الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العَمَلَ لله قَرْضًا؛ لأنَّ القَرْضَ يَجِبُ إيفاؤُهُ؛ فمِثْلُ هذه الآياتِ تَدُلُّ على أنَّ الله عز وجل أَوْجَبَ على نفسه أن يُثيبَ العامِلَ.
وَقَوْله تعالى: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} هل هو كبيرٌ في حَجْمِه أو كبيرٌ في معناه؟
الجواب: كلاهما؛ لأنَّ "أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ إِلَى مُلْكِهِ أَلْفَيْ عَامٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ"
(1)
، وهذا لا شَكَّ أنَّه كبيرٌ واسِعٌ، وكذلك في المَعْنى؛ لأنَّه دائمٌ وثابِتٌ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} هذا بيانُ ما لمِوافِقِي الشَّيْطانِ وما لمُخالِفيهِ] مُوافِقُو الشَّيْطانِ هم الذين كفروا، ومخالِفُوه الذين آمنوا وعملوا الصَّالحِاتِ.
إذن: يَجِبُ علينا أن نَتَّخِذَ الشَّيْطانَ عَدُوًّا بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: إِثْباتُ الثَّوابِ والعِقابِ؛ لِقَوْله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بلاغَةُ القُرْآنِ؛ حيث يَجْمَع بين الشَّيْءِ وضِدِّه، وهو مِصْداقُ قَوْله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] قال: {مَثَانِيَ} مثاني أنَّه تُثَنَّى فيه المعاني، وهنا لمَّا ذَكَرَ عذابَ الكافرينَ ذكر ثوابَ المُؤْمِنينَ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: بَلاغَةُ القُرْآنِ أيضًا من وجهٍ آخر: حيث بدأ بذِكْرِ عذابِ
(1)
أخرجه الإمام أحمد (2/ 13، 64)، والترمذي: كتاب صفة الجنة، رقم (2553)، وفي كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة القيامة، رقم (3330)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
الكافرينَ بعد أن ذَكَرَ {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} فبدأ بما فيه التَّحْذيرُ قبل ما فيه التَّبْشيرُ من أجل المناسَبَة.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ الكافِرَ عذاُبهُ شديدٌ؛ يعني: ليس بالعذاب السَّهْل، ووَجْهُ شِدَّتِه بالكمِّيَّة والكَيْفِيَّة؛ لأنَّه دائِمٌ؛ ولأنَّه عذابٌ لا نظيرَ له.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ الأَجْرَ لا يَثْبُتُ إلا باتِّصافٍ تامٍّ بِوَصْفَينِ؛ أحدهما: الإيمانُ، والثاني: العَمَل الصَّادِقُ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: تَقْسيمُ الأَعْمالِ إلى صالِحٍ وفاسِدٍ، وهذا مَاْخوذٌ من قَوْله تعالى:{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} والضَّابِط في ذلك: أنَّ ما كان خالِصًا صوابًا فهو صالِح، وما كان فيه شِرْك أو بِدْعَةٌ فليس بصَالِحٍ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّ الذين آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحِاتِ ينالونَ أَجْرَهُم من وَجْهَيْنِ؛ من زوالِ المَكْرُوهِ الثَّابِت؛ بِقَوْله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وحُصُولِ المَطْلوبِ الثَّابِتِ بِقَوْله تعالى: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: بلاغَةُ القُرْآنِ؛ لأنَّه لَّما ذَكَرَ عملًا واحدًا في الكُفَّار ذكر جزاءً واحدًا، ولمَّا ذكر وَصْفَيْنِ في المُؤْمِنين ذكر وَصْفَيْنِ في ثوابِهِم، وهذا ظاهرٌ أيضًا في سورة (الإِنْسَان):{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} إذا تَأَمَّلْتَها وجدت الله عز وجل لم يَذْكُرْ في الكافرين وعذابِهِم إلا قليلًا بالنِّسْبَة للأَبْرارِ.
والسَّبَبُ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} فقال تعالى: {لِلْكَافِرِينَ} فقط، ولم يَقُلْ شيئًا عن هذه، فكان الجزَاء مُخْتَصَرًا {سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} وذكر الأبرارَ وأطال في ذكر ما لهم من نَعيمٍ؛ لأنَّه ذَكَرَ عِدَّةَ أَعْمالٍ من أَعْمالهِم:
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 5 - 9] الإخلاص التامُّ {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 9 - 10].
فذكر عِدَّةَ أوْصافٍ من أوصافِهِم، فأطال في ذِكْر جزائِهِم؛ لمَّا أطال في ذكر أعمالهِم أطال في ذكر الجزاء بِخلافِ الكافرينَ، وهذا بلا شَكٍّ من بَلاغَة القُرْآن.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنَّ الأُجُورَ تَخْتَلِفُ؛ لِقَوْله تعالى: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} فالأُجُور تَخْتَلِفُ باختلاف العَمَلِ، وتَخْتَلِف باختلافِ العامِلِ، وإذا كانت مُتَعَدِّيَة فإنَّها تَخْتَلِفُ باخْتِلافِ من انْتَفَعَ بها.
فمثلًا: تَخْتَلِف باختلافِ العَمَل كما في حديث: "أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا"
(1)
، والواجِبُ أفضل من المُسْتَحَبِّ.
وباختلاف العاملِ كما في قَوْلِه صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى"
(2)
وقال النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ"
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المواقيت، باب فضل الصلاة لوقتها، رقم (527)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، رقم (85)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، رقم (1426)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري: كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذًا خليلًا"، رقم (3673)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم رقم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وتَخْتَلِف أيضًا باختلاف المحَلِّ إذا كانت مُتَعَدِّيَةً، فالصَّدَقَة على القَريبِ صَدَقةٌ وصِلَة، والصَّدَقَة على من هو أشَدُّ حاجَةً أَفْضَلُ من الصَّدَقَة على من دونه، وهكذا.
فاختلاف الأَعْمالِ يَسْتَلْزِمُ اختلافَ الأُجُور أيضًا، وتَخْتَلِفُ أيضًا باختلاف الإِخْلاصِ؛ فكلَّما كان الإِنْسَان في عمله أَخْلَصَ كان عَمَلُه أفضَلَ.
ويُمْكِن أن نقول أيضًا: تَخْتَلِفُ باختلافِ الإتِّباعِ، فكلَّما كانتِ العبادَةُ أتْبَعَ لله كانت أكْمَلَ.
وعلى كُلِّ حالٍ: فهذه الإختلافات في وُجُوهِها تَخْتَلِفُ لها الأُجُور.
* * *