المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (20) * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ - تفسير العثيمين: الروم

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (20) * قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ

‌الآية (20)

* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)} [الروم: 20].

* * *

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَمِنْ آيَاتِهِ} تَعَالَى الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَته {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أَيْ أَصلكُمْ آدَمُ، {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} مِنْ دَمٍ وَلحمٍ {تَنْتَشِرُونَ} في الأَرْضِ] اهـ.

قوْله تَعالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} : (من) للتَّبْعِيضِ، يعْنِي بعْضُ آياتِه، و (مِنَ) التّبْعِيضِيَّةِ قالَ العلَماءُ: هِي التي يصِحُّ أنْ محلَّ محَلَّها بعْضُ، وَ (آيَاتِه) جمْعُ آيَةٍ، وهِي العَلامَةُ، أي العَلامَةُ البَيِّنةُ الواضِحَةُ الدّالَّةُ عَلَى مَا تخْتَصُّ بِه مِنْ صِفاتِ الله حسَبَ مَا سِيقَتْ لَهُ، وكُلُّ شيءٍ مِن آياتِ الله عز وجل فإِنَّه يدُلُّ عَلَى كَثيرٍ مِن صِفَاتِ الله تَعالَى دلالَةً مطَابِقَةً باعْتِبَارِ مَا ذَكَر فِيها أوْ مَا ذَكَر مِنْ هَذِهِ الآيات، ودَلالَةُ التِزامٍ بِما يلْزَمُ مِنْ وُجودِ هَذِهِ الصِّفَةِ، مَثلًا قوْلُه تَعالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} ، فخَلْقُنا مِن تُرابٍ إِلَى أنْ نكونَ بَشرًا، هَذا مِن الآيات إِذْ إنَّ قلْبَ الجمادِ إِلَى حَيَوانٍ لَا شَكَّ أنه مِنَ الآيات، ولكِنَّ كوْنَهُ دالًّا مثَلًا عَلَى القُدْرَة والعِلْم والحكْمَةِ ومَا أشْبَه ذَلِك، هَذه دلَالَةُ التِزامٍ، ودلالة الالتِزام مِن أفْيَدِ مَا يَكُون لِطالب العِلْم إِذا وُفِّق للْفَهْم الصَّحيحِ فِيما يَلْزَمُ مِن كَلامٍ.

ص: 100

فَإنْ قَالَ قَائِلٌ: كيْفَ تكون الأشْيَاءُ عَلامَةً عَلَى الله عز وجل وهُوَ أبْيَنُ وأظْهَرُ؛ لأَنَّ معرِفَتَهُ مرْكُوزَةٌ في الفِطَر والعُقولِ؟

فالجوابُ: أوَّلًا: أنَّ بعْضَ الفِطَرِ قَدْ يَعْتَريها مَا يصْرِفُها عَن الصِّراطِ المُسْتَقِيم فتَحْتَاجُ إِلَى دَعْمٍ لِبَيانِ الآيات.

ثانيًا: أنَّ هَذِهِ الآيات كُلُّ آيَةٍ تدُلّ عَلَى نوعٍ خَاصٍّ مِن صِفَاتِ الله سبحانه وتعالى بِخِلافِ العَقْلِ والفِطْرَةِ، فإِنَّهُ يهْتَدِي إِلَى وُجودِ الخالِق عز وجل، مِنْ حيْثُ الجمْلَةُ أمَّا التَّفْصيلُ فَلا يُمْكِنُ إِلا بِذِكْرِ هَذِهِ الأجْنَاس والأنوَاعِ؛ وَهذا لَا يُمْكِنُ الوُصولُ إِلَى الإِحاطَةِ بِذَاتِ الله عز وجل، نُحِيطُ بِالآيات الدّالَّةِ عَلَى صِفَاتِه، أمَّا أنْ تُحِيطَ بِذَاتِ الله فَهذَا أمْر لَا يُمْكِنُ؛ وَهذا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّه قَال:"تَفَكَّرُوا في آياتِ الله، وَلَا تَفَكَّرُوا في ذَاتِ الله"

(1)

.

