الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (48، 49)
قَالَ اللهُ عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم: 48].
* * *
قوْله تَعالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [تُزْعِجُهُ]، لأَنَّهُ مأخوذ من (أثار الصَّيد) إِذَا أزعجه {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} ، يعني يبعثها كَيْفَ شاء سبحانه وتعالى {فَتُثِيرُ سَحَابًا} ، قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[تُزْعِجُهُ] كإثارة الصّيد، فإن إثارة الصّيد من مكانه يعني إزعاجه حتى يقوم وقوْله تَعالَى:{سَحَابًا} السّحاب معروف هُوَ الغيم {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} قَالَ المُفَسر رحمه الله: [مِنْ قِلَّةٍ وَكَثرةٍ]، يبسطه البسط معناه النّشر {كَيْفَ يَشَاءُ} تعود إِلَى كيفية هذَا النّشر قد يَكُون واسعًا وقد يَكُون قليلًا وقد يَكُون كثيفًا وقد يَكُون خفيفًا، ولهذا قَالَ المُفَسِّر رحمه الله:[{وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} بفتحِ السِّين وسُكُونها: قِطَعًا مُتَفَرِّقَة]، بفتح السّين يعني {كِسَفًا} وسكونها يعني (كسْفًا) وقد الله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)} [الطور: 44]، كِسْفاً؛ الكسَف معناه القطع، وكأن المُفَسِّر رحمه الله يريد أن يبين أن السّحاب قد يَكُون واسعًا منتشرًا مبسوطًا وقد يَكُون قليلًا قطعًا متفرقة، وقال بعض المفسرين معنى كونه كسفًا أنَّه قِطَعٌ متراكبة بعضها فوق بعض حتى يَسْوَدَّ وَيدلَهِّم ويحصل فِيهِ الرّعد والبرق وهذا أولى، وهو فِي الغالب أكثر مطرًا.
قوْله تَعالَى: {فَتَرَى} الخطاب لكل من يتأتى خطابه لأَنَّ هذه الرّؤية ليست خاصةً بالرَّسول صلى الله عليه وسلم، وقوْله تَعالَى:{الْوَدْقَ} يعني المطر يعني حبات المطر تسمى ودقًا.
قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} ؛ قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [أي وَسطِه]، وقيل من بينه: من بَيْنَ هذَا السَّحاب.
وقوْله تَعالَى: {فَتَرَى الْوَدْقَ} ؛ إِذَا قَالَ قَائِلٌ: نحن لا نراها بأعيننا المجردة لا نرى أن المطر يتخلل هذَا السّحاب وينزل فيُقال أنَّه خبر صدق فيكون كالمشاهدة مَا دام أن الله تَعالَى أخبر بِهِ فإننا كأنما نشاهده بأعيننا ثمَّ أنَّه فِي الوقت الحاضر وجدت الآلات القوية الَّتِي يستطيع الإنسان بِها أن يرى كَيْفَ يخرج هذَا المطر: هذه النّقط من خلال السّحاب.
وقوْله تَعالَى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [بالوَدقِ {مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ، هذه جملة شرطية {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} {إِذَا هُمْ} تدُلّ عَلَى أن هؤلاء الذين أُصيبوا بالمطر أنهم فِي غاية الاشتياق إِلَيْهِ وَبها بمجرد مَا يصيبهم يحصل الاسْتِبْشَار، وقولنا بمجرد لَيْسَ نتيجة عن ترتب جواب الشّرط عَلَى فعل الشّرط ولَكِنَّهُ نتيجة لِذَلِكَ وزيادة أمر آخر وَهُوَ الإتيان بـ (إذا) الفجائية الَّتِي تدُلّ عَلَى المفاجئة والسُّرعة.
إذَنْ: (إذَا) تفيد الشّرط وفعل الشّرط (أصاب) وجواب الشّرط جملة {همْ يَسْتَبْشِرُونَ} المصدرة بـ (إذا) الفُجائية.
