الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الـ {غَفُورٌ} صيغة مبالَغَة أو صفةٌ مُشَبَّهَة، مَأْخوذة من الغَفْرِ، وهو السِّتْر مع الوقاية؛ لأنَّ أَصْلَ هذه المادة المِغْفَر، والمِغْفَر يَحْصُلُ به السِّتْر والوقاية، إِذَن ما مَعْنى أنَّ الله غفور؟
معناه: أنَّ الله يَسْتُرُ الذُّنوبَ ويتجاوَزُ عن العُقُوبَة، وما أكْثَرَ ما نُذْنِبُ فيما بيننا وبين رَبِنا ومع ذلك يَسْتُرُها الله عز وجل، وإذا كان يومُ القِيامَة عفا عن عُقُوبَتها، وبذلك تتحَقَّق المَغْفِرَة.
أما الـ {شَكُورٌ} فنقول في تَصْريفِه كما قلنا في غفور: إنَّه إمَّا صيغةُ مُبالَغَة، وإمَّا صفةٌ مُشَبَّهَة، فهو سبحانه وتعالى شكورٌ؛ أي: يشكر من عَمِلَ العَمَل الصَّالِح، ومِنْ شُكْرِه إياه أنَّه يُضاعِفَ له الأَجْرَ؛ فالحَسَنَة بِعَشْرِ أمثالهِا إلى سَبْع مِئَة ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، وانظر إلى كمال الله عز وجل عليك في صِفَتِه أنَّه هو الذي يَمُنُّ عليك بالعَمَل، ثم يَشْكُرُك عليه {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] سبحان الله العظيم! ربُّنا يُحْسِنُ إلينا ثم يقول: (ما جزاء إِحْسانِكُم إلا أنْ أُحْسِنَ إليكم) وهو الذي تَفَضَّلَ به أوَّلًا، وهذا يدلُّ على سَعَةِ كَرَمِ الله، والحَمْدُ لله، وأنَّه عز وجل واسِعُ الكرم.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ طلب الإِنْسَان للثَّوابِ غايةٌ عَظيمَة؛ لأنَّ اللَّام - كما أشرنا إليه آنفًا - للتَّعْليل، هذا إذا قلنا: إنَّها للتَّعْليل، وهي صَالحِة للتَّعْليل، فكون الإِنْسَانِ يَعْمَل من أجل الأَجْر فإن هذا لا يُعدُّ نقصًا، خلافًا للصُوفِيَّة الذين يقولون:(لا تَعْبُدِ اللهَ لثواب الله، ولكن اعْبُدِ الله لله) فنقول لهم: هذا خطأ، فالله تعالى وَصَفَ أَشْرَفَ هذه الأُمَّة وخَيْرَ هذه الأُمَّة بأنَّهم يريدون فضلًا من الله ورِضْوانًا، قال الله تعالى:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، ومع ذلك لا نقول:(إنَّك لا تعبد الله لله) بل اعْبُدِ الله لله ولِثوابِ الله؛ فإنَّك لن تَصِلَ إلى الله إلا بعد وُصولِكَ إلى ثوابِ الله، فإنَّ لقاء الله - اللقاء الذي هو الرِّضا التَّامُّ - إنَّما يَحْصُل في الجَنَّة؛ ولهذا قال الله تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] هذا الفوز الكامل، وَقَوْله تعالى:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الرعد: 22] متى يرون وجه الله؟
الجواب: إذا دخلوا الجَنَّة، رُؤْيَةُ وَجْهِ الله الرُّؤْيَة التَّامَّة بعد دخول الجَنَّة.
الحاصِلُ: أنَّ في هذه الآيَة وأمثالهِا ما يدلُّ على ضَعْفِ ذلك المَسْلَك الذي سلكه أولئك الصُّوفِيَّة بألَّا تَعْبُدَ الله لثواب الله ولكن اعْبُدِ الله لله، فنقول: ما أكْثَرَ الآياتِ الدالَّةَ على أنَّ العِبَادَة تكون لِفَضْل الله وثوابه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: ضمان الثَّوابِ؛ يعني أنَّ الثَّواب مَضْمونٌ للعامل الذي يتعامل مع الله عز وجل بناءً على أنَّ اللَّام للعاقِبَة؛ أي: إنَّ هذا العَمَلَ سوف يُوَفَّى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} وفيه أيضًا وجْهٌ آخر لضمان الثَّوابِ؛ أنَّ الله سماه أجرًا، والأجر لا بُدَّ أن يُدْفَعَ لمن قام بالعَمَل.
بل جاء في الحديث الصَّحِيح، قال الله تعالى في الحديث القدسي:"ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ"
(1)
.
فإذا كان الله خصمًا لهؤلاء؛ لأنَّهم لم يُعْطُوا الأجر فإنَّه يدلُّ على أنَّ الأجر الذي ضمنه الله لعباده سوف يَحْصُل قطعًا، ولكن لا بُدَّ أن يكون العَمَل صحيحًا.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب البيوع، إثم من باع حرًّا، رقم (2227)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ جزاء الحسنات أكثر مِمَّا يجب؛ لِقَوْله تعالى: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وزيادة الفضل شرحناها في التَّفْسير.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: إِثباتُ الإسْمَين الكريمينِ: (الغفور) و (الشَّكور)، وما تَضَمَّناه من صفة، وهي: المَغْفِرَةَ والشُّكر، وما تضَمَّناه أيضًا من أثَرٍ وهو الحُكم، فإن (غفور) يؤخَذُ منها أنَّه يغفر، و (شكور) يؤخذ منها أنَّه يَشْكُر من يستحِقُّ الشُّكْر.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: دليلٌ على ثُبُوتِ الأَفْعالِ الإخْتِيارِيَّة لله عز وجل؛ لِقَوْله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ} و {وَيَزِيدَهُمْ} وهذا مذهب أَهْل السُّنَّة والجماعَة أنَّهم يُثْبِتون لله تعالى الأفعال الإخْتِيارِيَّة؛ أي: التي تقع بِمَشيئَتِه، فإنَّه تعالى فعَّالٌ لما يريد خلافًا لمن زعم أنَّ الله تعالى لا يُوصَفُ بشَيْء حادثٍ أبدًا.
* * *