قوْله تَعالَى: {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} : {أَنْ} مَصْدَرِّية لأَنَّ المخَفَّفَةَ هِي التي تَكُونُ بَعْدَ عِلْمٍ أوْ ظَنٍّ، مثْلُ قوْلِه تَعالَى:{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20]، ومثْلُ قوْلِه تَعالَى:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] ، وأَمَّا هَذِهِ فليْسَتْ كَذَلِكَ، وَعَلى هَذا فتكُونُ مصْدَرِّيةً، {أَنْ خَلَقَكُم} فتكُونُ هِي ومَا بعْدَها في تأْوِيلِ مصْدَرٍ مبْتَدَأ مؤَخَّر يعْنِي خلَقَكُم والخبرُ قوْلُه تَعالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ} .

قوله رحمه الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ} تَعالَى الدّالة عَلَى قدرته]: قيَّدها بالدّالَّةِ عَلَى قُدْرَته لأنَّهَا أبْرَزُ شَيْءٍ في الآيات في هَذا الخلْقِ، وَإِلَّا فَهُو دَالٌّ عَلَى الحكْمَةِ العَظِيمَةِ إِذْ لَا خلْقَ إِلَّا بعْدَ عِلْمٍ، كَما قَالَ تَعَالَى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14].

(1)

أخرجه أبو الشيخ (1/ 241، رقم 22) عن ابن عباس موقوفًا عليه.

ص: 101

قوله رحمه الله: [{أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي: أصلكم آدم]: (أصلكم) تفسيرٌ للكَاف في قوْلِه: {خَلَقَكُمْ} ، يعْنِي باعْتِبَارِ أصْلِنا بالاعْتِبار المُباشِرِ فإِنَّ الإِنْسانَ خُلِق مِنْ نُطْفَةٍ كَما قالَ تَعالَى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 12، 13]، والسُّلالَةُ خالصُ كُلِّ شيْءٍ عَلَى حَسَب مَا يَبِينُ، فقوْلُه تَعالَى:{مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} آدَم، وقوْلُه تَعالَى:{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} هَؤُلاءِ بَنُو آدَمَ، وقَوْلُه:{جَعَلْنَاهُ} هو أيِ الإِنسانُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِه.

قوْله تَعالَى: {مِنْ تُرَابٍ} : (مِنْ) لابْتِدَاءِ الغايَةِ، وَالمَعْنى أنَّ ابْتِدَاءَ الخلْقِ مِن التُرابِ.

قولُه رحمه الله: [{إذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} مِنْ دَمٍ وَلحمٍ {تَنْتَشِرُونَ} فِي الأرْضِ]: كُنْتُم تُرابًا والتُّرابُ لا يتَحَرَّكُ مِن مَكانِهِ ولَا يَنْتَشِرُ وَلَيْس فِيه حرَكَةٌ، ثمَّ بعْدَ ذَلِك إِذَا أنْتُم بَشَرٌ تنتَشِرُونَ، (ثُمَّ) دالَّةٌ عَلَى المُهْلَةِ؛ لأنَّهُ بعْدَ خلْقِ آدَم لَمْ يأْتِ الأوْلَادُ مبَاشَرَةً بَلْ خُلِق لَهُ زوْجَةٌ ثمَّ جَاء مِنْ هَذِهِ الزّوْجَةِ.

قوْله تَعالَى: {إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} : {إِذَا} فُجائِيَّةٌ، يعْنِي ثمَّ صَارَتِ المُفاجَأَةُ عَلَى هَذا الوَجْه.

قوْله تَعالَى: {ثُمَّ إِذَا} : قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: إنَّ في هَذا ما ظَاهِرُه التَّناقُضُ لأَنَّ (إِذَا) هُنا فُجائِيَّةٌ، وَ (ثُمَّ) للمُهْلَةِ، والمُفاجَأَةُ والمُهْلَةُ متناقِضَانِ، إِذ إِنَّ المُفاجَأَةَ تدُلّ عَلَى المُبادَرة فيُجَابُ عَنْ ذَلِك بأنَّ المفاجَأَةَ بعْدَ المُهْلَةِ؛ لأَنَّ التّرابَ لَا يَكُونُ بَشرًا في الحالِ، وإِنَّما تطَوَّر لمدَّةٍ حتَّى وَصَلَ إِلَى البَشرِيَّةِ، هَذا إِذا قُلْنا: إِنَّ المُرادَ بالبَشَر خُصوصُ آدَم، أمَّا إِذا قُلْنَا: المُرادُ بِهِ ذُرّيَّتُه، فالمُهْلَةُ ظَاهِرَةٌ، لأَنَّ هَذا يشْمَلُ الذّرَّيَّةَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَة فالمُهلَةُ ظاهِرَةٌ، لكِنَّ المفاجَأةَ فِي قوْلِه تَعالَى:{إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} ، قدْ تُوحِي إِلَى أنَّ المُرادَ

ص: 102

بِه آدَمُ، فإِنَّ آدَم بَشَرٌ وذُرِّيَّتُه انْتَشرَتْ فِي الأرْضِ.