قُلْنَا: إن هذَا التّعبير يدل عَلَى أن هؤُلاءِ فِي غاية مَا يَكُون من الاشتياق إِلَى نزول الغيث وجه ذَلِك استبشارهم بمجرد الإصَابَة وليس استبشارا عاديا كترتب
الجواب عَلَى فعل الشّرط ولَكِنَّهُ أبلغ لأَنهُ أتى بـ (إذَا) الفُجائية الدّالة عَلَى المبادرة لوجود ذَلِك الشّيء.
وقوْله تَعالَى: {يَسْتَبْشِرُونَ} قَالَ المُفَسِّر رحمه الله: [يَفْرَحُونَ بالمَطَر]، الاسْتِبْشَار أشد من مجرد الفرح بل هُوَ يستبشر بنفسه وربما يهنئ غيره ويبشره وَلهذا ففي أول مَا يأتي المطر فِي أيام موسم المطر تجد النَّاس إِذَا رأى بعضهم بعضا لا سِيَّما الَّذِين يأتون من البراري يقول أبشرك أنَّه قد نزل مطر وأنه كثير أو حسب مَا يكون، فالاسْتِبْشَار هُنَا أبلغ من مجرد الفرح لكن المُفَسِّرُ رحمه الله ربما يفسره بالتّقريب.
وقوْله تَعالَى: {مَنْ يَشَاءُ} لا: "ما يشاء النَّاس" فالَّذي ينزل الغيثَ هُوَ الله عز وجل وليس أحد يستطيع أن ينزله، وأما مَا ذُكِرَ من أنهم الآن يُسلِّطون مَوَادَّ كيماوية عَلَى السّحاب فينزل المطر فإن صح هذَا الأمر فنقول: من الَّذي خلق هذَا المطر؟ الله سبحانه وتعالى والَّذي أوجد هذَا السّحاب هُوَ الله سبحانه وتعالى وكونهم يتوصلون إِلَى أسباب يتبخر بِها هذَا السّحاب حتى ينزل مطرًا هذَا لا ينافي أنْ يكُونَ الله عز وجل هُوَ الَّذي ينزل الغيث، ثمَّ إن قوله فِي الآية {يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} أبلغ من ينزل المطر إذ إن المطر قد ينزل ولا يَكُون غيثًا كما ثبت فِي صحيح مسلم:"لَيْسَ السَّنةُ أَنْ لَا تمطَرُوا إِنَما السَّنةُ أَنْ تمطروا وَلَا تُنْبِتُ الأَرضُ"
(1)
، السّنة معناها الجَدْبُ والقَحْطُ يعني لَيْسَ السّنة أنَّه لا يأتي المطر، السّنة الحقيقية أن يأتي ولا يحصل نبات.
وقوْله تَعالَى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} المُرَادُ بالعباد هُنَا جمع عبد وَهِيَ العبودية العامة لأَنَّ المطر ينزل عَلَى المؤْمِنينَ وَعَلَى الكَافِرِينَ، بل ربما يَكُون
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في سكنى المدينة وعمارتها قبل الساعة، رقم (2904).
نزوله عَلَى الكَافِرِينَ أكثر وأغدق وأشد استمرارًا، امتحانًا لهم لتُعَجَّلَ لهم طيباتهم فِي حياتهم الدّنيا كما قَالَ الله تعالى:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20]، أي بهذه الطّيبات {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20]، إِلَى آخره.
