَؤُلاءِ النَّاس الآن جمعوا بَيْنَ الأمرين بَيْنَ العشرة أحد عشر أو اثنا عشر وبين التَّوَرُّق.

أمَّا عمل الناس الآن فَهُوَ لا ينطبق علَيْه، حتى عَلَى قول من يقول بجواز التَّوَرُّق؛ ولاحظ أن الإِمَام أحمد عنه رواية بأنها جائزة والرّواية الثّانية بأنها من مسائل العِينَةِ، ذكرها عنه شيخ الإسْلام ابن تَيْمِيةَ

(1)

، وذكرها ابن القَيِّمِ فِي تهذيب السُّنن

(2)

، أن مَسْأَلة التَّوَرُّق من مسائل العِينَةِ والعِينَةُ معروف أنَّها حرام.

فالحاصِلُ: أننا فِي عصرنا الحاضر لما كَانَ النَّاس لا يبالون إِلَّا أن يكتسبوا المال

(1)

مجموع الفتاوى (29/ 30).

(2)

تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته (2/ 156)، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 201).

ص: 249

فقد جعلوا المال مقصودًا مخدومًا بعد أن كَانَ وسيلة خادمًا، وحَقِيقَةُ المالِ أنه وسيلة خادم ولكن جعلناه الآن مقصودًا مخدومًا، وَهَذا من سفه الإنسان أن يستخدمه مالُه الَّذي خلق لَهُ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29].

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هل الإيداع فِي البنوك يعتبر إيداعًا شرعًا؟

قُلْنَا: إن قولنا فِي البنوك أني وضعت مالي وديعة عِنْدَهُم هَذَا غير صحيح لا ينطبق علَيْه شرعًا. فمعنى الوديعة شرعًا هُوَ أن تعطيه المال ليحفظه بعينه لا أن تعطيه مالَك يضعه فِي صندوق وينتفع به، حتى إنَّ العلَماءَ قَالُوا لو أن المودِع أذن للمودعَ بالانتفاع بالوديعة صارت قرضًا يثبت فِي ذمته.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَا حكم السَّلَمِ؟

السَّلَمُ معروفٌ، وَهُوَ أن أعطي شخصًا دراهمَ نقدًا بسلعةٍ مؤجَلة، عكس الشّراء، فأعطيك مثلا عشرة آلاف ريال عَلَى أن تعطيني بعد سنة مئة كيس سكر أو سيارة وصفها كذا وكذا هَذَا لَيْسَ فِيهِ شيء؛ لأَنَّ الصّحابة كانوا يفعلونه فِي عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم كانوا يسلفون فِي الثّمار السّنة والسّنتين

(1)

، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ"

(2)

، ووجه أنَه لَيْسَ فِيهِ شيء هُوَ أنَهُ لَيْسَ هناك ربحٌ مضمون لأحد الطّرفين، فأنا إِذَا أعطيتك مثلًا عشرة آلاف ريال فِي سيارة إِلَى أجل لا أدري، هل أنا الَّذي أربح أو أنت؟ لأَنَّهُ عند انتهاء الأجل يمكن أن أجد السّيارة بستة آلاف ريال ويمكن لا أجدها

(1)

أخرجه البخاري: كتاب السلم، باب السلم إلى أجل معلوم، رقم (2253)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب السلم، رقم (1604).

(2)

التخريج السابق.

ص: 250

إِلَّا بخمسة عشر ألف ريال، وَهَذا لا بُدَّ أن يقع، ونادرًا أن تكون الأسعار إِلَى سنة لا تقل، فإذا كَانَ فِي الذّمة فليس فِيهِ شيء، وَلهذا قَالَ الفقهاء: لو أَسْلَمَ فِي ثَمَرِ بستان معين مَا صح لأَنَّهُ صَارَ محله الآن البستان ولم يعد فِي الذّمة فلا بد من تمام الشّروط.

لَوْ قَالَ قَائِل: الَّذي يحتاج فلوسًا ماذا يفعل؟

قُلْنَا: إِذَا احتاج فلوسًا يأتي للواحد يقول تعال أعطنا فلوسًا بشيء مؤجل أو يشتري المواد الَّتِي يحتاج بثمن مؤجل أكثر من النّقد، وليس هذا من التَّورُّق، إِذَا اشترى السّلعة يريدها بعينها لَيْسَ تورقًا، ففي التَّوَرُّق هُوَ لا يريد السّلعة وَلهذا سمي تورقًا، مأخوذ من الوَرِق لأنَّهُ لا يريد إِلَّا الفضة.

الفائِدَةُ السّادِسَةُ: عجز هذه الآلهة عن فعل شيء يختص بالرُّبُوبِيَّة لقوْلِه تَعالَى: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} ؛ لأَنَّ هَذَا الاسْتِفْهام كما قررنا بمعنى النّفي.

الفائِدَةُ السّابِعَةُ: ثبوت التّلازم بَيْنَ التّوحيدين: توحيد الرُّبُوبِيَّة وتوحيد الألوهية وأن من أقر بتوحيد الرُّبُوبِيَّة لزمه أن يقر بتوحيد الألوهية وَهَذا المَعْنَى قرره الله تَعالَى فِي عدة آيات.

الفائِدَةُ الثَّامِنةُ: تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل نقص يؤخذ مِنْ قوْلِه تَعالَى: {سُبْحَانَهُ} .

الفائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أن المُشْرِكِينَ بالله عز وجل قد وقعوا فِي تَنَقُّصِ الله لقوله عز وجل: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

الفائِدَةُ العَاشِرَةُ: أن الله تَعالَى يجمع فيما وصف وسمى بِهِ نفسه بَيْنَ النّفي

ص: 251

والإثْبَات، فالنّفي فِي قوْله تَعالَى:{سُبْحَانَهُ} ، والإثْبَات فِي قوْله تَعالَى:{وَتَعَالَى عَمَّا يُشُرِكُونَ} .

الفائِدَةُ الحادِيَةَ عَشرَةُ: قوة الإقناع فِي أسلوب القرآن لأَنَّ مثل هَذَا التّحدي {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} هَذَا أقوى مَا يَكُون فِي الإقناع كل منهم سيكون جوابه لا.

إِذَنْ: لماذا تعبدونها مَعَ الله هل يستفاد من هَذِهِ الإنة استنباط أقسام التّوحيد الثلاثة؟ الرُّبُوبِيَّة موجودة، والألوهية مو جودة لالتزام الإقرار بالرُّبُوبِيَّة الإقرارَ بالألوهية ثمَّ إن قوْله تَعالَى:{هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} المقصود بِهِ إبطال أُلوهيَّتهم، والأسماء والصّفات موجودة فِي قوْله تَعالَى:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

* * *

ص: 252