وقوْله تَعالَى: {إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} مبتَدَأٌ وخبَرٌ، وجُمْلَةُ {تَنْتَشِرُونَ} في محَلِّ رفْعِ صفَةٍ لـ (بَشَر)، وإِذا جعَلْناها صِفَةً لِـ (بَشَر) صَار فِيها إشْكَالٌ مِنْ جِهة أنَّ (بشَرٌ) مفْرَدٌ و (تنتشرون) جمْعٌ، لكن المُفْرد المُرادَ بِه الجِنْس يكُونُ لِلْجَمْعِ.

وسُمِي الإنْسانُ بَشرًا قِيلَ لأَنَّ بشْرَتَه بَادِيَةٌ، إِذْ إِنَّ الحيوانَاتِ الأخرى عَلَى أبْشَارِها مَا يستْرُها لحكْمَةٍ، وأمَّا الآدَمِيّ فإنَّ بشْرَتَهُ بَارِزَةٌ ظَاهِرَةٌ، وقِيلَ: لأنَّهُ تبْدُو عَلَى بشْرَتِه انفعالاتُه النّفسيَّةُ، مثْلُ الغَضبِ والفَرَحِ ومَا أشْبَهَ ذَلِك، فإِنَّها تبْدُو ظَاهِرَةً عَلَى وجْهِه.

وقوله رحمه الله: [{تَنْتَشِرُونَ} في الأرْض]، قيَّدَ المُفَسِّر رحمه الله الانْتِشارَ بأنَّه فِي الأَرْضِ، لقوْلِه تَعالَى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، فالانتِشارُ والتّوسُّع فِي الأرْضِ، فقوْله سبحانه وتعالى:{تَنْتَشِرُونَ} أيْ تذْهَبُون يَمِينًا وَشمالًا؛ وَلهَذا لا شَكَّ أنَّ بَنِي آدَم كانُوا فِي أَوَّلِ أمْرِهمْ فِي مكَانٍ واحِدٍ، ثمَّ انْتَشرُوا في جَميعِ القارَّاتِ عَلَى تبَاعُدِ مَا بيْنَها، وانْظُر الآن البَشر منتَشِرٌ في جَميع أقْطَارِ الدّنيا، وسُبْحانَ الله العظيمِ، فمَنِ الَّذي أوْصَل أهلَ أمَرِيكا إِلَى أمِرِيكا، ومَنِ اَّلذي أوْصَلَهُم إِلَى البِلادِ الأخرى مَع هَذِهِ المحِيطاتِ العَظِيمَةِ؛ لأَنَّ آدَم لا شَكَّ كانَ فِي إحْدَى القارَّاتِ، لكنْ مَنِ الَّذي أوْصَل بَنيه إِلَى القارَّاتِ الأخرى؟ الله أعلَمُ، وقدْ يَكُونُ الله يسَّر لهم فِي ذَلِك الوَقْتِ مِنَ الأسْبَابِ مَا قدْ زَالَ الآنَ ولَا نعْرِفُه حتَّى وصَلُوا إِلَى هَذهِ البِلَادِ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: ما صِحَّةُ مَا ساقَهُ القُرطُبِيُّ في تفسِيرِ آيةِ الحَجِّ مَن أنَّ المَنِيَّ فِيه تُرابٌ؟