قوْله تَعالَى: {وَإِنْ كَانُوا} قَالَ المُفَسِّر: [وقد كانوا]، قدر (إنْ) بـ (قد) وتَبعَ فِي ذَلِك البَغَوِيَّ لأَنَّ الجلاليْنِ مأخوذ من البغوي يعني كأنه مختصر لَهُ لأنك إِذَا تأملت تفسيره رحمه الله وجدت أنَّه هُوَ تفسير البغوي بعينه لكن البغوي مبسوط وَهذا مختصر، قَالَ رحمه الله:{وَإِنْ} قد]، ولا أحد من أهل النّحو قَالَ بِهذا القول إِلَّا أن يقوله عَلَى سبيل التّفسير فقط، والصّواب الَّذي لا شك فِيهِ هُوَ أن (إنْ) مخففة من الثّقيلة كما فِي قوْله تَعالَى:{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وَعَلَى هذَا فنقول (إنْ) أصلها (إنَّ) فخففت واسمها ضمير الشَّأْنِ محذوف والتّقدير وإنهم، وقد سبق أن القول الصّحيح من أقوال النّحويين أن ضمير الشّأن لا يقدر مفردًا مذكرًا وَإنَّمَا يقدر بحسب السّياق إن كَانَ السّياق يقتضي التّأنيث فَهُوَ مؤنث وإن كَانَ السّياق يقتضي التّذكير فَهُوَ مذكر وإن كَانَ يقتضى الجمع فَهُوَ مجموع وإن كَانَ يقتضي التّثنية فَهُوَ مثنى.
إِذَنْ: أصله وإنهم كانوا لكن خففت (إنَّ) فحذف اسمها عَلَى أنَّه ضمير الشّأن {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي: من قبل أن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم المطر، وعرفنا أنَّ المراد بِهِ المطر من قوْله تَعالَى:{فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} فإن الودقَ إِذَا خرج من خلال السَّحاب ينزل إِلَى الأرْض.
وقوْله تَعالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} يعبر الله عز وجل عن نزول المطر بالإنزال
والتّنزيل وَذَلِكَ لأَنَّ المطر أحيانًا يأتي دفعةً واحدة بكثرة وغزارة فيكون إنزالًا، وأحيانًا يأتي بالتّدريج ضعيفًا متقطعًا فيُسَمَّى تنزيلًا لأَنَّ التّنزيل معناه إنزال الشّيء شَيْئًا فشيئًا.
لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بالنّسبة لتغاير الإنزال والتّنزيل هل نقول أنزَلَ باعتبار المطر ككل وباعتبار أفراده نقول نَزَّلَ؟
فالجوابُ: لا، بل هُوَ باعتبار الكثرة والتّفريق، يعني بعد أيام يأتي، ثمَّ يأتي أيضًا قليلًا أحيانًا، مثلا يَكُون المطر يومين أو ثلاثة ولَكِنَّهُ قليل وأحيانًا يأتي كما هُوَ مُشاهد سُحبًا عظمية كأنها أفواه القرب.
وقوْله تَعالَى: {مِنْ قَبْلِهِ} اختلف فِيها أهل العِلْم فقال بعضهم كما قَالَ المُفَسِّر رحمه الله إنَّها تأكيدٌ كقوْله تَعالَى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188]، كرَّر الفعل توكيدًا، هذَا قول وَهُوَ الَّذي مشى علَيْه المُفَسِّر وعليه أكثر المفسرين أن قوله {مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل أن يُنزَّل عَلَيْهِم قَالَ: وإن كانوا من قبل أن ينزل عَلَيْهِم، من قبل أن ينزل عَلَيْهِم لَمُبْلِسِينَ، فيكون تكرارها للتوكيد.
وقال بعض المفسرين إنَّها كُررت للتأسيس لا للتوكيد، ومعلوم أنَّه إِذَا دار الكلام بَيْنَ أنْ يكُونَ توكيدا وأن يَكُون تأسيسًا فالأصل التّأسيس لأَنَّ الأصل عدم التّوكيد لأَنَّ التّوكيد تكرار والأصل عدم التكرار، ولينتبه للفرق فِي تعبير العلَماء رحمه الله، فالفرق بَيْنَ التّوكيد والتّأسيس أن التّوكيد معناه أن هذَا هُوَ الأول، والتّأسيس معناه أن هذَا غير الأول وأنه كلام مستقل.