ص: 103

قُلْنَا: لا نسْتَطِيعُ أنْ نَجْزِمَ بنفي هذَا أوْ إثْبَاتِه؛ لأنَّهُ يجُوزُ أنَّ نَفْسَ الإنْسَانِ فِيه مادَّةٌ ترابِيَّةٌ، والآنَ هُمْ يقُولونَ: إنَّ الإنْسانَ فِيه مِنْ جَمِيعِ مَعادِنِ الأرْضِ، فِيه رَصاصٌ ونُحَاسٌ وجِيرٌ وحَدِيدٌ وتراب وكُلُّ شَيْءٍ، فنَفْسُ الجِسْم مُكَوَّنٌ مِن هَذِهِ الأشْيَاءِ، فلَا يبْعُدُ أن تكونَ هَذِهِ السّلالة التي تخْرُج منِهُ فِيهَا هَذِهِ المَوادُّ، والحقِيقَةُ ليْسَ عنْدَنا عِلْمٌ عمِيقٌ فِي هَذِهِ السّلالةِ، لكِنَّ الله عَلَى كُلِّ شيْءٍ قَديرٌ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: بعْضُ النّاسِ يقُولونَ إِنَّ آدَم أوَّلَ مَا خَرَجَ مِنَ الجنَّةِ ونَزل إِلَى الأرْضِ نَزل بسِيلَانٍ؟

قُلْنَا: الله أعْلَمُ، لَا يُوجَدُ حَديثٌ صَحِيحٌ عنِ النّبيّ عليه الصلاة والسلام، إِنَّما كُلُّها آثَارٌ إسْرَائِيلِيَّةٌ.

من فوائد الآية الكريمة:

الفائِدَةُ الأولَى: :

الفائِدَةُ الأولَى: إثْبَات الآياتِ للهِ عز وجل، أي العَلامَاتِ الدّالَّةِ عَلَى مَا تدُلّ علَيْهِ مِن صِفاتِهِ لأَنَّ كُلَّ فعْلٍ يدُلُّ عَلَى نوْع مِنَ الآيَاتِ لكِنْ هِي عَلَى سَبيلِ العُمُومِ تدُلّ عَلَى القُدْرَة فجَمِيعُ الآيَاتِ تدُلّ عَلَى القدْرَة والحكْمَة، لكِنْ لكُلِّ نوْعٍ منْهَا آية خاصَّةٌ: الحكْمَةُ، القُدْرَة، العِزَّةُ، ومَا أشْبَه ذَلِكَ.

الفائِدَةُ الثَّانيَةُ: أنَّ أصْلَ بَني آدَمَ مِنْ تُرابٍ، لقوْلِه سبحانه وتعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} .

الفائِدَةُ الثَّالثةُ: أنَّ ابْتِداءَ خلْقِ الإنْسَانِ مِن تُراب، لقوْلِه سبحانه وتعالى:{أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ} .

الفائِدَةُ الرابعةُ: إبْطَالُ النّظرِيَّة الملْحِدَة الخاطِئَةِ، وهِي نظريَّةُ النّشوءِ والتّطَوُّر

ص: 104

التي ذَهب إليْها أوْ كَان قائِدَها (دَارُون)، فهِي نظريَّةٌ خاطِئةٌ وباطِلَةٌ بِلا شَكٍّ، وجْهُ ذَلِك مِنَ الآيَة أنَّ الله يقُولُ:{أَنْ خَلَقَكُمْ} فيُخاطِبُ البَشرَ باعْتِبَارِه بَشَرًا.

إِذَنْ: فهُو بشَرٌ منْذُ أنْشِئ مِنَ التُّرابِ إِلَى اليَوْم، أمَّا أُولئكَ فَيَقُولُونَ: إِنَّ أصْلَ الإنْسَانِ ليْسَ بشَرًا، بَلْ أصْلُ الإنْسَانِ قِرْدٌ ثمَّ تطَوَّر فصَار بَشَرًا، ويُمكِنُ أنْ يتطَوَّر بعْدَ ذَلِك وَيصِير مَلَكًا، ولَا أَدْرِي مَاذا يقُولُ فِي أصْلِ الحمِيرِ وَالبِغَالِ والخيْلِ والدَّجاجِ مَا أصلُها وتطَوَّرَتْ إِلَى مَاذا؟ ثمَّ لا نَدْري مَا هو التّطوَّرُ الآخَرُ، هَل نحْنُ نكوُن ملائِكَةً؟