وعَلَى القول بِأنَّهُ تأسيسٌ فما معناه؟
قال بعضهم {مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل الاسْتِبْشَار {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ} من قبل الاسْتِبْشَار {لَمُبْلِسِينَ} فذكر الله لهم حالين: قبل الاسْتِبْشَار وبعده، وهذا مَا مشى علَيْه أبو السّعود وَهُوَ جيد وليس فِيهِ إشكال من حيْثُ التّصور والمَعنَى، ويكون المَعنَى وإن كانوا من قبل إنزال المطر من قبل ذَلِك الاسْتِبْشَار لمبلسين فنبههم الله عَلَى حالهم قبل الاسْتِبْشَار وَهُوَ الإبلاس وَعَلَى حالهم بعد ذلك.
وقال بعضهم {مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل قبل أن ينزل عَلَيْهِم {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ} أي من قبل ذَلِك القبل فيجعلون الضّمير فِي قوْله تَعالَى: {مِنْ قَبْلِهِ} لَيْسَ عائدًا إِلَى المطر ولا عائدًا إِلَى الاسْتِبْشَار وَإنَّمَا يجعلونه عائدا إِلَى القبل فالمَعنَى عَلَى هذا: (وإن كانوا من قبل أن ينزل عَلَيْهِم من قبل ذَلِك القبل لمبلسين)، فيكون فائدتها أن الإِبْلاس مستمر معهم من قديم الزّمان فيأتي موسم لا يأتي فِيهِ مطر فيبلسون ثمَّ يأتي موسم آخر فيبلسون ثمَّ يأتي موسم آخر فيبلسون وهكذا، ومعلوم أنَّه إِذَا تكررت مواسم ولم ينزل مطر كَانَ أشد فِي الإِبْلاس ويكون المَغنَى أن هذَا الاسْتِبْشَار أتى بعد يأس مرتين فأكثر وَهذا أيضًا ذكره ابن كَثِير رحمه الله فِي تفسيره.
فصار لدينا فِي قوله: {مِنْ قَبْلِهِ} ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنَّه توكيدٌ.
القول الثّاني: أن الضّمير يعود عَلَى الاسْتِبْشَار.
القول الثّالثُ: أن الضّمير يعود عَلَى القَبْل.
أمَّا قوْله تَعالَى: {لَمُبْلِسِينَ} فهي بالنّصب خبر لـ (كان) فِي قوْله تَعالَى: {وَإِنْ كَانُوا} واقترنت (اللام) بِها من أجل (إنْ).
والاقتران هُنَا هل هُوَ واجب أو جائز؟
والجوابُ: إننا لو أسقطناها فسوف تشتبه (إنْ) المخففة بـ (إنْ) النّافية، فيفهمها البعض: لو كانت (وما كانوا من قبل أن ينزل عَلَيْهِم مبلسين)، يعني يستبشرون أنهم مَا أبلسوا ولا يئسوا، يعني: يستبشرون وإن كَانَ لَيْسَ عِنْدَهُم يأس من قبل، لذا فالظّاهر وجوب هذا الاقتران؛ لأنّها قد تشتبه بـ (إن) النّافية، أمَّا إِذَا لم تشتبه فلا يجب الاقتران هل هناك شاهد فِي كلام العرب لذلك؟ نعم قول الشّاعر
(1)
:
....................
…
وإن مالِك كانت كرَامَ المَعَادِن
يفتخر بِأنه من بني مالِك ثمَّ يقول: (وإن مالِك كانت كرام المعادن) هُنَا لا يمكن أن تشتبه (إنْ) بـ (ما) لأنهُ لا يمكن أن يفتخر بقوم يسلب عنهم كرم المعدن لو تقول مثلا أنا من قبيلة هذه القبيلة مَا كانت كرام المعادن لا يستقيم.
فالحاصِلُ: أن اللام هُنَا للتوكيد ويسميها بعض العلَماء (اللام الفارقة)، وَهذا أدق فِي التّعبير وَهِيَ مَعَ كونها فارقة تفيد التّوكيد وَإنَّمَا سموها اللام الفارقة لأنَّها تفرق بَيْنَ (إنْ) النّافية وبين (إنْ) المخففة.
إِنْ قَالَ قَائِل: هل يمكن أن تقترن باللام مَعَ كون (إنْ) بمعنى النّفي؟
فالجوابُ: لا، وَهذا هُوَ السّر فِي أنَّها فارقة لا يمكن أن تقترن بِها اللام لأَنَّ اللام تفيد توكيد الإثْبَات، والنّفي بخلاف ذَلِك، فالنّفي يفيد النَّفي.
(1)
البيت للطرماح، في ديوانه (ص: 173)، وشطره الأول:
أنا ابن أُباة الضَّيم من آل مالك
…
...
…
...
…
...
…
قوْله تَعالَى: {لَمُبْلِسِينَ} يقول المُفَسِّر رحمه الله: [آيِسينَ مِنْ إِنْزَالِهِ]، والإِبْلاس مثل القُنُوطِ أَشَدُّ اليَأْسِ ومنه سمي إبليس نعوذ بالله مِنْهُ لأنَّهُ مُبْلسٌ آيس من رحمة الله عز وجل.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الفائِدَةُ الأُولَى: كمال قدرة الله من خمسة أوجه:
أولاً: إرسال الرّياح.
ثانيًا: إثارتها السّحاب.
ثالثا: بسطه فِي السّماء.
رابعًا: جعله كِسَفًا.
خامسًا: نزول المطر منه.
الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: أن السّماء يُطلَق عَلَى كل مَا على لقوْلِه سبحانه وتعالى: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ} ، فإِنَّهُ لا يُبسط فِي السّماء الَّتِي هِيَ السّقف المحفوظ وَإنَّما يُبسط فِي الجو العالي.
الفائِدَةُ الثَّالثةُ: حكمةُ الله عز وجل فِي نزول المطر من أعلى لأَنَّهُ إِذَا نزل من أعلى عم النّازل والمرتفع بخلاف مَا لو كَانَ يجري فِي الأرض، لو كَانَ يجري فِي الأرض فإِنَّهُ يغرق النّازل قبل أن يصل إِلَى العالي.
الفائِدَةُ الرّابِعَةُ: بَيان شدة افتقار الخلق إِلَى رحمة الله لقوْلِه تَعالَى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
الفائِدَةُ الخامِسَةُ: إثْبَات المشيئة لقوْلِه تَعالَى: {مَنْ يَشَاءُ} .
الفائِدَةُ السّادِسَةُ: إثْبَات العبودية العامة لقوْلِه تَعالَى: {مِنْ عِبَادِهِ} .
الفائِدَةُ السّابِعَةُ: جواز الاسْتِبْشَار بالمطر وأن يبشر النَّاس بعضهم بعضًا به.
ولننظر هل تصح هذه الفائدة أم لا؟ يعني: هل يمكن أن يؤخذ منْها جواز الاسْتِبْشَار بالمطر أو يُقَال إن هذَا خبر عن واقع فلا يتأتى مِنْهُ حكم؟
فيه احتمال أن يؤخذ منْها الاسْتِبْشَار بالمطر وفيه احتمال أنْ يكُونَ هذَا بيانًا للواقع فلا يؤخذ مِنْهُ حكم، وغاية مَا فِيهِ أن يُقَال إنَه مباح لأَنَ الله تَعالَى ذكره ولم ينكره.
الفائِدَةُ الثّامِنةُ: بَيان رحمة الله عز وجل لكون المطر ينزل نقطًا لا أنَّه ينزل دفعة واحدة؛ لقوْلِه تَعالَى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} لأنَّهُ لو نزل كأفواه القرب أو كالأودية التِي تمشي لكان مدمرًا للمنازل مدمرًا للأشجار مؤثرًا عَلَى مَنْ ينزل علَيْه من حيوان ولكن الله عز وجل جعله بِهذا الرَّذاذ.
الفائِدَةُ التاسِعَةُ: بَيان حال العبد قبل نزول المطر وأن العبد ضعيف لقوْلِه تَعالَى: {لَمُبْلِسِينَ} فإِنَّهُ ضعيف إِذَا أصيب بشيء أَيِسَ واستبعد الفرج، ولكن الله عز وجل يزيل عنه هذَا الأمر، تؤخذ مِنْ قوْلِه تَعالَى:{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} .