وعَلَى كُلِّ حَالٍ: إنَّ هَذِهِ النظرِيَّةَ - الحمْدُ لله - حتَّى فَلاسِفَةُ الغرْبِ وعُلَماءُ الطّبِيعَةِ مِنَ الكفَّار الآن أبْطَلُوها، وتبَيَّن لهمْ أنَّها نظَرِيَّةٌ باطِلَةٌ خاطِئَةٌ، ثمَّ نَحْنُ نَعْلَمُ عِلْمَ اليَقِين بِدُونِ أيِّ نَظَرٍ أنَّها باطِلَةٌ، وَأنَّ اعتِقَادَها كُفْرٌ لأنَّهَا تكْذِيبٌ للْقُرآنِ والسُّنَّةِ وَإِجْماعِ المُسلِمِينَ، فكُلُّ هَذا لا شَكَّ أنَّه كَذِبٌ ولَا أصْلَ لَهُ، فالإِنْسانُ خُلِقَ مِنْ تُرابٍ كَما قَالَ الله عز وجل، تُرابٌ جعَلَهُ الله طِينًا، ثمَّ فَخَّارًا حتَّى كانَ صَلْصالًا لَهُ صَلْصَلَةٌ إِذا ضرَبْتَ علَيْهِ فَهُو كالفَخَّارِ، كَما قَالَ الله عز وجل ثمَّ تَكَوَّنَ الإنسَانُ، واللهُ عَلَى كُلِّ شيْءٍ قَدِيرٌ، فَهَذا وغَيْرُه تكْذِيبٌ لصَرِيحِ القُرآنِ.

الفائِدَةُ الخامسةُ: حكْمَةُ الله عز وجل في كَوْن الآدَمِيّ بَشَرًا، أَيْ بَادِي البَشْرَةِ؛ لأنَّكَ إِذا علِمْتَ أنَّك مُفتَقِرٌ إِلَى اللِّبَاس الحسِّيِّ علِمْتَ أنَّك مُفتَقِرٌ إِلَى اللِّبَاس المعْنَوِيِّ: لِبَاسِ التّقْوَى كَما قَال الله تَعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

الفائِدَةُ السادسةُ: أنَّ هَذا البَشَر الَّذي خُلِق مِن أصْلٍ واحدِ انْتَشر ومَلأ الأرْضَ، فَهَذا البَشَرُ مِن طَبيعَتِه الانْتِشَارُ والذّهَابُ والمَجِيءُ وطلَبُ الرِّزقِ وطلَبُ الصَّنائِع

ص: 105

وطلَبُ الأعْمَالِ، وَهَذا هُو الوَاقِع؛ وَلهذا قَالَ:{ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} ، وَهَذا مِن آياتِ الله: كيْفَ مِن أصْلٍ واحِدٍ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ انْتَشَرَتْ هَذِهِ الخلِيقَةُ فِي جَميعِ أنْحَاءِ الأرْضِ؟

الفائِدَةُ السابعةُ: أنَّ الإنْسَانَ متَحَرِّكٌ بالطَّبعِ لابُدَّ أنْ يتَحَرَّكَ وينْتَشِر وَيذْهَب ويَجِيءَ؛ وَلهذا قَال النّبيّ عليه الصلاة والسلام: "أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ"

(1)

، لأَنَّ الإنسان دَائمًا يهتَمُّ ويحرث ويطْلُب رزقه.

الفائِدَةُ الثّامِنةُ: مِنْ فَوائِد الآيَةِ ومَا بعْدَها مِنَ الآيَات مِنّةُ الله عز وجل عَلَى عِبَادِهِ بتَنْبِيهِهِمْ إِلَى آيَاتِه، يعْنِي أنَّ الله عز وجل مَنَّ عَلَى العِبَادِ بتَنْبِيهِهِمْ إِلَى الآياتِ، ولَمْ يَكِلْهُمْ إِلَى مَا في فِطَرِهم مِن الاعتَرافِ بالخالِق، بَل أعَانَهُم عَلَى ذَلِك وأمَدَّهُم بالتَّنِبيهِ عَلَى مَا فِي هَذا الكَوْنِ مِنْ آياتِه فَفِيها مِنّةٌ عظِيمَةٌ لأَنَّ الإنْسَانَ كَما قَالَ الله عز وجل بَشَرٌ يَغْفُل وَينْسَى فيُنبهُه الله عز وجل.

* * *

(1)

أخرجه أحمد (4/ 345، رقم 19054)، وأبو داود: كتاب الأدب، باب في تغيير الأسماء، رقم (4950)، والنسائي في الكبرى (3/ 37، رقم 4406).

ص: 106